أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

لنا خبران متعارضان يتضمّن أحدهما وجوب إكرام النحويين والآخر حرمة إكرامهم ، وفي هذه الصورة يتعارض الخبران ، فإن قلنا بسقوطهما يكون العمل على العام ، وإن قلنا بأنّ الأوّل منهما مقدّم على الآخر لكونه موافقاً للعام ، تكون النتيجة أيضاً هي العمل على العام ، لكن لو قلنا بعدم التساقط وقلنا بالتخيير تظهر الثمرة بين إعمال الترجيح وعدمه ، لأنّا لو أعملنا الترجيح يكون العمل على العام ، وإن لم نأخذ بعملية الترجيح نتخيّر ، فلربما اخترنا الخبر المخالف للعام ، وحينئذ يكون النحوي خارجاً عن العام.

الصورة الثانية : ما لو كان الأمر بالعكس ، بأن يكون في الكتاب أو السنّة وجوب إكرام العالم العادل ، ويكون لنا خبران عامان متباينان ، مفاد أحدهما وجوب [ إكرام ] العالم ومفاد الآخر حرمة إكرام العالم ، ففي هذه الصورة يكون ما في الكتاب مخصّصاً للخبر الثاني ، وبعد تخصيصه به تنقلب النسبة بينه وبين معارضه ويكون أخصّ منه ، فيقدّم عليه ، ويكون العمل حينئذ على ما في الكتاب ، ويكون المخالف له مقدّماً على الموافق له ، هذا لو أجرينا المسألة على التخصيص.

أمّا لو أجرينا المسألة على الترجيح ، ورجّحنا الأوّل من الخبرين ، وهو ما دلّ على وجوب إكرام العلماء على معارضه ، فإن كان محصّل هذا الترجيح هو إسقاط الثاني بالمرّة كان العمل على العام الأوّل ، وسقط العام الثاني بالمرّة ، وحينئذ تظهر الثمرة بين عملية التخصيص وعملية الترجيح.

لكن لو قلنا إنّ ترجيح الأوّل من العامين على الثاني منهما إنّما يكون موجباً لإسقاط الثاني في خصوص ما خالف فيه الكتاب ، وهو العالم العادل ، أمّا فيما لا يخالفه فيه وهو العالم الفاسق فلا يسقط الثاني فيه عن الحجّية ، وحينئذ يكون

٣٠١

بذلك مخصّصاً للعام الأوّل ، فلا يكون العمل إلاّعلى الكتاب ، وبالأخرة يكون الخبر الثاني مقدّماً على الأوّل في خصوص العالم الفاسق.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وأمّا القسم الثالث وهو ما كان بينه وبين العام الكتابي عموم من وجه ، وكان له معارض موافق للعام الكتابي ، فهل تجري في ذلك المرجّحات المضمونية فيرجّح ما هو موافق للكتاب ويطرح ما هو مخالف له ، ويكون العمل على طبق العام الكتابي ، أم لا تجري في ذلك المرجّحات المضمونية؟ وهكذا الحال في المرجّحات الجهتية.

وقبل الخوض في ذلك ينبغي أن يحرّر الكلام في ذلك في المرجّحات السندية ، وأنّه هل يرجع في المتخالفين في العموم من وجه إلى المرجّحات الصدورية أم لا.

فنقول : غاية ما يقرّب به الرجوع في ذلك إلى المرجّحات الصدورية أن يقال : إنّ العامين من وجه وإن لم يكن بينهما تدافع في مورد افتراق كلّ منهما عن الآخر ، إلاّ أنه يقع بينهما التدافع في مورد الاجتماع ، وحيث إنّ كلّ عام ينحلّ إلى قضايا شخصية متعدّدة حسب تعدّد أفراد ذلك العام ، وكان من جملة تلك الأفراد ما هو مورد الاجتماع ، فيكون فيه قضيتان متدافعتان ، ويكون صدور كلّ من القضيتين معارضاً لصدور القضية الأُخرى.

وبالجملة : فكان الصادر في كلّ عام قضايا متعدّدة ، وفي مورد الاجتماع يكون الصادر قضيتين متناقضتين ، وصدور كلّ قضية من تينك القضيتين المتناقضتين معارض بصدور القضية الأُخرى ، فيرجع حينئذ إلى المرجّحات الصدورية في تينك القضيتين المتعارضتين في مورد الاجتماع ، هذا غاية ما يقرب به الرجوع إلى المرجّحات الصدورية في المتخالفين بالعموم من وجه.

