سبيل المستبصرين

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني

سبيل المستبصرين

المؤلف:

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-41-6
الصفحات: ٦٠٠

وبعد أنْ قضى فترة الأسر ، أُرجع مع سائر الأسرى إلى المدينة ، وما ذلك إلا لجلب رضى عامّة الناس.

عندما رجع الإمام الرابع إلى المدينة ، اعتزل الناس في بيته ، وتفرّغ للعبادة ، ولم يتصل بأحد ، سوى الخواص من الصحابة مثل : أبي حمزة الثمالي وأبي خالد الكابلي وأمثالهم ، ولا يخفى أنّ هؤلاء الخاصّة كانوا يوصلون ما يصلهم من الإمام من معارف إسلامية إلى الشيعة ، واتّسع نطاق الشيعة عن هذا الطريق ، فنرى ثماره في زمن الإمام الخامس.

وممّا ألّفه وصنفه الإمام الرابع كتاباً يحتوي على أدعية تعرف بـ ( الصحيفة السجاديّة ) وتشتمل على سبعة وخمسين دعاء ، والتي تتضمّن أدقّ المعارف الإلهية ، ويقال عنها : زبور آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مدّة إمامته عليه‌السلام خمسة وثلاثين سنة حسب بعض الروايات الشيعيّة ، ودُسّ إليه السمّ على يد الوليد بن عبد الملك ، وذلك بتحريض من هشام ، الخليفة الأموي ، سنة ٩٥ للهجرة.

الإمام الخامس :

الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام ولفظ باقر يدلّ على تبحّره في العلم ، وقد منحه اللقب هذا ، النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هو ابن الإمام الرابع ، ولد سنة ٥٧ للهجرة ، وكان عمره في واقعة كربلاء أربع سنوات ، وكان ممّن حضرها ، نال مقام الإمامة بعد والده ، بأمر من الله تعالى ، ووصيّة أجداده ، وفي سنة ١١٤ أو١١٧ للهجرة ( حسب بعض الروايات الشيعية ) قتل مسموماً بواسطة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ، ابن أخ هشام ، الخليفة الأموي ، قضت هذه الحادثة على حياته ، فمضى شهيداً.

في عهد الإمام الخامس ، وعلى إثر ظلم بني أميّة ، كانت تبرز ثورات متعاقبة في كلّ قطر من الأقطار الإسلاميّة ، وشنّت الحروب ، وكان الاختلاف في

٤٢١

حكومة بني أميّة ظاهراً ، هذا ما كان يشغل الحكومة آنذاك ، فكانت نتيجتها أنْ يخفف من التعرّض لأهل البيت ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى ، ما حدث في واقعة كربلاء ، وما أحدثت من مظلوميّة أهل البيت عليهم‌السلام ، متمثلة في الإمام الرابع ، جعلت المسلمين يتجّهون إلى أهل البيت ، ويُبدون حبّهم لهم ، وإخلاصهم إليهم.

فإنّ هذه العوامل مجتمعة ، ساعدت على أنْ ينصرف ذهن العامّة إلى أهل البيت ، فصاروا يتّجهون إلى المدينة حيث الإمام الخامس ، وكانت العوامل مساعدة في انتشار الحقائق الإسلامية ، علوم أهل البيت ، على يد الإمام الباقر عليه‌السلام ، إذ لم يتحقق لاحد من أجداده ، ولذا نرى كثرة الأحاديث التي نقلت ، وكذا رجال الشيعة الذين تخصّصوا في شتّى العلوم الإسلامية على يد إمامهم ، ولا تزال أسماؤهم في كتب الرجال مدرجة.

الإمام السادس :

الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام ابن الإمام الخامس ، ولد سنة ٨٣ للهجرة ، واستشهد بعد أنْ دُسّ إليه السمّ ، سنة ١٤٨ للهجرة ، وذلك بتحريض من المنصور ، الخليفة العباسي ، وفي عهد الإمام السادس ، وعلى إثر الانتفاضات التي حدثت في الدول الإسلامية ، وخاصّة قيام مسودة ضدّ دولة بني أميّة ، للإطاحة بها ، والحروب المدمّرة التي أدّت إلى سقوط الدولة الأموية وانقراضها ، وعلى إثر كلّ هذا ، كانت الظروف مواتية ومساعدة لنشر حقائق الإسلام وعلوم أهل البيت ، التي طالما ساهم في نشرها الإمام الخامس طوال عشرين سنة من زمن إمامته ، وقد تابع الإمام السادس عمله في ظروف أكثر ملاءمة وتفهماً.

فاستطاع الإمام السادس حتّى أواخر زمن إمامته ، والتي كانت معاصرة لآخر زمن خلافة بني أميّة ، وأوائل خلافة بني العبّاس ، استطاع أنْ ينتهز هذه الفرصة ، لبث التعاليم الدينية ، وتربية العديد من الشخصيّات العلميّة الفذّة في

٤٢٢

مختلف العلوم والفنون ، سواء في العلوم العقليّة أو العلوم النقلية.

