سبيل المستبصرين

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني

سبيل المستبصرين

المؤلف:

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-41-6
الصفحات: ٦٠٠

ما أنزل الله : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا ) (١) ، فقال : اللّهم غفرانك ، كلّ الناس أفقه من عمر. ثمّ رجع فركب المنبر فقال : يا أيّها الناس ، إنّي كنت نهيتكم أنْ تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم ، فمن شاء أنْ يعطي من ماله ما أحبّ (٢).

عمر يبرّر جهله بالتهديد بالعصا :

قال السيوطي في الدرّ المنثور : وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والخطيب ، والحاكم وصحّحه ، عن أنس ، أنّ عمر قرأ على المنبر : ( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا ) إلى قوله : ( وَأَبًّا ) (٣) قال : كلّ هذا قد عرفناه ، فما الأبّ؟ ثمّ رفع عصاً كانت في يده ، فقال : هذا لعمر الله هو التكلّف ، فما عليك أنْ لا تدري ما الأب ، اتّبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه (٤).

مواقف لعثمان :

فمن ذلك أنّه ولي أمور المسلمين من لا يصلح لذلك ، ولا يؤتمن عليه ، ومن ظهر منه الفسق والفساد ومن لا علم له مراعاة لحرمة القرابة ، وعدولاً عن مراعاة حرمة الدين والنظر للمسلمين ، حتّى ظهر ذلك منه وتكرّر ، فمّمن ولاه الوليد بن عقبة ، فتظاهر بشرب الخمر والفسوق وهو الذي نزل فيه قوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ ) (٥) قال القرطبي قوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ ) أي : ليس المؤمن كالفاسق ; فلهذا آتينا هؤلاء المؤمنين الثواب العظيم. قال ابن عبّاس وعطاء بن يسار : نزلت الآية في عليّ بن أبي طالب ،

__________________

(١) النساء : ٢٠.

(٢) الدرّ المنثور ٢ : ١٣٣.

(٣) عبس : ٢٧ ـ ٣١.

(٤) الدرّ المنثور ٦ : ٣١٧.

(٥) السجدة : ١٨.

٤٨١

والوليد بن عقبة بن أبي معيط ; وذلك أنّهما تلاحيا فقال له الوليد : أنا أبسط منك لساناً ، وأحدّ سناناً ، وأردّ للكتيبة ـ وروي وأملأ في الكتيبة ـ جسداً. فقال له عليّ : اسكت! فإنّك فاسق ; فنزلت الآية (١).

فقد روى الواقدي أنّ عثمان قال : إنّ أبا بكر وعمر كانا يناولان من هذا المال ذوي أرحامهما ، وإنّي ناولتُ منه صلة رحمي (٢).

وروى أيضاً أنّه بعث إليه أبو موسى الأشعري ، بمال عظيم من البصرة فقسّمه عثمان بين ولده وأهله بالصحاف (٣).

وروى الواقدي أيضاً قال : قدّمت أبل من أبل الصدقة إلى عثمان ، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص ، وولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف ، فوهبها له. فأنكر الناس على عثمان إعطائه سعد بن العاص مائة ألف (٤).

عزيزي القارئ ، لقد ذكرت لك نبذاً قصيرة ومختصرة عن عدم علم أولئك بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأبيّن لك حقيقة أمرهم وأحد أسباب حرقهم السنّة ، ولذلك كان المخرج لهم من ذلك الوضع الذي يبيّن حقيقة أولئك ، أنّه لابدّ من إبعاد السنّة من واقع الحياة ، وبدلاً من ذلك إدخال الاجتهاد بالرأي والقياس وغير ذلك من الأحكام التي كان منبعها النفس أو الهوى ، وسأذكر لك بعض التفصيلات لترى كيف أنّهم غيّروا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برأيهم وهواهم ، في بحث الانقلاب والتغيير بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فراجعه في مكانه.

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٤ : ١٠٥.

(٢) اُنظر نهج الحقّ وكشف الصدق : ٢٩٣.

(٣) اُنظر نهج الحقّ وكشف الصدق : ٢٩٤.

(٤) اُنظر نهج الحقّ وكشف الصدق : ٢٩٤.

٤٨٢

وأمّا السبب الثالث : فهو طمس وحرق فضائل أهل البيت النبويّ الشريف ، وإخفاء كلّ ما يتعلّق بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ; لأنّه وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخليفته من بعده. وهذا أمر خطير جدّاً ، فيه كشفٌ لمؤامرة أصحاب السقيفة ، وفيه نزع لشرعيّة الخليفة الأوّل والثاني والثالث ، ولأنّ إظهار تلك الفضائل يفضحهم ويزعزع عروشهم ; قاموا بحرق السنّة النبويّة ، ومعاقبة كلّ من يحاول تطبيق أمر الله ورسوله في ولاية أهل البيت سلام الله عليهم حتّى يفسح لهم المجال وحتّى يعطوا شرعيّة لبيعتهم ، ويخفوا اغتصابهم للخلافة وحقّ أمير المؤمنين عليه‌السلام فيها.

