أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

وعلى أنّ تقديم أحد العامين من وجه على الآخر من باب الترجيح السندي ، وسيأتي (١) الكلام على ذلك عند التعرّض لما أورده على مسلك الشيخ قدس‌سره.

وأمّا إيراده الثالث ففيه : أنّه بعد تسليم عدم انقلاب النسبة ، وبقاء كلّ من العامين من وجه بحاله من الظهور في الشمول لمورد الاجتماع ، يمكن الفرق في العام المخصّص بين حاله قبل التخصيص وحاله بعده ، فإنّ حاله بعد التخصيص وخروج مورد الانفراد عنه بالتخصيص يكون موجباً لكونه كالنصّ في مورد الاجتماع ، فلا يمكن أن يقدّم عليه العام الآخر في المورد المذكور أعني مورد الاجتماع.

قال الشيخ قدس‌سره : وقد يحدث الترجيح كما إذا ورد أكرم العلماء ، ولا تكرم فسّاقهم ، ويستحبّ إكرام العدول ، فإنّه إذا خصّ العلماء بعدولهم يصير أخصّ مطلقاً من العدول ، فيخصّص العدول بغير علمائهم ، والسرّ في ذلك واضح ، إذ لولا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأساً ، وكلاهما باطل (٢).

قال المرحوم الميرزا موسى في حاشيته : قوله لزم إلغاء النصّ الخ ، لأنّ قولنا أكرم العلماء دليل عارضه دليلان ، أحدهما على وجه العموم والخصوص مطلقاً وهو قولنا لا تكرم فسّاقهم ، والآخر على وجه العموم والخصوص من وجه وهو قولنا يستحبّ إكرام العدول ، وحينئذ تجب ملاحظة الترتيب بمعنى تخصيص العلماء أوّلاً بفسّاقهم لكونه أخصّ منه مطلقاً ، ثمّ تخصيص العدول بالعلماء لصيرورته أخصّ منه بعد إخراج الفسّاق منهم ، إذ لولا ملاحظة الترتيب

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ١٠٣ التعرّض لمسألة تأخّر التخصيص عن التعارض وعدمه.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ١١١ ـ ١١٢.

١٠١

بأن يخصّص العلماء أوّلاً بالعدول ، بأن تخرج منه مادّة الاجتماع التي هي العالم العادل من تحت عموم العلماء ويدخل تحت عموم العدول ، فحينئذ إمّا أن يخصّص العلماء بفسّاقهم أيضاً ، فيلزم طرح دليل العلماء لبقائه بلا مورد حينئذ ، وإمّا أن لا يخصّص به فيلزم إلغاء دليل فسّاقهم الذي هو نصّ بالنسبة إلى دليل العلماء ، وكلّ من اللازمين باطل فكذا ملزومهما (١).

أقول : وبناءً على ذلك يكون المراد بالنصّ في كلام الشيخ قدس‌سره هو الخاصّ أعني قوله : لا تكرم فسّاقهم ، والمراد من الظاهر قوله : أكرم العلماء ، إذ لو لم يجر الترتيب المذكور وأبقينا العام الأوّل والعام الثاني بحالهما من العموم من وجه ، ولم نقدّم الأوّل منهما على الثاني ، بل قدّمنا الثاني على الأوّل ، وأخرجنا مادّة الاجتماع وهي العالم العادل عن الأوّل ، فإن أبقينا للأوّل مادّة انفراده وهي العالم الفاسق لزم إلغاء النصّ وهو قوله : لا تكرم فسّاقهم ، وإن أخرجنا عنه مادّة انفراده وحكّمنا فيها النصّ المذكور ، لزم بقاء قوله : أكرم العلماء بلا مورد ، لأنّا أدخلنا العادل منهم تحت قوله : يستحبّ إكرام العدول ، والفاسق منهم حكّمنا فيه قوله : لا تكرم فسّاقهم ، فلزم طرح الظاهر المذكور رأساً وهو قوله : أكرم العلماء ، إذ لم نعمل به في مورد الاجتماع ولا في مورد الانفراد.

ولا يخفى أنّ هذا الترتيب يجري فيما لو كان العامان متباينين ، مثل أن يقول أكرم العلماء ، ويقول لا تكرم العلماء ، ثمّ يقول لا تكرم فسّاق العلماء ، فإنّ الثالث يخرج فسّاق العلماء من الأوّل ويبقى تحته العلماء العدول ، فيكون حينئذ أخصّ من الثاني فيقدّم عليه ، وتكون النتيجة وجوب إكرام العالم العادل وحرمة إكرام العالم الفاسق.

__________________

(١) أوثق الوسائل : ٦٢٤.

١٠٢

والسرّ في ذلك كلّه هو أنّ العام والخاصّ المخالف له يكونان بالنظر العرفي كدليل واحد يدلّ على ثبوت حكم ذلك العام فيما عدا ذلك الخاصّ ، وهذه النتيجة إذا قيست إلى ما قابل ذلك العام كانت أخصّ منه ، سواء كان ذلك المقابل للعام مبايناً له أو كان بينهما العموم من وجه إذا كان مفاد ذلك الأخصّ هو إخراج مادّة انفراد العام عن مقابله.

وبالجملة : أنّ ملاحظة العام مع ما يكون أخصّ منه وعملية التخصيص سابقة في الرتبة على ملاحظته مع معارضه بالعموم من وجه أو بالتباين ، لأنّ الأُولى لها المدخلية في تكوين حجّية العام ، بمعنى أنّ تأليفه مع الخاصّ والجمع بينهما بحمل العام على الخاصّ يكوّنه دليلاً واحداً وحجّة مستقلّة ، بخلاف الملاحظة الثانية فإنّها ـ أعني ملاحظته مع الدليل الآخر والحجّة الأُخرى ـ إنّما تكون بعد الفراغ عن حجّيته ودليليته ، وهذا في المعارض المباين واضح ، لأنّ الأُولى مرحلة دلالية والأُخرى مرحلة سندية.