٣٠٢

وفيه : أنّه خلط بين مفاد العام المأخوذ على نحو القضية الخارجية ومفاد العام المأخوذ على نحو القضية الحقيقية ، وهذا التقريب إنّما يتمّ فيما هو مفاد القضية الخارجية ، حيث إنّ محصّل العام حينئذ عبارة عن قضايا متعدّدة لا ربط لإحداها بالأُخرى ، ولا جامع بينها سوى أنّ المتكلّم طلباً للاختصار جمعها تحت جامع واحد وعبّر عنها بقضية كلّية ، فلذلك يكون الصادر منه قضايا متعدّدة حسب تعدّد الأفراد ، ويكون الصادر منه حينئذ في مورد الاجتماع قضيتين متدافعتين ، ويكون صدور كلّ قضية معارضاً في مورد الاجتماع بصدور القضية الأُخرى ، فيرجع في ذلك إلى المرجّحات الصدورية.

أمّا القضايا الحقيقية فهي وإن كان النظر فيها إلى الأفراد لا إلى صرف الطبيعة ، إلاّ أنّها ليست إلاّقضية واحدة وكبرى كلّية يكون الحكم فيها منبسطاً على الأفراد الداخلة تحت موضوعها على نحو انبساط ذلك الموضوع الكلّي على تلك الأفراد ، فلا يكون الصادر من المتكلّم إلاّتلك القضية الكلّية دون القضايا الشخصية الخارجية.

فلا يكون في القضيتين المتخالفتين بالعموم من وجه تدافع من حيث الصدور كي يرجع في ذلك إلى المرجّحات الصدورية.

وإنّما يقع التدافع بين الشمولين اللذين تكفّلهما القضيتان المذكورتان ، لا في صدورهما كي يرجع في ذلك إلى المرجّحات الصدورية ، والتقريب المذكور إنّما نشأ عن الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية التي عليها مبنى القضايا الأحكامية.

وقد نشأ عن هذا الخلط أُمور كثيرة منها هذا التقريب ، ومنها إشكال الدور على الشكل الأوّل ، ومنها تخيّل جواز التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ،

٣٠٣

ومنها تخيّل التناقض بين المستثنى والمستثنى منه في مثل أكرم العلماء إلاّزيداً ، فإنّ أمثال هذه المطالب إنّما تجري في القضايا الخارجية ، ولا مورد لها في القضايا الحقيقية التي إليها مرجع القضايا المستعملة في العلوم ، سواء كانت متضمّنة للأحكام الشرعية أو غيرها.

فتلخّص : أنّه لا محلّ للمرجّح الصدوري في المتعارضين بالعموم من وجه.

أمّا المرجّح الجهتي فالظاهر جريانه في المتعارضين بالعموم من وجه ، لأنّ شمول كلّ واحد من العامين المذكورين لمورد الاجتماع منافٍ ومعارض لشمول العام الآخر له ، فإذا كان أحد العامين مخالفاً للعامّة والآخر موافقاً لهم ، قدّم الأوّل على الثاني في مورد التعارض المذكور.

قلت : إنّ هذا إنّما يتمّ فيما لو كانت الموافقة لهم في شمول أحد العامين لمورد الاجتماع دون العام المذكور بتمامه ، مثلاً لو ورد أكرم العلماء ، وورد لا تكرم الفسّاق ، فحصل التعارض بالعموم من وجه في العالم الفاسق ، فكون أحد الدليلين الذي هو لا تكرم الفسّاق ـ مثلاً ـ موافقاً للعامّة يكون على نحوين :

أحدهما : أن تكون الموافقة المذكورة حاصلة في شموله للعالم الفاسق ، لا في أصل الحكم المذكور أعني حرمة إكرام الفاسق ، بأن نكون متوافقين معهم في حرمة إكرام الفاسق غير العالم ، وإنّما الذي انفردوا فيه هو إكرام العالم الفاسق ، بأن نقول نحن بعدم حرمة إكرامه وهم يقولون بحرمته.

النحو الثاني : أن يكون مذهبهم أصل حرمة إكرام الفاسق ، عالماً كان أو غيره.