وحتّى لا يتمرد عليهم أحد ; قاموا بانتزاع حقوق أهل البيت عليهم‌السلام ، ومحاصرتهم اجتماعيّاً وسياسياًواقتصاديّاً ، وابتدأوا بهم حتّى لا يجرؤ من هو أدنى منهم منزلة على أنْ يتفوّه بكلمة واحدة فيها ذكر فضيلة لأهل البيت ; خوفاً من العقاب.

أمّا كيف حاصروا أهل البيت سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً ، وأهانوهم وآذوهم ، فهنالك تفاصيل عن هذا الموضوع في بحث اغتيال الزهراء عليها‌السلام.

المهم أنّهم في حرقهم للسنّة ، ومنع تدوينها ، ومنع التحدّث بها ، قد أخفوا ذكر فضائل أهل البيت النبويّ ، وبالذات فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، والأحاديث التي تعلن صراحة ولاية أمير المؤمنين وحقّه بالخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكنّ الله يأبى إلا أنْ يتمّ نوره ، فقد كان أكثر من خمسين صحابيّاً من شيعة عليّ عليه‌السلام يعرفون فضائل أمير المؤمنين ومنازله ، نقلوها لنا جيلا بعد جيل حتّى من خلال كتب اهل السنّة وصحاحهم ; لأن الله سبحانه كما أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ، لابدّ وأنْ يحفظ الدين والعقيدة ، ويهيّئ من يستطيع حمل تلك الأمانة

٤٨٣

بشرف وصدق وإخلاص.

وأمّا السبب الرابع لحرق السنّة النبويّة واغتيالها : فهو طمس وإخفاء ما كتبه أمير المؤمنين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحيفة العلويّة ، والتي كانت بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ أمير المؤمنين عليّ ، وكانت تحتوي على كلّ الأحكام الشرعيّة ، وعلى كلّ ما يجهله الخلفاء من أمور الدين وأحكام الشريعة ، ولابدّ أيضاً أنّه كان من ضمن محتوياتها ما يخيف الخلفاء ويقضّ مضاجعهم.

وعلى ذلك ، فللأسباب التي ذكرتها ، وربّما كان هناك أسباب أخرى لا يعلمها إلا الله ، قاموا بحرق السنّة ، ومنع تدوينها ، ومنع التحدّث بها ، وبذلك ضاع الحكم في وقت مبكّر ، وانتهى الضياع بالمسلمين إلى تضييع الكثير من أحكام الصلاة.

روى الحاكم في المستدرك عن ابن عمر قال : كنت في الحطيم مع حذيفة ، فذكر حديثاً ثمّ قال : لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، وليكوننّ أئمّة مضلّون ، وليخرجنّ على إثر ذلك الدجّالون الثلاثة. قلت : يا أبا عبد الله ، قد سمعت هذا الذي تقول من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال : نعم سمعته (١).

وروى ابن حبّان في صحيحه ، عن أبي إمامة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لتنقضنّ عرى الإسلام عروة عروة ، فكلمّا انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها ، فأولهنّ نقضاً الحكم ، وآخرهنّ الصلاة (٢).

وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد انتزع الحكم من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه ، وهوجم بيت السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وتولّى الحكم من ليس أهله ، وأحرقت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتغيّرت الكثير من الأحكام ،

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٤ : ٥٢٨.

(٢) صحيح ابن حبّان ١٥ : ١١١.

٤٨٤

واختلطت الأحكام وظهر الخلاف بين المسلمين حتّى أنّ هناك العشرات من الأحكام قد اختلف فيها بين فترة أبو بكر وعمر ، كحكم الطلاق بالثلاث ، أو بالواحدة ، وحكم المؤلّفة قلوبهم ، وحكم الجلد ، وعشرات من الأحكام اختلفوا فيها ، مع أنّهم كانوا قريبي العهد من حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن بين الاثنين أيّ داع للخلاف إلا الأسباب التي ذكرتها.

ثمّ جاء عصر معاوية بن أبي سفيان :

الذي اتّخذ من سياسة الخلفاء الثلاثة أرضيّة واسعة للانطلاق نحو مخطّط خطير ; لتغيير كامل شامل في السنّة النبويّة ، وإحلال ما يريده معاوية ومن معه بدلاً منها ، وقد كنت قد ذكرت لك عزيزي القارئ في غير موضع من هذا الكتاب كيف حذّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فترة حكم الأمويين وبني الحكم ، وكيف رآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منامه ينزون نزو القردة على منبره الشريف ، وذكرت لك كيف لعنهم ، وحذّر منهم ومن متابعتهم.