ومن أشهر أولئك الذين تتلمذوا عند الإمام هم : زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، ومؤمن الطاق ، وهشام بن الحكم ، وأبان بن تغلب ، وهشام بن سالم ، وحريز ، وهشام الكلبي النسّابة ، وجابر بن حيّان الصوفي الكوفي ، الكيميائي ، وغيرهم ، وقد حضر درسه رجال من علماء أهل السنّة ، مثل سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، مؤسّس المذهب الحنفي ، والقاضي السكوني ، والقاضي أبو البختري ، وغيرهم ، والمعروف أنّ عدد الذين حضروا مجلس الإمام وانتفعوا بما كان يمليه عليهم الإمام أربعة آلاف محدّث وعالم.

وتعتبر الأحاديث المتواترة عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام أكثر ممّا رويت عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعشرة من الأئمّة الهداة.

لكنّ الأمر قد تغيّر في أخريات حياته ، حيث الاختناق والتشديد من قبل المنصور الخليفة العباسي ، فقام بإيذاء السادة العلويين وعرّضهم لأعنف أنواع التعذيب وأقساها ، وقتل بعضهم ، ممّا لم يشاهد نظيره في زمن الأمويين ، مع ما كانوا يتّصفون به من قساوة وتهوّر.

مارس العبّاسيون القتل الجماعي للعلويين ، وذلك بسجنهم في سجون مظلمة ، وتعذيبهم ، والقضاء على حياتهم.

كما أنّهم قاموا بدفنهم وهم أحياء ، في أسس الأبنية والجدران.

أصدر المنصور أمراً طلب فيه جلب الإمام السادس من المدينة ( وكان الإمام قد أحضر إلى العراق مرّة بأمر من السفّاح الخليفة العبّاسي ، وقبل ذلك قد أحضر إلى دمشق بأمر من هشام الخليفة الأموي ، مع الإمام الخامس ).

بقي الإمام مدّة من الزمن تحت المراقبة ، وقد عزموا على قتله عدّة مرّات ، وتعرضوا لأذاه ، وفي نهاية الأمر سمحوا له بالعودة إلى المدينة ، فرجع ، وقضى بقيّة

٤٢٣

عمره هناك ، مراعياً التقيّة ، منعزلاً في داره ، حتّى استشهد على يد المنصور بدسّه السمّ إليه.

وبعد وصول نبأ استشهاد الإمام إلى المنصور ، أمر واليه في المدينة أنْ يذهب إلى دار الإمام بحجّة تفقّده لأهل بيته ، طالبا وصيّة الإمام ، ليطّلع على ما وصّى الإمام ، ومن هو خليفته من بعده ، ليقضي عليه ويقتله في الحال أيضاً.

وكان المنصور يهدف من وراء ذلك القضاء تماماً على موضوع ومسألة الإمامة ، والتشيّع معاً.

ولكنّ الأمر كان خلافا لأمر المنصور ، وعندما حضر الوالي وفقاً للأوامر المرسلة إليه ، قرأ الوصيّة ، ووجد أنّ الإمام قد أوصى لخمس ، الخليفة نفسه ، والي المدينة ، وعبد الله الأفطح ابن الإمام الأكبر ، وموسى ولده الأصغر ، وحميدة زوجته ، وبهذا باءت مؤامرة المنصور بالفشل.

الإمام السابع :

الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام ابن الإمام السادس ، ولد سنة ١٢٨ للهجرة ، وتوفي سنة ١٨٣ ، إثر إعطائه السمّ في السجن ، تولّى منصب الإمامة بعد أبيه بأمر من الله ووصيّة أجداده.

عاصر الإمام السابع من الخلفاء العباسيين ، المنصور ، والهادي ، والمهدي ، وهارون ، عاش في عهد مظلم مقرون بالصعوبات ، بما كان يبديه من تقيّة ، حتّى سافر هارون إلى الحجّ ، وتوجّه إلى المدينة ، فألقي القبض على الإمام في الوقت الذي كان مشغولاً بالصلاة ، في مسجد جدّه النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونقل إلى السجن بعد أنْ قيّد بالأغلال ، ثمّ نقل إلى البصرة ، ومنها إلى بغداد ، وظلّ ينقل به من سجن لآخر سنوات عدّة ، وفي نهاية الأمر قضي عليه بالسمّ ، في سجن السندي بن شاهك ، ودفن في مقابر قريش ، والتي تسمّى اليوم بمدينة الكاظمية.

٤٢٤

الإمام الثامن :

الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام ابن الإمام السابع ، ولد سنة ١٤٨ للهجرة ( على أشهر التواريخ ) وتوفي سنة ٢٠٣ هـ.

نال منصب الإمامة بعد أبيه الإمام السابع ، بأمر من الله ، ونصّ أجداده ، وقد عاصر زمني هارون الرشيد ، الخليفة العباسي ، وبعده ابنه الأمين ، ثمّ المأمون.

