سبيل المستبصرين

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني

سبيل المستبصرين

المؤلف:

الدكتور السيد صلاح الدين الحسيني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-41-6
الصفحات: ٦٠٠

مبارزة المسلمين فلم يخرج له أحد من الصحابة خوفاً منه ، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم : من يخرج له وأنا أضمن له الجنّة ، فلم يخرج له منهم أحد ، إلاّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والذي قتل عمرو بن ودّ.

في المصنوعة قال : ( الدراع ) حدّثنا صدقة بن موسى ، حدّثنا سلمة بن شبيب ، حدّثنا عبد الرزاق ، حدّثنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن ابن عبّاس قال : قتل عليّ بن أبي طالب عمرو بن ودّ ، ودخل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فلمّا رآه ، كبّر وكبّر المسلمون فقال : « اللّهم أعطِ عليّاً فضيلة لم تعطها أحداً قبله ، ولا تعطها أحداً بعده » ، فهبط جبريل ومعه أترجة من الجنّة فقال : إنّ الله يقول : حيّ بهذه عليّ بن أبي طالب ، فدفعها إليه ، فانفقلت في يده فلقتين ، فإذا حريرة بيضاء مكتوب فيها سطرين : « تحيّة من الطالب الغالب ، إلى عليّ بن أبي طالب » (١).

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة (٢).

وقال النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام قال : برز الإيمان كلّه إلى الكفر كلّه (٣).

وروي عن حذيفة ابن اليمان أنّه قال : والذي نفس حذيفة بيده لعمله « أي قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام لعمرو بن ودّ يوم الخندق » ذلك اليوم أعظم أجراً من أعمال أمّة محمّد إلى هذا اليوم وإلى أنْ تقوم القيامة (٤).

وكان الفتح في ذلك اليوم على يد عليّ عليه‌السلام ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين » (٥).

وأيضاً في غزوة خيبر. كانت لأمير المؤمنين المواقف المشرّفة والعظيمة.

__________________

(١) اللآليّ المصنوعة ١ : ٣٣٨.

(٢) المستدرك ٣ : ٣٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢٦١.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٩ : ٦١.

(٥) المواقف ٣ : ٦٢٨.

٢٦١

فبعد أنْ لم يستطع أبو بكر أنْ يفتح الحصون وكذلك عمر. دُعي أمير المؤمنين لتلك المهمّة التي استعصت على كبار الصحابة ، فقام هو عليه‌السلام بتلك المهمّة ، وفتح الله على يده الحصون ، حصون خيبر. فما روي عن أبي بكر وهزيمته ، وعمر وتجبين أصحابه له عند بعثهم لفتح خيبر ، صحّحه كلّ من الحاكم والذهبي ، فقد نقل الحاكم روايتين حول أبي بكر.

عن مسلمة بن الأكوع قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل وجهد ولم يكن فتح ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال الذهبي في التلخيص : صحيح (١).

وعن أبي ليلى ، عن عليّ ، أنّه قال : يا أبا ليلى ، أما كنت معنا بخيبر؟ قال : بلى ، والله كنت معكم ، قال : فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث أبا بكر إلى خيبر ، فسار بالناس وانهزم حتّى رجع ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه هذا وقال في التلخيص : صحيح (٢).

ويروي الحاكم أيضاً روايتين عن دور عمر يوم خيبر : الأولى عن عليّ قال : « سار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر ، فلمّا أتاها ، بعث عمر وبعث معه الناس إلى مدينتهم أو قصرهم فقاتلوهم ، فلم يلبثوا أنْ هزموا عمر وأصحابه ، فجاءوا يجبّنونه ويجبّنهم ، فسار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الحديث ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال في التلخيص : صحيح (٣).

والرواية الأخرى عن جابر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دفع الراية يوم خيبر إلى عمر ، فانطلق فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه ، قال الحاكم : هذا حديث

__________________

(١) المستدرك ٣ : ٣٧.

(٢) المستدرك ٣ : ٣٧.

(٣) المستدرك ٣ : ٣٧.

٢٦٢

صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (١).

إلى أنْ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتفّق عليه عند أصحاب الحديث : « لأبعثن رجلاً ، لا يخزيه الله أبداً ، يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله » (٢) ، وفي رواية : « لا يولّي الدبر يفتح الله على يديه » (٣).

روى البخاري في صحيحه ، حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمّد بن عبد الله بن عبد القاري ، عن أبي حازم قال : أخبرني سهل رضي‌الله‌عنه ، يعني ابن سعد ، قال : قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غداً ، رجلاً يفتح على يديه ، يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ». فبات الناس ليلتهم : أيّهم يُعطى ، فغدوا كلّهم يرجونه ، فقال : « أين عليّ » فقيل : يشتكي عينيه ، فبصق في عينيه ودعا له ، فبرأ كأنْ لم يكن به وجع ، فأعطاه ، فقال : أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ فقال : « أنفذ على رسلك ، حتّى تنزل بساحتهم ، ثُمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لأنّ يهدي الله بك رجلاً ، خير لك من أنْ يكون لك حمر النعم » (٤).

