سبيل المستبصرين

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني

سبيل المستبصرين

المؤلف:

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-41-6
الصفحات: ٦٠٠

و : « من كتب أربعين حديثاً ، رجاء أنْ يغفر الله له ، غفر له ، وأعطاه ثواب الشهداء » (١).

و : « من ترك أربعين حديثا بعد موته ، فهو رفيقي في الجنّة » (٢).

وقد خصّص السيوطي جزءاً خاصّاً لهذا الحديث ، جمع فيه كلّ طرقه ورواته ، كما رواه الطبري وابن عساكر ، وفيض القدير ، والبيهقي ، والشوكاني ، والنووي ، وابن حجر ، وغيرهم كثير ، فهذا الحديث يعتبر من المشهور والمتواتر لفظاً ومعنى ، عند جميع فئات المسلمين ، حتّى إنّ العشرات منهم قد كتبوا كتباً تحوي أربعين حديثاً قاموا بشرحها ، رجاء نيل الثواب من الله ، ورجاء شفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مثل : « الأربعين النووية » للنووي ، « الأربعين حديثاً للإمام الخميني قدس‌سره » ، وغيرهم الكثير.

ويفهم من هذه المجموعة ، من هذا الحديث ، حرص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كتابة السنّة ورعايتها ونقلها إلى المسلمين وأنّ الحديث وعد بالثواب على ذلك.

أقدّم مجموعة أخرى من الأحاديث ، تأمر بحفظ الحديث النبوي ، ونقله ، ورعايته ، وإنّه يجب الالتزام بذلك دون زيادة أو نقصان.

روى السيوطي في الجامع الصغير : « حدّثوا عنّي بما تسمعون ، ولا تقولوا إلاّ حقّا ; ومن كذّب عليّ بني له بيت في جهنّم يرتع فيه » (٣).

روى المتقي في كنز العمّال : « حدّثوا عنّي ولا حرج ، حدّثوا عنّي ولا تكذّبوا عليّ ، ومن كذّب عليّ متعمداً فقد تبوّأ مقعده من النار » (٤).

__________________

(١) كنز العمّال ١٠ : ٢٢٢.

(٢) كنز العمّال ١٠ : ٢٢٦.

(٣) الجامع الصغير ١ : ٥٧١.

(٤) كنز العمّال ١٠ : ٣٢١.

٤٤١

روى ابن عساكر في تاريخ دمشق : « حدّثوا عنّي كما سمعتم ولا حرج ، إلا من افترى عليّ كذبا متعمداً ليضلّ به الناس بغير علم ، فليتبوّأ مقعده من النار » (١).

روى أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : « حدّثوا عنّي ولا تكذّبوا عليّ ، ومن كذّب عليّ متعمداً فقد تبوّأ مقعده من النار » (٢).

ثمّ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بالكتابة صراحة ، فقد كان العديد من الصحابة يكتبون ، ولو كان هناك منع من الكتابة أو التدوين لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قاموا بذلك ، وقد ذكرت لك في السابق كيف كان أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يدوّن الصحيفة من إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبخطّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولكن في هذه المجموعة من الأحاديث نبيّن أنّه كان هناك أمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتابة ، وأنّ صحابة آخرين غير أمير المؤمنين قد كتبوا ودوّنوا الحديث.

روى البخاري في صحيحه ، عن وهب بن منبّه ، عن أخيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : ما من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحد أكثر حديثا عنه منّي ، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنّه كان يكتب ولا أكتب. تابعه معمّر ، عن همام ، عن أبي هريرة (٣).

روى الطبراني ، في معجمه الكبير ، عن رافع بن خديج قال : خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : « تحدّثوا ، وليتبوأ من كذّب عليّ مقعده من جهنّم » قلت : يا رسول الله ، إنّا نسمع منك أشياء فنكتبها. فقال : « اكتبوا ولا حرج » (٤).

__________________

(١) تاريخ دمشق ١٢ : ٣٠٤.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٤٦.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٣٦.

(٤) المعجم الكبير ٤ : ٢٧٦.

