أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

الرجوع فيه بعد فقد المرجّحات الدلالية إلى التساقط كما سيأتي (١) بيانه إن شاء الله تعالى.

ولكن لا يخفى أنّ ذلك ـ أعني مجرّد عدم الأثر العملي للقول بالتخيير والقول بالتوقّف ـ لا يرفع التعارض الواقع بين أخبار التوقّف وأخبار التخيير ، فلابدّ من رفع التعارض بينهما بما أشار إليه سابقاً من الوجهين المذكورين ، وأجودهما الثاني ، أعني حمل أخبار التخيير والتوسعة على موارد التعارض في الاستحباب والكراهة ونحوهما من الأحكام الترخيصية كما هو مورد رواية ابن مهزيار في صلاة النافلة في المحمل (٢) ، ومورد مكاتبة الحميري في التكبير الانتقالي ، وكما صرّحت به رواية العيون من التفصيل بما مفاده حكومتها على أخبار التخيير والتوسعة ، وبيان المراد من تلك التوسعة وشرح موردها.

ولا بأس بنقل رواية العيون التي أشرنا إليها ، فإنّها يمكن الاكتفاء بها في ضابط الحكم في باب التعارض ، فنقول بعونه تعالى : قال الشيخ الصدوق قدس‌سره في كتابه عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : حدّثنا أبي ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، قالا : حدّثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدّثني محمّد بن عبد الله المسمعي ، قال : حدّثني أحمد بن الحسن الميثمي « أنّه سئل الرضا عليه‌السلام يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشيء الواحد ، فقال عليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ حرّم حراماً وأحلّ حلالاً وفرض فرائض ، فما جاء في تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحلّ الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بيّن قائم بلا ناسخ نسخ ذلك ، فذلك ما لا يسع الأخذ به ، لأنّ

__________________

(١) راجع الحاشيتين الآتيتين في الصفحة : ٢٩٧ و ٣٠٧.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٤.

٢٢١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليحرّم ما أحلّ الله ، ولا ليحلّل ما حرّم الله عزّوجلّ ، ولا ليغيّر فرائض الله وأحكامه ، كان في ذلك كلّه متّبعاً مسلّماً مؤدّياً عن الله عزّوجلّ ، وذلك قول الله عزّوجلّ : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ) (١) ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله متّبعاً لله مؤدّياً عن الله عزّوجلّ ما أمره به من تبليغ الرسالة ، قلت : فإنّه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا ليس في الكتاب وهو في السنّة ثمّ يرد خلافه ، فقال : وكذلك قد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أشياء نهي حرام فوافق نهيه في ذلك نهي الله تعالى ، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرائض الله تعالى ووافق في ذلك أمره أمر الله ، فما جاء في النهي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي حرام ثمّ جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك ، وكذلك فيما أمر به ، لأنّا لا نرخّص فيما لم يرخّص فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نأمر بخلاف ما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّلعلّة خوف ضرورة ، فأمّا أن نستحلّ ما حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو نحرّم ما استحلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يكون ذلك أبداً ، لأنّا تابعون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسلّمون له كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تابعاً لأمر ربّه عزّوجلّ مسلّماً له ، وقال الله عزّوجلّ : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٢) ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل إعافة وكراهة ، وأمر بأشياء ليس أمر فرض ولا واجب ، بل أمر فضل ورجحان في الدين ، ثمّ رخّص في ذلك للمعلول وغير المعلول ، فما كان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي إعافة أو أمر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخص فيه ، إذا ورد عليكم عنّا فيه الخبر باتّفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره ، وكان الخبران صحيحين معروفين باتّفاق الناقلة فيهما ، يجب الأخذ بأحدهما أو بهما

__________________

(١) الأنعام ٦ : ٥٠ ، يونس ١٠ : ١٥ ، الأحقاف ٤٦ : ٩.

(٢) الحشر ٥٩ : ٧.

٢٢٢

جميعاً أو بأيّهما شئت وأحببت ، موسع لك ذلك من باب التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والردّ إليه وإلينا ، وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشركاً بالله العظيم ، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان موجوداً في كتاب الله حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما كان في السنّة موجوداً منهياً عنه نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ، ثمّ كان الخبر الآخر خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول الله وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه برأيكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا » قال مصنّف هذا الكتاب رحمه‌الله : كان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضى الله عنه سيّئ الرأي في محمّد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث ، وإنّما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنّه كان في كتاب الرحمة ، وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي (١) ، انتهى ما في العيون.

وقال في الوسائل بعد أن ذكر هذه الرواية عن العيون : أقول : ذكر الصدوق أنّه نقل هذا من كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله ، وذكر في الفقيه (٢) أنّه من الأُصول

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠ ـ ٢٢ / ٤٥ ( مع اختلاف يسير عمّا نقله المصنّف رحمه‌الله عن النسخة الخطّية ).

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣ ـ ٤.

٢٢٣

والكتب التي عليها المعوّل وإليها المرجع (١).

