سبيل المستبصرين

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني

سبيل المستبصرين

المؤلف:

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-41-6
الصفحات: ٦٠٠

إذن ، هناك دلالة كاملة وواضحة من الآيات والأحاديث ، تدلّل بشكل جليّ وواضح ، أنّ وجود الشيعة والتشيّع وجود شرعيّ ، أمر به الله سبحانه ، ودعا إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو القدوة الحسنة ، فلم يبقَ للمسلمين بعد هذا البيان مجال إلا الاقتداء والمتابعة والالتزام بأمر الله سبحانه ، وبهدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثُمّ إنّك لو أضفت إلى الموضوع ، الآيات والأحاديث المتعلّقة بالدعوة إلى الشيعة والتشيّع ، فإنّ القضيّة سوف تزداد قوّة ودلالة على صحّة ما ذهبنا إليه. مثل :

آية التطهير : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (١).

وآية الولاية : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (٢).

وآية المباهلة : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (٣).

وكذلك حديث الثقلين : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « إنّي لكم فرط ، وإنّكم واردون عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين قيل : وما الثقلان يا رسول الله؟ قال : الأكبر : كتاب الله عزّ وجلّ سبب طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم ، فتمسّكوا به ، لن تزالوا أو لا تضلّوا ، والأصغر : عترتي ، وأنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض ، وسألت لهما ذلك ربّي ، فلا تقدموهما لتهلكوا ، ولا

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) المائدة : ٥٥.

(٣) آل عمران : ٦١.

١٦١

تعلموهما فإنّهما أعلم منكم » (١).

وحديث الولاية : عن البرّاء بن عازب قال : أقبلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجّة الوداع ، فما كان بغدير خمّ نودي الصلاة جامعة ، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرة واخذ بيد عليّ ، وقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا : بلى يا رسول الله.

فقال : ألا من أنا مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه فلقيه عمر (رض) فقال : هنيئاً لك يا عليّ بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وفيه نزلت : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) (٢) ، الآية (٣).

وحديث السفينة : عن أبي ذر قال : من عرفني فأنا من عرفني ، ومن أنكرني فأنا أبو ذر ، سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول : « ألا إنّ مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » (٤) ، وغيرها من الأحاديث .. ، التي تدلّ على الأمر الإلهي للمسلمين بمولاة أمير المؤمنين ، ومعاداة عدوّه ، وركوب سفينة أهل البيت. وإنّ من تمسّك بالكتاب والعترة ، فإنّه لن يضلّ أبداً. كلّ ذلك يدلّ على أنّ كلمة الشيعة والتشيّع كانت موجودة منذ عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ثبت ذلك بالنصوص المذكور بخصوص هذه الكلمة.

ثُمّ لم يكتف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذكر الكلمة ، بل دعا لتطبيقها وبيّن طيلة فترة حياته الكيفيّة الصحيحة لاّيّ مسلم حتّى يدخل في صفّ المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، والذين أعدّ الله لهم من الثواب والأجر بسبب هذه المولاة ما لا

__________________

(١) المعجم الكبير ٣ : ٦٦ ، وعنه في الدرّ المنثور ٢ : ٦٠ ، واللفظ الثاني ، وقد تمّ تخريج الحديث وذكر بعض نصوصه فيما سبق.

(٢) المائدة : ٦٧.

(٣) تقدّم ذكر الحديث وتخريجه واللفظ أعلاه لمودة القربى كما في الغدير ١ : ٢٢٠.

(٤) المستدرك ٣ : ١٥٠ ، وقد تقدّم ذكر الحديث وتخريجه.

١٦٢

يحصى.

وورد في فضائل الصحابة عن عبد الله ابن عبّاس رضوان الله عليه قال : ليس من آية في القرآن « يا أيّها الذين آمنوا » إلا وعليّ رأسها وأميرها وشريفها ، ولقد عاتب الله تعالى أصحاب محمّد في القرآن وما ذكر عليّاً إلا بخير (١).

إذن ، هلمّ أخي المسلم لتركب سفينة النجاة ، وبموالاة مَنْ أمر الله ورسوله بموالاته ، ولا تستنكر حقيقة وجدت منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ من تمسّك بتلك الحقيقة ، اعتبر من الناجين المرضيّين.

نسأل الله تعالى بحقّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآل محمّد ، أنْ يجعلنا من شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنْ يثبتنا على موالاتهم ومعاداة أعدائهم ، وأنْ يرزقنا شفاعتهم ، إنّه سميع مجيب.

__________________

(١) فضائل الصحابة ٢ : ٦٥٤.

١٦٣

حقيقة الصحابة

يعتبر موضوع الصحابة من أكثر المواضيع أهميّة ، لتحديد وجهة نظر المسلم ، وخطّ سيره في الحياة ، إمّا على خطّ الهداية والصراط المستقيم ، وإمّا إلى الضلال والهلاك والزيغ ، ذلك لأنّ أغلب المسلمين يأخذون دينهم وعقيدتهم وأحكامهم الشرعيّة بحسب ما نقل عن أولئك الصحابة.