٤٤٢

روى البخاري ، تحت باب كتابة العلم ، عن أبي هريرة : أنّ خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث ، عام فتح مكّة ، بقتيل منهم قتلوه ، فأخبر بذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فركب راحلته فخطب ، فقال : « إنّ الله حبس عن مكّة القتل ، أو الفيل ـ شكّ أبو عبد الله ـ وسلّط عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين ، ألا وإنّها لم تحلّ لأحد قبلي ، ولم تحلّ لأحد بعدي ، ألا وإنّها حلّت لي ساعة من نهار ، ألا وإنّها ساعتي هذه حرام ، لا يختلي شوكها ، ولا يعضد شجرها ، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد ، فمن قتل فهو بخير النظرين : إمّا أنْ يعقل ، وإمّا أنْ يقاد أهل القتيل » ، فجاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال : « اكتبوا لأبي فلان » فقال رجل من قريش : إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنّا نجعله في بيوتنا وقبورنا؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : « إلاّ الاذخر » (١).

روى مسلم في صحيحه ، عن يحيى ، أخبرني أبو سلمة أنّه سمع أبا هريرة يقول : إنّ خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث ، عام فتح مكّة ، بقتيل منهم قتلوه. فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فركب راحلته فخطب فقال : « إنّ الله عزّ وجلّ حبس عن مكّة الفيل ، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ، ألا وإنّها لم تحلّ لأحد قبلي ، ولن تحلّ لأحد بعدي ، ألا وإنّها أحلّت لي ساعة من النهار ، إلا وإنّها ، ساعتي هذه ، حرام ، لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها ، ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد ، ومن قتل له قتيل فهو يخير النظرين ، إمّا أنْ يعطى ( يعني الديّة ) ، وإمّا أنْ يقاد ( أهل القتيل ) قال : فجاء رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال : اكتب لي يا رسول الله! فقال : « اكتبوا لأبي شاه ». فقال رجل من قريش : إلاّ الإذخر ، فإنّا نجعله في بيوتنا وقبورنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « إلا الإذخر » (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣٦.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١١١.

٤٤٣

وإليك عزيزي القارئ جملة أخرى من الأحاديث ، والتي أيضاً تحثّ على كتابة الحديث وحفظه ورعايته ووعايته ونقله إلى المسلمين.

جاء في الجامع الصغير للسيوطي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « نضر الله امرأً سمع منّا شيئا فبلّغه كما سمعه ، فربّ مبلّغ أوعى من سامع » (١). رواه الترمذي (٢) ، وابن حبّان (٣).

روى الطبراني في معجمه الكبير ، عن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطبهم فقال : « نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ، فربّ حامل فقه وهو غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (٤).

روى الترمذي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « نضر الله امرأ سمع منّا حديثاً فحفظه حتّى يبلّغه غيره ، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، وربّ حامل فقه ليس بفقيه » (٥).

هذا الأمر بالكتابة والحديث ، يؤكّده القرآن الكريم في آيات عديدة ، تأمر بالكتابة لأشياء حتّى أقلّ شأناً من السنّة النبويّة ، فكيف بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو وحي ، والذي لا ينطق إلا بالوحي.

قال تعالى في سورة البقرة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْن إِلَى أَجَل مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ

__________________

(١) الجامع الصغير ٢ : ٦٧٤.

(٢) سنن الترمذي ٤ : ١٤٢.

(٣) صحيح ابن حبّان ١ : ٢٦٨.

(٤) المعجم الأوسط ٧ : ١١٧.

(٥) سنن الترمذي ٤ : ١٤١.

٤٤٤

الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ .... ) (١).

إذن ، يتبيّن بعد كلّ ذلك ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من المسلمين كتابة حديثه ، ورعايته وحفظه. وأنّ من بلّغ أو كتب عنه ، أعدّ الله له ثواباً عظيماً ، ولا تغرنّك عزيزي القارئ ، تلك الروايات التي تنهى عن كتابة الحديث ; لأنّ تلك الأحاديث تمّ وضعها في زمن الأمويين ، من أجل تبرير موقف أبي بكر ، الذي حرق سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك عمر الذي حرقها ومنع التحدّث بها ، ولحقهم عثمان الذي سلك مسلك الشيخين في محو السنّة وطمسها واغتيالها.

وأيضاً ، فإنّ تلك الأحاديث تتنافى مع مقاصد الدين ، ومع بديهيات العقل السليم ، وتتعارض مع النصوص الصحيحة ، والآيات الكريمة التي تأمر بالكتابة والتدوين ، والتي ذكرناها آنفا.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

٤٤٥

أبو بكر والسنّة النبويّة

ثمّ جاء عصر الخليفة الأول أبي بكر ، فلننظر عزيزي القارئ ماذا جرى لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد أبي بكر.

فقد قام أبو بكر من أوّل يوم ، بنبذ سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتراف صريح في خطبته الأولى ، وتأكيد على ما قاله عمر بن الخطّاب يوم رزيّة الخميس ، حيث قال : حسبنا كتاب الله.