قال السيوطي في الدرّ المنثور : وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه ، في قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا ) (١) ، قال : هما الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أميّة. فأمّا بنو المغيرة ، فكفيتموهم يوم بدر. وأمّا بنو أميّة ، فمتّعوا إلى حين (٢).

وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عبّاس رض الله عنهما ، أنّه قال لعمر رضي‌الله‌عنه : يا أمير المؤمنين ، هذه الآية : ( الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا ) ، قال : هم الأفجران من قريش : أخوالي وأعمامك. فأمّا أخوالي ، فاستأصلهم الله يوم بدر. وأمّا

__________________

(١) إبراهيم : ٢٨.

(٢) الدرّ المنثور ٤ : ٨٤.

٤٨٥

أعمامك ، فأملى الله لهم إلى حين (١).

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والحاكم وصحّحه ، من طريق ، عن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا ) ، قال : هما الأفجران من قريش ، بنو أميّة وبنو المغيرة. فامّا بنو المغيرة ، فقطع الله دابرهم يوم بدر. وأمّا بنو أميّة ، فمتّعوا إلى حين.

فأوّل ما بدأ به معاوية هو أنْ أمر بسبّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه على المنابر ، وبقيت هذه السنّة أكثر من نصف قرن من الزمان ، حتّى شاب عليها الصغير ، وهرم عليها الكبير ، مع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نهى وحذّر المسلمين من سبّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

روى الحاكم في مستدركه ، حدّثنا أبو جعفر ، أحمد بن عبيد الحافظ ، بهمدان ، ثنا أحمد بن موسى بن إسحاق التيميّ ، ثنا جندل بن والق ، ثنا بكير بن عثمان البجليّ قال : سمعت أبا إسحاق التميمي يقول : سمعت أبا عبد الله الجدليّ يقول : ثمّ حججت وأنا غلام ، فمررت بالمدينة ، وإذا الناس عنق واحد ، فاتبعتهم ، فدخلوا على أمّ سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فسمعتها تقول : يا شبيب بن ربعي ، فأجابها رجل جلف جاف : لبيك يا أمّتاه. قالت : يسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ناديكم؟ قال : وأنّى ذلك؟ قالت : فعليّ بن أبي طالب؟ قال : إنّا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا. قالت : فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : « من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله » (٢).

وعن ابن عبّاس قال أشهد بالله ، لسمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

__________________

(١) المصدر نفسه ٤ : ٨٤.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢١.

٤٨٦

يقول : « من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله أدخله الله عزّ وجلّ نار جهنم وأكبّه الله على منخريه » (١).

وقد ضمّ معاوية إلى حاشيته عدداً من الصحابة المنافقين ; للحديث إلى الناس بما يريد ، على أنّه من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كما وشجّع على وضع الحديث ، وكان يعطي الجوائز على كلّ من يضع حديثاً في فضل عثمان ، أو عمر ، أو أبي بكر. وبالتالي كانت سياسته مع السنّة وضع الأحاديث على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تلك الأحاديث تصنع فضائل لمن لم يذكر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضائل ، وأيضاً تحويل الكثير من المؤامرات التي حصلت في عصر الخلافة الأول ، وكثير من الحوادث الفاضحة ، من مثالب إلى فضائل ; باستخدام مهارة جهاز خصّصه لوضع الحديث.

وبالتالي تظهر فضائل لأناس لم يستحقّوها بمستوى فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وأيضاً منُعٌ من الحديث في كلّ ما يتعلّق بأهل البيت ، فمنعَ ذلك وعاقب عليه أشدّ العقاب ، وبسبب ذلك ; عانى شيعة أهل البيت في تلك الفترة معاناة شديدة من قتل وتشريد وحرق للأشخاص وللبيوت وكلّ ما يخطر على بالك من أنواع العذاب ، في المقابل أغدق الكثير من المال على من كان في صفّه ، ويضع الحديث لمصلحته ولمصلحة دنياه الفانية ، كلّ ذلك أدّى إلى مزيد من الضياع لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند اهل السنّة والجماعة ، فهكذا سمّاهم معاوية ، وأطلق عليهم هذا الاسم ، فهم أهل سنّة سبّ عليّ بن أبي طالب. والجماعة التي اتّفقت على أنْ لا تجتمع تحت ولاية أهل البيت سلام الله عليهم.

وإليك عزيزي القارئ نصّاً لما أرسل معاوية إلى الأمصار والولايات الإسلامية من أجل تطبيع سياسته في الإجهاز على السنّة النبويّة والقضاء عليها.

__________________

(١) ذخائر العقبى : ٦٦.

