أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

وقد بقي الإشكال الثالث للكفاية (١) لم يتعرّض له قدس‌سره ، وهو إشكال التخصيص المستهجن. قال في الوسائل ـ بعد ذكره وجه الجمع بين أخبار التخيير وأخبار التوقّف ـ ما هذا لفظه : على أنّ الاختلاف من غير وجود مرجّح منصوص أصلاً لا وجود له في أحاديثهم عليهم‌السلام إلاّنادراً ، كما ذكره الطبرسي في الاحتجاج وغيره (٢).

ولكنّ هذا الإشكال لازم للكفاية بعد بنائه على أنّ هذه المرجّحات التي تعرّضت لها المقبولة لم تكن في مقام الترجيح ، وإنّما هي في مقام تمييز الحجّة عن غيرها ، فإنّ لازم ذلك هو انحصار مورد أخبار التخيير بما عدا مورد المقبولة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك ليس من قبيل التقييد وإبقاء المطلق على فرد نادر ، بل إنّ ذلك الحكم ـ وهو التخيير من أوّل الأمر ـ يكون مورده تعارض الحجّتين ، فلا يشمل موارد الترجيح المذكور لأنّه ليس منها ، ولا يكون اختصاصه حينئذ بالفرد النادر من قبيل التخصيص المستهجن ، بل هو مختصّ به من أوّل الأمر هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم (٣) ممّا شرحناه فيما يتعلّق برواية العيون انحصار التوسعة أو التخيير بخصوص الأحكام غير الالزامية ، فنكون في راحة من هذه الإشكالات ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه قد تقدّم (٤) أنّ عمدة أخبار التخيير هي رواية الحسن بن الجهم (٥) ، وأنّ رواية ابن مهزيار الواردة في مسألة النافلة في المحمل ، والمكاتبة (٦)

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ، ذيل ح ٣٩.

(٣) في الصفحة : ٢٠٧ وما بعدها ، وكذا في هامش الصفحة : ١٦٢.

(٤) في الصفحة : ٢٠٢ وما بعدها.

(٥) الآتية بعد قليل.

(٦) تقدّمتا في الصفحة : ٢٠٦.

٢٤١

الواردة في التكبير الانتقالي لا شاهد فيها للتخيير المطلق في جميع أنحاء التعارض ، وأنّ رواية العوالي (١) لا يمكن الاعتماد عليها. مضافاً إلى أنّ التخيير فيها مقيّد بالتساوي من ناحية المرجّحات ، وأنّ رواية الحارث بن المغيرة (٢) مختصّة بزمان الحضور ، مضافاً إلى ما عرفت من إمكان كون المراد من التوسعة في قوله عليه‌السلام : « إذا سمعت من أصحابك الحديث فموسّع عليك حتّى ترى القائم فترد إليه » هو نفس المراد من قوله عليه‌السلام : « فهو في سعة حتّى يلقاه » بعد الأمر بالارجاء في رواية سماعة : قال عليه‌السلام : « يرجئه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة حتّى يلقاه » (٣) ، من أنّ المراد به هو السعة من ناحية الخبرين ، وأنّه لا يلزمه الفتوى أو العمل بأحدهما كما يفسّره روايته الأُخرى المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك » (٤).

وحينئذ فلم يبق بأيدينا من أخبار التخيير إلاّرواية الحسن بن الجهم ، وهي ما رواه في الاحتجاج عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام قال : « قلت للرضا عليه‌السلام : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، قال عليه‌السلام : ما جاءك عنّا فقسه على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا ، قلت : يجيئنا الرجلان (٥) وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيّهما الحقّ ،

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

(٢) المتقدّمة في الصفحة : ٢٠٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٥.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٢.

(٥) يجيئنا الخبران ( نسخة ) [ منه قدس‌سره ].

٢٤٢

فقال عليه‌السلام : إذا لم تعلم فموسع عليك بأيّهما أخذت » (١).

ومن الواضح أنّ التوسعة أو التخيير فيها لمّا كان مسبوقاً بالأمر بالقياس على كتاب الله تعالى وأحاديثهم ، وأنّه ما يكون من الأخبار المختلفة غير مشابه لذلك فهو ليس منهم ، كان ذلك عبارة أُخرى عن التقييد للتوسعة بعدم المرجّح الذي اشتملت عليه المقبولة ، فإنّ كلاً من موافقة الكتاب والسنّة وشهرة الرواية ومخالفة العامّة الذي اشتملت عليه المقبولة داخل في الضابط المذكور ، أعني ما كان مشابهاً للكتاب وأحاديثهم عليهم‌السلام ، وحينئذ فيكون المراد من قوله : « ولا نعلم أيّهما الحقّ » كناية عن التساوي في المشابهة المذكورة أو في عدم المشابهة.

أمّا ما اشتملت عليه المقبولة من الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية فقد عرفت (٢) أنّه أجنبي عن الترجيح في الرواية ، وإنّما هو مسوق لترجيح أحد الحكمين على الآخر ، ولأجل ذلك لا ترى فقيهاً رجّح رواية على أُخرى بمجرّد الأعدلية ونحوها ، وحينئذ فأين هذا المطلق الوارد في إثبات التخيير حتّى نتكلّم عليه في أنّ تقديم أخبار الترجيح عليه يكون موجباً للتخصيص المستهجن.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قول الراوي : « قلت » الثانية ، ليس متّصلاً بالسؤال الأوّل ، بل هو سؤال آخر في مقام آخر ، ويكونان حينئذ روايتين صادرتين في زمانين ومقامين جمعهما الراوي في كتابه.