روى الذهبي في تذكرة الحفاظ عن ابن أبي مليكة : أنّ أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال : إنكم تحدّثون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم ، فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه (١).

وهذا تصريح خطير فاضح ، واعتراف واضح ، يؤكّد قول المسلمين الذين قالوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبنا كتاب الله ، أي لا نريد سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; ولذلك كان أبو بكر كثيراً ما يقول : لا تحملوني على سنّة نبيكم ، فإنّي لا أطيقها ، وهذا يؤكّد على تصميمهم على اغتيال السنّة النبويّة الشريفة.

روى أحمد في مسنده عن قيس بن أبي حازم قال : « إنّي لجالس عند أبي بكر ، خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ : ٢ ـ ٣.

٤٤٦

بشهر ، فذكر قصّة ، فنودي في الناس : أنّ الصلاة جامعة ، وهي أوّل صلاة في المسلمين نودي بها أنّ الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فصعد المنبر ، شيئا صنع له كان يخطب عليه ، وهي أوّل خطبة خطبها في الإسلام. قال : فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : يا أيّها الناس ولوددت أنّ هذا كفانيه غيري ، ولئن أخذتموني سنّة نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم ما أطيقها ، إنْ كان لمعصوماً من الشيطان ، وإنْ كان لينزل عليه الوحي من السماء (١).

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد في مرّات عديدة على أنّه سيأتي بعده رجال لا يحتكمون إلى سنتّه ، وأكّد أنّ حرام محمّد حرام إلى يوم القيامة ، وحلاله حلال إلى يوم القيامة وأنّ ما حرّم محمّد هو ما حرّم الله ، وما حلّل محمّد هو ما حلّل الله ، لكنّهم أبوا أنْ يحتكموا إلى هذه القاعدة النبويّة الشريفة.

روى أحمد في مسنده ، عن معدى كرب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « يوشك أحدكم أنْ يكذّبني وهو متكئ على أريكته ، يحدّث بحديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرّمناه ، ألا وإنّ ما حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما حرّم الله » (٢).

روى الترمذي في سننه ، عن أبي رافع وغيره ، رفعه قال : « لا ألفينّ أحدكم متّكئاً على أريكته ، يأتيه أمر مما أمرت به ، أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه » (٣).

روى الحاكم في مستدركه عن معد يكرب قال : قال رسول الله صلّى الله

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ١٤.

(٢) مسند أحمد ٤ : ١٣٢.

(٣) سنن الترمذي ٤ : ١٤٤.

٤٤٧

عليه وسلّم : « يوشك أنْ يقعد الرجل منكم على أريكته ، يحدّث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه ، وإنّما حرّم رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، كما حرّم الله » (١).

ومن المعروف في اللغة العربية أنّ كلمة ( يوشك ) هي من أفعال المقاربة. أي تدلّ على حدوث هذا الفعل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، ولو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو سيّد البلغاء ، وأفصح العرب ، لو كان يريد الزمن البعيد ، لقال : يأتي زمان ، أو يكون في آخر الزمان ، كما ذكر في أحاديث كثيرة.

ثمّ إنّ أبا بكر لم يكتف بذلك ، بل أراد أنْ يسلك طريقاً أشدّ وأوضح ، حتّى يؤكّد على معنى نبذ السنّة وتركها. فقد قام بخطوة خطيرة جداً ضدّ أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. حيث قام بجمع الأحاديث النبويّة التي كانت عنده ، وقام بحرقها جميعا ، وهذا الحدث الخطير ، موجود في صحاح أهل السنّة وكتبهم ، وإليك بعض من تلك الروايات ، التي تؤكّد وقوع هذا الحادث الخطير.

روى المتقي الهندي في كنز العمّال عن مسند الصدّيق ، بسنده عن القاسم بن محمّد قال : قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانت خمسمائة حديث فبات ليلة يتقلّب كثيراً ، قالت : فغمّني ، فقلت : تتقلّب لشكوى أو لشيء بلغك. فلمّا أصبح قال : أي بنيّة ، هلمّي الأحاديث التي عندك. فجئته بها ، فدعا بنار فأحرقها وقال : خشيت أنْ أموت وهي عندك ، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ، ولم يكن كما حدّثني ، فأكون قد تقلّدت ذلك (٢). ورواه الطبري في الرياض النضرة (٣).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ١ : ١٠٩.

(٢) كنز العمّال ١٠ : ٢٨٥.