ففي النحو الأوّل يمكن الترجيح بمخالفة العامّة ، وحمل شمول أحد

٣٠٤

الخبرين ـ أعني لا تكرم الفسّاق ـ لمورد الاجتماع على التقية ، إذ لا منافاة بين ذلك وبين الأخذ بالدليل المذكور في غير مورد المعارضة المذكورة.

أمّا النحو الثاني فلا يمكن فيه ذلك الترجيح ، لأنّه لا يكون إلاّبحمل مثل لا تكرم الفسّاق بتمامه على التقية ، وذلك موجب لعدم الأخذ به في غير مورد المعارضة المذكورة.

ثمّ قال قدس‌سره : وأمّا المرجّح المضموني أعني موافقة أحد العامين من وجه للكتاب ، ففيه صورتان :

إحداهما : أن يكون الموافق للكتاب من العامين من وجه مساوياً له ، بمعنى أنّ العام الكتابي يكون بينه وبين أحد الخبرين المتعارضين عموم من وجه كما بين نفس المتعارضين ، ويكون مساوياً في العموم لما هو الموافق له منهما ، فقد يقال : إنّ المرجّح المضموني لا مجرى له في مثل ذلك ، لأنّ العام الكتابي قطعي السند ، فلا يقف في قباله ما هو ظنّي السند كي يكون معارضاً للموافق له منهما ، ويترجّح الموافق عليه بالموافقة المذكورة.

وفيه : أنّ المعارضة بين عموم الكتاب وعموم العام المخالف له لا تكون بين السندين ، وإنّما تكون بين دلالة العموم الكتابي وبين سند العام المخالف له ، وكلاهما ظنّيان تعبّديان ، فينبغي التوقّف حينئذ من هذه الجهة ، إلاّ أنّه لمّا كان العام الآخر الموافق للعام الكتابي معارضاً لذلك العام المخالف له ، وكان أرجح منه لكونه موافقاً للكتاب دونه ، قدّم عليه في مورد المعارضة المذكورة أعني مورد الاجتماع.

الصورة الثانية : أن لا يكون الموافق للكتاب من العامين من وجه مساوياً له في العموم ، بل يكون أخصّ منه مطلقاً ، بأن يكون لنا عموم كتابي ويكون لنا

٣٠٥

خبران مضمون كلّ منهما أخصّ مطلقاً من ذلك العام الكتابي ، ويكون بين الخاصّين المذكورين عموم من وجه ، ويكون أحدهما موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً له ، فالخاصّ المخالف للكتاب وإن كان لو خلّي ونفسه لكان موجباً لخروج تمام أفراده عن عموم ذلك العام الكتابي لكونه أخصّ منه مطلقاً ، إلاّ أنّه لمّا كان في مورد اجتماعه مع الخاصّ الآخر الموافق للكتاب معارضاً بالخاصّ المذكور ، وكان الخاصّ المذكور أرجح منه لكونه موافقاً للكتاب دونه ، وقدّم عليه في مورد الاجتماع ، وأخرج مورد الاجتماع عن الخاصّ المخالف وأدخل تحت الخاصّ الموافق ، ولم يبق تحت الخاصّ المخالف للكتاب إلاّ الأفراد التي لا يشملها الخاصّ الموافق ، كان موجباً لخروج الأفراد الباقية عن تحت العام الكتابي ، لا جميع الأفراد التي يشملها الخاصّ المذكور ، فقد ظهر أنّ موافقة أحد العامين من وجه للكتاب تكون مرجّحة في كلا الصورتين.

قلت : لكن قد عرفت أنّ الصورة الثانية راجعة إلى التخصيص.

لا يقال : إنّ المعارضة في الصورة الأُولى تكون في الحقيقة واقعة بين العام الكتابي والعام الخبري المخالف له ، ولا ريب في تقدّم الأوّل على الثاني لكونه قطعي السند ، فلا حاجة إلى تطويل المسافة بجعل المعارضة بين الخبرين وترجيح الموافق للكتاب على المخالف له.

لأنّا نقول : إنّ ذلك راجع إلى التقديم السندي ، وهو لا يدخل العامين من وجه ، وحيث قد عرفت أنّ التعارض بالعموم من وجه لا يدخله التقديم السندي ، لم يكن مندوحة فيما ذكرناه من الصورة الأُولى عن المرجّح المضموني ، أعني كون أحدهما موافقاً للكتاب ، بل لو لم يكن العام الخبري الموافق للكتاب موجوداً لكان تقديم العام الكتابي على العام الخبري من باب التقدّم المضموني ،

٣٠٦

لا من باب التقدّم السندي ، فتأمّل.