لكنّه خلاف الظاهر ، فإنّ شأن أرباب الكتب وإن كان ربما نقلوا ما يسمعونه

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ / ٢٣٣ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٠.

(٢) في الصفحة : ٢١٦ ـ ٢١٩.

٢٤٣

من الإمام عليه‌السلام متّصلاً بعضه ببعض بفاصل « قلت » أو « سألت » ، لكن العادة الجارية هي أنّه إذا اختلف الزمان والمقام أن يقولوا : « وقلت له » بواو العطف مع الجار والمجرور ، لا مجرّدة عن ذلك ، فإنّ التجريد عن الواو والمتعلّق يدلّ على وحدة الزمان والمقام ، وأنّها رواية واحدة متّصلة بسؤالين وجوابين ، فلابدّ أن يكون ما في الجواب الأوّل مقيّداً لما في الجواب الثاني ، وأنّ المراد من قوله : « ولا نعلم أيّهما الحقّ » هو النظر إلى ما أمر به عليه‌السلام من العرض على الكتاب وأخبارهم ، وأنّ ما ليس مشابهاً لها ليس منهم ، فيكون الحقّ هو ما كان مشابهاً لها والباطل هو ما ليس بمشابه ، فغرض السائل أنّه ما يكون تكليفنا عند عدم الحصول على هذا المائز والضابط إمّا لكونهما معاً مشابهين لأخبارهم ، وإمّا لعدم إمكان إحراز ذلك ولو من جهة أنّ المورد لم يكن قد ورد فيه شيء من الكتاب ولا من أخبارهم.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّا لو قلنا بلزوم الترجيح لم يكن منحصراً بالمقبولة كي يتوجّه عليها ما في الكفاية من الإشكالات ونحتاج إلى تكلّف الجواب عن تلك الإشكالات بما أفاده شيخنا قدس‌سره.

بل ظهر لك أنّ عمدة أخبار التخيير إنّما هي رواية الحسن بن الجهم ، وهي في نفسها مقيّدة بنفس تلك المرجّحات التي تضمّنتها المقبولة. هذا كلّه على مسلك الكفاية (١) وغيرها من كون أخبار التوسعة دالّة على التخيير.

وأمّا بناءً على ما حرّرناه سابقاً (٢) وأشرنا إليه من كون التوسعة فيها هي التوسعة في موثّقة سماعة ، فلا يكون لنا ما يدّل على التخيير أصلاً ، فلاحظ.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٢ وما بعدها.

(٢) راجع الأبحاث المتقدّمة في الصفحة ٢٠٧ وما بعدها.

٢٤٤

قوله : بتقريب أنّ المراد من المجمع عليه ليس هو الإجماع المصطلح بحيث تكون الرواية ممّا قد أجمع الأصحاب ورواة الأحاديث على روايتها ، وإلاّ كانت الرواية متواترة مقطوعة الصدور ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : أنّه لابدّ من التسامح في إحدى الفقرتين ، إمّا أن يجعل المشهور كناية عن المجمع عليه بقرينة قوله عليه‌السلام : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (٢) وإمّا أن يجعل المجمع عليه كناية عن المشهور بقرينة قوله عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر » (٣). وعلى الأوّل يكون المراد من قوله عليه‌السلام : « لا ريب فيه » أنّه لا ريب فيه حقيقة ، حيث إنّ المجمع عليه والمتّفق عليه الرواة ممّا لا ريب فيه قطعاً ، وعلى الثاني يكون عدم الريب إضافياً لا حقيقياً ، يعني أنّه بالاضافة إلى الشاذّ النادر المعارض له لا ريب فيه ، والثاني هو الأقرب ، إذ يبعد كلّ البعد أن تكون الرواية مجمعاً عليها عند جميع الرواة ، فلابدّ أن يكون المراد بذلك هو المشهور بينهم.

وحينئذ نقول : إنّ قوله عليه‌السلام : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » من قبيل العلّة المنصوصة ، فيكون المدار في الترجيح على كون أحد المتعارضين ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى المعارض الآخر ليكون أرجح صدوراً منه ، ونتيجة ذلك أنّ كلّ ما كان أرجح صدوراً كان هو المقدّم ، فلا يقتصر على خصوص المرجّح المذكور ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٥.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٣) [ الوارد في المقبولة هو قوله عليه‌السلام : « ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عندأصحابك ». وأمّا قوله عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » فهو في مرفوعة زرارة المرويّة في مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ].

٢٤٥

بل يتسرّى إلى كلّ مرجّح صدوري يوجب كون أحد المتعارضين ممّا لا ريب فيه بالنسبة إلى المعارض الآخر.

وأجاب قدس‌سره عن ذلك : بأنّ الظاهر ممّا لا ريب فيه أنّه في حدّ نفسه لا ريب فيه لاشتماله على جهة توجب الاطمئنان به وتنفي عنه الريب ، دون ما إذا كان فيه الريب في نفسه ولكنّه كان بالاضافة إلى معارضه لا ريب فيه.