وقد نقلت هذه الرواية الشريفة على طولها من نسخة خطّية من كتاب العيون مصحّحة عليها آثار القدم ، لأنّ جميع فقراتها لا تخلو عن شاهد لما ذكرناه فهي أوّلاً بيّنت أنّ ما خالف الكتاب ليس بحجّة وأنّه ليس بصادر عنهم ، وكذلك ما خالف السنّة الالزامية من الأوامر والنواهي والفرائض وإن لم يكن مخالفاً للكتاب ، وأنّه لا ترخيص في المخالفة في مثل ذلك ولا توسعة فيه ، فلو ورد ما يكون مشتملاً على مثل تلك المخالفة وجب طرحه ، سواء كان له معارض أو لم يكن ، أمّا ما يكون من السنّة من قبيل المستحبّ والمكروه وقد ورد ما يدلّ على الترخيص في ذلك ، وكان ذلك الوارد متّفقاً عليه ، بحيث إنّه يرويه من كان راوياً لذلك الأمر أو النهي ، فلا بأس بالأخذ به من باب التسليم ، بل لا يجوز ترك الأخذ به من باب عدم التسليم أو العناد والإنكار.

ثمّ أفادت الرواية ضابط التعارض ، وأنّه يلزم عرضهما أوّلاً على الكتاب ، فإن كان فيه ما يوافق أحدهما وجب الأخذ به وطرح الآخر ، ولو لم يكن في الكتاب شيء من ذلك وجب عرضهما على السنّة ، فإن كان فيها أمر أو نهي إلزامي وجب الأخذ بما وافقها منهما وطرح الآخر ، وإن لم يكن فيها إلاّ الأمر الاستحبابي أو النهي الكراهتي وكان أحد الخبرين مخالفاً لذلك الأمر الاستحبابي أو لذلك النهي الكراهتي ، كان مفاد ذلك الخبر هو الترخيص في ذلك المستحبّ أو ذلك المكروه ، وكان المورد حينئذ هو مورد الحكم منهم عليه‌السلام وقولهم بأنّه يسع الأخذ بهما جميعاً أو بأحدهما وبأيّهما شئت وسعك ، ونحو ذلك من عبائرهم عليهم‌السلام في التخيير والتوسعة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٥ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ، ذيل ح ٢١.

٢٢٤

وما كان خارجاً عن هذه الضوابط الثلاث من موارد التعارض وجب ردّه إليهم ، وأنّهم عليهم‌السلام أولى به ، ولا يجوز فيه القول بالرأي ، وأنّه يجب فيه التوقّف والبحث والطلب وعدم القول والفتوى بشيء ممّا دلّ عليه المتعارضان حتّى يأتي البيان فيه منهم عليهم الصلاة والسلام.

ومقتضى إطلاق التوقّف هو عدم الترجيح بشيء من المرجّحات ، ويخرج منه ما لو كان أحدهما موافقاً للعامّة ، فإنّه يلزم الأخذ فيه بما خالفهم ، لما تقدّم من الأدلّة ، ويخرج عنه ما لو كان أحدهما مشهوراً معروفاً بخلاف الآخر النادر ، فإنّه يلزم الأخذ فيه بالأوّل لما عرفت من كون المجمع عليه لا ريب فيه ، وأنّ النادر لا يحصل فيه ملاك الحجّية وهو الوثوق والاطمئنان ، أمّا المرجّحات الأُخر فلا يمكن الحكم بها إلاّبدليل يكون مقدّماً على هذا الاطلاق ، هذا.

ولكن المحقّق الرشتي قدس‌سره قد ذكر هذه الرواية واستدلال صاحب الوسائل بها على انحصار التخيير في الأحكام غير الالزامية ، ثمّ قال : وفيه : أنّه لا دلالة ولا مساس لها بالمقام ، بل هي من أخبار الترجيح بالكتاب والسنّة ، وأنّه مع عدم الترجيح وجب التوقّف في القول لا في العمل ، فإن كان فيها دلالة على شيء فهي من عموم أخبار التوقّف في تعارض الأخبار ، وأين هذا من التخيير في المستحبّات والتوقّف في الواجبات.

والحاصل : أنّها تدلّ أوّلاً على التوقّف في القول لا في العمل. وثانياً : أنّها من الأخبار المطلقة لا المفصّلة ، وأمّا الأخذ من باب التسليم فيما لو تعارض الكراهة والرخصة كما تدلّ عليه فهو من فروع الجمع لا من فروع التخيير.

ومحصّل هذه الرواية على ما يظهر لمن تأمّل في جميع فقراتها التي لم ينقل جلّها بطولها : أنّه قد يجمع بين نواهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين ما ورد من أهل

٢٢٥

البيت من خلافه ، بأن كان النهي نهي كراهة وتنزيه لا نهي تحريم وإلزام ، وقد يطرح فيما خالفها من أخبار أهل البيت عليهم‌السلام كما إذا كان نهي إلزام أو أمر إلزام ، ويستفاد منه ذلك ، وأنّه لابدّ للفقيه من التأمّل وعدم البدار إلى طرح ما خالف السنّة حتّى يعرف حال النهي المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه نهي عافية (١) أو نهي عزيمة ، وهذا المعنى لا مساس له بما نحن فيه أصلاً ، إلى آخر كلامه فراجعه (٢).