قوله : فلو كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً له بالعموم والخصوص ، فاللازم هو الجمع بين الكتاب وبين الخبر المخالف له بتخصيص العام الكتابي بما عدا مورد الخاصّ الخبري ... الخ (١).

هذا إذا كان الخبر الخاصّ بلا معارض ، أمّا لو وجد له المعارض كما هو ظاهر قوله : فلو كان أحد المتعارضين الخ ، كان وجوده مانعاً من كونه مخصّصاً للعام الكتابي كما شرحه بقوله فيما سيأتي ، فإنّ ما دلّ على الحرمة وإن كان أخصّ من العام الكتابي الخ (٢).

قوله : والمخالفة بالعموم من وجه تندرج فيما دلّ على الترجيح بموافقة الكتاب عند التعارض ، فلو تعارض العامان من وجه وكان أحدهما موافقاً للكتاب ـ إلى قوله ـ وكذا يندرج في أدلّة الترجيح ما إذا كان التعارض بين الخبرين بالتباين الكلّي وكان أحدهما موافقاً للعام الكتابي ... الخ (٣).

الظاهر الانحصار في الصورة الأُولى ، وهي ما لو كان بين المتعارضين عموم من وجه وكان أحدهما موافقاً للعام الوارد في الكتاب أو في السنّة ، مثل أن ينوجد في الكتاب أو في السنّة قوله أكرم العلماء ، وينوجد لنا خبر مفاده أكرم العلماء وآخر مفاده لا تكرم الفسّاق ، فإنّه لا ريب في تقدّم الأوّل على الثاني في مقام المعارضة وهو العالم الفاسق.

أمّا الصورة الثانية ، وهي ما أُفيد من حكم لحم الحمير ، فهو من قبيل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩٢.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩٢.

٣٠٧

المخالفة بالعموم المطلق ، لأنّ كلاً منهما أخصّ مطلقاً من العام الكتابي ، وهكذا الحال فيما يكون بين الخبرين عموم من وجه ، ويكون كلّ منهما أخصّ مطلقاً من العام الكتابي.

ثمّ لا يخفى أنّ الترجيح في الصورة الأُولى إنّما يكون من المرجّحات المضمونية ، فإن أرجعنا المرجّحات المضمونية إلى المرجّحات الصدورية أشكلت المسألة ، لأنّ المرجّحات الصدورية لا تدخل التعارض بالعموم من وجه فلابدّ من دعوى كون المرجّحات المضمونية غير راجعة إلى المرجّحات الصدورية ، وحينئذ تكون في طول المرجّحات الصدورية ، ويكون ما أفادته المقبولة (١) من تأخّر الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة عن الترجيح بالشهرة على طبق القاعدة ، وهذه الطولية لا مانع منها ، لإمكان الحكم بصدور العام من وجه وإسقاط حجّيته في مورد الاجتماع. لكن هذا في موافقة الكتاب واضح.

إلاّ أنّه يشكل الأمر في مخالف العامّة ، فإنّه لا محصّل للحكم بصدور الموافق لهم ثمّ إسقاطه من جهة كون الرشد في خلافهم ، فإمّا أن نلتزم بأنّ المرجّح المضموني في عرض المرجّح الصدوري لكن المقبولة أخّرته ، أو أن نلتزم بأنّ مخالفة العامّة مرجّح صدوري وأخّرته المقبولة.

وعلى أي حال ، يكون العمل على المقبولة في تأخّرهما عن الشهرة ، وعلى صحيحة الراوندي (٢) في تأخّر المخالفة للعامّة عن موافقة الكتاب ، فلاحظ وتدبّر.

وهذه التمحّلات وغيرها توجب تقريب عدم كون المقبولة في مقام

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩.

٣٠٨

الترجيح ، وأنّها إلى تمييز الحجّة عن غيرها أقرب حتّى بالنسبة إلى الشهرة ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأُمور ثلاثة ، أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه ( علمه ) إلى الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » الخ (١) [ ظاهر في عدم حجّية الشاذّ ] ، إذ لا أقل من إدخال الشاذّ في الأمر المشكل وفي الشبهات ، وذلك كافٍ في سقوطه حتّى لو لم يكن له معارض ، بل يكفي في الحكم بعدم حجّيته كونه شاذّاً ، سيّما بملاحظة وصفه بالنادر كما في المرفوعة (٢) ، فإنّ ذلك ـ أعني شذوذه وندرته ـ يخرجه عن حيّز الوثوق الذي هو ميزان حجّية خبر الواحد.