(٣) الرياض النضرة في فضائل العشرة ١ : ١٧٣.

٤٤٨

وأعتقد أنّه لا يوجد عند كلّ عقل سوي ، أي مبرّر لهذا الحادث الخطير ، إلا اغتيال سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووأدها في مهدها ، قبل انتشارها ، لأسباب كثيرة نذكر بعضاً منها خلال البحث.

والسؤال الذي يطرح نفسه ، كيف يقوم هذا الرجل الذي يدّعي محبّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والاقتداء به بهذا العمل ، مع العلم بأنّ جميع الأمم في السابق واللاحق ، إذا مات عندهم عزيز ، فإنّهم أوّل ما يقومون به بعد وفاته ، تخليد ذكراه ، وتمجيده من خلال إنجازاته وأفعاله وأقواله.

وأظنّ أنّ هذا الأمر تقوم به جميع الأمم ، حتّى الأمم الملحدة ، فدونك مدوّنات مراجع الشيوعيين مثل ستالين ولينين وماركس ، وأيضاً أقوال زعماء أمريكا وغيرهم مدوّنة حتّى اليوم ، حتّى أنّ الحاضرات السابقة مثل الفراعنة ، خلّدت الكثير من أقوال فراعنتها على الحجارة التي لا زالت موجودة حتّى اليوم.

فهل هذا جزاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الخلق ، وخير الخلق ، هل هذا جزاؤهُ ، أنْ تحرق سنّته وتطمس؟!

٤٤٩

عمر والسنّة النبويّة

وأنتقل بك عزيزي القارئ إلى العصر الثاني ، عصر الخليفة الثاني عمر ، وماذا قام من إجراءات ضدّ السنّة النبويّة.

في البداية أودّ أنْ أذكر أنّ عمر بن الخطّاب كان في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له مواقف عجيبة وغريبة ومتناقضة مع موقفه من تدوين سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مدّعياً أنّ وجود السنّة النبويّة مدوّنة في كتب ، قد تخلط على المسلمين ، فلا يستطيعون أنْ يفرّقوا بينها وبين كتاب الله.

جاء في كنز العمّال : أنّ عمر بن الخطّاب قال : إنّي كنت أريد أنْ أكتب السنن ، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها ، وتركوا كتاب الله (١).

وفي كنز العمّال ، عن الزهري قال : أراد عمر بن الخطّاب أنْ يكتب السنن ، فاستخار الله شهراً ، ثمّ أصبح وقد عزم له ، فقال : ذكرت قوماً كتبواً كتاباً ، فأقبلوا عليه ، وتركوا كتاب الله (٢).

ولذلك كان تبريره أمام المسلمين هو حرصه على ألا يختلط الحديث بالقرآن ، وهذا الادّعاء الباطل من أساسه يتناقض مع واقع حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبلّغ القرآن ، وفي نفس الوقت يتحدّث بالحديث ، ويأمر

__________________

(١) كنز العمّال ١ : ٦٤.

(٢) كنز العمّال ١٠ : ٢٩٣ ، وأخرجه ابن سعد في الطبقات ٣ : ٢٨٧.

٤٥٠

بالكتابة ،

وكان المسلمون يستطيعون التمييز بين الآية والحديث.

والأمر الثاني : أنّ الله سبحانه وتعالى قد تكفّل بحفظ القرآن وآياته حيث قال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (١) ، وهذا الحفظ الإلهي للقرآن والعقيدة ، يبعّد أيّ ادّعاء من نوع ادّعاءات عمر.

ثمّ لو كان هذا الادّعاء صحيحاً ، لما دعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كتابة حديثه وحفظه ورعايته وتبليغه ، فالله أمر رسوله بتبليغ الإسلام من قرآن وحديث ، حيث قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) (٢) ، وكذلك فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال في عدّة مناسبات : إنّي أوتيت القرآن ومثله معه.

فقد روى أبو داود في سننه ، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أنّه قال : « ألا إنّي أوتيت الكتاب ومثله معه ، لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ; فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه » (٣).

وجاء في الدرّ المنثور للسيوطي : أخرج الدارمي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : كان جبريل ينزل بالسنّة ، كما ينزل بالقرآن (٤).

وأيضاً فإنّ من المعلوم من الدين بالضرورة ، أنّه لا يمكن أنْ يفهم القرآن بدون أنْ يبيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبيّن أحكامه ، ويشرح مفصّله ، أو يخصّص عمومه ، أو يبيّن ناسخه من منسوخة ، فالحديث النبوي إذاً ضرورة دينية لابدّ من وجودها ،

__________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) المائدة : ٦٧.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ٣٩٢.