ولكنّك قد عرفت أنّها بصدد بيان حكم التعارض ، وبيان أنّ حديث التوسعة في الأخذ بأيّهما شئت مختصّ بخصوص ذلك القسم من التعارض ، فتكون حاكمة على ما دلّ على التوسعة ، وأنّ ما عدا تلك الموارد الترخيصية لا توسعة فيها ، وأنّه يجب التوقّف فيها.

فراجع وتأمّل في فقرات الرواية الشريفة ، خصوصاً ذلك التقسيم الثلاثي الذي تضمّنه قوله عليه‌السلام : « فما ورد عليكم من حديثين مختلفين » إلى آخره ، فإنّه عليه‌السلام أمر أوّلاً بعرضهما على الكتاب وأمر بأخذ ما وافقه وطرح ما خالفه ، وثانياً بعرضهما على السنّة ، فإن كان فيها ما يتضمّن الالزام ، كان اللازم هو طرح ما خالف ذلك ، وإن لم يكن إلاّ التنزيه والاستحباب ، لم يكن ذلك موجباً لطرح المخالف الدالّ على الترخيص ، وكان ذلك هو المعني به من حديث التوسعة.

وثالثاً أنّ ما كان خارجاً عن هذه الضوابط كان الحكم فيه هو التوقّف في الفتوى الذي يكون لازمه هو التساقط.

ولا يخفى أنّ كون حمل المخالف للسنّة التنزيهية على الترخيص من باب الجمع الدلالي لا ينافي أصل المطلب ، وهو تعرّض الرواية لشرح التوسعة وبيان

__________________

(١) [ هكذا في المصدر والمذكور في الحديث : إعافة ].

(٢) بدائع الأفكار : ٤٢٤.

٢٢٦

انحصار موردها في خصوص هذا القسم.

نعم ، يبقى شيء أشار إليه ، وهو أنّ التوقّف الذي أمرت به الرواية هو التوقّف في الفتوى ، وهو لا ينافي التخيير العملي الذي دلّت عليه أخباره ، لكن ذلك مبني على أنّ مفاد أخبار التخيير هو التخيير العملي ، أعني كونه تخييراً في المسألة الفرعية ، وقد عرفت أنّه تخيير في المسألة الأُصولية ، هذا.

مضافاً إلى أنّ ما دلّت عليه هذه الرواية من بيان انحصار التوسعة بخصوص الأحكام غير الالزامية كافٍ في إسقاط عموم تلك الروايات لغير هذه الأحكام.

ثمّ إنّ المرحوم السيّد محمّد كاظم قدس‌سره في رسالته تعرّض لهذه الرواية واستدلال صاحب الوسائل (١) بها ، وأجاب عنها بأنّها ليست ناظرة إلى التخيير بين الخبرين من حيث إنّهما خبران كما بيّناه سابقاً ، كيف ولو كان المراد ذلك لزم التخيير ولو مع وجود المرجّح وهو موافقة أحدهما للسنّة ، وهذا باطل ، فلو دلّ أحدهما على استحباب شيء والآخر على كراهته مثلاً ، وفرض أنّ السنّة مطابقة لأحدهما ، فلا يعقل التخيير ، وهذا يعيّن ما ذكرنا من أنّ المراد جواز العمل بالخبرين من حيث إنّ الحكم غير إلزامي ويجوز تركه ، وهذا واضح غايته ، خصوصاً بعد التأمّل في تمام الخبر ، فراجع (٢). وأشار بذلك إلى ما تقدّم منه في هذه الرواية (٣).

وفيه : أنّ الترخيص [ في ] الرواية وإن كان لأجل ما أُفيد من كون الحكم غير إلزامي ، وأنّه ليس من قبيل التخيير بين الخبرين ، إلاّ أنّها دالّة على أنّ التوسعة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ـ ١٠٩ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ذيل ح ٦.

(٢) كتاب التعارض : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٣) المصدر المتقدّم : ٢٤٢.

٢٢٧

والترخيص مختصّ بمثل ذلك المورد ، وأنّ ما عداه لا توسعة فيه ولا ترخيص ، وذلك كافٍ في حكومتها على أدلّة التخيير والتوسعة بأيّ معنى فسّرنا تلك التوسعة التي نطقت بها رواياتها.

نعم ، مقتضى هذا الحصر في هذه الرواية هو لزوم حمل قوله عليه‌السلام : « موسّع عليك » على هذه التوسعة التي تضمّنتها هذه الرواية ، دون غيرها من التوسعة والتخيير في الحجّية أو في العمل بقول مطلق ، فراجع وتأمّل.