قلت : وهذه الجهة ـ أعني كون عدم الريب إضافياً أو كونه حقيقياً ـ هي العمدة في المقام ، ولأجل ذلك أطال الكلام فيها في هذا الكتاب ، فإنّه بناءً على كونه على نحو الحقيقة لم يكن وجه للانتقال إلى المرجّح الخارج عمّا ذكر في الرواية ، بخلاف ما لو كان إضافياً ، فإنّ محصّله حينئذ هو كون أحد الخبرين وإن كان مشاركاً للآخر في وجود الريب فيه ، إلاّ أنّه لمّا كان احتمال الخطأ فيه أقلّ من احتماله في المعارض الآخر صحّ لنا أن نقول إنّه لا ريب فيه بالقياس إلى الآخر ، وحينئذ يكون عدم الريب عبارة عن أقلّية احتمال الخطأ ، ولازم ذلك هو تقديم كلّ ما يكون احتمال الخطأ فيه أقلّ من مقابله ، ولا ريب أنّ كلّ مرجّح تصوّرناه يكون موجباً لأقلّية احتمال الخطأ ، فيلزم الأخذ به والترجيح به.

وحينئذ ينحصر الجواب بما أُفيد في الكتاب من أنّ عدم الريب وإن لم يكن على نحو الحقيقة وكان مجامعاً للاحتمال ، إلاّ أنّه لا مانع من كونه وصفاً لاحقاً للمشهور في حدّ نفسه لا بالاضافة إلى مقابله ، إذ لا منافاة بين عدم الريب بهذا المعنى وكونه صفة لاحقة لنفس المشهور لا بالاضافة إلى مقابله.

ويكون المتحصّل من ذلك : هو أنّ العقلاء لا يرتابون في الرواية المشهورة ، وإنّما يرتابون في الرواية الشاذّة النادرة ، فلو عرض عليهم روايتان إحداهما مشهورة والأُخرى نادرة ، لم يحصل لهم الارتياب في الأُولى وحصل

٢٤٦

لهم الريب في الثانية ، وإن لم يكن بين الروايتين تناف وتعارض ، ولازم ذلك هو جريهم على طبق الأُولى وتوقّفهم في الثانية ، وذلك عبارة أُخرى عن كون الأُولى حجّة في نظرهم دون الثانية ، وهو معنى ما تقدّم من كون ذلك من قبيل تمييز الحجّة عن غيرها لا من قبيل المرجّح لإحدى الحجّتين على الأُخرى.

قوله : وأمّا قوله عليه‌السلام : « فإنّ الرشد في خلافهم » فالأمر فيه أوضح ، فإنّ التعليل لا ينطبق على ضابط منصوص العلّة ... الخ (١).

أفاد قدس‌سره أنّ هذا ليس من منصوص العلّة ، بل هو من قبيل حكمة التشريع. وثانياً : أنّه لو سلّم كونه من قبيل العلّة المنصوصة فلا ينفعنا في التعدّي إلاّ إلى كلّ ما فيه خلافهم ، لأنّ الصغرى حينئذ هذا خلافهم وكلّ خلافهم رشد.

قلت : الظاهر أنّه لو قلنا إنّ ذلك من قبيل منصوص العلّة لكان قوله عليه‌السلام « فإنّ الرشد » الخ (٢) من قبيل التعليل بصغرى لكبرى مطوية ، ويكون المتحصّل : أنّ هذا خلافهم وكلّ خلافهم رشد وكلّ رشد متّبع ، ويكون الحاصل هو التعدّي إلى كلّ ما كان فيه الرشد فتأمّل ، فإنّ التعدّي إلى كلّ ما هو رشد لازم ، ولكن الكلام في صغرى الرشد ، وأيّ مرجّح أردنا الترجيح به ممّا هو خارج عن هذه المرجّحات يكون محقّقاً لكون مورده رشداً.

وأمّا ما أُفيد من الإشكال على كون خلافهم رشداً بقول مطلق بأنّه ربما يكون قولهم مطابقاً للواقع ، فلا يخفى أنّه خارج عمّا هو المفروض من صورة عدم العلم ، فلا مانع من جعل قولهم مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجية أمارة على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٧.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٩ ، وورد مضمونه في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في ح ١ من المصدر المذكور.

٢٤٧

الفساد ، كما ربما تومئ إليه بعض الروايات المتقدّمة ، مثل تلك التي أمرت بالسؤال من فقيه البلد (١) وتلك التي علّلت الحكم بفساد قولهم بأنّهم كانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام فيخالفونه (٢).

والحاصل : أنّ الغرض هو أنّ قولهم في حدّ نفسه يكون أمارة على الفساد ويكون موجباً لطرح ما وافقه وإن لم يكن في البين معارض ، فضلاً عمّا إذا عارضه ما هو المخالف لهم ، وهو ما قدّمناه من كون الرواية في مقام تمييز الحجّة عن غيرها ، لا في مقام ترجيح إحدى الحجّتين على الأُخرى.

ثمّ إنّه قدس‌سره تعرّض للترجيح بصفات الراوي وأفاد أنّه لم يثبت الترجيح بها عن الأصحاب ، وأمّا ما تضمّنته المقبولة من الترجيح بها فليس هو ترجيح لإحدى الروايتين على الأُخرى ، بل إنّما هو من الترجيح لأحد الحكمين على الآخر من حيث صفات الحاكم كالأفقهية والأعدلية والأصدقية والأورعية ، ولأجل ذلك جعلناها دليلاً على وجوب الترافع إلى الأعلم في الشبهات الحكمية وأن ضمّ غير الأعلم إليه كضمّ الحجر في جنب الإنسان.