(٤) الدرّ المنثور ٦ : ١٢٢.

٤٥١

ومن تدوينها وحفظها ، ورعايتها ، وتبليغها.

ثمّ إنّ المسلمين أدركوا بطلان صحّة ذلك الادّعاء ، وهو ادّعاء عمر ، أنّ في حرق سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحوها ومنع تدوينها حفظاً للدين والقرآن ، أدرك المسلمون بطلان ذلك الادّعاء ، فلم يقبلوه ، بل ورفضوه ، ولم يلتزموا به ، حيث قاموا ببدء تدوين الحديث ، لكن بعد القرن الأول الهجري ، وفي القرن الثاني حتّى بداية الثالث الهجري ، فلو كان هناك أمر نبويّ بمنع التدوين ، أو بحرق السنّة أو محوها ، لما خالف المسلمون ذلك الأمر النبوي.

ثمّ إنّه من المعروف أنّ عمر بن الخطّاب كان في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحاول دائما أنْ يقرأ التوراة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغضب لذلك ، وكان دائماً يمنعه من قراءتها ، حتّى وصل به الأمر أنْ طلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنْ يدوّن حكم وتعاليم اليهود التي يتحدّثون بها ويتداولونها ، حتّى تنفع المسلمين ، إلا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رفض ذلك الأمر ، وغضب غضباً شديداً.

روى أحمد في مسنده ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر بن الخطّاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله ، إنّي مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، قال عبد الله ، فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (١).

روى الهيثمي في مجمع الزوائد ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر بن الخطّاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله ، إنّي مررت بأخ لي من بني قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال عبد الله ، يعني : ابن ثابت. فقلت : ألا ترى ما

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ٤٧٠ ، ٤ : ٢٦٥ ، وأورده السيوطي في الدرّ المنثور ٢ : ٤٨.

٤٥٢

بوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم!! (١).

وفي أسد الغابة : جاء عمر بن الخطّاب بكتاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال : أقرأ عليك هذا الكتاب؟ فغضب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. أخرجه ابن مندة وأبو نعيم (٢).

روى الدارمي في سننه ، عن جابر ، أنّ عمر بن الخطّاب أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنسخة من التوراة ، فقال : يا رسول الله هذه نسخة من التوراة ، فسكت ، فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغيّر (٣).

وروى أحمد في مسنده ، عن جابر بن عبد الله ، أنّ عمر بن الخطّاب أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه النبيّ ، فغضب فقال : « أمتهوكون فيها يا ابن الخطّاب! والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحقّ فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدّقوا به ، والذي نفسي بيده ، لو أنّ موسى كان حيّاً ما وسعه إلا أنْ يتبعني » (٤).

وفي مجمع الزوائد : عن جابر قال : نسخ عمر كتاباً من التوراة بالعربيّة ، فجاء به إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فجعل يقرأ ، ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتغيّر. فقال رجل من الأنصار : ويحك يا ابن الخطّاب ألا ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهّم لن يهدوكم ، وقد ضلّوا ، وإنّكم إمّا أنْ تكذّبوا بحقّ ، أو تصدّقوا بباطل ، والله ، لو كان موسى بين أظهركم ، ما حلّ له إلا أنْ يتبّعني » (٥).

__________________

(١) مجمع الزوائد ١ : ١٧٣.

(٢) أسد الغابة ١ : ٢٣٥.

(٣) سنن الدارمي ١ : ١١٥.

(٤) مسند أحمد ٣ : ٣٨٧ ، المصنّف ٦ : ٢٢٨.

(٥) مجمع الزوائد ١ : ١٧٤.

٤٥٣

وفي مجمع الزوائد ، عن أبي الدرداء قال : جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله ، جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق. فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال عبد الله بن زيد الذي أري الأذان : أمسخ الله عقلك ، ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (١).

وفي كنز العمّال ، عن جبير بن نفير ، عن عمر قال : انطلقت في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديّاً يقول قولاً ، فأعجبني ، قلت : هل أنت مكتبي بما تقول؟ قال : نعم ، فأتيته بأديم ، فأخذ يملي عليّ (٢).