بعد وفاة هارون الرشيد حدث خلاف بين المأمون والأمين ، أدّى إلى حروب بينهما ، وكان نتيجتها مقتل الأمين ، واستيلاء المأمون على عرش الخلافة.

وحتّى ذلك الوقت ، كانت سياسة بني العبّاس بالنسبة إلى السادة العلويين سياسة قاسية ، تتمثل بالقتل والإبادة ، وكانت تزداد شدّة وعنفا ، وبين فترة وأخرى كان يثور ثائر من العلويين ، ودارت رحى حروب دامية وهذا ما كان يحدث اضطراباً ومشاكل للدولة والخلافة آنذاك.

ومع أنّ أئمّة الشيعة من أهل البيت ، لم يكونوا على اتّصال بالثائرين ، لكنّ الشيعة مع قلّة عددهم في ذلك اليوم ، كانوا يعتبرون الأئمّة هم الهداة إلى الدين ، وأنّهم مفترضوا الطاعة ، والخلفاء الحقيقيون للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إلى الدولة والخلافة العباسية أنّها تمتاز بما كان يمتاز به كسرى وقيصر ، وأنّها تساس بيد فئة لا صلة لها بالإسلام ، وأنّ هذه الأجهزة التي تسوس البلاد بعيدة كلّ البعد عمّا يتّصف به زعماؤهم الدينيون ، هذا ممّا كان يشكّل خطراً على الخلافة ، ويهدّدها بالسقوط والزوال.

فكّر المأمون في هذه المشاكل والفتن ، ورأى أنْ يبدي سياسة جديدة ، بعد أنْ كانت سياسة أسلافه طوال سبعين سنة سياسة عقيمة لا جدوى فيها ، فأظهر سياسته الخادعة بأنْ يجعل الإمام الثامن وليّ عهد له ، وبهذه الطريقة سوف يقضي على كلّ فتنة ومشكلة ، والسادة من العلويين إذا وجدوا لهم مقاماً في الدولة ، فإنّهم

٤٢٥

لم يحاولوا الثورة أو القيام ضدّهم ، والشيعة أيضاً عندما يشاهدون دنو إمامهم من الخلافة التي طالما كانوا يعتبرونها رجساً ، والقائمين بأمور الخلافة فاسقين ، عندئذ سيفقدون ذلك التقدير والاحترام المعنوي لأئمّتهم الذين هم من أهل البيت ، وسرعان ما يسقط حزبهم الديني ، ولا يواجه الخلفاء خطراً من هذه الجهة.

ومن البديهي بعد أنْ يحصل المأمون على ما كان يهدف إليه ، فإنّ قتل الإمام لم يكن بالأمر الصعب ، ولغرض تحقّق هذه المؤامرة أحضر الإمام من المدينة إلى مرو ، واقترح عليه الخلافة أولاً ، ثمّ ولاية العهد ثانياً ، فاعتذر الإمام ، ولكنّه استخدم شتّى الوسائل لإقناع الإمام ، وافق الإمام بشرط ألا يتدخل في شؤون الدولة ، وكذا في عزل أو نصب أحد من المسؤولين. هذا ما حدث سنة ٢٠٠ للهجرة ، ولم تمض فترة ، حتّى شاهد المأمون التقدّم السريع للشيعة ، وتزايد ارتباطهم وعلاقتهم بالنسبة للإمام ، وحتّى العامّة من الناس ، والجيش ومسؤولي شؤون الدولة ، عندئذ التفت المأمون إلى خطورة خطئه ، وحاول أنْ يقف أمام هذا التيّار ، فقتل الإمام بعد أنْ دسّ إليه السمّ.

دفن الإمام الثامن بعد استشهاده في مدينة ( طوس ) في إيران ، وتعرف اليوم بمدينة مشهد. كان المأمون يبدي عنايته ورعايته لترجمة العلوم العقلية إلى اللغة العربية ، وكان يقيم المجالس العلمية ، التي يحضرها علماء الأديان والمذاهب ، وتجري فيها المناظرات العلمية ، والمأمون أيضاً كان يشارك في هذه المجالس ، ويشترك في مناظرات علماء الأديان والمذاهب ، وقد دونت العديد منها في كتب أحاديث الشيعة.

الإمام التاسع :

الإمام محمّد بن عليّ عليه‌السلام ( التقي ، ويلقب بالإمام الجواد أو ابن الرضا أحيانا ) ابن الإمام الثامن ، ولد في المدينة سنة ١٩٥ هـ واستشهد ( سنة ٢٢٠ )

٤٢٦

بتحريض من المعتصم الخليفة العباسي ، على يد زوجته بنت المأمون ، ودفن إلى جوار جدّه الإمام السابع في مدينة الكاظمية.

حاز درجة الإمامة الرفيعة بأمر من الله ، ووصيّة أجداده ، وكان الإمام التاسع في المدينة عندما توفي أبوه الإمام الثامن ، أحضره المأمون إلى بغداد عاصمة خلافته آنذاك ، والظاهر أنّ المأمون أبدى احترامه وعطفه للجواد ، وزوّجه ابنته ، وأبقاه عنده في بغداد ، وفي الحقيقة أراد أنّ يراقب الإمام من الخارج والداخل مراقبة كاملة.