قلت : وقد تقدّم (٣) في بعض الروايات ما يدلّ على الترجيح بذلك في مقام الحكومة من دون تعرّض لاختلاف الرواية.

ثمّ إنّه قدس‌سره أفاد ما حاصله : أنّهم قد استدلّوا على التعدّي مضافاً إلى ما تقدّم بما تضمّنته المقبولة من الترجيح بصفات الراوي ، فإنّه يستفاد منه تقديم كلّ ما كان من الروايتين المتعارضتين أقرب إلى الواقع.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٥ ـ ١١٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٣.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٤.

(٣) في الصفحة ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٢٤٨

وفيه أوّلاً : ما تقدّم من أنّ الترجيح بالصفات المذكورة إنّما هو في الحكمين المتعارضين ، فيكون الترجيح بأوصاف الحاكم لا الراوي.

وثانياً : أنّ هذا الترجيح على تقدير كونه في مقام الرواية لا يمكن أن يستفاد منه أمر كلّي ، كي يتعدّى عن هذه الصفات إلى كلّ ما كان من أفراد ذلك الكلّي وذلك واضح.

وثالثاً : أنّ هذا لو تمّ فإنّما يكون ترجيحاً من حيث الصدور لا من حيث المضمون ، فلا يتعدّى عنه إلاّ إلى ما هو أقرب صدوراً ، لا إلى ما كان أقرب إلى الواقع ، وذلك واضح.

قلت : وكأنّ مراد من قال بالتعدّي هو التعدّي إلى كلّ ما يوجب كون إحدى الروايتين أقرب إلى الواقع من الرواية الأُخرى وإن لم تكن أقرب صدوراً من الأُخرى.

تنبيه : إنّ طائفة من الروايات دلّت على الترجيح بتأخّر الصدور (١) ، لكن الأصحاب خصوصاً المتأخّرين بل جلّ المتقدّمين لم يعملوا بهذه الروايات لاختصاصها في نظرهم بزمان الحضور ، بل لم ينقل العمل بذلك إلاّعن الصدوق قدس‌سره في باب الوصية ، على تأمّل في كونه مخالفاً ، فراجع رسالة السيّد قدس‌سره في التعادل والتراجيح (٢).

ولعلّ الوجه في لزوم الأخذ بالمتأخّر صدوراً هو أنّه إمّا ناسخ لسابقه ، أو أنّه يلزم العمل به وطرح ما تقدّمه لكون الأوّل تقية ، أو كون الثاني تقية مع لزوم العمل عليه لعدم كون التقية في صدوره ، بل إنّ التقية في العمل به أيضاً كما في قضية

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٩ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٧.

(٢) كتاب التعارض : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

٢٤٩

وضوء علي بن يقطين ، وعلى كلّ حال يكون العمل على الثاني.

وهذا التوجيه إنّما يتمّ مع إحراز التأخّر الزماني ، فلا يتأتّى في زماننا ، لأنّ الغالب هو عدم إحراز ذلك ، ولو فرضنا إحرازه ولو بواسطة كون أحد المتعارضين مروياً عن الإمام المتأخّر عن الإمام الذي روي عنه الآخر ، لم يكن أيضاً ذلك نافعاً في التقديم ، لما عرفت من أنّ الوجه فيه هو لزوم العمل على الثاني حتّى على فرض كونه تقية ، لكون التقية كانت في العمل به لا في مجرّد صدوره ، ومثل ذلك لا يتأتّى في زماننا ، ولأجل ذلك لم يلتزموا بهذا المرجّح.

قوله : ومنها ما يكون مرجّحاً لمضمون أحد المتعارضين ، ككون أحدهما موافقاً للكتاب ... الخ (١).

سيأتي منه قدس‌سره إن شاء الله تعالى في آخر هذا البحث (٢) التشكيك في كونه مرجّحاً مستقلاً خارجاً عن المرجّحات الصدورية ، بل هو بها أشبه وأولى ، لما دلّت الروايات الكثيرة على أنّ ما خالف الكتاب باطل أو زخرف (٣).

نعم ، يأتي بعد ذلك (٤) إن شاء الله تعالى أنّ تلك الأخبار ناظرة إلى المخالفة على نحو التباين ، دون العموم من وجه ودون العموم والخصوص المطلق ، لكن الظاهر أنّ ما ذكر من المخالفة أو عدم الموافقة في المقبولة (٥) هو عين تلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٩.

(٢) لعلّ المراد بذلك قول الماتن : إلاّ أن يقال إنّ موافقة الكتاب تكون من المرجّحات الصدورية ، فتأمّل. فراجع فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٤.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٨ ، ١٢ ، ١٤.

(٤) في الأمر الرابع من فوائد الأُصول ٤ : ٧٩٠.

(٥) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

٢٥٠

المخالفة التي تعرّضت لها تلك الروايات ، وأنّ كون أحد المتعارضين أخصّ من الكتاب ليس بمرجّح [ للآخر ] ، فتأمّل.

قوله : الرابع : كون مضمونه تمام المراد لا جزأه ، والمتكفّل لإثبات ذلك أصالة عدم التقييد والتخصيص وقرينة المجاز ، ونحو ذلك من الأُصول اللفظية التي عليها بناء العقلاء عند الشكّ في إرادة التقييد والتخصيص والحقيقة ... الخ (١).

لم يظهر الفرق بين هذا الأمر الرابع وبين الأمر الثاني الذي ذكره بقوله : « الثاني : كونه ظاهراً في المعنى ، والمتكفّل لإثباته هو العرف واللغة ».