هذا هو الاعتقاد السائد والمألوف عند اغلب الفرق الإسلاميّة ، بأنّ الدين إنّما نقل عن الصحابة ، وبالتالي فإنّهم كلّهم عدول ; لأنّهم حلقة الوصل بين الناس وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ ما كان من أتباع المذهب الحقّ ، مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، والذين لم يقلّدوا أحداً في أخذ دينهم ، إلاّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم ; ولذلك فقد حدّد الشيعة مسارهم ، واختاروا طريقهم ، وهو اتّباع الصراط المستقيم ، وركوب سفينة النجاة ، وقرنوا الكتاب بالعترة الطاهرة من آل البيت عليهم‌السلام ، واتبعوا أمر الله الذي من اتّبعه ، فإنّه لن يضلّ أبداً.

أخرج الترمذي وغيره ، عن زيد بن أرقم ، قال ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، والآخر عترتي أهل بيتي ، ولن يفترّقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فاُنظروا كيف تخلفوني فيهما » (١).

وهذا الاعتقاد بأنّ الصحابة كلّهم عدول ، جعل العلماء من أغلب الفرق الإسلاميّة يضعون هالة من القدسيّة والعدالة على جميع الصحابة ، وأعطوهم من

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٢٩ ، وقد تقدم تخريج الحديث فيما سبق.

١٦٤

القدسيّة والحصانة في كثير من الأحيان أكثر ممّا أعطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلو حاول أحدهم أنْ يبحث أو يتقصّى عن زلّة أو خطأ حصل من قبل بعض الصحابة ، مع العلم أنّ كتب التاريخ والسنن مليئة بعشرات الزلات والأخطاء والحقائق ، والتي تكشف عن عدم عدالة الجميع مطلقاً.

ولذلك ، فلو حاول بعض من اكتشف من تلك الحقائق أنْ يطرحها أو يسأل عنها العلماء ، فإنّه سوف يعرّض نفسه للنقم والتهم الشنيعة الفظيعة.

وأذكر مرّة أنّني طرحت قضيّة رزيّة الخميس ، واتّهام عمر بن الخطّاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه يهجر أو يهذي ، ومع العلم بأنّ هذه القضيّة مشهورة ومعلومة في كلّ كتب صحاح أهل السنّة ، بعد أنْ طرحت القضية ; فإنّ ذلك الشخص استغرب الأمر واستنكره استنكاراً شديداً ، ثُمّ بعد أنْ أكّدت له صدق مقالي بالاستدلال على ذلك من كتابي صحيحي البخاري ومسلم ، وقف موقف المبرّر والمدافع عن الصحابة وعدالتهم بكلّ ما يملك من قوّة ، حتّى أنّ دفاعه وصل أنْ يدّعي أنّه ربّما كبر سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله يهجر حقيقة.

اُنطر كيف يدافعون عن عدالة الصحابة وقدسيّتهم على حساب الافتراء والطعن في منزلة النبوّة والرسالة ، كلّ ذلك مقابل أنْ لا يمسّ أيّ صحابي بشيء يخرجه عن المروءة أو الآداب الإسلاميّة المحمّديّة ، ومن أراد أنْ يطلّع فسوف يجد المئات من المواقف ، والتي تطعن في منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينما في نفس النصوص يرفعون من شأن الصحابيّ ، ولقد ذكرت لك العديد من الأحاديث في صحاح أهل السنّة ومسانيدهم في بحث عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن أذكّرك عزيزي القارئ بمثل واحد من مئات الأمثلة من صحيح البخاري : حدّثنا يحيى بن بكير قال : حدّثنا الليث قال : حدّثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : أنّ أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، فكان عمر يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم : احجب نساءك ، فلم يكن

١٦٥

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة ، زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، ليلة من الليالي عشاء ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر : ألا قد عرفناك يا سودة ، حرصاً على أنْ ينزل الحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب (١).

اُنظر كيف جعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يلتزم بما أمر الله ، ولا يلزم نسائه بالحشمة ، حتّى أنّهم في الحديث جعلوه لا يقبل نصيحة من أحد ، مقابل ذلك أظهروا عمر بن الخطّاب كان أحرص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلّ تلك الأمور ، أليس في هذا الأمر حطّ كبير وشنيع من شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطعن في منزلة النبوّة والرسالة.

ولو أردت أنْ تكشف حقائق أخرى من خلال هذا الحديث غير رفع منزلة الصحابي ، فإنّني أطرح عليك عزيزي القارئ سؤالاً أترك لك الإجابة عليه بإنصاف ، لماذا جعلت الرذيلة في هذا الحديث وفي ملاحقة ومراقبة النساء وتتبّع عورة نساء النبيّ على الخصوص ، وحوّلت إلى فضيلة ومنقبة للصحابي على حساب الحطّ من شأن الرسالة والنبوّة ومن شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الخلق العظيم.