وكذلك الحال في المعارض بالعموم من وجه ، فإنّ التعارض فيه وإن لم يكن راجعاً إلى مرحلة السند ، إلاّ أنّه راجع إلى المعارضة في أصالة العموم في كلّ من العامين من وجه ، ووجود المخصّص لأحدهما يسقط أصالة العموم فيه ، وحيث قد سقط فيه العموم وانقلب إلى الخاصّ ، كان هو مسقطاً لأصالة العموم في طرفه.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده العلاّمة الاصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية ، فإنّه في حاشيته بعد بيان أنّه لا موجب لتقديم التخصيص بأحد الخاصّين فيما لو كان في قبال العام الواحد خاصّان ، قال ما هذا لفظه : وأمّا إذا فرض عامان من وجه وكان في قبال أحدهما بالخصوص خاصّ ، فهل هو كالأوّل من عدم

١٠٣

الموجب أو عدم الفائدة ، أو لابدّ من تقديمه لما عن الشيخ الأعظم قدس‌سره من محذور إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأساً ، وكلاهما باطل.

وهو مع أنّه مخصوص بما إذا قدّم العام الغير المنافي للخاصّ على المنافي له لا مطلقاً كما هو واضح ، يرد عليه : أنّ العام حيث إنّه مبتلى بالمعارض فلا عموم متيقّن في البين ليجب تخصيصه بالخاصّ ، والأخذ بالخاصّ على أيّ حال مع فرض عدم انقلاب النسبة غير تقديم الخاصّ على العام تخصيصاً له ، وطرح الظاهر رأساً أو إلغاء النصّ إنّما لا يجوز إذا كان بلا موجب ، وأمّا معه فلا وجه للحكم ببطلانه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم هذه الصورة (١).

فإنّك قد عرفت أنّ تخصيص العام بمخصّصه لا يتوقّف على عدم المعارض له فضلاً عن توقّفه على تيقّن العموم ، لما عرفت من أنّ مرتبة التخصيص قبل مرتبة علاج التعارض ، وليس ذلك براجع إلى دعوى أنّ الخاصّ لابدّ من الأخذ به سواء انقلبت النسبة أو لم تنقلب ، ليرد عليه أنّه يمكن الأخذ بالخاصّ مع طرح العام بالمرّة لوجود معارضه وتقديم ذلك المعارض عليه ، وحاصله أنّا نأخذ بالخاصّ ولكن لا نلتزم بكونه مخصّصاً للعام ، بل نأخذ به ونسقط العام لأجل وجود معارضه ، وهو ملخّص ما أفاده بقوله : والأخذ بالخاصّ على أيّ حال مع فرض عدم انقلاب النسبة غير تقديم الخاصّ على العام تخصيصاً له.

ولا يخفى أنّ إسقاط العام لأجل معارضه إنّما هو في خصوص مورد اجتماعهما ، وأمّا في المورد الذي ينفرد فيه ذلك العام فلا وجه له إلاّجعل ذلك الخاصّ مخصّصاً له ، فظهر أنّ الأخذ بالخاصّ هو عين تخصيص ذلك العام به لا

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٣٤٩.

١٠٤

أنّه غيره ، وأنّ هذه العملية لا يلزم منها إلاّطرح الظاهر رأساً وهو العام المنافي للخاصّ ، فينبغي إسقاط قوله : أو إلغاء النصّ ، ويقتصر على قوله : وطرح الظاهر إنّما لا يجوز إذا كان بلا موجب الخ.

ثمّ بعد ذلك يتوجّه على المحشّي السؤال عن الموجب لطرح ذلك العام بعد فرض تقدّم عملية التخصيص رتبة القاضية باختصاصه بمورد الاجتماع الموجب لكونه أخصّ مطلقاً من مقابله ، بل حتّى لو سلّمنا عدم انقلاب النسبة لكان هذا السؤال باقياً ، إذ لا وجه لطرح أحد العامين من وجه وإعمال الآخر في مورد الاجتماع ، ولا أقل من التعارض والتساقط ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما أفاده في صدر كلامه بقوله : وهو مع أنّه مخصوص بما إذا قدّم العام الغير المنافي للخاصّ على المنافي له لا مطلقاً كما هو واضح ، ففيه : أنّ تقديم العام المنافي على مقابله إن كان لأجل انقلاب النسبة فهو المطلوب ، وإن كان مع فرض عدم انقلاب النسبة فهو إسقاط للظاهر الآخر الذي هو مقابله بلا وجه ، وهو أحد اللازمين الباطلين ، فيكون الحاصل أنّه لولا انقلاب النسبة إنّا لو قدّمنا العام المخالف للخاصّ كان إسقاطاً للظهور في العام الآخر بلا وجه وإن لم يكن إسقاطاً رأساً ، وإن قدّمنا العام الآخر في مورد التعارض بينهما وهو مورد الاجتماع ، فإن أبقينا للعام المخالف مورد انفراده كان إسقاطاً للنصّ الذي هو الخاصّ بلا وجه ، وإن أخرجنا منه مورد انفراده كان إسقاطاً له بالمرّة بلا وجه.

والحاصل : أنّ كلام الشيخ قدس‌سره ناظر إلى مجرّد اجتماع العامين من وجه مع الخاصّ المخالف لأحدهما ، أمّا لو كانت في البين جهة توجب تقدّم الأوّل على الثاني ، كانت النتيجة واحدة مع دعوى انقلاب النسبة ، ولو كانت جهة توجب تقدّم الثاني على الأوّل تعيّن إسقاط العموم الأوّل بالخاصّ وبالعام الثاني ، لكن كلّ

١٠٥

ذلك فرع كون عملية التخصيص في رتبة عملية تعارض العموم من وجه ، أمّا بعد أن أوضحنا تقدّمها رتبة ، فالمتعيّن هو ما أفاده الشيخ قدس‌سره من التخصيص بالخاصّ أوّلاً ، ثمّ جعل العام الأوّل مخصّصاً للثاني لانقلاب النسبة كما أوضحناه ، فلاحظ.