وعلى كلّ ، فالمراد من التوسعة في هذه الرواية هي التوسعة من حيث العمل لا من حيث الحجّية ، وحينئذ يمكن الالتزام بالتوسعة العملية في الخبرين اللذين يتضمّن أحدهما الأمر غير الإلزامي والآخر النهي غير الإلزامي حتّى لو كان أحدهما موافقاً للسنّة دون الآخر ، فلاحظ.

هذا كلّه في مقابلة هذه الرواية الشريفة مع روايات التخيير ، مثل رواية الحسن بن الجهم (١) ورواية الحارث بن المغيرة (٢) وغيرهما.

أمّا مرفوعة العوالي (٣) فهي بالاعراض عنها أولى ، لأنّ صاحب الكتاب ينقلها عن العلاّمة ، وبينه وبين عصر العلاّمة قدس‌سره ما يزيد على المائة سنة ، فيبعد كلّ البعد أن يكون ذلك النقل من قبيل النقل الشفاهي ولو بالوسائط ، فلابدّ أن يكون النقل عن بعض كتب العلاّمة ، ولم يعثر عليها أحد في شيء من كتب العلاّمة قدس‌سره ولو كان لبان.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

٢٢٨

مضافاً إلى أنّها إنّما حكمت بالتخيير في خصوص ما لو كان كلّ منهما موافقاً للاحتياط ، أو كان كلّ منهما مخالفاً له ، ولا إشكال في الثاني ، لأنّه من الأحكام الالزامية ، كما أنّه لو كان الأوّل من قبيل الدوران بين المحذورين لا إشكال فيه في التخيير ، سيّما إذا أخذناه عملياً.

وأمّا الضدّان مثل صلاة الظهر والجمعة ، فإن علمنا من الخارج بوجوب أحدهما لزمنا الاحتياط ، وإلاّ كان محصّل التخيير فيه هو الرجوع إلى البراءة وعدم الحرج على نمط التخيير في المحذورين ، وفيه تأمّل ، والأولى طرحها.

قوله : والإشكال عليها بأنّ موردها اختلاف الحَكَمين في مستند حكمهما ، وفي مثله لا بدّ من الترجيح ، لعدم قطع الخصومة بالتخيير ... الخ (١).

هذا الإشكال وما بعده للكفاية (٢) ، فإنّه قدس‌سره أشكل أوّلاً : بأنّ هذا الترجيح لأحد الحكمين على الآخر لا لإحدى الروايتين على الأُخرى.

وثانياً : باختصاص المقبولة (٣) بامكان الحضور ، فلا تشمل زمان الغيبة.

وثالثاً : أنّه لو التزمنا بالترجيح وتقديم أخباره على أخبار التخيير ، وقيّدنا أخبار التخيير بما عدا موارد الترجيح ، لكان ذلك من باب التخصيص المستهجن لندرة عدم المرجّح.

ثمّ أشكل رابعاً على بعض المرجّحات ، وأنّها ليست من قبيل الترجيح ، بل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧١ [ يتلو التعليق على هذه العبارة تعليق آخر على نفس العبارة ].

(٢) كفاية الأُصول : ٤٤٣ ـ ٤٤٥.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

٢٢٩

من قبيل المائز بين الحجّة وغيرها. وقول شيخنا قدس‌سره هنا تعريض بالجواب عن هذه الإشكالات.

وقد حرّرت عنه قدس‌سره في مقام الجواب عن الإشكال الأوّل ما نصّه : أنّ التخيير لو كان في المسألة الفرعية لكان الفرق بينه وبين القضاء تامّاً ، أمّا لو كان في المسألة الأُصولية ، أعني كون التخيير في الحجّية كما هو المختار ، لكان البابان ـ أعني باب القضاء وباب الافتاء ـ باباً واحداً ، حيث إنّ التخيير في كلّ منهما يكون في الحجّة والمدرك ، غير أنّه في باب القضاء يكون في مدرك الحكم ، وفي باب الافتاء يكون في مدرك الفتوى ، فإذا وجب الترجيح وتعيّن الأخذ بما هو الراجح في مدرك القضاء ، وجب ذلك وتعيّن الأخذ به في مقام الافتاء ، ولا معنى للتفكيك حينئذ بين البابين ، انتهى. وهو عين ما أُفيد هنا بقوله : فإنّ الترجيح إنّما يكون في مقابل التخيير ، وقد عرفت أنّ التخيير إنّما يكون في المسألة الأُصولية الخ (١).

لكنّه قابل للتأمّل ، فإنّ الترجيح في الرواية المزبورة ـ أعني المقبولة ـ إنّما يكون في مقابل التوقّف المأمور به أخيراً عند التساوي لا التخيير ، ومن الواضح أنّ التوقّف هنا بل التخيير لو كان بل الترجيح إنّما هو راجع إلى غير الحاكمين ، بمعنى أنّ الرواية إنّما تتعرّض سؤالاً وجواباً لكسب التكليف عند اختلاف الحاكمين ، فالترجيح والتخيير أو التوقّف إنّما يكون بالقياس إلى غير الحاكمين ، وحينئذ لا يكون لذلك دخل في كونه راجعاً إلى المسألة الأُصولية.