مكث الإمام التاسع زمناً في بغداد ، ثمّ طلب من المأمون الرحيل إلى المدينة ، وبقي فيها ( المدينة ) حتّى أواخر عهد المأمون ، وفي زمن المعتصم الذي استخلف المأمون ، أحضر الإمام الجواد إلى بغداد مرّتين ، وكان تحت المراقبة الشديدة ، وفي النهاية ـ كما ذكر ـ استشهد بدسّ السمّ إليه بتحريض من المعتصم على يد زوجة الإمام.

الإمام العاشر :

الإمام عليّ بن محمّد عليه‌السلام ( النقيّ ويلقبّ بالهادي أيضاً ) ابن الإمام التاسع ، ولد سنة ٢١٢ هـ في المدينة ، واستشهد سنة ٢٥٤ هـ ( وفقاً للروايات الشيعية ) بأمر من المعتز الخليفة العباسي.

عاصر الإمام سبعاً من خلفاء بني العبّاس : المأمون والمعتصم ، والواثق ، والمتوكلّ ، والمنتصر ، والمستعين ، والمعتز.

وفي عهد المعتصم سنة ٢٢٠ هـ عندما استشهد أبوه في بغداد بواسطة السمّ الذي دسّ إليه ، كان الإمام العاشر في المدينة ، نال منصب الإمامة بأمر من الله تعالى ، ووصيّة أجداده ، فقام بنشر التعاليم الإسلامية حتّى زمن المتوكل.

أرسل المتوكلّ أحد الأمراء إلى المدينة لجلب الإمام من هناك إلى سامراء ،

٤٢٧

حاضرة حكومته ، وذلك سنة ٢٤٣ هـ إثر سعاية بعض الأعداء ، وكتب إلى الإمام رسالة يظهر فيها احترامه وتقديره له ، مطالباً فيها التوجّه إلى العاصمة ، وبعد وصول الإمام إلى سامراء ، لم يكن هناك ما يجلب النظر من تضيق على الإمام في بداية الأمر إلا أنّ الخليفة سعى في اتّخاذ شتّى الطرق والوسائل لإيذاء الإمام ، وهتك حرمته ، فقام رجال الشرطة بتفتيش دار الإمام بأمر من الخليفة.

كان المتوكل أشدّ عداء لأهل البيت من سائر خلفاء بني العبّاس ، وخاصّة بالنسبة للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكان يعلن عداءه وتنفّره لعليّ ، فضلاً عن الكلام البذي الذي كان يتفوّه به أحياناً ، وكان قد عيّن مهرّجا يقلّد أعمال الإمام عليّ عليه‌السلام في مجالسه ومحافله ، ويستهزئ وينال من تلك الشخصية العظيمة.

وأمر بتخريب قبة الإمام الحسين ، وضريحه ، والكثير من الدور المجاورة له ، وأمر بفتح المياه على حرم الإمام وقبره ، وأبدلت أرضها إلى ارض زراعيّة ، كي يقضوا على جميع معالم هذا المرقد الشريف.

وفي زمن المتوكل ، أصبحت حالة السادة العلويين في الحجاز متدهورة ، يرثى لها ، كانت نساؤهم تفتقر إلى ما يسترها ، والأغلبيّة منها كانت تحتفظ بعباءة بالية ، يتبادلنها في أوقات الصلاة ; لأجل إقامتها ، وكان الوضع لا يقلّ عن هذا في مصر بالنسبة إلى السادة العلويين.

كان الإمام العاشر متحملاً ، صابراً لكلّ أنواع هذا الاضطهاد والأذى. وبعد وفاة المتوكل ، جاء كلّ من المنتصر ، والمستعين ، والمعتز ، إلى منصّة الخلافة ، واستشهد الإمام بأمر من المعتز الخليفة العباسي.

الإمام الحادي عشر :

الإمام الحسن بن عليّ عليه‌السلام ( العسكري ) ابن الإمام العاشر ، ولد سنة ٢٣٢ هـ وفي سنة ٢٦٠ هـ ، دسّ إليه السمّ ، بإيعاز من المعتمد ، الخليفة العباسي ، وقضى نحبه

٤٢٨

مسموماً.

الإمام الحادي عشر ، جاء إلى مقام الإمامة بعد أبيه ، بأمر من الله تعالى ، وحسب ما أوصى به أجداده الكرام ، وطوال مدّة خلافته التي لا تتجاوز السبع سنين ، كان ملازماً التقيّة ، وكان منعزلا عن الناس حتّى الشيعة ، ولم يسمح إلا للخواص من أصحابه بالاتّصال به ، مع كلّ هذا فقد قضى زمنا طويلاً في السجون.