٤٨٧

وكانت دواعي وضع الحديث في عهد معاوية وحكومة الأمويين التي دامت أكثر من ثمانين عامّاً ، أشدّ من عهد الخلفاء قبله ، وخاصّة في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة من حكمه. وكلّما مرّ الزمان ، كانت رغبة المسلمين تجاه أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعرفة مقامه وأهميّة شأنه تزداد شيئا فشيئاً ، وكانوا مولعين بسماع الأحاديث الصحيحة وروايتها ، وهذا ما لا شكّ فيه كان يضرّ بكيان معاوية وموقعه في المجتمع أكثر ممّا يتصور ; ولذلك بادر معاوية إلى أنْ يتدارك المشكلة ، ويشيّد الحكم الأمويّ ويقوّيه ، فعمد إلى اختلاق وجعل الأحاديث التي تنفع بحاله ، وتقوّى سياسته ، وتوضع بديلة عن الأحاديث الصحيحة ، وتنشر في المجتمع ، وتروى للناس. ومن هنا اكتسحت المجتمع مفترياته ، وقرئت على الناس مختلقاته ، وحقّق معاوية بمكره ودهائه المعروف ما أراده على كلا الصعيدين ; وذلك عبر جهتين : فهو من جهة أعلن على المنبر عن منع كلّ حديث لم يسمع به في عهد عمر ، ومن جهة أخرى عبّأ الوضّاعين ، وأكرم كلّ من يروي حديثا في فضائل عثمان وأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المناوئون لعليّ وأكرمهم بالعطايا الجزيلة والهدايا الثمينة ، وحثّهم على جعل الحديث ونقل الأكاذيب. فكتب أبو الحسن المدائني في كتابة الأحاديث وثيقة تاريخيّة مهمّة تحتوي على بيان حقائق حول كيفيّة منع الحديث ، وجعل الأحاديث المفترية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد معاوية.

وننقل للقارئ مقتطفات من كلام المدائني ، الذي نقله عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ; لما فيه الكفاية عن نقل سائر الشواهد الأخرى ، وتجنّبا عن الإطناب والإطالة.

قال المدائني : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أنْ برئت الذّمة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب [ يعني الإمام عليّ ] وأهل بيته. فقام الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي

٤٨٨

أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاءاً حينئذ أهل الكوفة ; لكثرة من بها من شيعة عليّ عليه‌السلام فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضمّ إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ; لأنّه كان منهم أيام عليّ عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل الأعين ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبقَ بها معروف منهم.

وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق : أنْ لا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم أنْ اُنظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه وأهل ولايته والذين يروون فضله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته. ففعلوا ذلك حتّى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، ونتافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجئ أحد من الناس عاملاً من عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلا كتب اسمه وقربّه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً.

ثمّ كتب معاوية إلى عماله : أنّ الحديث في عثمان قد كثر ، وفشا في كلّ مصر ، وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة ، والخلفاء الأوّلين ، ولاتتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبّ إليّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضائله.

فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة ولا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشاروا بذلك على المنابر ، وألقى إلى معلمي الكتاتيب ، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتّى رووه وتعلّموه كما يتعلمون القرآن ، وحتّى علّموا بناتهم ونساءهم

٤٨٩

وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : اُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ عليّاً وأهل بيته فامحوه من الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه. وشفّع ذلك بنسخة أخرى : من اتّهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، نكّلوا به ، واهدموا داره ، فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيما الكوفة ، حتّى أنّ الرجل من شيعة عليّ عليه‌السلام ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الإيمان الغليظة ; ليكتمنّ عليه ، فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ; ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقرّبوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولا تديّنوا بها (١).

هذا الوضع الخطير الذي أراده معاوية ومن والاه من المنافقين من الصحابة استنكره عددٌ كبير من الصحابة المنتجبين ، الذين أوفوا بعهدهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا محمّد بن أبي بكر ـ أرسل إلى معاوية قائلا : من محمّد بن أبي بكر ، إلى الغاوي ابن صخر ، سلام على أهل طاعة الله ممّن هو مسلم لأهل ولاية الله. أمّا بعد :

فإنّ الله بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته ، خلق خلقاً بلا عبث ولا ضعف في قوّته ، لا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنّه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم شقيّاً وسعيداً ، وغويّاً ورشيداً ، ثمّ اختارهم على علمه ، فاصطفى وانتخب فيهم محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فاختصّه برسالته ، واختاره لوحيه ، وأتمنه على أمره ، وبعثه رسولا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ٤٤ ـ ٤٦.