نعم ، إنّ حكم الحاكم كفتواه لابدّ أن يكون لمستند ، وأنّه في صورة تعارض الروايتين عند الحاكم أو المفتي لابدّ أن يرجّح إحداهما على الأُخرى أو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٢.

٢٣٠

يتخيّر بينهما ، فيحكم أو يفتي على طبق الراجح أو المختار أو يتوقّف في ذلك ، كلّ ذلك ممّا يرجع إلى المسألة الأُصولية ، أعني مدرك الحكم أو مدرك الفتوى.

لكن الرواية سؤالاً وكذلك جواباً لا تعرّض لها بالنسبة إلى الحاكمين نفسهما ، وأنّه ماذا يكون تكليفهما ، وإنّما المسؤول [ عنه ] هو تكليف غيرهما ، فعلى تقدير أن يكون في البين ترجيح فإنّما هو في ترجيح ذلك الغير أحد الحكمين على الآخر ، لا في ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى في مقام الافتاء بها أو العمل على طبقها.

وكأنّ شيخنا قدس‌سره حسبما في التحرير فهم من الإشكال أنّ مراد المستشكل هو أنّ المنظور في الترجيح هو ترجيح الحاكم إحدى الروايتين على الأُخرى ، ولا إشكال في أنّه لا مورد فيه للفتوى بالتخيير ، لعدم انقطاع الخصومة بالفتوى بالتخيير ، وحينئذ يتّجه ما أفاده قدس‌سره من الجواب بأنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه لو قلنا بأنّ المراد من التخيير هو التخيير في المسألة الفرعية أعني الفتوى بالتخيير ، لأنّ لزوم ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى في مقام الحكم لا ينافي التخيير العملي المذكور ، لأنّه في غير مقام الحكم.

والخلاصة : هي أنّه لو كان التخيير الذي دلّت عليه رواياته هو الفتوى بالتخيير ، فلا يمكن أن يتأتّى للحاكم في مقام الخصومة ، لأنّ فتواه بالتخيير العملي للمتخاصمين لا يرفع الخصومة بينهما ، بل لابدّ له من أن يرجّح إحدى الروايتين على الأُخرى ، وهو ما دلّت عليه المقبولة ، لأنّ الخصومة لا ترتفع إلاّ بترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى ، ليتسنّى للحاكم الحكم على طبق الراجح منه.

وهذا هو الذي أفاده في الكفاية بقوله : إنّ رفع الخصومة بالحكومة ـ إلى

٢٣١

قوله ـ لا يكاد يكون إلاّبالترجيح الخ (١) ، وحينئذ يتوجّه عليه إشكال شيخنا قدس‌سره بأنّ ذلك مبني على كون التخيير الذي دلّت عليه رواياته هو التخيير العملي ، إذ لو قلنا كما تقدّم إنّ التخيير المذكور هو التخيير في المسألة الأُصولية لم تكن الخصومة مانعة منه ، لأنّ الحاكم يختار إحدى الروايتين فيحكم على طبقها ، كما يختارها في مقام الفتوى فيفتي على طبقها.

لكن لا يخفى أنّ صاحب الكفاية لا يقول بكون التخيير عملياً ، بل إنّ نظره هو كونه تخييراً في المسألة الأُصولية كما سيأتي في قوله : ثمّ لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين في عمل نفسه وعمل مقلّديه ، ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية لعدم الدليل عليه (٢).

ولعلّ مراده من قوله هنا : إنّ رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون إلاّبالترجيح الخ (٣) ، ليس ما عرفت من البناء على كون التخيير الذي دلّت عليه رواياته [ هو التخيير العملي ] لأنّه خلاف مذهبه ، بل مراده أنّ التخيير هو التخيير في المسألة الأُصولية ، ولكن لا يجري في مقام التخاصم تخيير المتخاصمين بين الروايتين أو بين الحكمين ، لأنّ كلاً منهما يختار ما يوافقه ، فلابدّ حينئذ من الترجيح ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّه لا محصّل لتخيير المتخاصمين بين الروايتين تخييراً أُصولياً ، وإنّما ذلك للحاكم لا لهما ، وقد عرفت [ أنّه ] لا مانع من تخيير الحاكم تخييراً أُصولياً بأن يختار إحداهما فيحكم على طبقها.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٤٦.

(٣) كفاية الأُصول : ٤٤٣.