وفي الدرّ المنثور : أخرج عبد الرزاق ، والبيهقي ، عن أبي قلابة ، أنّ عمر بن الخطّاب مرّ برجل يقرأ كتاباً ، فاستمعه ساعة ، فاستحسنه ، فقال للرجل : اكتب لي من هذا الكتاب. قال : نعم ، فاشترى أديماً ، فهيّأه ، ثمّ جاء به إليه ، فنسخ له في ظهره وبطنه ، ثمّ أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجعل يقرؤه عليه ، وجعل وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلوّن ، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب وقال : ثكلتك أمّك يا ابن الخطّاب ، أما ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب! فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك : « إنّما بعثت فاتحاً وخاتماً ، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه ، واختصر لي الحديث اختصاراً ، فلا يهلكنّكم المتهوّكون » (٣).

وفي الدرّ المنثور : أخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وإسحاق بن راهويه في مسنده ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، أنّ عمر بن الخطّاب قال : إنّي كنت أغشى

__________________

(١) مجمع الزوائد ١ : ١٧٤.

(٢) كنز العمّال ١ : ٣٧٢.

(٣) الدرّ المنثور ٥ : ١٤٨.

٤٥٤

اليهود يوم دراستهم ، فقالوا : ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك ; لأنّك تأتينا (١).

وإنّني أستغرب من هذا الأمر كثيراً ، عمر لا يريد كتابة السنّة النبويّة ، بل قام بحرقها ، ومنع من الحديث بها ، ومنع من تدوينها ، وعاقب على ذلك وخالف أمر الله وأمر رسوله ، بينما كان حريصاً على فائدة المسلمين عن طريق تدوين ما عند اليهود من حكم وتعاليم وأشعار!!

وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى ، عن عبد الله بن العلاء قال : سألت القاسم يملي عليّ أحاديث ، فقال : إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطّاب ، فأنشد الناس أنْ يأتوه بها ، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها (٢).

وروى ذلك الخطيب البغدادي أيضاً (٣).

وروى في كنز العمّال ، عن ابن شهاب ، أنّ عمر بن الخطّاب كتب إلى أبي موسى الأشعري ، أنْ مر من قبلك يتعلّم العربية ، فإنّها تدلّ على صواب الكلام ، ومرهم برواية الشعر ، فإنّه يدلّ على معالي الأخلاق (٤).

روى الحاكم في مستدركه ، عن أبيه : أنّ عمر بن الخطّاب قال لابن مسعود ، ولأبي الدرداء ، ولأبي ذرّ : ما هذا الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحسبه حبسهم بالمدينة حتّى أصيب (٥).

وفي كنز العمّال عن محمّد بن إسحاق قال : أخبرني صالح بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه قال : والله ما مات عمر بن الخطّاب حتّى بعث إلى

__________________

(١) الدرّ المنثور ١ : ٩٠.

(٢) الطبقات الكبرى ٥ : ١٨٨.

(٣) اُنظر تقييد العلم للخطيب البغدادي : ٥٢.

(٤) كنز العمّال ١٠ : ٣٠٠.

(٥) المستدرك على الصحيحين ١ : ١١٠.

٤٥٥

أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فجمعهم من الآفاق ، عبد الله ابن حذافة ، وأبا الدرداء ، وأبا ذرّ ، وعقبة بن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآفاق؟ قالوا : أتنهانا؟ قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله ، لا تفارقوني ما عشت ، فنحن أعلم ، نأخذ ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتّى مات (١).

أخرج ابن سعد في الطبقات ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه قال : قال عمر بن الخطّاب لعبد الله بن مسعود ، ولأبي الدرداء ، ولأبي ذر : ما هذا الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ولم يدعهم يخرجون من المدينة حتّى مات (٢).

وفي كنز العمّال ، عن السائب بن يزيد قال : سمعت عمر بن الخطّاب يقول لأبي هريرة : لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أو لألحقنّك بأرض دوس. وقال لكعب : لتتركنّ الحديث ، أو لألحقنّك بأرض القردة (٣).

وروى في جامع بيان العلم وفضله ، عن ابن وهب قال : سمعت مالكاً يحدّث أنّ عمر بن الخطّاب أراد أنْ يكتب هذه الأحاديث ، أو كتبها ثمّ قال : لا كتاب مع كتاب الله (٤).

وروي جامع بيان العلم وفضله ، عن يحيى بن جعدة قال : أراد عمر أنْ يكتب السنّة ، ثمّ بدا له أنْ لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : من كان عنده شيء من ذلك فليمحه (٥).

لماذا يا عمر بن الخطّاب ، قلت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبنا كتاب الله ،

__________________

(١) كنز العمّال ١٠ : ٢٩٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٦.