٤٩٠

مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أوّل من أجاب وأناب ، وصدق ووافق ، فأسلم وسلّم ، أخوه وابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فصدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كلّ حميم ، فوقاه كلّ هول ، وواساه بنفسه في كلّ خوف ، فحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل ، ومقامات الروع ، حتّى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو السابق المبرز في كلّ خير ، أوّل الناس إسلاماً ، وأصدق الناس نيّة ، وأطيب الناس ذريّة ، وأفضل الناس زوجة ، وخير الناس ابن عمّ. وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لدين الله الغوائل ، وتجهدان على إطفاء نور الله ، وتجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتحالفان في ذلك القبائل ، على هذا مات أبوك ، وعلى ذلك خلّفته ، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ، رؤوس النفاق والشقاق لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشاهد لعليّ مع فضله وسابقته القديمة ، أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن ، ففضّلهم وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار ، فهم معه كتائب وعصائب ، يجالدون بأسيافهم ، ويهريقون دماءهم دونه ، يرون الفضل في اتّباعه ، والشقاق والعصيان في خلافه ، فكيف ـ يا لك الويل ـ تعدل نفسك بعليّ ، وهو وارث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيّه وأبو ولده ، وأوّل الناس له اتّباعا ، وآخرهم به عهداً ، يخبره بسرّه ، ويشركه في أمره ...

فردّ عليه معاوية برسالة هذا نصّها :

من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر ، سلام على أهل طاعة الله ، أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك ، تذكر فيه ما الله أهلّه في قدرته وسلطانه وما أصفى به نبيّه ، مع كلام ألّفته ووضعته ، لرأيك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف.

ذكرت حقّ ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه وقرابته من نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونصرته

٤٩١

له ومواساته إيّاه في كلّ خوف وهول ، واحتجاجك عليّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك.

فأحمد إلهاً صرف الفضل عنك ، وجعله لغيرك فقد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نرى حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا ، وفضله مبرزاً علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجّته ، قبضه الله إليه ، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه وخالفه ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، فبايع وسلّم لهما ، يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرّهما ، حتّى قبضا وانقضى أمرهما. ثمّ قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفّان ، يهتدي بهديهما (١) ... ـ إلى آخر الكتاب ـ. أوردنا جواب معاوية لما فيه من الاعتراف بما ذكره محمّد بن أبي بكر. وأورد تمام الكتابين نصر بن مزاحم من كتابه وقعة صفّين (٢) ، والمسعودي في مروج الذهب (٣) ، وأشار إليهما الطبريّ ، وابن الأثير ، في ذكرهما حوادث سنة ست وثلاثين هجريّة (٤).

وكان من نتائج كلّ الفترة الزمنية من بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتّى عصر الأمويين ثمّ العباسيين أنْ ازداد وضع الحديث ، وازداد عدد الواضعين ، ودخلت الكثير من الإسرائيليات والحديث بما تريده السلطات والفئات الحاكمة.

في هذه الأثناء لم ينقطع أهل البيت وأبناؤهم عن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأنّهم لم ينقطعوا عن أئمّتهم سلام الله تعالى عليهم : أولئك الأئمّة من أهل البيت الذين هم أدرى بما فيه ، فقد كانوا دائما يحدّثون عن آبائهم وأجدادهم عن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ : ١٨٨ ـ ١٩٠.

(٢) وقعة صفّين : ١١٨ ـ ١٢٠.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٠ ـ ٢٣.

(٤) تاريخ الطبري ٣ : ٥٧٧ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٧٣.

٤٩٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ حديثهم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا فإنّ سند رواياتهم يسمّى عند أهل السنّة بسند السلسلة الذهبيّة ; لأنّ كلّ رواتها من الأئمّة الصادقين ، سلام الله عليهم ، الذين لم يستطع أحد أنْ يطعن في دينهم وتقواهم وصدقهم وإخلاصهم ، ولذلك لم ينقطع الشيعة عن حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عن سنّته ولو للحظة واحدة ، وظلّت صلتهم وثيقة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محافظين على تعاليمه وسننه دون تغيير أو تبديل أو تحريف ، وظلّوا يتداولون ما ورثوا من العلم الذي أكرمهم الله به ، وورثوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبقي الدين محفوظاً عندهم ، وقواعده وأصوله ثابتة لم تتغيّر.

٤٩٣

قوانين اعتماد الحديث عند أهل السنّة

بدأ تدوين الحديث عند أهل السنّة في القرن الثاني الهجري بعد فترة انقطاع وجهل بمحتوياتها ، وفقدان أغلب موضوعاتها ، وقد فرضت السلطات الحاكمة في ذلك الوقت قوانين وأحكام ، وأوجدت عرفاً معيّنا في أخذ الحديث أو ردّه ; ولذلك قيّد تدوين الحديث عند أهل السنّة بما يتوافق مع مصالح السلطة الحاكمة والفئات المتنفّذة.