ولعلّ مراد شيخنا قدس‌سره في هذا الأمر الرابع هو ما تقدّمت الاشارة إليه من عدم مخالفة الكتاب ، بأن يكون المراد أنّ استفادة الحكم من الرواية متوقّف أوّلاً على الحكم بصدورها ، وثانياً على ثبوت ظهور متنها ، وثالثاً على كون ذلك لغير تقية ، ورابعاً على كون ذلك الصادر الظاهر الذي صدر لبيان الواقع لا للتقية لم يكن مخالفاً للكتاب والسنّة.

لكن قد تقدّم ويأتي أنّ عدم المخالفة راجعة إلى الأمر الأوّل أعني الحكم بالصدور ، وبالجملة : أنّ الحكم بالصدور متوقّف على أمرين : صحّة السند ، وكون المتن غير مخالف للكتاب.

ومن ذلك يظهر لك أنّ الأمر الرابع لا يتوقّف على الأمر الثالث ، بل إنّ الأمر بالعكس ، سواء كان ذلك الأمر الرابع راجعاً إلى الأمر الأوّل أو كان راجعاً إلى الأمر الثاني.

والحاصل : أنّ هذا الأمر الرابع إن كان عبارة عن عدم مخالفة الكتاب الذي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٠.

٢٥١

هو مورد المرجّح المضموني ، كان ذلك راجعاً إلى الأمر الأوّل وهو أصل الصدور ، وإن كان عبارة عن أصالة الظهور كان راجعاً إلى الأمر الثاني. وعلى أي حال يكون الأصل فيه مقدّماً على الأصل في المقام الثالث.

ولا يبعد أن يكون المراد من الأمر الثاني الذي هو الظهور هو المرتبة الأُولى منه ، والمراد بالأمر الرابع هو المرتبة الثانية منه ، ويكون الوجه في تفرّعه وتأخّره رتبة عن الأمر الثالث هو أنّه لا يحكم على المتكلّم بأنّه قد أراد الظاهر إرادة حقيقية إلاّبعد الفراغ عن الأمر الثالث وهو عدم التقية ، فإنّ من تكلّم تقية لا يمكن الحكم عليه بأنّه أراد الظاهر إرادة جدية ، لكن بناءً على هذا التوجيه يكون الأمر الثاني متقدّماً رتبة على الأمر الأوّل ، كما شرحناه في دفع الدور المشار إليه هنا (١).

قوله : نعم ، ليس بين التعبّد بالصدور والتعبّد بالظهور ترتّب وطولية ـ إلى قوله ـ فتأمّل (٢).

قد تقدّم في حواشي ص ٢٨١ (٣) أنّ الذي يتوقّف عليه التعبّد بالصدور إنّما هو المرتبة الأُولى من الظهور الذي هو حاصل الجملة ، وأنّ المرتبة الثانية من الظهور وهي مرتبة الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ما هو حاصل الجملة ، هي المتوقّفة على التعبّد بالصدور ، فلا دور كي يحتاج في الجواب عنه إلى التفكيك بالفعلية والتعليقية ، ولعلّ ذلك هو المراد من ذلك التفكيك ، فتأمّل.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : هو أنّ همّ شيخنا قدس‌سره في هذا المبحث أوّلاً إثبات أنّ المرجّح الصدوري مثل الأعدلية وموافقة الشهرة مقدّم في مقام المزاحمة

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٢٣ ـ ١٢٤ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٠ ـ ٧٨١.

(٣) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٢٣ ـ ١٢٤ وما بعدها.

٢٥٢

على المرجّح الجهتي الذي هو مخالفة العامّة في قبال الخبر الذي يكون موافقاً لهم بمعنى أنّه لو وردت روايتان متعارضتان وكان راوي إحداهما أعدل من راوي الأُخرى ، أو كانت هي المشهورة دون الأُخرى ، ولكن الأُخرى التي يرويها غير الأعدل أو التي هي غير مشهورة وشاذّة كانت مخالفة للعامّة ، وكانت تلك التي يرويها الأعدل أو المشهورة موافقة للعامّة ، فالترجيح يكون لتلك التي يرويها الأعدل أو المشهورة وإن كانت موافقة للعامّة ، ولأجل إثبات هذه الدعوى ذكر هذه الأُمور الأربعة التي يتوقّف على طيّها استفادة الحكم الشرعي من الرواية ، وهي صدور الرواية أوّلاً ، وظهورها ثانياً ، وعدم كونها تقية ثالثاً ، وكون مضمونها تمام المراد لا جزأه رابعاً ، فأفاد أنّ إثبات الأمر الثالث الذي هو عدم التقية إنّما يكون بعد إثبات الأمر الأوّل الذي هو أصل الصدور.

وحينئذ ففي الصورة المفروضة يكون اللازم أوّلاً هو النظر إلى كونهما مشمولين لدليل الصدور ، وحيث إنّ التعارض بينهما مانع من شمول دليل الصدور لكلّ منهما ، وكانت إحداهما مشتملة على الترجيح من حيث الصدور ، كان ذلك المرجّح حاكماً بأنّها هي الداخلة تحت عموم ذلك الدليل ، وأنّ الأُخرى خارجة عن عمومه ، ومع فرض هذه العملية لا تنتهي النوبة إلى التدافع بينهما في الدخول تحت الأصل الجهتي ، كي نقول إنّ الرواية الأُخرى المخالفة للعامّة مقدّمة على الأُولى الموافقة لهم ، هذا.