والسبب في كلّ هذا الاضطهاد هو :

أولا : كان قد وصل عدد الشيعة إلى حدّ يلفت الأنظار ، وإنّ الشيعة تعترف بالإمامة ، وكان هذا الأمر واضحاً جليّاً للعيان ، وإنّ أئمّة الشيعة كانوا معروفين ، فعلى هذا كانت الحكومة آنذاك تتعرّض للائمّة أكثر من ذي قبل ، وتراقبهم ، وكانت تسعى للإطاحة بهم ، وإبادتهم بكلّ الوسائل الخفيّة.

ثانياً : قد اطلعت الدولة العباسية على أنّ الخواص من الشيعة يعتقدون أنّ هناك ولداً للإمام الحادي عشر ، وطبقا للروايات التي تنقل عن الإمام الهادي ، وكذا من أجداده يعرفونه بـ ( المهدي الموعود ) وقد أخبر عنه النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموجب الروايات المتواترة عن الطريقين العامّة والخاصّة ، ويعتبرونه الإمام الثاني عشر لهم.

ولهذا السبب كان الإمام الحادي عشر أكثر مراقبة من سائر الأئمّة ، فصمّم خليفة الوقت أنْ يقضي على موضوع الإمامة عند الشيعة بكلّ وسيلة تقتضي الضرورة لذلك ، وبهذا يغلق هذا البحث ـ الإمامة ـ الذي طالما كان مثاراً لإزعاجهم.

ولمّا سمع المعتمد الخليفة العباسي ، بمرض الإمام الحادي عشر ، أرسل إليه الأطباء مع عدد من القضاة ، ومن يعتمد عليهم ، كي يراقبوا الإمام عن كثب ، وما يجري في داره ، وبعد استشهاد الإمام ووفاته ، فتّشوا البيت بدقّة ، وفحصوا

٤٢٩

الجاريات اللواتي كنّ يخدمن في بيت الإمام ، بواسطة الممرضات ( القابلات ) ، وبقوا يبحثون عن خلف للإمام لمدّة سنتين ، حتّى استولى عليهم اليأس.

دفن الإمام الحادي عشر بعد وفاته في داره ، في مدينة سامراء ، بجوار مدفن أبيه.

ولا يخفى أنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام طوال حياتهم علّموا وربّوا العديد من العلماء والمحدّثين ، إذ يصل عددهم المئات ، ومراعاة للاختصار لم نستعرض فهرست أسماء هؤلاء ومؤلّفاتهم ، والآثار العلمية التي تركوها ، وشرحاً لأحوالهم.

ولم يبقّ إلا الإمام الثاني عشر ، الإمام المهدي المنتظر عجّل الله فرجه الشريف ، الذي سيملأ الأرض قسطا وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً ، فهو الوعد الإلهي الذي تنتظره الأرض والسماء ، وبشّرت به جميع الديانات ، والذي تواترت عنه الأخبار والروايات عند جميع طوائف المسلمين ، ونسأل الله العلي القدير أنْ يعجل بظهوره الشريف ، وأنْ يكرمنا به عليه‌السلام ، حتّى يعود الحقّ إلى أهله ، وحتّى يزول الظلم والجور من العالم.

اللهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن ، صلواتك عليه وعلى آبائه ، في هذه الساعة ، وفي كلّ ساعة ، وليّاً وحافظاً ، وقائداً وناصراً ، ودليلاً وعيناً ، حتّى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتّعه فيها طويلاً ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

٤٣٠

اغتيال السنّة النبوية

قال تعالى في سورة البقرة : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (١).

قال تعالى في سورة آل عمران : ( وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) (٢).

وقال تعالى في سورة البقرة : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣).

هذا بحث آخر أقدّمه بين يدي القارئ العزيز ، محاولاً فيه المقارنة بين اليهود والنصارى ، وبين الأمّة الإسلامية ، حيث قام اليهود والنصارى ، بنبذ سنن أنبيائهم وراء ظهورهم ، أبيّن فيه أنّ المسلمين قد نبذوا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله وأحاديثه ، ولم يكترثوا بها ، بل يمكن القول أنهم قد اغتالوا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديثه خصوصاً في العصور الأولى للإسلام.

ولا تستغرب ذلك ولا تستعجب ، فكما حاولت الأمّة اغتيال رسول

__________________

(١) البقرة : ١٥٩.

(٢) آل عمران : ١٨٧.

(٣) البقرة : ١٤٦.

٤٣١

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أثبتنا لك في بحث اغتيال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك قاموا بعزل أهل بيت النبوّة والرحمة ، واغتالوهم وقتلوهم ، فإنّه من السهل عليهم اغتيال سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطمسها وحرقها ، ومنع المسلمين من تدوينها والجهر بها.

هذا المنع من تدوين السنّة ، ومحاولة اغتيالها ، خطّطوا ورسموا له في وقت مبّكر ، أثناء وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ، إذاً ، فأمر محاربة السنّة النبويّة ، ومنع تدوينها ، وعدم الاعتراف بها ، كان مدبّراً مسبقاً من قبل عدد من الصحابة حتّى أثناء وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم في المدينة المنورة.

روى الحاكم في المستدرك ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشر يتكلّم في الرضا والغضب قال : فأمسكت فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « أكتب ، والذي نفسي بيده ما خرج منّي إلا حقّ » وأشار بيده إلى فمه (١).