وللمزيد من المعرفة في هذا الأمر ، ألا وهو الرفع من شأن الصحابيّ على حساب النبوّة والرسالة ، فإنّي أنصحك عزيزي القارئ أنْ تقرأ كتاب صحيح البخاري ، أو صحيح مسلم ، من بدايته إلى نهايته بتدقيق ونزاهة وإنصاف ، فإنّك سوف ترى مئات المواقف ، والتي ربّما هي أشنع من المثال الذي ذكرناه آنفاً ، وأيضاً قراءة موضوع عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا البحث.

عزيزي القارئ ، لا زال الجدال والبحث والتقصّي في موضوع عدالة الصحابة ممنوعاً عند أهل السنّة لا يجوز البحث فيه ولا التعليق عليه.

لقد اختلف علماء السنّة اختلافاً كبيراً في الصحابة من ناحية من هو

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٤٦.

١٦٦

الصحابي ، وحتّى الآن لم يستقرّ أهل السنّة على تعريف معيّن ، اُنظر إلى كتب أصول الفقه عندهم ، تجد العديد من التعاريف التي لا أوّل لها ولا آخر ، أيضاً اختلفوا في مسألة أخرى ، وهي : هل مذهب الصحابي ورأيه حجّة في الأحكام الشرعيّة أم أنّه ليس بحجّة؟ فمنهم من قال : إنّه حجّة ومنهم من لا يعتبره حجّة لوحده ، فمن قال : إنّه حجّة ونظر إلى الاختلافات الفقهيّة بين الصحابة وتناقضاتهم ، فإنّه يعتبر الاختلاف رحمة وإثراء للفكر الإسلامي. وأمّا من لم يعتبر ذلك حجّة ، أي رأي الصحابي لوحده ، فقد أقرّ بمبدأ الإجماع ، أي إذا أجمع الصحابة على أمر دون وجود المعصوم بينهم ، فإنّه يعتبر حجّة شرعيّة ودليل شرعي.

ثُمّ اخترعوا أقساماً لذلك الإجماع ، كالإ جماع القولي والسكوتي وغير ذلك من التفاصيل ، والتي لا زالوا مختلفين على تحديدها.

إنّ كلّ تلك المسائل والخلافيات التي انبثقت عند أهل السنّة بشأن قضيّة عدالة الصحابة أجمعين ، كلها نتجت بسبب عدم الموضوعيّة في البحث عند معظمهم.

فهم عادة ما يأخذون آية واحدة من ضمن آيات عديدة تتعلّق بموضوع واحد معيّن ، وبعد ذلك يبنون حكمهم من خلال تلك الآية فقط ، ويتركون الآيات الأخرى ، وهذا ما يسمّى عدم الموضوعيّة المتكاملة في البحث ، وهو ما تشتهر به كما أسلفنا مذاهب أهل السنّة قاطبة ، مع العلم أنّ عدم الموضوعيّة في البحث قد تسبب في إيجاد المئات من الاختلافات بينهم أنفسهم.

واليك مثال على صحّة ما أقول لك ، فبالمثال يتّضح المقال :

خذ مثلاً مسألة عذاب القبر ، فمنهم من يقول : بوجود عذاب القبر ويؤمن به ، ومنهم من ينكره ولا يعتقد به ، ومنهم من أخذ موقفاً آخر ، والسبب في هذا الاختلاف أنّ كلّ فرقة من أهل السنّة أخذت بآية واحدة تتعلّق بالموضوع ، وتركت بقيّة الآيات التي تعنى بنفس الموضوع ، فبالتالي تكون النتيجة التناقض

١٦٧

والاختلاف ، فمثلاً : من أخذ بآية : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (١).

وترك بقيّة الآيات المتعلّقة بنفس الموضوع قال : بأنّه لا يوجد عذاب في القبر بعد الموت.

ومن أخذ بآية : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (٢) ، هؤلاء قالوا بالاعتقاد بعذاب القبر بعد الموت ، ومن أخذ بآية ثالثة : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٣) ، وهؤلاء اخذوا رأياً ثالثاً مختلفاً عن غيرهم ، والسبب في الاختلاف كما اشرنا ، عدم دراسة هذه المسألة وغيرها دراسة موضوعيّة متكاملة ، وهذا ما هو متعارف عليه عند مذهب أهل السنّة ، بينما لو نظرت إلى فكر الإماميّة الاثنى عشريّة أتباع المذهب الحقّ ، مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فهم دائماً ينظرون إلى المسائل نظرة موضوعية متكاملة ، ولم أجد حتّى الآن مسألة واحدة لم تبحث بشكل موضوعي.

فهم ليسوا من الذين يقولون لا تقربوا الصلاة ثُمّ يمسكون ، بل يمشون مع الموضوع وفق ما تريد الآيات ، ويحقّقون بجميع تفاصيلها ، ففي المثال السابق عند الشيعة الإماميّة أنّ الناس في القبر على ثلاثة أصناف أو أنواع ، نوع لا يرى العذاب ، بل يكون في حالة تشبه النوم ، ونوع يعرض عليه من النعيم ما شاء الله حتّى يوم البعث ، ونوع ثالث تعرض عليه النار إلى آخر المسألة.