ولكنّه قدس‌سره أفاد في الأثناء توقّف الأمر الرابع على الأمر الثالث ، وتكلّم في الأمر الثاني بالنسبة إلى الأمر الأوّل ، وهل هو متوقّف عليه أو أنّهما في عرض واحد ، وتعرّض للدور ودفعه بما تقدّمت الاشارة إليه.

والكلام في هذين المطلبين متوقّف على معرفة ما أراده بالأمر الثاني والأمر

٢٥٣

الرابع ، وقد تقدّمت الاشارة إلى أنّه يمكن أن يكون مراده بالأمر الثاني هو المرتبة الأُولى من الظهور أعني حاصل الجملة ، وبالرابع هو المرتبة الثانية منه أعني الحكم على المتكلّم بأنّه قد أراد الظاهر ـ أعني حاصل الجملة ـ إرادة جدّية.

لكن إذا كان مراده بالأمر الثاني هو المرتبة الأُولى من الظهور ، كان الأمر الأوّل متوقّفاً عليه ، إذ لا يمكن الحكم على أنّ هذا المتن صادر من الإمام عليه‌السلام إلاّ بعد فرض أنّ له ظاهراً ، ولم يكن في البين دور أصلاً حتّى نحتاج إلى دفعه بما أُفيد من التفكيك بالفعلية والتقديرية.

كما أنّه لو كان المراد بالأمر الرابع هو المرتبة الثانية من الظهور ، لم يكن وجه لتوقّفه على أصالة جهة الصدور ، بل ينبغي أن يكون الأمر بالعكس ، لأنّ أصالة كونه صادراً لبيان الواقع لا تقيّة يتوقّف على ثبوت إرادته العموم مثلاً ، فيقال حينئذ إنّه أراده لبيان الواقع لا أنّه أراده تقية.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إرادة التقية تنافي كونه مريداً للعموم إرادة جدّية ، فلا يمكن الحكم على المتكلّم بأنّه مريد للعموم إرادة جدّية إلاّبعد فرض كونه قد صدر منه ذلك لا عن تقية ، بل إنّه قد صدر لبيان الواقع.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّه لو كان المراد من الأمر الرابع ما يكون راجعاً إلى المضمون أعني عدم مخالفة الكتاب ، كان ذلك راجعاً إلى أصل الصدور ، لأنّ مخالفة الكتاب توجب عدم كونه صادراً ، إلاّ إذا أُريد من المخالفة مخالفة العموم والخصوص المطلق.

والأولى نقل ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، فإنّه يشتمل على بعض الاختلاف عمّا في هذا الكتاب ، فلعلّ تلك الاختلافات تكون موجبة لاتّضاح ما أفاده قدس‌سره ، وهذا نصّه على طوله :

٢٥٤

إنّ أصالة الظهور متوقّفة على أصالة الصدور التي هي عبارة عن عمومات أدلّة حجّية خبر الواحد ، والأصل الجهتي متوقّف على أصالة الظهور ، أمّا الأوّل فلأنّه لا معنى للحكم بأنّ الظاهر مراد الذي هو محصّل أصالة الظهور مع عدم الحكم بصدور ذلك اللفظ عن المتكلّم. وأمّا الثاني فلأنّه لا معنى للحكم بأنّه أراد هذا الظاهر في مقام بيان الواقع لا لتقيّة ونحوها الذي هو محصّل الأصل الجهتي بدون أن يكون في البين ظاهر محكوم بأنّه مراد.

فتلخّص : أنّ أصالة الصدور متقدّمة على أصالة الظهور وهي متقدّمة على الأصل الجهتي.

ثمّ إنّه قد تقدّم منّا في المقام شبهة دور ، وهي أنّه كما أنّ أصالة الظهور متوقّفة على أصالة الصدور ، فكذلك العكس ، إذ لا ريب في توقّف الحكم بالصدور على كون الصادر ذا ظاهر مراد ، إذ لا معنى للحكم بكون اللفظ صادراً مع كونه لا ظاهر له. وهكذا الحال في أصالة الظهور والأصل الجهتي ، فإنّه كما ذكرتم أنّ الأصل الجهتي يتوقّف على أصالة الظهور ، فكذلك العكس ، حيث إنّه لا معنى للحكم بأنّ هذا الظاهر مراد مع عدم الحكم بكونه صادراً لبيان الواقع ، إذ لابدّ في الحكم بكون الظاهر مراداً من كون ذلك الكلام صادراً لبيان الواقع ، وإلاّ لكان الحكم بظهوره وكذلك الحكم بصدوره لغواً لا فائدة فيه ، وحينئذ فيكون كلّ واحد من هذه الأُصول الثلاثة متوقّفاً على الآخر.

والجواب : أنّ توقّف أصالة الظهور على أصالة الصدور وكذلك توقّف الأصل الجهتي على أصالة الظهور والصدور توقّف فعلي ، بمعنى أنّه لا يحكم بأنّ الظاهر مراد ، ولا بأنّ الكلام صادر لبيان الواقع ، إلاّبعد الحكم الفعلي بأنّ هذا الكلام صادر من متكلّمه ، وهكذا في توقّف الأصل الجهتي على أصالة الظهور ،

٢٥٥

فلا يحكم بأنّ الكلام صادر لبيان الواقع إلاّبعد الحكم الفعلي بأنّ الظاهر مراد.