وضغط الحكام على مدوّني الحديث ; من أجل منع الحديث عن أهل بيت العصمة والنبوّة ، فمن كان كتابه يتماشى مع الأوامر التي هي في مصلحة الحكومة ، صار من الكتب المعتمدة والصحيحة عندهم ، وما خالف ذلك ، تركوه وأهملوه ; ولذلك لو نظرت إلى صحاح أهل السنّة ومسانيدهم خصوصا في صحيح البخاري ، ومسلم ، فإنّك قلّما تجدهم يعتمدون الرواية عن أهل البيت سلام الله تعالى عليهم ، أو عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، فلا نجد في كتاب البخاري مثلاً إلا حوالي عشرة إلى خمسة عشر حديثا يرويها أمير المؤمنين ، وأغلب الظنّ عندي أنّ أغلبها موضوع للطعن على أهل البيت ، بينما تجد أبا هريرة تتجاوز أحاديثه الستمائة في ذلك الكتاب ، مع أنّه لم يدرك من حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى سنتين فقط ، أيضاً الصحابة الذين أوفوا بعهدهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع وصيّه كذلك لن تجدهم من الرواة المعتمدين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند المدوّنين للسنّة النبويّة ، بينما تجدهم بالمقابل يعتمدون الرواية عن الصحابة الذين ما لؤوا ونافقوا السلطة الحاكمة ،

٤٩٤

وكانوا على موقف المبغض لأهل البيت سلام الله تعالى عليهم ; ولذلك نجد في صحيح البخاري روايات متعدّدة عن مروان بن الحكم ، وعن أبي سفيان مثلا ، وغيرهم ممّن هم على شاكلتهم.

ودونك كتب أهل السنّة فراجعها وتمعّن بها جيّداً ، فإنّك سوف تجد في قولي لك صدقاً وعدلاً.

وأودّ أنْ أذكر لك عزيزي القارئ بعض الأمثلة عن ما ذكرت لك في كيفية اعتماد الرواة للحديث ، وعن كيفيّة قبول الراوي لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ردّه.

فلقد روي أنّ النسائي عندما دوّن سننه دوّن مجلداً خاصّاً عن خصائص أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وبسبب هذه الجريمة الكبرى عندهم ; نفوه وسجنوه ثمّ قتلوه ضرباً ; ممّا أدّى إلى وفاته ، وحتّى اليوم إذا أردت الذهاب إلى أيّ مكتبة لشراء نسخة من سنن النسائي ، فإنّك سوف تجد كتاب الخصائص من سننه مفصولاً عنها.

ذكر الروايات المتعلّقة بالنسائي :

جاء في فيض القدير : وقد سلك النسائي أغمض تلك المسالك وأجلّها ، وكان شهماً ... ، دخل دمشق فذكر فضائل عليّ رضي‌الله‌عنه ، فقيل له : فمعاوية. فقال : ما كفاه أنْ يذهب رأساً برأس حتّى نذكر له فضائل. فدُفع في خصيتيه حتّى أشرف على الموت ، فأخرج فمات بالرملة ، أو فلسطين ، سنة ثلاث وثلاثمائة ، وحمل للمقدس أو مكّة ، فدفن بين الصفا والمروة (١).

قال ابن كثير في البداية والنهاية : ...

وحكى ابن خلّكان أنّه توفي في شعبان من هذه السنّة ، وأنّه إنّما صنّف

__________________

(١) فيض القدير ١ : ٣٣.

٤٩٥

الخصائص في فضل عليّ وأهل البيت ; لأنّه رأى أهل دمشق حين قدمها في سنة اثنتين وثلاثمائة عندهم نفرة من عليّ ، وسألوه عن معاوية فقال ما قال ، فدقّوه في خصيتيه فمات (١).

وأيضاً صحيح الحاكم المسمّى بالمستدرك على الصحيحين فإنّك تجدهم يحاولون التقليل من شأنه ومن صحّته ، والسبب أنّه روى الكثير من فضائل أهل البيت ، وخصائصهم.

جاء في سير أعلام النبلاء : قال ابن طاهر : سألت سعد بن عليّ الحافظ عن أربعة تعاصروا : أيّهم أحفظ؟ قال : من؟ قلت : الدارقطني ، وعبد الغني ، وابن مندة ، والحاكم. فقال : أمّا الدارقطني فأعلمهم بالعلل ، وأمّا عبد الغني فأعلمهم بالأنساب ، وأمّا ابن مندة فأكثرهم حديثا مع معرفة تامّة ، وأمّا الحاكم فأحسنهم تصنيفا.

أنبأني أحمد بن سلامة عن محمّد بن إسماعيل الطرسوسي ، عن ابن طاهر : أنّه سأل أبا إسماعيل ، عبد الله بن محمّد الهروي ، عن أبي عبد الله الحاكم ، فقال : ثقة في الحديث ، رافضيّ خبيث.