هذه إحدى المسائل عند أهل السنّة ، والتي تسبّبت في الخلاف والاختلاف والخروج عن الحقيقة والزيغ عنها ، بل وربّما إلى طمسها ، وهناك المئات من

__________________

(١) سورة يس : ٥١ ـ ٥٢.

(٢) غافر : ٤٦.

(٣) سورة يس : ٢٦ ـ ٢٧.

١٦٨

المسائل التي لم يتعرّضوا لها بنزاهة وموضوعيّة ، قد تركت أثراً فعّالاً في الخلاف والاختلاف والتنافر واتبّاع الهوى والعصبيّة العمياء ، ومعاداة الآخرين والتطاول عليهم ، كلّ ذلك بسبب ترك الدراسة الموضوعيّة المتكاملة للمسائل ، وأيضاً التعصّب والتقليد الأعمى.

ومن أهمّ تلك المسائل التي لم تدرس بموضوعيّة متكاملة ، هذه المسألة التي بين أيدينا ، وهي مسألة الصحابة وعدالتهم أجمعين ، فهل السنّة قد أخذوا بآية واحدة فقط تتحدّث عن الصحابة وتركوا بقيّة الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عنهم ، ولذلك فإنّ المسألة لا زالت غير موضوعيّة ، بل أدّت في الحقيقة إلى طمس معالم الدين ، فهم قد أخذوا بقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١) ، ومن خلال هذه الآية فقط بنوا كلّ معتقداتهم في الصحابة من عدالة وعصمة وهالة قدسيّة ونقل للدين والأحكام دون تقص أو متابعة لما هو موجود في القرآن الكريم ، أو في الأحاديث النبويّة ، أو في المسيرة التاريخية للعصر الأوّل من الإسلام.

فالبحث والنظر الدقيق والمفصّل في هذا الموضوع ضروريّ جدّاً ، حتّى تعرف كلّ الأمور على حقيقتها ، وحتّى تستطيع أنْ تحدّد عمّن تأخذ دينك وأحكامك بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأنّ الأمر ليس متروكا هكذا ، بل لابدّ من أشخاص بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوثق بهم ، وبعدالتهم يحملون هذا الدين العظيم ، بشرط أنْ تكون النصوص الشرعية هي التي تحدّد نوعيّة أولئك الأشخاص ومن هم؟ وإلا فلو تُرك الأمر هكذا دون رعاية ووعاية ، فإنّ الدين والمنهج سوف يضيع ، لأنّك سوف تعتبر ما ليس بدين هو دين من مجرّد نقله عن أناس لا تدري هل هم عدول أم لا ، أو هل أوصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأخذ عنهم أو حذّر منهم ،

__________________

(١) التوبة : ١٠٠.

١٦٩

مثال على ذلك : حديث أبو هريرة الذي يصف فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسهو والنسيان : في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : ثُمّ صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إحدى صلاتي العشي ، قال ابن سيرين : قد سمّاها أبو هريرة ، ولكن نسيت أنا ، قال : فصلّى بنا ركعتين ، ثُمّ سلّم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنّه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبك بين أصابعه ، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفّه اليسرى ، وخرجت السرعان من أبواب المسجد ، فقالوا : قصرت الصلاة ، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أنْ يكلّماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له : ذو اليدين ، قال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال : « لم أنسَ ولم تقصر » ، فقال : « أكما يقول ذو اليدين » فقالوا : نعم ، فتقدّم فصلّى ما ترك ، ثُمّ سلّم ، ثُمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثُمّ رفع رأسه وكبّر ، ثُمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثُمّ رفع رأسه وكبّر فربّما سألوه ، ثُمّ سلّم فيقول : نبئت أنّ عمران بن حصين قال : ثُمّ سلّم (١).

هذا الحديث المرويّ عن هذا الصحابي أبي هريرة قامت عليه عند أهل السنّة أحكام شرعيّة عديدة ، مثل : نفي عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشريع ، كذلك أحكام أخرى كثيرة تتعلّق بالصلاة ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكابر بالقول بأنّه لم ينسَ ولم تقصر الصلاة ، وكذلك أنّ أبا بكر وعمر كانا يهابان من سؤال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع العلم أنّهما كانا ممّن ارتفعت أصواتهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل فيهما آيات تهدّد بحبط الأعمال ، قال تعالى في سورة الحجرات : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ) (٢).

روى البخاري في صحيحه ، عن ابن أبي مليكة : أنّ عبد الله بن الزبير

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ١٢٣.

(٢) الحجرات : ٢.

١٧٠

أخبرهم : أنّه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة. قال عمر : بل أمّر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، قال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا) (١) ، حتّى انقضت (٢).