أمّا من طرف العكس ـ أعني توقّف كلّ سابق من هذه الأُصول على لاحقه ـ فليس توقّفاً فعلياً ، وإنّما هو تعليقي ، بمعنى أنّه يكفي في جريان أصالة الصدور والحكم بأنّه صادر من متكلّمه هو أنّ له ظاهراً على تقدير كونه صادراً ، وأنّه صادر لبيان الواقع على تقدير كونه صادراً ، فلا يكون السابق متوقّفاً إلاّعلى تحقّق اللاحق على تقدير تحقّق السابق ، لا على فعلية اللاحق كي يتأتّى الدور.

قلت : وحاصل ذلك أنّ أصالة الظهور التي هي عبارة عن الحكم على المتكلّم بأنّه أراد الظاهر يتوقّف على فعلية الحكم بالصدور ، أمّا الحكم بالصدور فلا يتوقّف على فعلية الظهور ، أعني الحكم فعلاً على المتكلّم بأنّه أراد الظاهر ، بل أقصى ما في البين هو توقّف الحكم بالصدور فعلاً على كون ذلك الكلام له ظاهر لو كان صادراً ، ففعلية الظهور وإن توقّفت على فعلية الصدور إلاّ أنّ فعلية الصدور لا تتوقّف على فعلية الظهور ، بل يكفي في الحكم الفعلي بالصدور هو كون ذلك الكلام له ظاهر لو كان صادراً ، وبذلك يندفع الدور.

أمّا ما في الكتاب في تقريب دفعه بقوله : لكن يدفع بأنّ التعبّد بالظهور لا يتوقّف على فعلية الصدور والتعبّد به ، بل يكفي في صحّة التعبّد بالظهور فرض الصدور ، ولا يصحّ العكس فتأمّل (١).

فيمكن التأمّل فيه أوّلاً : أنّه يمكن العكس ، فيكون كلّ منهما متوقّفاً على تقدير الآخر وفرض تحقّقه. وثانياً : أنّ محصّل توقّف أصالة الظهور على فرض الصدور أنّه قبل تحقّق الصدور لا يكون في البين ظهور ، لفرض كون الظهور معلّقاً على فرض الصدور ، فقبله لا ظهور ، فيكون تحقّق الظهور فعلاً متوقّفاً على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨١.

٢٥٦

تحقّق أصالة الصدور ، والمفروض أنّ تحقّقها متوقّف عليه ، فالدور باقٍ بحاله.

ثمّ قال : ثمّ إنّك قد عرفت أنّ بعض المرجّحات راجع إلى مرحلة الصدور كالمشهور رواية ، وبعضها راجع إلى مرحلة جهات الصدور كمخالفة العامّة وبعضها راجع إلى نفس المضمون ككونه موافقاً للكتاب ، فتكون المرجّحات على ثلاثة أنحاء.

أمّا ما كان راجعاً إلى الظهور فهو أجنبي عمّا نحن فيه ، فإنّه راجع إلى ما تقدّم من الجمع الدلالي بتقديم الأظهر على الظاهر ، وقد تقدّم مفصّلاً.

أمّا الترجيح بالأفصحية ، فليس هو مرجّحاً حتّى على تقدير التعدّي إلى كلّ مرجّح ، وذلك لأنّ الأفصحية إنّما هي في مقام الخطابة والكلمات القصار الصادرة عنهم عليهم‌السلام في مقام إرسال الحِكَم ، أمّا مقام التحاور بينهم وبين من يسألهم عن الأحكام ، فليس من اللازم أن يكون جوابهم عليهم‌السلام في هذا المقام في المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة ، هذا ، مضافاً إلى أنّ أغلب الروايات يكون من قبيل النقل بالمعنى.

وما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) من كونها من المرجّحات في الروايات المشتملة على نقل اللفظ ، غير نافع في دفع الإشكال ، لأنّه يتوقّف على إحراز كون الروايتين كلتيهما نقلا باللفظ.

على أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّه لا دليل على التعدّي إلى كلّ مرجّح ، وأنّهم وإن ذكروا ذلك في كتب الأُصول وتكلّموا فيه إلاّ أنّه لا عين منه ولا أثر في الكتب الفقهية ، إذ لم نعثر على ترجيح لأحد بغير المرجّحات المنصوصة ، كما لا

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ١١٧ [ ولا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره ذكر ذلك في الفصاحة ، وأمّا الأفصحية فقد تأمّل في الترجيح بها ، فلاحظ ].

٢٥٧

يخفى على المتتبّع.

ثمّ إنّ المرجّحات التي ذكرناها ـ وهي المرجّح الصدوري والمرجّح الجهتي والمرجّح المضموني ـ هل هي عرضية ، بحيث إنّه لو كانت إحدى الروايتين مشتملة على واحد منها بأن كانت مشهورة مثلاً ، والأُخرى على المرجّح الآخر بأن كانت مخالفة للعامّة مثلاً ، لكان ذلك من باب تعارض المرجّحين أو تزاحمهما ، أو إنّها طولية وأنّه لا ينتقل إلى المرجّح الثاني إلاّبعد الفراغ عن عدم تحقّق الأوّل؟