ومن هذا الذي شرحنا من كون عملية التخصيص سابقة في الرتبة على عملية التعارض من وجه أو التعارض على وجه التباين ، يظهر لك التأمّل في مسلكه من تقدّم عملية التعارض على التخصيص ، وحينئذ فإن قدّمنا العام الأوّل سقط الثاني في مورد المعارضة ، ولكن اللازم تخصيص العام الأوّل بالخاصّ ، وإن عكسنا سقط العام الأوّل في مورد المعارضة وانقلبت النسبة بينه وبين الخاصّ إلى التباين ، ولكن اللازم تقديم الخاصّ لكونه أظهر.

هذه خلاصة مسلكه في هذه الصورة الذي أشار إليه في صدر كلامه بقوله : وسيأتي إن شاء الله حكم هذه الصورة.

وعمدة ما برهن عليه في تقديم عملية التعارض هو قوله في الايراد على الشيخ : إنّ العام حيث إنّه مبتلى بالمعارض فلا عموم متيقّن في البين ليجب تخصيصه بالخاصّ (١) ، وقوله في الايراد على صاحب الكفاية : وفيه أوّلاً ما مرّ الخ (٢) ، وقوله : بل الصحيح أن يقال بلزوم إعمال قواعد التعارض بين العامين أوّلاً حتّى يتبيّن أنّه هل يبقى هناك عموم ليقال بتخصيصه أم لا (٣) ، وقد عرفت أنّ التخصيص إنّما يتوقّف على وجود العام لا على فعلية حجّيته ونبذ المعارضات له ، فإنّ التخصيص تصرّف في الدلالة والحكاية عن الواقع ، وهي حاصلة في مورد وجود

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٣٤٩.

(٢) المصدر المتقدّم : ٣٥١.

(٣) المصدر المتقدّم : ٣٥٢.

١٠٦

المعارض كما هي حاصلة في مورد عدمه ، ولو أغضينا النظر عن تقدّم التخصيص رتبة فلا أقل من كونهما في رتبة واحدة ، لا العكس بحيث يكون تقديم الثاني على الأوّل موجباً لانقلاب نسبته مع الخاصّ إلى التباين.

قوله : وأمّا النسبة بين بقية الروايات فهي قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، فرواية الدراهم تنفي بعموم ... الخ (١).

مراده بباقي الروايات هما رواية ضمان عارية الدراهم (٢) ورواية ضمان عارية الدنانير (٣) ، ومحصّل الأُولى أنّ عارية غير الدرهم لا ضمان فيها ، ومحصّل الثانية أنّ عارية غير الدينار لا ضمان فيها ، ومن الواضح أنّ النسبة بين قولنا غير الدرهم وقولنا غير الدينار هي العموم [ من وجه ] ، فيجتمعان في الثياب مثلاً ، وينفرد الأوّل في الدينار ، والثاني في الدرهم ، ولا تعارض بينهما لا في مورد الاجتماع ولا في مورد الانفراد ، لأنّ الحكم في الجميع هو عدم الضمان ، فينبغي أن يكون حالهما حال ما لو قال : لا تأتني بإنسان ولا تأتني بأبيض ، في عدم المعارضة بينهما في مورد الاجتماع وهو الإنسان الأبيض ، ولا في مورد انفراد الأوّل عن الثاني وهو الإنسان الأسود ، ولا في مورد انفراد الثاني عن الأوّل وهو الجسم الأبيض كالقرطاس.

ولكن مع ذلك نجد المعارضة فيما نحن فيه ، والسرّ في ذلك هو عدم بساطة ما يتضمّنه كلّ من هذين الدليلين ، بل إنّ كلاً منهما يتضمّن حكمين إيجابيّاً وسلبيّاً ، فإنّ قوله : لا ضمان في العارية إلاّعارية الدرهم ، يتضمّن الحكم بعدم الضمان في عارية غير الدرهم وبالضمان في عارية الدرهم ، وهكذا الحال في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٤٩.

(٢ ، ٣) وسائل الشيعة ١٩ : ٩٦ / كتاب العارية ب ٣ ح ٣ ، ١.

١٠٧

قوله : لا ضمان في العارية إلاّعارية الدينار.

ومن الواضح أنّ الجزء السلبي في كلّ منهما وإن لم يكن معارضاً للجزء السلبي في الأُخرى ، كما أنّ الجزء الايجابي في كلّ منهما ليس بمعارض للجزء الايجابي في الأُخرى ، إذ لا منافاة بينهما ، لكن الجزء الايجابي في كلّ منهما ينافي الجزء السلبي في الأُخرى ، فإنّ قوله : في عارية الدينار ضمان ينافي قوله : لا ضمان في عارية غير الدرهم ، وهكذا قوله : في عارية الدرهم ضمان ينافي الجزء السلبي من الأُخرى وهو قوله : لا ضمان في عارية غير الدينار.

وحيث إنّ عين أحد المتباينين أخصّ مطلقاً من نقيض الآخر ، كان الجزء الايجابي من كلّ منهما أخصّ مطلقاً من الجزء السلبي من الأُخرى ، فيكون مقدّماً عليه ، وتكون النتيجة أنّ عارية غير الدرهم لا ضمان فيها إلاّعارية الدينار ، وعارية غير الدينار لا ضمان فيها إلاّعارية الدرهم.