والمهم في القضيّة بحديث أبي هريرة ، أنّ أبا هريرة يصف وصفاً دقيقاً كيف صلّى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثُمّ كيف جلس بعد الصلاة إلى آخر ذلك ، لكن ممّا يجدر الانتباه إليه ، أنّ ذا اليدين كان قد استشهد في بدر ، في السنّة الثانية للهجرة ، بينما أبو هريرة حضر إلى المدينة وأسلم في أواخر السنة السابعة للهجرة. ويتبيّن لك أنّ القصّة مكذوبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منقولة على لسان صحابيّ لم يكن موجوداً وقت الحادثة ، لكنّه يصفها على لسانه ، وكأنّه عاشها ، ومع وضوح كذبها وافترائها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تجد أنّ أهل السنّة والجماعة يدافعون عن كذبة أبي هريرة هذه ، ويقبلون في الطعن بشخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفع العصمة عنه حتّى في التشريع ، بل واعتمدوا فوق ذلك على العديد من الأحكام الشرعيّة التي أقرّوها بناء على هذه الكذبة.

إذن ، فالقضيّة كما قلنا خطيرة جدّاً ، يتحدّد عليها بناء موقف الإنسان المسلم ، ولذلك فإنّ كلّ هذه الأمور المتعلّقة بالصحابة وعدالتهم تتحدّد من استقراء النصوص والأحاديث بشكل كامل ، وبنزاهة وصدق ، وبدون تعصّب أو عاطفة ، مع مراعاة الابتعاد عن التقليد الأعمى ; لأنّنا غداً سوف نسأل في القبر ، وفي يوم الحساب أمام الله سبحانه عن كلّ منقصة أو زيغ أو ضلال في ديننا ، ولا نريد أنْ نقول لله سبحانه وتعالى كما قالت الآية الكريمة : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا

__________________

(١) الحجرات : ١.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١١٦.

١٧١

السَّبِيلاَ) (١).

وهذا يوجب علينا أنْ نحدّد مفهوم الصحابة وعمّن نأخذ ديننا ، وهناك سبب آخر يستدعي ذلك ، الآية الكريمة التي تقول : (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٢).

وكذلك الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أئمتكم وفدكم إلى الله ، فانظروا مَن توفدون » (٣).

هذه الأمور كلّها تستدعي وبشكل ملحّ ، ان نقتحم هذه الدائرة التي ظلّت مغلقة أمام البحث والاقتراب منها ممنوع ، وهي دائرة الصحابة ; لأنّ القضيّة ليست عاطفيّة ، بل إنّها وقبل كلّ شيء متعلّقة بالفرد نفسه الذي سوف يسأل عن نفسه وعن دينه وعقيدته ، وكذلك عمّن اخذ دينه ، فلنحذر عزيزي القارئ أنْ نكون ممّن يقولون يوم القيامة : إنّا وجدنا آبائنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون ومهتدون ، بل لابدّ من البحث الشخصي في هذه المسألة حتّى نخرج عن دائرة التقصير.

فلننظر معاً بنظرة موضوعيّة ولو مختصرة إلى آيات القرآن العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

بعد هذه القراءة الموضوعيّة المختصرة ، فانّنا سوف نجد أنّ القرآن الكريم ، كما مدح في الصحابة فإنّه أيضاً قدح فيهم ، وكذلك في آيات عدّة هدّدهم ، وفي أخرى أخبر عن عواقب أمرهم ، وفي غيرها اتّهمهم بالنفاق ، وكذلك بنقض العهد ، إذن ، فالنتيجة أنّ الصحابة ليسوا من نوع واحد ، بل أنواع وأصناف ، نحدّدهم هنا في هذا البحث المتواضع بخمسة أنواع :

* النوع الأوّل من الصحابة : من كان من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأذهب

__________________

(١) الأحزاب : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) الإسراء : ٧١.

(٣) أخرجه الملا في سيرته كما في الصواعق المحرقة ٢ : ٤٤١.

١٧٢

الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، نزلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة تدلّ على عصمتهم وعدالتهم وتطهيرهم من الرجس والضلال ، وكذلك حثّت الآيات والأحاديث على متابعتهم والاقتداء بهم وأخذ الدين عنهم.

* النوع الثاني من الصحابة : لم يعصمهم الله سبحانه وتعالى ، وإنّما مدحهم وأكّد على عدالتهم وثبوتهم على نهج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاقتداء به ، وعدم المخالفة عليه حتّى وفاتهم.

* النوع الثالث : من الصحابة : من انقلب على عقبيه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالف أوامره ونقض عهده.

* النوع الرابع من الصحابة : المنافقون الذين كانوا مجهولين بين المسلمين منذ البداية ، وبقوا على نفاقهم إلى يوم الدين.

* النوع الخامس من الصحابة : أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين عاشوا معه فترة دعوته وبعد وفاته ، والذين لم تنزل فيهم آية تدلّ على عصمتهم.

النوع الأوّل : أهل البيت عليهم‌السلام :

قال تعالى في سورة الأحزاب : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (١).

يعتبر أيّ مصطلح لغوىّ حقيقة لغوية ، ما لم تأتِ قرينة تجعله حقيقة شرعيّة ، وإذا ما انتقل اللفظ إلى حقيقة شرعيّة فحينئذ ينصرف اللفظ في الدليل إلى الحقيقة الشرعيّة دون المعنى اللغوي.