وأخرجه أبو داود في ، السنن عن مسدد وأبي بكر بن أبي شيبة بسندهما عن عبد الله بن عمرو ، إلا أنّه قال : « ما يخرج منه إلا حقّ » (٢).

كما أنّهم أعلنوا ذلك صراحة وعلناً قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيّام ، عندما دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً ، فقالوا : حسبنا كتاب الله. وهذا معناه أنّهم لا يريدون السنّة النبويّة.

وروى البخاري في صحيحه ، حدّثنا قتيبة ، حدّثنا سفيان ، عن سليمان ، الأحول ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عبّاس : يوم الخميس وما يوم الخميس ،

__________________

(١) المستدرك ١ : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١٧٦.

٤٣٢

اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال : ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ، فقالوا : ما شأنه ، أهجر؟ استفهموه. فذهبوا يردّون عليه. فقال : دعوني ، فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه. وأوصاهم بثلاث قال : اخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيتها (١).

روى البخاري في صحيحه ، عن ابن عبّاس قال : لمّا اشتد بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجعه قال : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده » قال عمر : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : « قوموا عنّي ، ولا ينبغي عندي التنازع » فخرج ابن عبّاس يقول : إنّ الرزيّة كلّ الرزية ، ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين كتابه (٢).

روى مسلم في صحيحه ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عبّاس : يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثمّ بكى ، حتّى بلّ دمعه الحصى. فقلت : يا ابن عبّاس! وما يوم الخميس؟ قال : اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه. فقال : « ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي » فتنازعوا ، وما ينبغي عند نبي تنازع. وقالوا : ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه. قال : « دعوني ، فالذي أنا فيه خير ، أوصيكم بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ». قال : وسكت عن الثالثة ، أو قال : فأنسيتها (٣).

وبقولهم حسبنا كتاب الله ، يظهر ذلك الأمر بشكل واضح جليّ ، أنّ المؤامرة على السنّة النبويّة كانت مدبّرة مسبقاً ، ومخطّطاً لها من عدد كبير من الصحابة المنافقين ، ومع أنّ القرآن الكريم ذكر في عدّة آيات ، أنّ كلّ ما يقوله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٣٧.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٣٧.

(٣) صحيح مسلم ٥ : ٧٥.

٤٣٣

وحي. قال تعالى في سورة النجم : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١) ، وقال تعالى في سورة الحشر : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٢). وإنّ السنّة مثل القرآن ، وأهمّيتها واضحة للمسلمين. فلم يبيّن القرآن أغلب الأحكام التفصيلية ، بل بيّنتها السنّة النبويّة ، كعدد ركعات الصلاة ، وكيفيّة أداء العبادات وتفاصيلها ، وغير ذلك من الأحكام ; ولذلك فإنّ السنّة لا تفصل عن القرآن ، والقرآن لا ينفصل عن السنّة. إلا أنّهم قالوا حسبنا كتاب الله ، ولم يريدوا السنّة النبويّة.

أمّا بالنسبة لموقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أوتي علم الأوّلين والآخرين ، فقد كان على علم بذلك المخطّط الرهيب لاغتيال السنّة ; ولذلك قام بعدّة خطوات للمحافظة عليها ، وأيضاً لكشف المتآمرين في المستقبل عند كلّ من له عقل سليم ، وإحساس حي.

أمّا بالنسبة للنقطة الأولى ، وهي المحافظة على السنّة ، فقد كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه يدوّن بخطّ يده ، وإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدوّن جميع تفاصيل سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحيفة ، تعرف بالصحيفة العلوية.

هذه الصحيفة العلوية المباركة ، تحتوي على جميع تفاصيل الأحكام الشرعيّة ، صغيرها وكبيرها ، وهي التي تناقلها الأئمّة الأطهار من أهل بيت النبوّة والرحمة من آبائهم إلى أبنائهم ، وعلّموها لأتباعهم وشيعتهم ; ولذلك لا يمكن أنْ يدخل إلى طريق أتباع أهل البيت سلام الله عليهم ، أيّ تبديل أو تغيير على ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يختلف أيّ إمام عن إمام في الأحكام والعقائد ; لأنّها من

__________________

(١) النجم : ٣ ـ ٤.

(٢) الحشر : ٧.

٤٣٤

نبع واحد. ولم يحصل انقطاع في تدوين السنّة عند الأئمّة من أهل البيت سلام الله عليهم.

ولكنّني في هذا المقام ، أريد أنْ أثبت وجود هذه الصحيفة المباركة من كتب وصحاح أهل السنّة والجماعة ، ومن البخاري ومسلم.

فقد اعترفوا بوجودها ، وأنّها مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه ، وأنّها تحتوي على أحكام شرعيّة بخطّ أمير المؤمنين ، وإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحتّى لو حاولوا التقليل من شأنها ، إلا أنّهم لم يستطيعوا إنكار وجودها ، ووجود سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها.