ويكون المتحصّل هو عدم الضمان في العارية إلاّعارية الدرهم والدينار ، ويكون هذا المتحصّل منهما بمنزلة رواية واحدة قائلة إنّه لا ضمان في عارية غير الدرهم والدينار ، وتقابلها الرواية القائلة إنّه لا ضمان في عارية غير الذهب والفضّة ، وحيث إنّ الذهب والفضّة أعمّ مطلقاً من الدرهم والدينار ، وكانت النسبة بين عين الأعمّ ونقيض الأخصّ هي العموم من وجه ، فلا جرم يكون بين الجزء الايجابي لرواية الفضّة والذهب وهو قوله : في عارية الذهب والفضّة ضمان ، والجزء السلبي لرواية الدرهم والدينار وهو قوله : لا ضمان في عارية غير الدرهم والدينار عموم من وجه ، لاجتماعهما في الحلي المصوغة من أحدهما ، فإنّها يصدق عليها أنّها فضّة وذهب ويصدق عليها أنّها غير الدرهم والدينار ، فيتعارضان في ذلك ، وينفرد الأوّل منهما في عارية نفس الدرهم والدينار ، فإنّه

١٠٨

يصدق عليه الفضّة والذهب ولا يصدق عليه أنّه غير الدرهم والدينار ، كما أنّه ينفرد الثاني منهما في عارية الثياب ، فإنّه يصدق عليه أنّه غير الدرهم والدينار ولا يصدق عليه الفضّة والذهب.

وأمّا نسبة الجزء السلبي من رواية الفضّة والذهب ـ أعني قوله : ليس في عارية غير الفضّة والذهب ضمان ـ إلى الجزء الايجابي من رواية الدرهم والدينار فهي التباين ، لأنّ نقيض الأعمّ وهو غير الفضّة والذهب مباين لعين الأخصّ وهو الدرهم والدينار ، فلا تعارض بين الجزأين المذكورين ، إذ لا منافاة بين قولك : في الدرهم والدينار ضمان وقولك : لا ضمان في غير الذهب والفضّة ، وإنّما المنافاة والمعارضة بين الجزء السلبي من رواية الدرهم والدينار والجزء الايجابي من رواية الفضّة والذهب تعارض العموم من وجه ، لما عرفت من اجتماعهما في الحليّ ، فإنّه يصدق عليه أنّه غير درهم ودينار فلا يضمن ، ويصدق عليه أنّه فضّة وذهب فيضمن ، وحيث إنّ كلاً منهما أخصّ من العام الفوق الذي هو مفاد رواية مسعدة بن زياد (١) المتضمّنة لأنّه لا ضمان في العارية ، يكون هو المحكّم في مورد اجتماعهما الذي هو مورد التعارض بينهما.

وما أُفيد في الجواب عنه بقوله : ولا يتوهّم أنّه بعد التعارض يرجع إلى عمومات عدم الضمان التي لم يتّصل بها استثناء الدراهم والدنانير ، فإنّه قد تقدّم أيضاً أنّ تلك العمومات قد خصّصت ولو بالمنفصل بما عدا الدراهم والدنانير ، فيكون حكمها حكم العام المتّصل به الخاصّ في انقلاب النسبة الخ (٢) وحاصله توافق رواية الدراهم والدنانير ورواية الذهب والفضّة على تخصيص العام الفوق

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٩ : ٩٤ / كتاب العارية ب ١ ح ١٠.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥١ ـ ٧٥٢.

١٠٩

الذي هو رواية مسعدة المتضمّنة لعدم الضمان في مطلق العارية ، والقدر المتيقّن هو تقييدها بخصوص الدراهم والدنانير ، وبعد تقييدها بذلك يكون حالها حال الجزء السلبي في رواية الدراهم والدنانير ، وتنقلب النسبة بينها وبين الجزء الايجابي من رواية الذهب والفضّة من العموم المطلق إلى العموم من وجه ، هذا.

ولكنّك قد عرفت الإشكال في ذلك فيما تقدّم (١) ، ولو تمّ ذلك لجرى في كلّ خاصين يكون أحدهما أخصّ من الآخر ، وهما معاً في قبال العام ، مثل قوله : أكرم العلماء ، ثمّ يقول : لا تكرم النحويين ، ثمّ يقول : لا تكرم فسّاق النحويين ، فإنّ خروج فسّاق النحويين من قوله : أكرم العلماء قدر متيقّن ، ولازمه انقلاب النسبة بين العام وبين قوله : لا تكرم النحويين ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

والحاصل : أنّ لنا حينئذ عمومات مترتّبة : الأوّل قوله : لا ضمان في مطلق العارية. الثاني : الجزء السلبي من رواية الدرهم والدينار وهو قوله : لا ضمان في غير الدرهم والدينار. الثالث : الجزء الايجابي من رواية الذهب والفضّة وهو قوله : في عارية الذهب والفضّة ضمان ، وقد تعارض الأخيران في الحليّ ، وانفرد الثاني في الثياب ، والثالث في الدرهم والدينار ، والمدّعى أنّهما اتّفقا على إخراج الدرهم والدينار من العام الأوّل الفوق ، وقد عرفت ما محصّله أنّ خروج الدرهم والدينار بقوله : في عارية الذهب والفضّة ضمان ، لا أثر له في انقلاب النسبة ، وإلاّ لكان تقديم كلّ خاصّ على عامه موجباً لانقلاب النسبة بينه وبين ذلك العام وهو غير معقول.

وأمّا خروجه بذلك الجزء السلبي من رواية الدرهم والدينار ، أعني قوله : لا ضمان في عارية غير الدرهم والدينار ، فلأنّ صدر هذه الجملة لا يوجب خروج

__________________

(١) في الصفحة : ٧٧.