وأمّا الموافقة للعامّة فكونها من ذلك القبيل ـ أعني تمييز الحجّة عن غيرها ـ أوضح ، سيّما بعد كون موافق العامّة لا رشد فيه الذي هو ـ أعني الرشد ـ ميزان الحجّية ، وهو عبارة عن الوثوق ، وكذلك مخالفة الكتاب والسنّة أو موافقتهما ، وحصر الموافقة والمخالفة في الترجيح بالعموم من وجه ، لعلّه من مجرّد الدعوى أو من مجرّد الجمع التبرّعي ، وإلاّ فإنّ الظاهر من المخالفة هو عدم الاجتماع ، وهو منحصر بالتباين.

على أنّا لو سلّمنا اختصاص المخالفة المسقطة بالتباين واختصاص المرجّحة بالعموم من وجه لقلنا إنّه إذا كان بين خبر الواحد والآية الكتابية أو السنّة القطعية عموم من وجه ، فإن قلنا بعدم حجّية ذلك الخبر في مورد التعارض الذي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، ١٥٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ، ٩.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

٣٠٩

هو مورد الاجتماع في قبال ذلك العموم الكتابي أو المقطوع به من السنّة ، لم يكن ضمّ الخبر الآخر الموافق للكتاب أو السنّة إلاّمن قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان ، وإن قلنا بمعارضة ذلك الخبر للعام الكتابي ، ولكن ضمّ الخبر الموافق للعام الكتابي يوجب تقدّمه على طرفه لأنّه موافق للكتاب أو السنّة ، مع إجراء المعارضة بين ذلك الطرف والعام الكتابي أو السنّي القطعي فيما إذا لم يكن في قباله خبر آخر موافق لهما ، فهو في غاية الغرابة.

وكذلك الحال فيما لو كان بين كلّ من الثلاثة عموم [ من وجه ] ، كما لو كان مفاد عموم الكتاب هو وجوب إكرام الهاشمي لكونه ذوي القربى ، ومفاد أحد الخبرين هو وجوب إكرام العالم ، ومفاد الآخر هو حرمة إكرام الفاسق ، فاجتمع الثلاثة في الهاشمي العالم الفاسق ، وحيث كان الأوّل من الخبرين موافقاً للكتاب قدّم على الثاني.

لكن يبقى تعارض الخبرين في العالم الفاسق غير الهاشمي ، ويبقى تعارض الثاني مع العام الكتابي في الهاشمي الفاسق غير العالم ، فهل يمكننا أن نقول : إنّ الخبر الأوّل مقدّم على الثاني لكونه موافقاً للكتاب في حين أنّ مورد هذه المعارضة وهو العالم الفاسق غير الهاشمي غير مورد الموافقة وهو مورد اجتماع الثلاثة.

ثمّ في مورد معارضة الثاني مع العام الكتابي أعني الهاشمي الفاسق غير العالم ، هل يكون المقدّم هو الكتاب ، ولو قلنا بتقديمه كان مطلق الهاشمي خارجاً عن الثاني ، وبعد إخراج الهاشمي من الفاسق يبقى التعارض بينه وبين الأوّل بالعموم من وجه.

٣١٠

ولا يبعد أن يقال : إنّ تعارض العموم من وجه خارج عن باب التعارض بين الروايات ، بل هو من قبيل التعارض بين الأُصول ، بل هو هو ، لأنّ التعارض في الحقيقة إنّما هو في أصالة العموم في كلّ من الدليلين ، سواء كانا خبرين أو آيتين أو آية وخبر ، والمرجع فيه اتّباع الأظهر أو الترجيح بالبقاء بلا مورد (١) ، ونحو ذلك من مرجّحات الأُصول اللفظية بعضها على بعض ، والالتزام بالتساقط فيما عدا ذلك ، كما يشهد بذلك ما تسالموا عليه من التساقط في المتعارضين بالعموم من وجه.