وقبل أنْ أقدّم لك عزيزي القارئ ، الأحاديث الصحيحة ، والتي تثبت وتعترف بوجود سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أمير المؤمنين عليّ من تلك الصحيفة ، التي دوّن فيها الوحي الذي نطق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي لا ينطق عن الهوى ، قبل ذلك ، أذكر بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين والذي يعلم مسبقاً بمؤامرة اغتيال السنّة ، كان عليه الصلاة والسلام وبأمر إلهي ، قد وجّه المسلمين إلى موالاة أمير المؤمنين عليّ ، وإلى أهل البيت ، كما ذكر ذلك من خلال عشرات الأحاديث ، بل مئات الأحاديث ، من كتب وصحاح أهل السنّة ، والتي ذكرنا قسماً كبيراً منها خلال بحثنا.

وأيضاً قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوجيه المؤمنين بأنّ الحقّ مع عليّ ، وعليّ مع الحقّ ، وأنّ القرآن مع عليّ ، وعليّ مع القرآن ، فدوروا حيث دار.

روى السيوطي في الجامع الصغير : « عليّ مع القرآن ، والقرآن مع عليّ ، لن

٤٣٥

يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (١).

قال السيوطي : أخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، والديلمي ، وابن عساكر ، وابن النجّار قال : لمّا نزلت( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد ) (٢) ، وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره فقال : « أنا المنذر ، وأومأ بيده إلى منكب عليّ رضي‌الله‌عنه ، فقال : أنت الهادي يا عليّ ، بك يهتدي المهتدون من بعدي » (٣).

وقال : وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، الطبراني ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « أيّها الناس ، إنّي تارك فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا بعدي ، أمرين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض » (٤).

روى الطبراني وغيره ، عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركب فيها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » (٥).

هذه جملة مختصرة من الأحاديث التي مر ذكرها سابقاً بمتونها المختلفة ، تبيّن للمسلمين أنّه في حال حصول الخلل بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعليكم معاشر المسلمين بعد أنْ تروا خلفاءكم وأمراءكم يحرفون سنّة نبيّكم ، ويمنعوا الناس من الجهر بها ، عليكم باتّباع الحقّ الذي مع عليّ وابنائه ، يبينون لكم ما تختلفون فيه فهم أوصياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دعوته.

__________________

(١) الجامع الصغير ٢ : ١٧٧.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) الدرّ المنثور ٤ : ٤٥.

(٤) المصدر نفسه ٢ : ٦٠.

(٥) المعجم الكبير ٣ : ٤٦.

٤٣٦

والآن أقدّم للقارئ العزيز جملة من الأحاديث التي تعترف بالصحيفة العلوية ، من صحاح أهل السنّة.

روى البخاري في صحيحه ، عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ : هل عندكم كتاب؟ قال : « لا ، إلاّ كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة ». قال : قلت : فما في هذه الصحيفة؟ قال : « العقل ، وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر » (١).

روى البخاري في صحيحه ، عن عليّ رضي‌الله‌عنه قال : « ما عندنا شيء ، إلا كتاب الله ، وهذه الصحيفة ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : « المدينة حرم ، ما بين عائر إلى كذا ، من أحدث فيها حدثاً ، أو آوى محدثاً ، فعليه لعنة الله ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل. وقال : ذمّة المسلمين واحدة ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومن تولّى قوماً بغير إذن مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل » (٢).

روى البخاري في صحيحه ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : خطبنا عليّ فقال : « ما عندنا كتاب نقرؤه ، إلا كتاب الله ، وما في هذه الصحيفة » ، فقال : « فيها الجراحات ، وأسنان الإبل ، والمدينة حرم ما بين عير إلى كذا ، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى فيها محدثاً ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ومن تولّى غير مواليه ، فعليه مثل ذلك ، وذمّة المسلمين واحدة ، فمن أخفر مسلماً فعليه مثل ذلك. ولقد رواه البخاري في أكثر من موضع في صحيحه ، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، وكتاب الديات ، وكتاب الفرائض ،

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣٦.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ٢٢١.

٤٣٧

وفي باب إثمّ من عاهد ثمّ غدر ، وفي كتاب الجهاد والسير ، وفي باب فضائل المدينة ، وفي كتاب العلم (١).

إذن هو يعترف بالصحيفة العلوية في مواضع عديدة من صحيحه ، واخترت لك الأحاديث التي فيها أحكام من هذه الصحيفة تختلف فيما بينها ، أي أنّ الصحيفة تحتوي على العشرات من الأحكام الشرعيّة ، ففي الحديث الأول ذكر أحكاماً تتعلّق بالعقل والأسير والحدود الشرعيّة ، وفي الثاني تتعلّق بحدود المدينة الجغرافية ، وحكم الإحداث فيها ، وأحكام الذمّة ، وأحكام التولّي ، وفي الثالث أحكاماً تتعلّق بالجراحات ، وأسنان الإبل ، وإنّ ذمّة المسلمين واحدة.