١١٠

شيء من ذلك العام لأنّها توافقه في الحكم ، وإنّما الذي يوجب ذلك الخروج هو ما يستفاد من لفظة « غير » من ثبوت الضمان في الدرهم والدينار.

وبعد اللتيا والتي صار لنا عمومات مترتّبة : العام الفوق وهو لا ضمان في العارية ، وبعده قوله : في عارية الذهب والفضّة ضمان ، وبعده : في عارية الدرهم والدينار ضمان ، وأقصى ما عندنا بعد تلك الأتعاب والعمليات الطويلة أن نخصّص العام الفوق بأخصّ الخاصّين ، ثمّ نلاحظ النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر ، وذلك قد منعناه في الصورة الثانية من صور التعارض بين أكثر من دليلين ، ولا خصوصية توجب الفرق إلاّمسألة كون خروج مورد الانفراد في ناحية أحد المتعارضين من العام الفوق قدراً متيقّناً لتوافقهما على خروجه ، وقد عرفت [ أنّ ] ذلك لا يوجب إلحاقه بالتخصيص المتّصل الموجب لانقلاب النسبة ، فراجع وتأمّل.

ولكن لا يخفى أنّا لا نتمكّن من جعل كلا الخاصّين واردين معاً على العام لأنّ أحدهما وهو الجزء الايجابي من رواية الذهب والفضّة مبتلى بالمعارض الذي هو الجزء السلبي من رواية الدرهم والدينار ، أعني قولنا : لا ضمان في غير الدرهم والدينار.

نعم ، يمكن التخلّص من تحكيم العام فيما هو مورد المعارضة أعني عارية الحليّ ، بل من التعارض فيه بين عموم لا ضمان في عارية غير الدراهم والدنانير وعموم في عارية الذهب والفضّة ضمان ، بما أشار إليه بقوله : فالأولى تخصيص عموم ما دلّ على عدم الضمان بما عدا مطلق الذهب والفضّة ، فإنّ تقييد الاطلاق وإن كان أولى من تخصيص العموم ، إلاّ أنّه إذا لم يلزم محذور التقييد بالفرد النادر وإلاّ فيقدّم تخصيص العام على تقييد المطلق ، فالأقوى ثبوت الضمان في عارية

١١١

مطلق الذهب والفضّة كما هو المحكي عن المشهور (١).

وتوضيحه ما حرّرته عنه قدس‌سره بعد تحقيق المعارضة المشار إليها بقولي : وحينئذ فيدور الأمر بين أن نخصّص الجزء السلبي بهذا الجزء الايجابي ، فيقال : إنّ ما عدا الدرهم والدينار لا ضمان فيه إلاّ أن يكون من الذهب والفضّة المصوغين ، فيكون الجزء الايجابي من رواية الذهب والفضّة باقياً على شموله للمصوغ والمسكوك ، أو نعكس الأمر فنخصّص الجزء الايجابي بالجزء السلبي ، فيقال : إنّ استعارة الذهب والفضّة فيها الضمان إذا كانا مسكوكين ، أمّا إذا كانا مصوغين فلا ضمان فيها ، ولكن لمّا كان استعارة الدرهم والدينار فرداً نادراً كان الأوّل أولى من الثاني ، لأنّ الثاني مستلزم لتخصيص الأكثر ، وقد تقدّم الكلام فيه وأنّه يتعيّن في مثله بقاء العام على عمومه ، وجعله مخصّصاً للعام الآخر الذي لا يلزم من تخصيصه به تخصيص الأكثر وبقاء الفرد النادر. ولا يتوهّم أنّه إذا كان استعارة الدرهم والدينار فرداً نادراً فكيف تعرّض له عليه‌السلام في رواية الدراهم والدنانير ، وذلك لأنّه لا بأس بالتعرّض للفرد النادر ، وإنّما البأس في إلقاء المطلق وإرادة الفرد النادر منه. فتلخّص : أنّ الحقّ ما عليه المشهور من ثبوت الضمان في استعارة الذهب والفضّة وإن كانا غير مسكوكين ، هكذا ينبغي أن يحرّر الكلام في هذا المقام ، لا كما أفاده السبزواري قدس‌سره في الكفاية (٢) ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

ولابدّ من إتمام ذلك بما قدّمنا الاشارة إليه فيما يلحق بتقديم النصّ على الظاهر من أنّ العام الذي لا يبقى له إلاّ الفرد النادر يعدّ أخصّ مطلقاً من العام الآخر المقابل له ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الندرة توجب قوّة الظنّ بأنّ المراد من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٣.

(٢) كفاية الأحكام ١ : ٧٠٨ ـ ٧١٠.

١١٢

الدرهم والدينار هو مطلق الذهب والفضّة ، وأنّ ذكر الدرهم والدينار من باب أحد الأفراد فتأمّل.

وقد يقال : إنّ هذه الطرق كلّها وإن كانت منطبقة على الصناعة إلاّ أنّها طرق بعيدة عن الذوق العرفي في فهم الأخبار ، إذ يمكن إتمام فتوى المشهور بما هو أوضح من هذه الطرق الدقيقة الملتوية ، وذلك بأن يقال : إنّ هذه الطوائف الثلاث أعني قوله : لا ضمان في العارية ، وقوله : لا ضمان في العارية إلاّعارية الذهب والفضّة ، وقوله : لا ضمان في العارية إلاّعارية الدرهم والدينار ، يستفاد من مجموعها هو أنّه لا ضمان في العارية ما عدا عارية الذهب والفضّة ، فإنّ الاستثناء كدليل منفصل يكشف عن أنّ الحكم الواقعي إنّما هو فيما عدا المستثنى ، وهذان الكاشفان يردان معاً في عرض واحد على ذلك الحكم الواقعي المستكشف بقوله لا ضمان في العارية ، سواء كان الكاشف عن ذلك الحكم الواقعي هو ما تضمّنه الدليل الأوّل ، أو الدليلان الآخران المقرونان بالاستثناء.