٢٣٢

ثمّ لا يخفى أنّ مرفوعة العوالي (١) ليست في مقام الخصومة ، فلا وجه لقوله : لقوّة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما الخ (٢) ، إلاّ أن يقال : إنّ الصحيح موردها ، ولكن أخطأ الناسخ فعبّر بموردهما ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّا قد أنكرنا دلالة الأخبار على التخيير ، إمّا لتحكيم رواية العيون (٣) ، وإمّا لدعوى كون المراد من التوسعة هو التوسعة من ناحية الخبرين ، وهو عين الارجاء والتوقّف والتساقط ، ومع ذلك لابدّ لنا من التكلّم على المقبولة من حيث لزوم الترجيح في قبال أصالة التساقط ، أو في قبال أخبار التوسعة الدالّة على التساقط ، وقد عرفت أنّ صدر المقبولة ليس في مقام ترجيح إحدى الروايتين ، بل في ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو إحدى الفتويين على الأُخرى ، وأمّا ذيلها فليس هو من باب الترجيح ، بل من باب تمييز الحجّة عن غيرها ، فلا دلالة في المقبولة على الترجيح فلاحظ.

ويؤيّد ما ذكرناه من كون صدر المقبولة في مقام ترجيح إحدى الفتويين على الأُخرى ، أو ترجيح أحد الحكمين على الحكم الآخر ، لا في مقام ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى ، ما ذكره في الوسائل بعد فراغه عن الكلام في المقبولة [ وهو ] ما نقله عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٤٣.

(٣) المتقدّمة في الصفحة : ٢٢١ وما بعدها.

٢٣٣

بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر » (١) فإنّه صريح في كون المقابلة بين الفتويين أو بين الحكمين ، إذ ليس فيه ذكر للرواية أصلاً ، فلاحظ.

وكذلك ما نقله في أُخريات الباب عن موسى بن أكيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال عليه‌السلام : وكيف يختلفان؟ قلت : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، قال عليه‌السلام : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه » (٢).

قوله : والإشكال عليها بأنّ موردها اختلاف الحكمين ... الخ (٣).

الأولى في الجواب أن يقال : إنّ هذه القضية من قضاء التحكيم ، وبعد اختيار الاثنين واختلافهما فيما وقع فيه النزاع ، يسقط تحكيمهما وتعود المسألة كما كانت قبل تحكيمهما ، لكن على المتخاصمين أن يجتهدا في مسألتهما وينظرا إلى الروايتين اللتين استند أحد القاضيين إلى إحداهما والآخر إلى الأُخرى ، ويرجّحا ما هو الراجح بينهما بالترتيب الذي أفادته المقبولة (٤) ، نعم لو اختلف المتخاصمان في الترجيح كانا كمجتهدين وقع النزاع بينهما في إرث ونحوه فعليهما الترافع إلى مجتهد آخر.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٥.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧١.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

٢٣٤

وأمّا الجواب عن الإشكال الثاني بأنّ اختصاص التوقّف بزمان الحضور لا يقتضي اختصاص الترجيح به (١) ، فلا يخلو عن تأمّل ، فإنّه يوجب التفكيك بين مورد الصدر فيجعل للأعمّ من زمان الحضور ، ومورد الذيل فيجعل لخصوص زمان الحضور.

ولكن لا يبعد أن لا يكون المراد من قوله عليه‌السلام : « حتّى تلقى إمامك » الاختصاص بزمان الحضور ، بل هو كناية عن التوقّف ولزوم الاحتياط إلى أن يلقى الإمام عليه‌السلام وإن طال الأمد ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » هو تلك الجملة الجارية في جميع موارد عدم قيام الحجّة ، فلا تدلّ المقبولة على أزيد من السقوط عند التساوي والتعارض ، غايته أنّها تدلّ على لزوم الاحتياط ، فهي من هذه الجهة حالها حال أخبار الاحتياط.

ثمّ لا يخفى أنّ أجمع الأخبار للمرجّحات هو المقبولة ، ويمكن القول بأنّ ما اشتملت عليه ليس من المرجّحات ، بل هو من قبيل التمييز للحجّة عمّا ليس بحجّة ، فإنّ الخبر الموافق للعامّة إن لم يعضد بشيء آخر لا يكون حجّة ، وكذلك المخالف للكتاب والسنّة على حذو ما ورد في أصل حجّية الخبر من ردّ ما خالف الكتاب والسنّة ، غايته أنّه يحتاج إلى تحديد في تلك المخالفة أو اعتبار الموافقة ، وقد تعرّض له الجماعة في أوائل حجّية خبر الواحد ، فلم تأت المقبولة من ناحية هذين المرجّحين بشيء جديد ، وكذلك الحال في المشهور والنادر ، فإنّ النادر في نفسه ليس بحجّة ، وعلى ذلك جرى المرتضى قدس‌سره (٢) وغيره (٣) في قولهم بعدم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٣.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ ، ٣ : ٣٠٩ ، الذريعة إلى أُصول الشريعة : ٣٧١.

(٣) منهم السيّد ابن زهرة رحمه‌الله ، في غنية النزوع ١ : ٣٥٦ ، وابن إدريس الحلّي رحمه‌الله في

٢٣٥

حجّية أخبار الآحاد مع أنّ عملهم في الفقه عليه.