روى مسلم في صحيحه ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، قال : خطبنا عليّ بن أبي طالب فقال : « من زعم أنّ عندنا شيئاً نقرأه ، إلا كتاب الله وهذه الصحيفة ( قال : وصحيفة معلّقة في قراب سيفه ) فقد كذب. فيها أسنان الإبل ، وأشياء من الجراحات. وفيها قال النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم : « المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاً ، أو آوى محدثاً ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ، ولا عدلاً ، وذمّة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، ومن ادّعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً » (٢).

روى أبو داود في سننه ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن عليّ قال : « ما كتبنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا القرآن ، وما في هذه الصحيفة. قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور ، فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل منه

__________________

(١) اُنظر صحيح البخاري ٤ : ٣٠ ، ٦٩ ، ٨ : ١٠ ، ٤٥ ، ٤٧ ، ١٤٤.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١١٥.

٤٣٨

عدل ولا صرف ، وذمّة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة أجمعين ، لا يقبل منه عدل ولا صرف » (١).

وروى النسائي في سننه ، عن الشعبي قال : سمعت أبا جحيفة يقول : سألنا عليّاً فقلنا : هل عندكم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيء سوى القرآن؟ فقال : « لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا أنْ يعطي الله عزّ وجلّ عبداً فهماً في كتابه ، أو ما في هذه الصحيفة ». قلت : وما في الصحيفة؟ قال : « فيه ، العقل ، وفكاك الأسير وأنّ لا يقتل مسلم بكافر » (٢).

ولقد روى الأحاديث التي تعترف بوجود تلك الصحيفة كلّ كتب أهل السنّة وصحاحهم ، وأكتفي بما ذكرت لك. وحتّى أنّهم لو قلّلوا من شأنها ، فإنّهم اعترفوا بوجودها ، ولم يستطيعوا أنْ ينكروها ، ولا يمكن أنْ تكون تحتوي على ثلاثة أحكام شرعية فقط ; لأنّه لا داعي أنْ يكتب أمير المؤمنين ثلاثة أحكام ، ولا يستطيع أنْ يحفظها غيباً ، فوجود الصحيفة مكتوبة ، يعني أنّها تحتوي على كلّ الأحكام الشرعية.

بعد كلّ هذا البيان ، أكون قد أكدت لك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استوفى شروط النقطة الأولى ، وهي المحافظة على أحكام الشرع ، مدوّنة عند أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وبتوجيه الدعوة بالتشيّع له واتّباعه. وأيضاً فقد أقام الله سبحانه الحجّة على أولئك الذين يشنّعون أو يطعنون في أمير المؤمنين وأتباعه وشيعته ، بأنْ أظهر لهم من كتبهم وجود الحقّ مع عليّ ، ووجود الصحيفة العلويّة عنده وعند الأئمّة الأطهار من ولده.

ثمّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل تطويق أولئك الذين يريدون اغتيال السنّة النبويّة

__________________

(١) سنن أبي داود ١ : ٤٥٢.

(٢) سنن النسائي ٤ : ٢٢٠.

٤٣٩

وكشفهم ، أمَرَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بالتبليغ عنه ، والحديث عنه ، وإنّ من حدّث عنه ، له ثواب عظيم عند الله ، سواء أكان بكتابة حديثه أو نشره. وإليك هذه المجموعة من الأحاديث النبويّة :

جاء في الجامع الصغير : « اللهمّ ارحم خلفائي ، الذين يأتون من بعدي ، ويروون أحاديثي ، وسنّتي ويعلّمونها للناس » (١).

وحديث من حفظ على أمّتي أربعين حديثاً ، فقد روي عن ثلاثة عشر صحابيا ، وبأكثر من عشرين طريقاً ، فقد روي عن عليّ ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وأبي الدرداء ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأبي امامة ، وابن عبّاس ، وابن عمر ، وابن عمرو ، وجابر بن سمرة ، وأنس ، وبريدة ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : « من حفظ على أمّتي أربعين حديثاً من السنّة ، كنت له شفيعاً يوم القيامة » (٢).

قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : « من حفظ على أمّتي أربعين حديثاً من أمر دينها ، بعثه الله يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء » (٣).

وفي كنز العمّال : عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : « من تعلّم أربعين حديثاً ابتغاء وجه الله تعالى ، ليعلّم به أمّتي في حلالهم وحرامهم ، حشره الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عالماً » (٤).

و : « من نقل عنّي إلى من لم يلحقني من أمّتي أربعين حديثا ، كُتب في زمرة العلماء ، وحشر في جملة الشهداء » (٥).

__________________

(١) الجامع الصغير ١ : ٢٣٣.

(٢) الأربعين البلدانية : ٤١ ، كتاب الأربعين : ٨٦.

(٣) الأربعين البلدانية : ٤١.

(٤) كنز العمّال ١٠ : ١٦٤ ، رواه أبو نعيم ، عن عليّ عليه‌السلام.

(٥) كنز العمّال ١٠ : ٢٢٥.

٤٤٠