وبالجملة : لا يكون الاستثناء إلاّمن قبيل الدليل المنفصل الكاشف عن أنّ المراد الواقعي بذلك العام هو ما عدا مورد الاستثناء ، فليس حال الاستثناءين المرقومين إلاّكحال الدليلين المنفصلين القائل أحدهما : في عارية الفضّة والذهب ضمان ، والآخر : في عارية الدرهم والدينار ضمان ، في كونهما يكشفان معاً وفي رتبة واحدة عن خروج مورد كلّ منهما عن الحكم الواقعي الوارد على العارية ، وإلى ذلك يرجع ما أفاده في الجواهر من تقديم أدلّة الضمان في عارية الذهب والفضّة على جميع ما ورد في المقام.

ثمّ بعد هذا أو نحوه قال ما هذا لفظه (١) : وأمّا تقدير غير الدرهم والدينار

__________________

(١) ولعلّ محصّل كلامه هو أنّ الجزء السلبي في رواية الدرهم والدينار هو أنّه لاضمان

١١٣

وملاحظته مهملاً عن إخراجهما مع موضوع الذهب والفضّة الشاملين لهما وجعل التعارض بينهما من وجه ، إلى آخر ما سمعته ، فهو شيء خارج عن النصوص ، صاغه الوهم فصار مغالطة على الأفهام الردية التي لا تفرّق بين مفاهيم الألفاظ ومصاديقها إذا كان فيها نوع خفاء (١).

وبيان ذلك وتحريره على طبق الصناعة هو أن يقال : إنّ الاستثناء لا يفيد إلاّ إخراج مورده الذي هو المستثنى عن العموم ، ولا يعطي ذلك العام عنواناً خاصّاً كي يوجب انقلاب ظهوره إلى ذلك العنوان الخاصّ ، كما هو الشأن في سائر المقيّدات اللاحقة للعام ، وإنّما أقصى ما فيه هو إخراج المستثنى عن العموم وانحصار حجّية العام في الباقي.

وهذا المعنى وهو انحصار حجّية العام في الباقي ليس المراد به أنّ العام يكون معنوناً بعنوان الباقي ، بل المراد به هو انحصار حجّية العام في واقع الباقي الذي هو المصاديق الباقية بعد ذلك الاخراج ، فليست حجّية العام محصورة في المقيّد بمفهوم الباقي كي يكون حال الاستثناء حال تقييد العام بعنوان العدالة أو عنوان عدم الفسق.

بل إنّ المراد هو أنّ العام بعد إخراج بعض أفراده تكون حجّيته مقصورة على واقع الباقي ، فلا يحتاج في التمسّك به فيها إلى إحراز كونها مصداقاً لعنوان الباقي ، ولعلّ هذا هو المراد لصاحب الجواهر قدس‌سره [ بقوله ] فصار مغالطة على

__________________

في العارية ، وهو أعّم من الجزء الايجابي في رواية الذهب والفضّة ، وأنّه لا وجه لأخذ لفظ « غير الدينار والدرهم » في الجزء السلبي من الرواية المزبورة كي يكون ذلك موجباً لانقلاب النسبة [ منه قدس‌سره ].

(١) جواهر الكلام ٢٧ : ١٨٧.

١١٤

الأفهام الردية التي لا تفرّق بين مفاهيم الألفاظ ومصاديقها الخ.

ولا يرد عليه : أنّ لازم ذلك هو جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية بعد التخصيص ، فإنّ المانع من ذلك أمر آخر غير تعنون العام بعنوان ما عدا الخاصّ ، وحاصل ذلك الأمر هو قصور الأدلّة الاجتهادية ـ كالعموم مثلاً ـ عن التعرّض لمرتبة الشكّ الطارئ بعد أداء الأدلّة الاجتهادية وظيفتها ، أعني بذلك مرتبة الشكّ في أنّ هذا الفرد هل هو داخل في مؤدّى ذلك الدليل الاجتهادي الذي هو العام وأنّه من جملة ما بقي تحته ، أو أنّه داخل في مؤدّى الدليل الاجتهادي الآخر الذي هو الخاصّ بعد فرض [ أن ] قد علمنا بالدليل الاجتهادي حكم كلّ من بقي ومن خرج ، وإن شئت فراجع ما حرّرناه في مبحث العموم من ذلك (١).

ولكن لا يخفى أنّ البناء على ذلك يوجب هدم أكثر مبانينا في باب العموم والخصوص ، فراجع تلك المباحث خصوصاً ما يتعلّق بمناظرة الكفاية في أنّ الاستثناء لا يوجب تعنون العام بعنوان خاصّ بل بكلّ عنوان هو غير العنوان الخاصّ ، فالتحقيق : أنّ الاستثناء يكون موجباً لكون موضوع الحكم هو ما عدا المستثنى.

وهذه الشبهة التي ذكرناها هنا ، وهي أنّ الاستثناء لا أثر له إلاّ إخراج المستثنى ، وانحصار حجّية العموم في واقع الباقي ، لا فيما هو داخل تحت عنوان ما عدا المستثنى المعبّر عنه هنا بغير الذهب والفضّة ، إنّما هي في الاستثناء في القضايا الخارجية ، دون القضايا الأحكامية التي هي قضايا حقيقية لا يسري الحكم منها إلى الأفراد إلاّبواسطة ما ينطبق عليها من العناوين الكلّية.

وما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره من قوله : وأمّا تقدير غير الدرهم والدينار

__________________

(١) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٤٤ وما بعدها.