وأقصى ما يمكن أن يوجّه به القول بالعرضية هو أنّ هذه المرجّحات وإن كانت مواردها مترتّبة ، لما تقدّم من تقدّم الصدور على جهة الصدور ، إلاّ أنّ الترجيح إنّما يكون لصدور إحدى الروايتين على الأُخرى ، فيكون الترجيح في هذا المقام أعني مقام الصدور ، كما يشهد به سائر الأخبار التي اكتفي فيها بمرجّح واحد (١) أو مرجّحين (٢) من هذه المرجّحات ، ولا ريب في أنّ تلك الأخبار إنّما وردت لترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى من دون أن يكون في البين طولية ، غاية الأمر أنّ المقبولة (٣) تكون مقيّدة للاطلاق في تلك الأخبار ، فتكون جميع المرجّحات التي اشتملت عليها المقبولة في مقام واحد ومرتبة واحدة ، وهي ترجيح صدور إحدى الروايتين على الأُخرى بالمرجّحات المشتملة عليها من دون أن يكون في البين طولية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٣٠ ، ٣١ ، ٣٤ ، وراجع ح ٤٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٤ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢١ ، ٢٩.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

٢٥٨

وتوضيح ذلك : أنّ الأخبار الأُخر قد تضمّن كلّ منها مرجّحاً واحداً كمخالفة العامّة في بعضها (١) ، وموافقة الشهرة في آخر (٢). ولا يخفى أنّ كلّ واحد من تلك الأخبار وإن كان قويّ الدلالة على إطلاق مرجّحية ما تضمّنه ، سواء وجد المرجّح الآخر الذي تضمّنته الرواية الأُخرى أو لم يوجد ، ولكن بعد تقييد كلّ منهما بالأُخرى يكون الحاصل أنّ كلاً من هذين المرجّحين مرجّح مع عدم الآخر ، وفي صورة اجتماعهما يقع التعارض بين المرجّحين فيرجع إلى التخيير. أمّا المقبولة فلا دلالة لها إلاّعلى الترجيح بما تضمّنته دون ترتيب بعضها على بعض.

وفيه أوّلاً : أنّه لا معنى لملاحظة ما عدا المقبولة من الأخبار بعضها مع بعض كي نقيّد كلاً منها بإطلاق الآخر ( مع أنّ هذا التقييد لا وجه له لتكافؤ الاطلاقين ).

وثانياً : أنّ العمدة فيما هو المختار من طولية هذه المرجّحات هو المقبولة ، وهي قوية الدلالة على ذلك ، أوّلاً من جهة الترتيب الذكري. وثانياً ـ وهو العمدة ـ من جهة دلالتها على أنّ كلّ واحد من المذكورات فيها مرجّح بقول مطلق ، سواء وجد المرجّح المذكور بعده أو لم يوجد ، وبذلك تقدّم على باقي الأخبار المتضمّنة لمرجّح واحد أو مرجّحين.

قلت : قد يقال : إنّ إطلاق مرجّحية كلّ واحد من هذه المرجّحات ، سواء وجد المرجّح المذكور بعده في المقبولة أو لم يوجد ، معارض بإطلاق الرواية المقتصر فيها على ذكر ذلك المرجّح أعني المرجّح اللاحق في المقبولة ، وحينئذ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٣٠ ، ٣١ ، ٣٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٣ ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إليه في الهامش (٤) من الصفحة : ٢١٨ فراجع.

٢٥٩

فأقصى ما في ذلك هو أن يقال نجمع بين الاطلاقين بما تقدّم من الاستدلال على العرضية ، فنقيّد كلاً من الاطلاقين بما عدا مورد الآخر ، ولا وجه حينئذ لدعوى تقديم إطلاق المقبولة على إطلاق غيرها.

والجواب عن هذا الإشكال أن يقال : ليس المراد أنّ الاطلاق في المقبولة يقدّم على الاطلاق في الأخبار ، بل المراد أنّ المقبولة تدلّ على أنّ مرجّحية اللاحق مقيّدة بعدم المرجّح السابق ، وبهذا التقييد تقدّم على إطلاق الخبر المقتصر فيه على ذكر ذلك المرجّح اللاحق.

وإن شئت التوضيح فقل : بعد إسقاط صفات الراوي عن المرجّحية يبقى لنا مرجّحات ثلاثة : المرجّح الصدوري وهو الشهرة ، والمرجّح الجهتي وهو مخالفة العامّة ، والمرجّح المضموني وهو موافقة الكتاب. والأوّل مقدّم على الأخيرين ، وهما في عرض واحد ، هذا ما دلّت عليه المقبولة ، ولنا أخبار أُخر تضمّن كلّ واحد منها مرجّحاً واحداً.

وحينئذ نقول : أمّا إطلاق المقبولة في مرجّحية الشهرة ، فلا يعارضه شيء ، لعدم وجود رواية من تلك الروايات متعرّضة لمرجّحيتها.

وأمّا ما تضمّن مرجّحية غيرها كمخالفة العامّة وموافقة الكتاب ، فلأنّ دلالة المقبولة على تقييد مخالفة العامّة وموافقة الكتاب يوجب تقييدها بعدم وجود المرجّح الأوّل أعني الشهرة ، ويكون ذلك موجباً لتقييد إطلاق ما دلّ على مرجّحية مخالفة العامّة أو موافقة الكتاب من تلك الأخبار.

لا يقال : إنّ المقبولة دلّت على تأخّر مرجّحية مخالفة العامّة عن موافقة الكتاب بقوله : « أرأيت إن كان الفقيهان ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ ما خالف العامّة ففيه الرشاد ».

٢٦٠