أمّا موافقة الكتاب أو مخالفته المذكورة في روايات الترجيح كالمقبولة ونحوها ، فليست هي إلاّتلك الموافقة والمخالفة التي تضمّنتها روايات العرض بأي معنى فسّرناها ، حتّى لو جعلناها شاملة للعموم والخصوص كما يراه من لا

__________________

(١) [ قال المحقّق ] الرشتي : كما إذا فرض في المثال الأوّل أنّ قول المولى : أكرم العلماء ، بعد ما إذا خصّص بقوله : لا تكرم فسّاقهم لم يبق تحته إلاّفرد واحد أو اثنان ، فحينئذ يقدّم على العام من وجه الآخر ، أي على قوله : يستحبّ إكرام العدول ، إذ في مادّة الاجتماع لو قدّم العام من وجه الآخر ، لم يبق حينئذ مورد لقوله : أكرم العلماء ، فالعام المخصّص حينئذ لقلّة أفراده صار كالخاصّ في النصوصية في مورد الاجتماع بالنسبة إلى العام من وجه الآخر الظاهر فيه بعمومه ، انتهى [ راجع شرح كفاية الأُصول ٢ : ٣٣٨ ].

والمصنّف قدس‌سره لم يرتضه على إطلاقه ، بل فصّل بين ما لو كان الباقي مقداراً لا يجوز أن يتعدّاه التخصيص لكونه من تخصيص الأكثر ، فيجب تقديم العام على سائر معارضاته ، وبين ما لو كان الباقي أكثر من ذلك ، ووجهه أنّ العام في ذلك المقدار يكون نصّاً فيقدّم على غيره بعد قوّة دلالته ، وفيما يزيد على ذلك لا يكون كذلك ، فلا تقوى دلالته فلا مرجّح له على غيره ليكون موجباً لتقديمه عليه الخ ٥٨٥ [ منه قدس‌سره ].

٣١١

يجوّز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فلا يكون محصّلها إلاّعدم حجّية الخبر المخالف للكتاب ، فلا يكون ما تضمّنته المقبولة من باب الترجيح ، بل هو من باب التمييز بين الحجّة وغيرها.

نعم ، يبقى الإشكال في وجه تقديم بعضها على بعضها ، ولابدّ في دفعه من منع دلالتها على الترتّب ، فإنّه بمنزلة أن تقول : إذا تعارض الخبران فخذ بما يرويه الثقة دون ما يرويه غير الثقة ، ومع ذلك لو سألك السائل أنّهما كلاهما يرويه الثقة فتقول : خذ بما عمل به الأصحاب واطرح ما طرحوه ولم يعملوا به ، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى شروط أصل حجّية الخبر ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وهو قوله تعالى : وأحلّ لكم ما في الأرض جميعاً (١).

تقدّم مثلها ص ١٣٣ وص ١٣٤ (٢) ، ولكن الظاهر أنّه ليس في القرآن الكريم آية بهذا النظم ، نعم في سورة البقرة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٣) وفيها أيضاً قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (٤) وفي سورة المائدة : ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ) (٥) وفي سورة النحل قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ـ إلى قوله تعالى ـ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ـ إلى قوله تعالى ـ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٨ و ٣٦٩.

(٣) البقرة ٢ : ٢٩.

(٤) البقرة ٢ : ١٦٨.

(٥) المائدة ٥ : ٨٨.

٣١٢

أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ ) (١) الخ (٢)

__________________

(١) النحل ١٦ : ١١٤ ـ ١١٦.

(٢) قد تمّت بحمد الله تعالى هذه الدورة في الثامن من شهر جمادى الأُولى سنة ١٣٧٥ وكان الشروع فيها في أوائل شوال سنة ١٣٦٦.

وبحمد الله تعالى وفضله شرعنا بعدها وتمّت الدورة في ٥ جمادى الأُولى سنة ١٣٨١ واشتغلنا بعدها في مباحث الاجتهاد والتقليد.

وشرعنا بحمد الله وفضله في دورة جديدة في شوال سنة ١٣٨١ ومنه تعالى نستمدّ التوفيق [ منه قدس‌سره ].