١١٥

ـ إلى قوله قدس‌سره ـ فهو شيء خارج عن النصوص صاغه الوهم ، ففيه : أنّ ذلك لم يصغه الوهم ، وإنّما هو عين ما نطقت به الأخبار ، أعني بذلك مفهوم الحصر المستفاد من تركيب « ما » و « إلاّ » ، فذلك عبارة أُخرى عن المعارضة بين مفهوم الحصر من رواية الدرهم ومفاد إثبات الحكم في ضمان عارية الذهب والفضّة ، فالمعارضة بين ذلك المفهوم وهذا المنطوق من قبيل المعارضة بين قولنا : لا تكرم العلماء إلاّ العدول ، وقولنا : لا تكرم العلماء إلاّ الفقهاء ، في العادل غير الفقيه أو الفقيه غير العادل.

بل يمكن القول بأنّ ذلك ـ أعني أخذ لفظ « الغير » في الجزء [ السلبي ] من رواية الدراهم والدنانير ـ هو عين ما ذكره النحاة لدفع التناقض عن الاستثناء بأنّ الاخراج قبل الحكم ، فإنّه يكون مفاد قوله : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق هو وجوب إكرام ما عدا الفسّاق منهم ، فلابدّ أن يكون العام معنوناً بعنوان ما عدا الفسّاق ، وذلك عبارة أُخرى عن أنّ المحكوم عليه هو غير الفسّاق منهم.

ولكن لا يخفى أنّا لو أغضينا النظر عن جميع ذلك ، بل خرّجنا قضيتنا على نحو القضية الخارجية ، لكان قولنا : لا تضمن الأشخاص الباقية بعد إخراج الدرهم والدينار ، ومن جملة الباقي الثياب والحليّ ، وحينئذ يكون ذلك مناقضاً لقولنا : في الذهب والفضّة ضمان ، التي يكون خارجها الحليّ والدرهم والدينار ، فلاحظ وتأمّل. وما لم ينحسم الحال في هذا التناقض لا يمكن لنا أن نحكّم قوله : في الذهب والفضّة ضمان الشامل للحليّ والمسكوك على العام الفوق.

فالحقّ أنّ نصرة القول المشهور منحصرة بما أفاده شيخنا قدس‌سره من تقديم الجزء الايجابي في رواية الذهب والفضّة على الجزء السلبي في رواية الدرهم والدينار ، وإخراج مورد الاجتماع الذي هو الحليّ عن ذلك الجزء السلبي وإبقائه

١١٦

تحت ذلك الجزء الايجابي ، لأنّه لو عكس الأمر لكان من التخصيص المستهجن. وإن شئت فأتممه بما قدّمناه (١) من أنّ العام من وجه الذي لا ينفرد عن طرفه إلاّ نادراً لا يراه العرف إلاّ أخصّ مطلقاً من طرفه ، وحينئذ فيكون هو المحكّم في مورد الاجتماع ، وبذلك يقدّم على العام الفوق وعلى طرفه المذكور.

وفي التقريرات المطبوعة في صيدا ، بعد أن ذكر تقريب القول بأنّ النسبة بين الروايتين هي العموم والخصوص المطلق ، قال : ولكن تنظّرنا فيه في الدورة السابقة بما حاصله : أنّ الروايتين (٢) ، إلى آخر ما هو نحو ممّا في هذا التقرير الموجود من تقريب العموم من وجه والجواب عنه بلزوم التخصيص المستهجن ، ثمّ بعد الفراغ عن ذلك قال : ولكن التحقيق أنّ ما ذكرناه من انقلاب النسبة غير تامّ أيضاً. ثمّ بيّن العموم من وجه ثمّ قال : وقد مرّ أنّ الخاصّين إذا كان بينهما العموم من وجه فمقتضى القاعدة تخصيص العموم بكلّ منهما إذا لم يلزم محذور كما في المتباينين ، فلا حاجة حينئذ إلى ملاحظة المعارضة بين الخاصّين وتقديم أحدهما على الآخر بالتقريب المتقدّم (٣) ـ (٤)

__________________

(١) في الصفحة : ٩٥.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٣٠٦.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤) ولا يخفى أنّ البحث في هذه التقريرات ينتهي إلى هذا الحدّ ، ويقول في الآخر : وقد تمّت هذه الدورة ( يعني الأخيرة التي انتقل عنها قدس‌سره إلى الدار الأُخرى ) في شهر رجب من شهور سنة ألف وثلاثمائة واثنين وخمسين.

والحقير لم أتخطّر في هذه الدورة الأخيرة أنّه قدس‌سره إلى أيّ انتهى بحثه سيّما بعد ابتلائه بالأمراض واستمراره على ترك الدرس الليلي مدّة طويلة قبل انتقاله إلى جنّة المأوى ،

١١٧

قلت : لا يخفى أنّ الخاصّين اللذين بينهما العموم من وجه إنّما يخصّص العام الفوق بكلّ منهما إذا كانا معاً مخالفين للعام ، كأن يقول : أكرم العلماء ، ثمّ يقول : لا تكرم النحويين ويقول : لا تكرم الصرفيين ، فإنّ النسبة بين الخاصّين هي العموم من وجه ، لكون النحوي أعمّ من وجه من الصرفي ، فيجتمعان في النحوي الصرفي ، ولكن لا معارضة بينهما لتوافقهما في الحكم ، فيقدّمان معاً على العام الفوق ، بخلاف ما نحن فيه من الجزء السلبي من رواية الدراهم والدنانير والجزء الايجابي من رواية الذهب والفضّة ، فإنّه لمّا كان الأوّل منهما موافقاً للعام في الحكم ، وكانا في حدّ أنفسهما متعارضين لاختلافهما في الحكم ، فلا وجه للقول في مثل ذلك بأنّ مقتضى القاعدة هو تخصيص العام بكلّ منهما.