(٣) كنز العمّال ١ : ٢٩١.

(٤) جامع بيان العلم ١ : ٦٤.

(٥) جامع بيان العلم ١ : ٦٥.

٤٥٦

دعوه فإنّه يهجر ، بينما كنت حريصاً على قراءة التوراة ، وكنت حريصاً على كتابة ما عند اليهود من تعاليم وحكم ، لفائدة المسلمين؟ أليس في سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكفاية ، أم أنّها لا تعجبك؟ ولم تكن تريد أنْ يعرفها أحد من المسلمين؟ هل كلامك هذا يعني أنّ الله تعالى قد أنزل إلينا ديناً ناقصاً!

هذه تساؤلات أترك لك عزيزي القارئ الإجابة عليها من خلال البحث والتقصّي عنها ، من خلال كتب أهل السنّة وصحاحهم وسيرهم.

والأنكى من ذلك ، لمّا حصل الفراغ عند المسلمين ، حيث مُنعوا في زمن عمر التحدّث بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابته ، وعوقبوا بالحبس أو النفي ، صار الناس يجهلون كثيراً من الأحكام ، وصارت السنّة النبويّة بعيدة عن حياتهم العمليّة ، ومن أجل ملئ ذلك الفراغ ، قام عمر بن الخطّاب بخطوة جريئة ، وهي فرض القصّاصين في المساجد ، ومن المعروف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حذر المسملين من أولئك القصّاصين. أقدّم لك بعضا من الروايات التي تدلّ على هذا المعنى :

روى السيوطي في الجامع الصغير قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « سيكون بعدي قصّاص ، لا ينظر الله إليهم » (١).

وروي في كنز العمّال ، عن عليّ أنّه دخل المسجد ، فإذا بصوت قاصّ ، فلمّا رآه سكت. قال عليّ : من هذا؟ قال القاصّ : أنا. فقال عليّ : اما إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : « سيكون بعدي قصاص لا ينظر الله إليهم » (٢)

وروى الطبراني ، عن خباب ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : « إنّ بني

__________________

(١) الجامع الصغير ٢ : ٦٤.

(٢) كنز العمّال ١٠ : ٢٨٢ ، عن أبي عمير بن فضالة في أماليه.

٤٥٧

إسرائيل لمّا هلكوا قصّوا » (١).

وبالرغم من هذا التحذير النبويّ من القصّاصين ، وبالرغم من الأحاديث النبويّة التي تأمر بحفظ الحديث النبويّ وتدوينه ورعايته ونقله ، قام عمر بن الخطّاب بمخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعد أنْ حرق السنّة ، ومنع من التحدّث بها ، وروايتها ، وعاقب على ذلك ، جاء بالقصّاصين وعيّنهم في المساجد ، حتّى يحدّثوا الناس ، وفرض لهم أيّاماً معيّنة.

روى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد قال : « إنّه لم يكن يقصّ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ولا أبي بكر ، وكان أوّل من قصّ تميم الداري. استأذن عمر أنْ يقصّ على الناس قائماً ، فأذن له ورواه ابن شبّة في تاريخ المدينة (٢).

ويحب أنْ يُعلم أنّ أولئك القصّاصين الذين عيّنهم عمر ، كانوا أحباراً ورهباناً قبل مجيئهم إلى المدينة المنوّرة ، من أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبّه ، وعبد الله بن سلام ، وتميم الداري ، وقد عيّن عمر بن الخطّاب لهم أيّاما في المسجد ، لكي يقصّوا على الناس قصصاً من الإسرائيليات.

في تاريخ المدينة : حدّثنا هارون بن معروف قال ، حدّثنا محمّد بن سلمة الحرّاني ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : خرج عمر إلى المسجد ، فرأى حلقاً في المسجد فقال : ما هؤلاء؟ فقالوا : قصّاص ، فقال : وما القصّاص؟ سنجمعهم على قاصّ يقصّ لهم في يوم سبت مرّة ، إلى مثلها من الآخر. فأمر تميم الداري (٣).

__________________

(١) المعجم الكبير ٤ : ٨٠.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٤٤٩ ، تاريخ المدينة ١ : ١٢.

(٣) تاريخ المدينة ١ : ١١.