قلت : كلا ، ليس هو رافضياً ، بلى يتشيّع (٢).

وجاء في المغني في الضعفاء : محمّد بن عبد الله الحاكم النيسابوري ، إمام صدوق ، لكنّه يتشيّع ويصحّح واهيات (٣).

ثمّ لاحظ ذلك الراوي والذي كان يتحدّث على المنبر بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمدّة خمس سنوات ، واستمع له الآلاف من الناس لكنه حين روى حديث الطير ، الذي يُظهر منزلة وفضل أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، ضربوه وطردوه من

__________________

(١) البداية والنهاية ١١ : ١٤١.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٧ : ١٧٤.

(٣) المغني في الضعفاء ٢ : ٦٠.

٤٩٦

المسجد ، ومنعوه من الرواية ، ثمّ إنّهم قاموا بغسل المنبر الذي كان يحدّث الناس عليه ، ليزيلوا نجاسته على حسب ما يدّعون. وإليك الرواية :

قال الذهبيّ في سير أعلام النبلاء : قال عليّ بن محمّد الطيب الجلابي في ( تاريخ واسط ) : ابن السّقا من أئمة الواسطيين الحفّاظ المتقنين ، قال السلفي سألت خميس الحوزي عن ابن السقا ، فقال : هو من مزينة مضر ، ولم يكن سقّاء ، بل هو لقب له ، كان من وجوه الواسطيين ، وذوي الثروة والحفظ ، رحل به أبوه ، وأسمعه من أبي خليفة ، وأبي يعلى ، وابن زيدان البجلي ، والمفضل الجندي وجماعة ، وبارك الله في سنه وعلمه ، واتفق أنّه أملى حديث الطائر ، فلم تحتمله أنفسهم فوثبوا به ، وأقاموه ، وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته لا يحدّث أحداً من الواسطيين ، ولهذا قل حديثه عندهم (١).

جاء في البداية والنهاية : وقتلت العامّة وسط الجامع شيخاً رافضيّاً كان مصانعاً للتتار على أموال الناس يقال له : الفخر ، محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي ، كان خبيث الطويّة ، مشرقيّاً ممالئاً لهم على أموال المسلمين ، قبّحه الله. وقتلوا جماعة مثله من المنافقين ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله ربّ العالمين (٢).

ومن المعلوم أنّ الكنجيّ من أكابر علماء أهل السنّة ولكنه ألف كتاب سماه كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، قتله أهل السنّة بسبب هذا الكتاب سنة ٦٥٨ هجريّة.

وهناك قضيّة أخرى ، ذكرت لك لمحة بسيطة عنها خلال هذا البحث ، وهو أنّه كلّما كان الراوي مبغضا لعليّ عليه‌السلام ، كانت الثقة به أكثر ، وكلّما كان أكثر التصاقا

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٦ : ٣٥٢.

(٢) البداية والنهاية ١٣١ : ٢٥٦.

٤٩٧

بالسلطة الحاكمة من الأمويين والعباسيين ، كانوا يعتبرونه ثقة ، ولو لم يكن ذا مستوى من التقوى والصدق والدين.

جاء في الآحاد والمثاني : ورواه مجالد بن سعيد ، عن قيس ، عن أبي بكر ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، وإسماعيل بن أبي خالد من أثبت أهل الكوفة ، واسم أبي خالد هرمز ، وقيس ثقة من أحسنهم لقياً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وكان عثمانياً (١). ومقصودهم من العثماني ، أي من كان يقدّم عثمان على عليّ عليه‌السلام.

جاء في فتح الباري : وكان أبو عبد الرحمن عثمانياً ، أي يفضّل عثمان على عليّ (٢) ...

جاء في التاريخ الكبير : عن معاوية بن صالح قال : وكان وكيع يقول : التسبيح أفضل من الحديث. قال : فكرهت أنْ أقول لشعيب ووكيع ، ووكيع أنفع للناس منك ، وكان أصلب مذهباً من وكيع كان عثمانيّاً (٣).

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : مغيرة بن مقسم ، الفقيه ، الحافظ ، أبو هشام الضبيّ ، مولاهم الكوفيّ ، الأعمى ولد أعمى ، وكان عجباً في الذكاء ، حدّث عن أبي وائل ، والشعبي ، وإبراهيم النخعيّ ، ومجاهد ، وعدّة ، وعنه شعبة ، والثوري ، وزائدة ، وإسرائيل ، وأبو عوانة ، وجرير ، وابن فضيل ، وهشيم ، وخلق. قال شعبة : كان أحفظ من حمّاد بن أبي سليمان. وروى جرير عن مغيرة قال : ما وقع في مسامعي شيء فنسيته ، وقال : ذكيٌّ حافظ صاحب سنّة. وقال أحمد العجلي : ثقة يرسل عن إبراهيم ، فإذا وقف ممّن سمعه يخبرهم ، وكان من فقهاء أصحاب إبراهيم ، وكان

__________________

(١) الآحاد والمثاني ١ : ٩٤.