وعمدة ما يقال في توجيه كلماتهم : هو أنّ الواحد الشاذّ النادر الذي لم يعرفه الأصحاب لا يكون حجّة ، بل نحن نقول بما هو أعظم من ذلك ، وهو أنّ الخبر غير المعمول به عند مشايخنا المعرض عنه في فقههم لا يكون حجّة لعدم ركون النفس إليه ، فلم يبق باليد إلاّ الترجيح بصفات الراوي.

ويمكن الجري فيها على هذا الأساس ، وهو أنّ الحجّة ما ركنت النفس إليه وحصل الوثوق به ، وما يرويه غير الأعدل في قبال ما يرويه الأعدل لا تطمئن به النفس ، فيكون ساقط الحجّية في خصوص المقابلة بإخبار الأعدل وإن لم يكن فيه قصور لو لم يكن في قباله خبر الأعدل.

ويمكن الجري على هذا الأساس في مخالفة العامّة وموافقتهم ، بأن نقول إنّ مجرّد موافقة العامّة في حدّ نفسها لا تكون مسقطة عن الحجّية إلاّ إذا انضمّ إليها جهات أُخر ، ومن جملتها ما لو كانت للخبر الموافق لهم معارضة بخبر مخالف لهم بل يمكن أن يكون الحال كذلك في غير المشهور في قبال المشهور ، فلاحظ وتدبّر.

وينبغي مراجعة ما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) في آخر الكتاب في تعارض العموم من وجه ، فإنّه منع من الترجيح الصدوري وسوّغ الترجيح الجهتي والترجيح المضموني ، ومع التساوي أفاد أنّ اللازم قياساً على غيره هو التخيير لكنّهم قد بنوا

__________________

السرائر ١ : ٥٠ ، والطبرسي رحمه‌الله راجع مجمع البيان ٧ : ١٠٣ ذيل آية ٧٩ من سورة الأنبياء.

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩٢ / الأمر الخامس.

٢٣٦

على التساقط.

ولا يخفى أنّه يمكن القول بأنّه لا مانع من المرجّح الصدوري ، إذ ليس معناه أنّ المرجوح صدوراً محكوم بأنّه غير صادر ، بل أقصى ما في البين هو عدم إجراء دليل « صدّق » فيه ، بمعنى عدم وجوب العمل على طبق مؤدّاه ، وهذا قابل للتبعيض ، نظير ما لو كان مشتملاً على جملتين.

وما أفاده من الجواب بأنّه ليس في البين جمل متعدّدة ، قابل للتأمّل ، فإنّه قد جرى على ذلك في المرجّح الجهتي ، فحكم بسقوطه في مورد التعارض ، ولا معنى لسقوطه إلاّعدم العمل به في بعض أنواعه أو أفراده الذي هو مورد المعارضة.

وهكذا الحال في المرجّح المضموني ، فإنّ أحد العامين من وجه لو كان بعمومه لمورد المعارضة مخالفاً للكتاب في قبال العام الآخر الذي يكون بعمومه لمورد المعارضة موافقاً للكتاب أو لا يكون موافقاً للكتاب ولا مخالفاً له ، فترجيح الموافق ترجيح صدوري ، ولو سلّمنا إخراجه عن المرجّح الصدوري وجعلناه مرجّحاً آخر نظير جهات الصدور ، كان إسقاط ذلك المخالف في خصوص مورد التعارض تبعيضاً في وجوب العمل ولزوم التصديق في بعض المدلول دون بعض ، وهو الذي أوجب عليه إنكار إجراء المرجّح الصدوري في العامين من وجه.

ثمّ بعد اللتيا والتي يكون الحكم عند التساوي هو التخيير بناءً على أصلهم الذي أصّلوه ، فلِمَ لا يرجعون إليه في مورد العموم من وجه ، بل يرجعون إلى الأصل الذي عرفته وهو التساقط ، فلاحظ وتدبّر.

٢٣٧

وبناءً على ما ذكرناه من التساقط يكون الأصل مرجعاً عند التساقط لا أنّه مرجّح لأحد المتعارضين.

نعم ، فرق واضح بين المرجّح الصدوري والمرجّح الجهتي ، فإنّ الخبر الموافق للعامّة يمكن القول بأنّه قد صدر تقيّة فهو لا ينافي أصل الصدور ، بخلاف غيره من المرجّحات.

لكن هذا الفرق لا دخل له بما نحن بصدده من إمكان التبعيض في مدلول المتن الذي هو العام ، فنحكم بسقوطه في مورد المعارضة ، بمعنى سقوط دليل وجوب التصديق به في ذلك المورد الذي هو مورد المعارضة ، دون بقيّة الموارد التي لا معارضة فيها ، ومعنى المرجّح الصدوري لا يزيد على ذلك ، بمعنى أنّ المرجوح يكون ساقطاً عن دليل وجوب التصديق ، لا أنّه محكوم بعدم صدوره كي يقال إنّه لا يمكن التبعيض في هذه الجهة في المتن الواحد بل في الجملتين من متن واحد ، فإنّه لا يمكن الحكم بصدور إحداهما دون الأُخرى ، فلاحظ.