٤٥٨

وبما أنّ هناك فراغ عند الناس ، وجهل بالسنّة النبويّة بسبب منع تدوين الحديث ، اختلطت تلك الإسرائيليات ، بما يعرفه الناس من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبواسطة كعب وابن منبّه وسواهما من اليهود ، الذين أسلموا ، تسرّبت إلى الحديث طائفة من أقاصيص الإسرائيليات ، وما لبثت هذه الروايات أنْ أصبحت جزءاً من الأخبار التاريخيّة والدينيّة ، حيث قرّب عمر هؤلاء الأشخاص وأدناهم من مجلسه ، وجعل لهم قيمة علميّة واجتماعيّة بين الناس ، بينما أقصى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، وأبا ذرّ ، والمقداد ، وسلمان ، وغيرهم ممّن منعهم من الحديث بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أنّ عمر كان يسأل أولئك الأحبار والرهبان عن كثير من أمور العقيدة والأحكام.

روي في كنز العمّال عن عمير بن سعد الأنصاري [ كان ولاه عمر حمص فذكر الحديث ] قال : قال عمر لكعب : إنّي أسألك عن أمر فلا تكتمني ، قال : لا والله ، لا أكتمك شيئاً أعلمه ، قال : ما أخوف شيء تخوفه على أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ قال : أئمّة مضلّين (١).

قال السيوطي في الدرّ المنثور : أخرج ابن مردويه ، عن عبد الرحمن بن ميمون ، أنّ كعباً دخل يوماً على عمر بن الخطّاب ، فقال له عمر : حدّثني إلى ما تنتهي شفاعة محمّد يوم القيامة؟ فقال كعب : قد أخبرك الله في القرآن ، إنّ الله يقول : ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) (٢) ، إلى قوله : ( الْيَقِينُ ). قال كعب : فيشفع يومئذ حتّى يبلغ من لم يصلّ صلاة قط ، ويطعم مسكينا قطّ ، ومن لم يؤمن ببعث قطّ ، فاذا بلغت هؤلاء ، لم يبقَ أحد فيه خير (٣).

وقال السيوطيّ في الدرّ المنثور : وأخرج ابن جرير ، عن أبي المخارق ،

__________________

(١) كنز العمّال ٥ : ٧٥٦ ، وأخرجه أحمد في المسند ١ : ٤٢.

(٢) المدّثر : ٤٢ ـ ٤٧.

(٣) الدرّ المنثور ٦ : ٢٨٥.

٤٥٩

زهير بن سالم ، قال : قال عمر لكعب : ما أوّل شيء ابتداءه الله من خلقه؟ فقال كعب : كتب الله كتاباً لم يكتبه بقلم ولا مداد ، ولكن كتب بإصبعه ، يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت : أنا الله ، لا إله إلاّ أنا ، سبقت رحمتي غضبي (١).

وقال السيوطيّ في الدرّ المنثور : وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، أنّ عمر قال لكعب : ما عدن؟ قال : هو قصر في الجنّة ، لا يدخله إلا نبيّ ، أو صدّيق ، أو شهيد ، أو حَكم عدل (٢).

وفي كنز العمّال ، عن أبي إدريس قال : قدم علينا عمر بن الخطّاب الشام فقال : إنّي أريد أنْ آتي العراق ، فقال له كعب الأحبار : أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك! قال : وما تكره من ذلك؟ قال : بها تسعة أعشار الشرّ ، وكلّ داء عضال ، وعصاة الجنّ ، وهاروت وماروت ، وبها باض إبليس وفرخ (٣).

قد ذكرت لك عزيزي القارئ بعضاً من الروايات ، والتي تبيّن كيف كان عمر يتتلمذ على أيدي أولئك الأحبار كان يستطيع أنْ يعلم شيئا من الأشياء التي لم يعرفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه كان مشغولا بالصفق بالأسواق ، كما روى البخاري : فقال عمر : أخفى هذا عليّ من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ألهاني الصفق بالأسواق (٤). كان يستطع أنْ يعرف ذلك لو توجّه إلى أمير المؤمنين باب مدينة العلم سلام الله عليه ، ليسأله عن أيّ شيء يجهل حكمه ، لا أنْ يتوجه إلى أولئك الأحبار ، الذين يخلطون في الدين والسنّة ما ليس منهما فكانت النتيجة أنْ أدخل عمر على المسلمين أفكاراً جديدة ، كالقدريّة ، والمرجئة ، وغيرها من المعتقدات التي ما انزل الله بها من سلطان ، ومع أنّه كان واضحاً عند الصحابة كذّب أولئك

__________________

(١) المصدر نفسه ٣ : ٦.

(٢) المصدر نفسه ٤ : ٥٧.

(٣) كنز العمّال ١٤ : ١٧٣.

(٤) صحيح البخاري ٣ : ٧.

٤٦٠