فإنّه بعد الاعتراف بالحقيقة الشرعيّة ، وتأكيد القرائن من النصوص الشرعيّة عليها ، لا يجوز صرفها عن المعنى الشرعي إلى غيره ، كذلك يصير الإنسان المسلم من مجرّد سماعه لتلك الحقيقة الشرعيّة ، فإنّه ينصرف ذهنه فوراً إلى ذلك المعنى

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

١٧٣

الشرعي الذي قرّره الشرع الحنيف وفق القرائن من الآيات الشريفة والأحاديث النبويّة الصحيحة ، ولا يجوز صرف معنى الحقيقة الشرعيّة عن معناها بحسب الأهواء والآراء والقياس ، وانما يجب على المسلم الالتزام بما يريد الله سبحانه من ذلك المعنى أو تلك الحقيقة ، ومن حاول تغيير تلك الحقيقة الشرعيّة وصرفها عن معناها الحقيقي الذي أراده الله سبحانه وتعالى ، فمن حاول ذلك ، فإنّه يتلاعب بأحكام وحقائق شرعيّة أمر الله سبحانه الناس الالتزام بها ، وبقيام الأفهام والأحكام الإسلاميّة بحسبها ، ومن حاول اللعب بها ، فإنّه معاد لله ورسوله والأئمّة المعصومين من بعده ، فلننتبه إلى ذلك.

ومن الحقائق اللغويّة ، والتي صرفت معانيها إلى حقائق شرعيّة أمثلة كثيرة جدّاً من القرآن الكريم ، طرحها القرآن الكريم وحوّلا إلى حقائق شرعيّة ، لو ذكرها شخص أو سمعها ، فإنّ ذهن السامع أو القارئ لا ينصرف إلا إلى ذلك المعنى الشرعيّ فقط.

خذ مثلاً كلمة الصلاة ، هي لفظة أو حقيقة لغويّة لها مدلولها اللغويّ الخاص ومعناها الدعاء ، جاء الشرع الحنيف من آيات وأحاديث صرفت ذلك المعنى اللغوي وجعلته حقيقة شرعيّة ، وهي أفعال مخصوصة في زمن مخصوص تحتوي على ركوع وسجود وتسبيح وقراءة للقرآن الكريم وغير ذلك ، ولا يمكن للسامع أو القارئ بعد ذلك ، بل ولا يجوز له أيضاً أنْ يفهمها إلا بالمعنى الشرعيّ فقط.

فعند قراءة الآية التي تأمر بالصلاة : (وأقيموا الصلاة) فإنّه لا يفهم منها الدعاء ، بل يفهم المعنى الشرعيّ والحقيقة الشرعيّة لتلك اللفظة والكلمة.

كذلك مثلا كلمة الحجّ ، معناها اللغويّ : القصد ، بينما صرفها الشارع إلى حقيقة شرعية وهي أفعال مخصوصة في زمن مخصوص ، لا يفهم منها عند ذكرها إلاّ المعنى الشرعيّ فقط ، كذلك لفظة الصوم ، وهو الامتناع ، صار له حقيقة شرعيّة معيّنة ، وكذلك الزكاة وهي النقاء أيضاً ، صار لها في الشريعة حقيقة شرعيّة

١٧٤

مخصوصة لها ، وأيضاً لفظة الغائط ، معناها المكان المنخفض ، صار لها حقيقة شرعيّة معيّنة ، كلّ تلك الألفاظ التي ذكرناها وغيرها كثير ، جاءت الآيات الكريمة صرفتها إلى معنى شرعيّ يعرف بالحقيقة الشرعيّة ، ولا تفهم تلك الحقيقة بالمعنى اللغوي ، بل بالمعنى الشرعيّ فقط.

ومن هذه الألفاظ التي لها حقيقة شرعيّة معيّنة من قبل الحقّ سبحانه وتعالى ، ولا يجوز صرف معناها إلى غير المعنى الشرعيّ الذي أراده الله لها ، هي لفظة أو مصطلح أهل البيت.

فأهل البيت كلمة لها معنى لغويّ ، وحقيقة لغوية تختلف عن معناها الشرعيّ ، وحقيقتها الشرعيّة ، وإذا كان هناك معنىً لغوياً ومعنىً شرعيّاً ، فإنّه دائماً يقدّم المعنى الشرعيّ والحقيقة الشرعيّة بلا خلاف.

ولذلك ، فإنّ الآية الشريفة التي ابتدأتُ بها البحث ، والتي تذكر أهل البيت عليهم‌السلام ، لها حقيقة شرعيّة ، معها عشرات القرائن الشرعيّة ، والتي تحدّد معناها على أمر حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز فهمها بأىّ فهم سوى الفهم والمعنى الذي ارتضاه الله لتلك الكلمة ، فإنّ الحقائق الشرعيّة لا تنال ولا تفهم باجتهاد أو رأي أو قياس أو هوى ، بل بالتزام كامل وطاعة لله ورسوله ، وبالتالي نحافظ على تلك الحقيقة الشرعيّة من الضياع أو الطمس والإفناء.