أمّا لو كانا معاً مخالفين للعام ، وكانا أيضاً متعارضين في حدّ أنفسهما ، كأن يقول : يجب إكرام العلماء ويحرم إكرام النحويين ويستحبّ إكرام الصرفيين ، كانت المسألة داخلة فيما يأتي البحث فيه من أنّه عند اتّفاق المتعارضين على نفي الثالث في مورد المعارضة بينهما هل يمكن الرجوع بعد تساقطهما إلى ذلك الثالث ، أو أنّه لا يمكن ذلك ، لأنّهما وإن تساقطا في مورد المعارضة بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي ، إلاّ أنّهما لمّا اتّفقا بحسب مدلولهما الالتزامي على نفي الثالث ، لم يكن تساقطهما في مدلولهما المطابقي موجباً لسقوط ما توافقا عليه من المدلول الالتزامي ، حيث إنّ كلاً من دليل حرمة إكرام النحويين ودليل

ــــــــــــــــــ

حيث إنّي لم أتوفّق لكتابة عنه في أواخر هذه الدورة الأخيرة ، سيّما بعد وصوله إلى أواخر البراءة وذلك في النصف من رجب سنة ١٣٤٩. ولكن يظهر ممّا علّقته على هامش ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره في الدورة السابقة من آرائه الجديدة في الدورة الأخيرة أنّه وصل إلى أواسط الاستصحاب [ منه قدس‌سره ].

١١٨

استحباب إكرام الصرفيين يدلّ بالالتزام على نفي الوجوب في مورد المعارضة الذي هو النحوي الصرفي ، وبعد فرض توافقها على نفي الوجوب فيه لم يمكن الرجوع فيه بعد سقوط كلّ منهما إلى العام الفوق ، أعني قوله : يجب إكرام العلماء ، ولكن سيأتي (١) إن شاء الله تعالى أنّه لا مانع من الرجوع إلى العموم المزبور.

وعلى كلّ حال ، فإنّ ما نحن فيه لا دخل له بهذا ، ولا بما تقدّم من مثال المتّفقين في الحكم المخالف للعام ، بل إنّ ما نحن فيه من قبيل المتعارضين اللذين [ يكون ] أحدهما موافقاً للعام.

فائدة : لو كان لنا عامان وورد خاصّ يوجب رفع اليد عن أحدهما ، وقع التعارض في أصالة العموم بالنسبة إليهما ، لكن لو كان بقاء العموم في أحدهما المعيّن موجباً لخروج الخاصّ عن الآخر تخصّصاً تعيّن العمل بعموم ذلك العام دون طرفه.

ومثال ذلك ما هو محرّر في عيوب السنة التي منها الجذام ، فلو فرضنا أنّ لنا عاماً يدلّ على أنّ التلف مسقط للخيار ، وعام آخر يقول إنّ الجذام موجب للانعتاق ، فإن أبقينا الثاني على عمومه للمملوك مع كون الخيار لمالكه ، بأن يكون شاملاً لما نحن فيه وحكمنا فيه بالانعتاق ، كان خارجاً عن عموم التلف مسقط للخيار بالتخصيص ، وإن أخرجنا ما نحن فيه عن العموم الثاني وحكمنا فيه بعدم الانعتاق ، كان ما نحن فيه خارجاً عن عموم التلف خروجاً موضوعياً بالتخصّص.

وحينئذ نقول : إنّ عموم التلف لا يمكن العمل به في مسألة الجذام للعلم بخروجها منها إمّا تخصيصاً أو تخصّصاً ، فيكون العام الآخر وهو كونه موجباً

__________________

(١) في الصفحة : ١٢٦ وما بعدها.

١١٩

للانعتاق بلا معارض ، فيحكم بالانعتاق وبقاء الخيار ، فراجع ما حرّرناه (١) في هذه المسألة على مكاسب الشيخ قدس‌سره في عيوب السنة.

ويمكن أن يقال : إنّ ما دلّ على كون الجذام موجباً للخيار لا ينافي في حدّ نفسه ما دلّ على أنّ الجذام موجب للانعتاق ، لإمكان اجتماع العتق مع بقاء الخيار وإنّما تقع المنافاة بينهما التي هي الموجبة للتخصيص بعد تحكيم عموم التلف (٢) وأنّه مانع من الخيار ، فيكون تحكيم دليل الخيار المقيّد بعدم التلف منافياً للانعتاق ، وحينئذ تصل النوبة إلى كون دليل الخيار مخصّصاً لعموم الانعتاق.

والحاصل : أنّ منافاة دليل الخيار مع عموم مسقطية التلف إنّما تكون في الرتبة المتأخّرة عن تحكيم عموم الانعتاق ، وفي تلك الرتبة ـ أعني رتبة تحكيم عموم الانعتاق ـ لا يكون عموم مسقطية التلف محكّماً لعدم تحقّق موضوعه ، فلا يعقل وقوع التنافي بين العامين في رتبة واحدة.

وبالجملة : أنّه لو كان تحكيم كلّ من العامين في مورد الخاصّ وعدم تخصيصه به موجباً لكون ذلك الخاصّ مخصّصاً للعام الآخر لوقع التعارض في أصالة العموم في كلّ منهما ، لكن الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك ، فإنّ تحكيم دليل الانعتاق في المورد وعدم إخراجه وإن أوجب كون ذلك الخاصّ مخصّصاً لعموم مسقطية التلف ، إلاّ أنّ عدم تخصيص عموم مسقطية التلف بدليل كون الجذام موجباً للخيار لا يوجب كون ذلك الخاصّ مخصّصاً للعام الآخر ، لأنّ عدم تخصيصه به ليس من باب تحكيم العام فيه ، بل من باب عدم كون ذلك الخاصّ من موضوعات ذلك العام ، ولا يكون من موضوعاته إلاّبعد تحكيم العام الآخر

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

(٢) [ في الأصل : « الانعتاق » بدل « التلف » ].

١٢٠