وروى مسلم في صحيحه ، حدّثنا قتيبة بن سعيد ، حدّثنا عبد العزيز « يعني ابن أبي حاكم » عن أبي حازم ، عن سهل. ح وحدّثنا قتيبة بن سعيد ( واللفظ هذا ) ، حدّثنا يعقوب ( يعني ابن عبد الرحمن ) عن أبي حاكم ، أخبرني سهل بن سعد : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم خيبر : « لأعطينّ هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله » قال : فبات الناس يدكون ليلتهم أيّهم يعطاها ، قال : فلمّا أصبح الناس ، غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ،

__________________

(١) المستدرك ٣ : ٣٨.

(٢) مسند أحمد ١ : ٣٣١ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٣٢.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٨.

(٤) صحيح البخاري ٤ : ٢٠.

٢٦٣

كلّهم يرجون أنْ يعطاها. فقال « أين عليّ بن أبي طالب »؟ فقالوا : هو ، يا رسول الله! يشتكي عينه قال : فأرسلوا إليه فأتي به ، فبصق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عينيه ، ودعا له ، فبرأ ، حتّى كأنْ لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال عليّ : « يا رسول الله! أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا ». فقال : « أنفذ على رسلك. حتّى تنزل بساحتهم ، ثُمّ ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فيه ، فوالله! لأنّ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أنْ يكون لك حمر النعم » (١).

وكذلك مواقفه في حنين ، عندما هرب كبار الصحابة من ساحة المعركة ، وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام يواجهان الكفّار مع بعض المخلصين. وإليك هذا الحديث عن هروب عمر وكبار الصحابة يوم حنين :

روى البخاري في صحيحه ، حدّثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أبي محمّد مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة قال : خرجنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عام حنين ، فلمّا التقينا ، كانت للمسلمين جولة ، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين ، فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف ، فقطعت الدرع ، وأقبل عليّ فضمّني ضمّة وجدت منه ريح الموت ، ثُمّ أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر فقلت : ما بال الناس؟ قال : أمر الله عزّ وجلّ (٢).

عندما نزلت سورة براءة ، لم يُرد الله إلاّ أنْ يبلغها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه أو رجل من أهل بيته ، بذلك أمر جبرائيل عليه‌السلام ، فأعطاها عليّاً ، فعليّ إذن ، توكُلّ إليه المهمّات ، حتّى في تبليغ الوحي ; لأنّه لا يجوز أنْ يقوم بهذه المهمّة إلاّ رجل قد طهّره الله واصطفاه ، ولأنّها سورة تتعرّض كثيراً لفضح المنافقين ومؤامراتهم ، فلا يمكن أنْ يبلّغها إلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رجل قد طهّره الله من الرجس والنفاق ، فأبى الله أنْ يبلّغها

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٠٠.

٢٦٤

رجل لم يعصمه الله ، ولم يذهب عنه الرجس ، وربّما كان داخلاً في دائرة من توعدتهم سورة براءة.

إذن فتبليغ الوحي مهمّة عظيمة ، لا ينوب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها إلا شخص مثل عليّ ، قال عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ منّي وأنا من عليّ ، ولا يؤدّي عنّي إلا أنا أو عليّ » (١) ، ولذلك انتزعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبي بكر ، حتّى يُري المسلمين جميعاً أنّ ابا بكر ليس من أهل هذا المقام ، ولقد كانت حركة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه بشكل قاطع وجازم ، أنّها من الوحي ; لإقامة الحجّة على المسلمين بتقديم عليّ بن أبى طالب بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على غيره من الصحابة.

فقد روى النسائي قال أخبرنا زكريا بن يحيى قال : حدّثنا عبد الله بن عمر قال : حدّثنا أسباط عن فطر ، عن عبد الله بن شريك ، عن عبد الله بن رقيم ، عن سعد قال : بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر ببراءة حتّى إذا كان ببعض الطريق أرسل عليّاً فأخذها منه ، ثُمّ سار بها ، فوجد أبو بكر في نفسه فقال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « إنّه لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي » (٢). هذا وقد ذكرت هذه الرواية بأسانيد ومتون مختلفة ، في مصادر أهل السنّة ، ذكرنا واحدة منها فقط للاختصار (٣).

وأيضاً لبيان عظمة ومنزلة أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب عند الله ورسوله ، فقد زوّجه الله بسيّدة نساء العالمين ، وسيّدة نساء أهل الجنّة بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فوق سبع سماوات ، والتي غضبها من غضب الله ، ورضاها من رضى الله ، حيث كان قد تقدّم لخطبتها أبو بكر ، وعمر

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٠٠.

(٢) السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٢٩.