وبالنظر إلى القرائن الشرعيّة ، نجد أنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم طائفة من البشر لهم صفات وميزات وسمات معيّنه ، ولهم تعريف خاص بهم ، ولهم علامات لا يستطيع البشر أنْ يعرفهم أو يميزهم إلاّ بها ، حتّى لا تختلط الحقائق ببعضها ، على شرط أنْ يكون المعرّف لهم هو النصّ القرآني أو الحديث الشريف ، مع بعض الحقائق العقليّة التي توجب لهم تلك المزايا والصفات.

وباستقراء الآيات والأدلّة والقرائن الشرعيّة ، نستطيع أنْ نحدّد أهل البيت الذين نزلت في حقّهم الآية : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

١٧٥

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (١) ، هم رسول الله وفاطمة الزهراء وعليّ والحسن والحسين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.

أخرج الترمذي بسنده إلى أمّ سلمة قالت : « إنّ النبيّ جلّل على الحسن والحسين وعليّ وفاطمة كساء ، ثُمّ قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا « فقالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : إنّك إلى خير » (٢).

وفي الدرّ المنثور للسيوطي : أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن امّ سلمة رضي‌الله‌عنها زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان ببيتها على منامة له ، عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة رضي‌الله‌عنها ببرمة فيها خزيرة ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « ادعي زوجك ، وابنيك ، حسناً وحسيناً ، فدعتهم ، فبينما هم يأكلون ، إذ نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ، فأخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بفضلة إزاره ، فغشّاهم إيّاها ، ثُمّ أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء ، ثُمّ قال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، فاذهب عنهم الرجس ، وطهّرهم تطهيراً ، قالها ثلاث مرّات ، قالت أمّ سلمة رضي‌الله‌عنها : فأدخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله ، وأنا معكم ، فقال : « إنّك إلى خير مرّتين » (٣).

وأخرج الطبراني ، عن أمّ سلمة رضي‌الله‌عنها قالت : جاءت فاطمة رضي‌الله‌عنها إلى أبيها بثريدة لها ، تحملها في طبق لها ، حتّى وضعتها بين يديه. فقال لها : « أين ابن عمّك »؟ قالت : « هو في البيت » قال : « اذهبي فادعيه وابنيك » فجاءت

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) سنن الترمذي ٥ : ٣٦١.

(٣) الدرّ المنثور ٥ : ١٩٨.

١٧٦

تقود ابنيها كلّ واحد منهما في يد ، وعليّ رضي‌الله‌عنه يمشي في أثرهما حتّى دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فأجلسهما في حجره ، وجلس عليّ رضي‌الله‌عنه عن يمينه ، وجلست فاطمة رضي‌الله‌عنها عن يساره ، قالت أمّ سلمة رضي‌الله‌عنها : فأخذت من تحتي كساء كان بساطنا على المنامة في البيت » (١).

وأخرج الطبراني عن أم سلمة رضي‌الله‌عنها : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لفاطمة رضي‌الله‌عنها : « أئتني بزوجك وابنيه » ، فجاءت بهم ، فألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كساء فدكيّاً ، ثُمّ وضع يده عليهم ، ثُمّ قال : « اللّهم إنّ هؤلاء أهل محمّد ـ وفي لفظ آل محمّد ـ فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد ، كما جعلتها على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد. قالت أمّ سلمة رضي‌الله‌عنها : فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي وقال : « إنّك على خير » (٢).

وأخرج ابن مردويه ، عن أمّ سلمة قالت : « نزلت هذه الآية في بيتي : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ، وفي البيت سبعة جبريل ، وميكائيل عليهما‌السلام وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي‌الله‌عنهم ، وأنا على باب البيت ، قلت : يا رسول الله ، ألست من أهل البيت؟ قال : « إنّك إلى خير ، إنّك من أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم » (٣).

وأخرج ابن مردويه ، والخطيب ، عن أبي سعيد الخدريّ رضي‌الله‌عنه قال : كان يوم أمّ سلمة أمّ المؤمنين رضي‌الله‌عنها ، فنزل جبريل عليه‌السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) قال : فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحسن ، وحسين ، وفاطمة ، وعليّ ، فضمّهم إليه ، ونشر عليهم الثوب. والحجاب على أمّ سلمة مضروب ، ثُمّ قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ». قالت أمّ سلمة رضي‌الله‌عنها : فإنا معهم يا نبيّ الله؟ قال : « أنت على

__________________

(١ ـ ٣) الدرّ المنثور ٥ : ١٩٨.

١٧٧

مكانك ، وإنّك على خير » (١).

وأخرج الترمذي وصحّحه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقيّ في سننه ، من طرق عن أمّ سلمة رضي‌الله‌عنها قالت : في بيتي نزلت : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) ، وفي البيت فاطمة ، وعليّ ، والحسن ، والحسين. فجلّلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكساء كان عليه ، ثُمّ قال : « هؤلاء أهل بيتي ، فاذهب عنهم الرجس ، وطهّرهم تطهيراً » (٢).