(٢) فتح الباري ١٢ : ٢٧١.

(٣) التاريخ الكبير ٤ : ٢٢٣.

٤٩٨

عثمانيّاً ، ويحمل على عليّ بعض الحمل (١).

وقال في سير أعلام النبلاء : قال أحمد العجليّ : كان أبو حصين شيخاً عالياً ... وقال في موضع آخر : كان ثقة عثمانياً رجلا صالحاً ثبتاً في الحديث (٢).

وقال : قال ابن سعد : كان ابن عون ثقة كثير الحديث ورعاً عثمانيّاً (٣).

وقال : قال محمّد بن سعد : حمّاد بن زيد يُكنى أبا إسماعيل ، وكان عثمانيا ، وكان ثقة ثبتاً حجّة ، كثير الحديث (٤).

وجاء في سير أعلام النبلاء ، عن بشر بن المفضل : قال أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وأبو عبد الرحمن النسائي : هو ثقة. وقال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث ، وكان عثمانيّاً (٥).

وفي معرفة الثقات : طلحة بن مصرف اليامي ، كوفيّ تابعي ثقة ، وكان يحرّم النبيذ ، كان عثمانيّاً ، يفضّل عثمان على عليّ ، وكان من أقرأ أهل الكوفة وخيارهم (٦).

وفي معرفة الثقات : عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي ، ثقة ثبت ، صاحب سنّة ، زاهد صالح ، وكان عثمانيّاً يحرّم النبيذ (٧).

وأيضاً : عبد الله بن أبي الهذيل ، كوفيّ تابعي ثقة ، وكان عثمانيّاً (٨).

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١ : ١٤٣.

(٢) سير أعلام النبلاء ٥ : ٤١٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٦٥.

(٤) سير أعلام النبلاء ٧ : ٤٦٤.

(٥) سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٧.

(٦) معرفة الثقات ١ : ٤٧٩.

(٧) معرفة الثقات ٢ : ٢١.

(٨) المصدر نفسه ٢ : ٦٥.

٤٩٩

وأيضاً : عثمان بن عاصم ، أبو حصين الأسدي ، كوفيّ ثقة ، وكان عثمانيّاً رجلاً صالحاً (١).

وأيضاً : محمّد بن عبيد الطنافسي روى عنه في الثقات ... وقال : كوفيّ ثقة ، وكان عثمانيّاً ، وكان حديثه أربعة آلاف يحفظها (٢).

وفي تهذيب التهذيب : خالد بن خداش : كان من عقلاء الناس ، وذوي الألباب ، وقال يزيد بن زريع يوم مات : اليوم مات سيّد المسلمين. وقال محمّد بن سعد : كان عثمانيّاً ، وكان ثقة ثبتاً حجّة كثير الحديث (٣).

قال في تهذيب التهذيب : عند ذكره عبد الله بن شقيق العقيليّ : أبو عبد الرحمن ، ويقال أبو محمّد البصري. روى عن أبيه على خلاف فيه وعمر وعثمان وعليّ وأبي ذر وأبي هريرة وعائشة وابن عبّاس وابن عمر وعبد الله بن أبي الجدعاء وعبد الله بن سراقة وأقرع مؤذّن عمر وغيرهم. وعنه ابنه عبد الكريم ومحمّد بن سيرين وعاصم الأحول وقتادة وحميد الطويل وأيوب السختياني وبديل بن ميسرة العقيليّ وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية وخالد الحذّاء والزبير بن الخريت وسعيد بن إياس الجريري وعوف الأعرابي وكهمس بن الحسن وغيرهم. ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة ، وقال : روى عن عمر. قال : وقالوا : كان عبد الله بن شقيق عثمانيّاً ، وكان ثقة في الحديث ، وروى أحاديث صالحة. وقال يحيى بن سعد : كان سليمان التيمي سيّء الرأي في عبد الله بن شقيق. وقال أحمد بن حنبل : ثقة ، وكان يحمل على عليّ. وقال ابن أبي خيثمة عن بن معين : ثقة ، وكان عثمانيّاً يبغض عليّاً. وقال ابن عديّ ما بأحاديثه بأس إنْ شاء الله تعالى. قال الهيثم بن عدي ، ومحمّد بن سعد : توفي في ولاية الحجّاج على العراق.

__________________

(١) المصدر نفسه ٢ : ١٢٩.

(٢) المصدر نفسه ١ : ٣٨.

(٣) تهذيب التهذيب ٣ : ١٠.

٥٠٠