قوله : كما لا ينبغي الإشكال على الاستدلال بها ، بأنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام في الذيل : « إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك » (١) ـ إلى قوله ـ فإنّ اختصاص التوقّف بزمان الحضور لا يقتضي اختصاص الترجيح به (٢).

هذا إشارة إلى الإشكال الثاني من إشكالات الكفاية وجوابه ، وقد حرّرت عنه قدس‌سره في الجواب ما نصّه : إنّ ذلك ـ أعني الاختصاص ـ إنّما هو قيد عقلي مستفاد من قوله عليه‌السلام : « حتّى تلقى إمامك » فلا يوجب إلاّ اختصاص التوقّف

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٣.

٢٣٨

المأمور به عند التساوي بحال الحضور ، دون ما تقدّم عليه من الترجيح بالأُمور المذكورة ، انتهى.

ولكنّه مع ذلك قابل للتأمّل ، فإنّ الترجيح عند شيخنا قدس‌سره إنّما هو في قبال التخيير ، والتخيير عنده مختصّ بزمان الغيبة ، فيكون الترجيح أيضاً مختصّاً بزمان الغيبة ، وحينئذ يكون ما تضمّنه صدر الرواية من الترجيح راجعاً إلى حكم زمان الغيبة ، وما تضمّنه ذيلها وهو التوقّف عند التساوي راجع إلى زمان الحضور ، ولا يخلو حينئذ من غرابة ، إذ الأنسب أن يقول عليه‌السلام عند فرض التساوي : إذن فتخيّر.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ ما تضمّنه صدرها من الترجيح مطلق شامل لزمان الغيبة والحضور ، وذيلها وهو التوقّف يختصّ بزمان الحضور.

كما أنّ دعوى الكفاية (١) من كون الترجيح منحصراً بزمان الحضور يمكن القطع بعدمها ، لأنّ الترجيح لو لم يكن الأنسب اختصاصه بزمان الغيبة فلا أقل من عدم اختصاصه بزمان الحضور الذي لا يناسبه إلاّ الارجاء حتّى الوصول إلى خدمة الإمام عليه‌السلام.

وهذا ممّا يؤيّد ما قدّمناه من أنّه لا ترجيح ولا تخيير ، وإنّما هو التوقّف عن الافتاء الذي هو التساقط ، وأنّ ما تعرّضت له المقبولة أوّلاً من الترجيح بالصفات إنّما هو في مقام ترجيح أحد الحكمين ، وما تعرّضت له ثانياً من الترجيح بغيرها فإنّما هو في مقام بيان الضابط والمائز بين الحجّة وغيرها. وما تعرّضت له أخيراً من التوقّف لا يكون إلاّعبارة عن التساقط ، وأنّه ليس بمختصّ بزمان الحضور ، لما تقدّم من أنّ الغاية لا تدلّ على انحصار الحكم في إمكان حصولها.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٤.

٢٣٩

قوله : وكذا لا ينبغي الإشكال بمعارضة الرواية لرواية الاحتجاج ـ إلى قوله ـ وجه المعارضة هو أنّه في المقبولة كان التوقّف بعد فقد المرجّحات ، وفي رواية الاحتجاج الأمر بالعكس ، يكون الترجيح بمخالفة العامّة بعد عدم إمكان التوقّف ، لحضور وقت العمل ... الخ (١).

لا يخفى أنّ التعارض المذكور إنّما هو في ناحية الأمر بالتوقّف ، وأنّه في المقبولة (٢) في طول الترجيح ، وفي رواية الاحتجاج (٣) يكون الترجيح في طوله ، وهذا بعد فرض كون التوقّف مختصّاً بزمان الحضور لا أثر له فيما نحن بصدده من لزوم الترجيح وأنّ أخباره مقدّمة على أخبار التخيير.

وكان الأنسب على مسلك شيخنا قدس‌سره من كون أخبار التوقّف مختصّة بزمان الحضور الجواب عن الموثّقة (٤) المذكورة بذلك ، وأمّا على ما سلكناه من كون مفاد كلّ من أخبار التوسعة وأخبار الارجاء هو التوقّف غير المختصّ بزمان الحضور ، فبناءً على كون هذه الأُمور الثلاثة من قبيل تمييز الحجّة عن غيرها ، فلا ينبغي الإشكال في كون التوقّف في طولها ، وكذلك الحال لو قلنا بكونها من المرجّحات ، وحينئذ يكون ما دلّت عليه هذه الموثّقة من العكس ساقطاً غير معمول به.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٣.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٦٥ / ٢٣٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٢.

(٤) [ لا يخفى أنّ رواية الاحتجاج أرسلها الطبرسي رحمه‌الله عن سماعة بن مهران ، لكنّ المصنّف قدس‌سره وصفها بالموثّقة في غير موضع من هذه الأبحاث ، فلاحظ ].

٢٤٠