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أبي سعيد الخدريّ رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « نزلت هذه الآية في خمسة في ، وفي عليّ ، وفاطمة ، وحسن وحسين : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (٣).

وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما ، فأدخلهما معه ، ثُمّ جاء عليّ وفاطمة ، فأدخلهما معه ، ثُمّ قال : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (٤).

وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن سعد قال : « نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي ، فأدخل عليّاً ، وفاطمة ، وابنيهما تحت ثوبه ، ثُمّ قال : « اللّهم هؤلاء أهلي ، وأهل بيتي » (٥).

وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن واثلة بن الأسقع رضي الله

__________________

(١ ـ ٥) الدرّ المنثور ٥ : ١٩٨ ـ ١٩٩.

١٧٨

عنه قال : « جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى فاطمة ، ومعه ، حسن ، وحسين ، وعليّ ، حتّى دخل ، فأدنى عليّاً ، وفاطمة ، فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً ، وحسيناً ، كلّ واحد منهما على فخذه ، ثُمّ لفّ عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثُمّ تلا هذه الآية : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (١).

وأخرج مسلم والترمذي ، والحاكم ، عن سعد بن أبي وقّاص قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) (٢) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً ، وفاطمة ، وحسناً وحسيناً ، فقال : « اللّهم هؤلاء أهلي » (٣).

وفي الدرّ المنثور : أخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن جابر قال : « وفد على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم العاقب ، والسيّد ، فدعاهما إلى الإسلام فقالا : أسلمنا يا محمّد ، قال : « كذبتما ، إنْ شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام ». قالا : فهات. قال : « حبّ الصليب ، وشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ». قال جابر : فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه إلى الغد ، فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأخذ بيد عليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، ثُمّ أرسل إليهما فأبيا أنْ يجيباه ، وأقرّا له ، فقال : « والذي بعثني بالحقّ ، لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً ». قال جابر : فيهم نزلت ( تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ... ) الآية. قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وعليّ ، وأبناءنا : الحسن والحسين ، ونساءنا : فاطمة » (٤).

وأخرج أبو النعيم ، في الدلائل ، من طريق الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس : « ... وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج ومعه عليّ ، والحسن

__________________

(١) آل عمران : ٦١.

(٢) الدرّ المنثور ٢ : ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ـ ١٢١ ، سنن الترمذي ٤ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، المستدرك ٣ : ١٥٠ ، واُنظر الدرّ المنثور ٢ : ٣٩.

(٤) الدرّ المنثور ٢ : ٣٨ ـ ٣٩.

١٧٩

والحسين ، وفاطمة ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إنّ أنا دعوت فأمنّوا أنتم ، فأبوا أنْ يلاعنوه وصالحوه على الجزية » (١).

وفي تحفة الاحوذي : قوله : « قال : لمّا نزلت هذه الآية » أي المسماة بآية المباهلة (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) ... الخ الآية بتمامها مع تفسيرها هكذا ، فمن حاجك فيه : أي فمن جادلك في عيسى وقيل في الحقّ « من بعد ما جاءك من العلم » يعني بأنّ عيسى عبد الله ورسوله « فقل تعالوا أي : هلمّوا » (نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ) أي يدع كلّ منّا ومنكم أبناءه ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثُمّ نبتهل « أي نتضرع في الدعاء ، فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، بأنّ تقول : اللّهم العن الكاذب في شأن عيسى « دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً » فنزّله منزلة نفسه ، لما بينهما من القرابة والأخوّة « وفاطمة » أي لأنّها أخصّ النساء ، من أقاربه « وحسناً وحسيناً » فنزّلهما بمنزلة ابنيه صلّى الله عليه وسلّم « فقال اللّهم هؤلاء أهلي » (٢).

إذن ، أهل البيت هم فقط الذين حدّدهم المعنى الشرعيّ ، ويدخل معهم بقيّة الأئمّة الاثنى عشر وآخرهم الإمام المهدي من عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّهم من عترة رسول الله من أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، وقرنهم بالكتاب ، وإنّهما ، أي الكتاب والعترة الطاهرة ، لن يفترقا حتّى يردا على رسول لله الحوض ، وإليك بعض الروايات من كتب أهل السنّة ، والتي تدلّل على أنّ الاتّباع والاقتداء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محصور في هؤلاء الأئمّة الاثنى عشر من الإمام عليّ حتّى آخرهم الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

روى مسلم في صحيحه ، حدّثنا هدّاب بن خالد الأزدي ، حدّثنا حمّاد بن سلمة ، عن سماك بن حرب قال : سمعت جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثنى عشر خليفة ، ثُمّ قال

__________________

(١) الدرّ المنثور ٢ : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) تحفة الاحوذي ٨ : ٢٧٨.

١٨٠