٣١٣
٣١٤

فهرس الموضوعات

الموضوع

الصفحة

مبحث التعادل والتراجيح

الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية بتغاير موضوعيهما والمناقشة في ذلك.......................... ٣

الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بكون الأوّل إنشائياً والثاني فعلياً والمناقشة في ذلك............... ٦

الفرق بين موارد التعارض وموارد اشتباه الحجّة باللاّحجّة......................................... ٨

الكلام في أقسام التزاحم ومرجّحاته........................................................... ١٥

الكلام في ضابط الحكومة.................................................................... ١٨

الكلام في أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة................................................... ٢٤

وجه تقديم الخاصّ على العام................................................................. ٢٧

ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من الفرق بين الورود والحكومة والمناقشة فيه........................... ٢٨

التعرّض لكلام الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في توجيه تقديم الخاصّ على العام............................ ٢٩

٣١٥

الجمع الدلالي بين المتعارضين................................................................. ٣٥

تقديم النصّ على الظاهر وذكر جملة من موارده................................................ ٣٧

تقديم العام الأُصولي على المطلق الشمولي....................................................... ٤٧

تقديم العام الأُصولي على المطلق البدلي......................................................... ٥١

تقديم المطلق الشمولي على المطلق البدلي........................................................ ٥٢

تقديم مفهوم الغاية على مفهوم الشرط......................................................... ٥٣

التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الوصف................................................... ٥٤

دوران الأمر بين التخصيص والنسخ.......................................................... ٥٥

صور التعارض بين أكثر من دليلين ( مبحث انقلاب النسبة ).................................... ٧١

ملاحظة النسبة بين أدلّة ضمان العارية....................................................... ١٠٧

فائدة : لو كان عامان وورد خاص يوجب تخصيص أحدهما................................... ١١٩

البحث عن مقتضى القاعدة في المتعارضين.................................................... ١٢١

إمكان نفي الثالث بالخبرين المتعارضين....................................................... ١٢٦

مقتضى القاعدة في المتعارضين بناءً على السببية............................................... ١٤٢

مقتضى القاعدة الثانوية في المتعارضين المتكافئين وملاحظة روايات التخيير والتوقّف ونحوهما........ ١٥٨

الكلام في شمول روايات التخيير لاختلاف النُسخ............................................. ١٦٦

٣١٦

لزوم الفحص عن المرجّحات قبل العمل بالتخيير.............................................. ١٦٨

هل التخيير ـ على القول به ـ في المسألة الأُصولية أو الفقهية ، وهل هو من وظائف المجتهد أو المقلّد ، وهل هو ابتدائي أو استمراري؟......................................................................................... ١٧٠

وقفة مع صاحب الكفاية قدس‌سره في باب الاجتهاد والتقليد وباب التعارض.......................... ١٨٤

الكلام في أخبار الترجيح وملاحظة النسبة بينها وبين أدلّة التخيير............................... ٢٠٢

مدى دلالة مقبولة عمر بن حنظلة على الترجيح.............................................. ٢٠٤

تنبيه : جملة من الروايات التي يمكن الاستدلال بها على التخيير ومدى دلالتها على ذلك........... ٢٠٦

احتمال اختصاص التخيير بالأحكام غير الالزامية بقرينة رواية العيون............................ ٢٠٧

إرادة التساقط من التوقّف والارجاء وذكر شواهد على ذلك................................... ٢١١

التعرّض لبعض المرجّحات المنصوصة والمناقشة فيها............................................ ٢١٦

ذكر المتن الكامل لرواية العيون والبحث عن مفادها........................................... ٢٢١

التعرّض لإشكالات الكفاية على المقبولة ونقدها.............................................. ٢٢٩

الكلام في جواز التعدّي من المرجّحات المنصوصة أو لزوم الاقتصار عليها........................ ٢٤٥

تنبيه : دلالة طائفة من الروايات على الترجيح بتأخّر الصدور.................................. ٢٤٩

الكلام في تقدّم بعض المرجّحات على بعض وعدمه........................................... ٢٥٠

أقسام الشهرة وما يصلح منها للترجيح....................................................... ٢٨١

٣١٧

الوجوه الأربعة التي ذكرها الشيخ قدس‌سره للترجيح بمخالفة العامّة ونقدها........................... ٢٩٠

بحث في الأخبار الواردة في موافقة الكتاب ومخالفته ومحاولة الجمع بينهما......................... ٢٩٣

حكم المتعارضين بالعموم من وجه من حيث جريان المرجّحات الصدورية والجهتية والمضمونية فيهما

......................................................................................... ٣٠٢

فهرس الموضوعات........................................................................ ٣١٤

٣١٨

الفهارس الفنية

١ ـ فهرس الآيات الكريم

٢ ـ فهرس الأحاديث الشريفة

٣ ـ فهرس الاشعار

٤ ـ فهرس أهم مصادر التحقيق

٣١٩
٣٢٠