(٣) اُنظر مثلاً : مسند أحمد ١ : ٣ ، مسند أبي يعلى ١ : ١٠٠ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ١١٧ ، الدرّ المنثور ٣ : ٢٠٩.

٢٦٥

ابن الخطّاب ، ويأبى الله إلا أنْ تكون زوجة لأمير المؤمنين ، تدليلاً على صدقه وإخلاصه وعظيم منزلته عند الله ، فهو سلام الله عليه ، أهل لكلّ منزلة عظيمة ، في جميع نواحي الحياة.

فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى : خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله ، فقال النبيّ : « هي لك يا عليّ ، لست بدّجال » ، يعني لست بكذّاب (١).

في مجمع الزوائد : عن حجر بن عنبس قال : خطب عليّ رحمة الله عليه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فقال : « هي لك يا عليّ لست بدجّال ». وقال : رجاله ثقات (٢).

وعلى ذلك ، فقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستغني عن وجود أمير المؤمنين في الغزوات المهمّة والقضايا الخطيرة. ولولا أنّ بقاءه عليه‌السلام في المدينة كان أهم وأعظم من خروجه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك ، لما أبقاه فيها ، فبقاء أمير المؤمنين عليه‌السلام في المدينة قد عطّل عمليّة الانقلاب التي كان مخطّطاً لها أنْ تكون إذا نجحت عمليّة اغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولذلك عندما أدرك المنافقون أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر سيّدنا أمير المؤمنين في البقاء وعدم الخروج إلى تبوك ، تنبّهوا أنّ في وجود أمير المؤمنين في المدينة فشل لمخطّطاتهم الانقلابيّة ; لأنّ المسلمين جميعاً ، لا يستطيعون أنْ يجاروا أمير المؤمنين في أيّ شيء ، لا في إيمانه ولا في علمه ولا في قوّته وشجاعته وإقدامه عليه‌السلام ، وقصّة رفعه باب خيبر ، وعدم استطاعة ـ على الأقل ـ أربعين صحابيّاً تحريكه ، مشهورة عند كلّ المسلمين بشكل لا يداخله الشك.

روى إسماعيل بن كثير الدمشقي في كتابه البداية والنهاية : قال يونس : عن ابن إسحاق ، حدّثني عبد الله بن الحسن ، عن بعض أهله ، عن أبي رافع مولى رسول

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٨ : ١٩.

(٢) مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٤.

٢٦٦

الله صلّى الله عليه وسلّم قال : خرجنا مع عليّ إلى خيبر ، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برايته ، فلمّا دنا من الحصن ، خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه رجل منهم من يهود ، فطرح ترسه من يده ، فتناول عليّ باب الحصن ، فترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح الله عليه ، ثُمّ ألقاه من يده ، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم ، نجهد على أنْ نقلب ذلك الباب ، فما استطعنا أنْ نقلبه.

وروى الحافظ البيهقي ، والحاكم ، من طريق مطلب بن زياد ، عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر الباقر ، عن جابر : أنّ عليّاً حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فافتتحوها ، وأنّه جُرّب بعد ذلك ، فلم يحمله أربعون رجلاً (١).

لكلّ ذلك ، بدأ المنافقون من الصحابة بعد خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك ، يحاولون أنْ لا يبقى أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في المدينة فبدأوا يعيّرونه ويعيبون عليه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلّفه في النساء والصبيان. في محاولة منهم لإخراجه من المدينة ، فهو الشجاع المقدام الذي لا يمكن أنْ يرضى بتلك التهمة من المنافقين من الصحابة.

فقام عليه‌السلام ، وخرج في إثر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره أنّ المنافقين من الصحابة يعيّرونه ; لأنّه بقي في النساء والصبيان ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارجع إلى المدينة ، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنّه لا نبي بعدي.

فقد روي في عشرات الروايات في كتب وصحاح أهل السنّة ، ذكرُ هذه الحادثة ، قال إسماعيل بن كثير الدمشقي في كتابه البداية والنهاية : قال ابن إسحاق : وخلّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّ بن أبى طالب على أهله ، وأمره بالإقامة فيهم ، فأرجف به المنافقون ، وقالوا : ما خلّفه إلا استثقالاً له ، وتخفّفاً منه ، فلمّا قالوا ذلك ، أخذ عليّ سلاحه ، ثُمّ خرج حتّى لحق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو نازل بالجرف ، فأخبره بما قالوا. فقال : « كذبوا ، ولكنّي خلّفتك لما

__________________

(١) اُنظر البداية والنهاية ٤ : ٢١٦.

٢٦٧

تركت ورائي ، فارجع ، فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا عليّ أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنّه لا نبيّ بعدي ». فرجع عليّ ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره (١).

وعاد أمير المؤمنين إلى المدينة ، ولم ينجح المنافقين من الصحابة في مؤامرتهم ومخطّطهم لإخراج أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب سلام الله عليه وابعاده عنها.

والآن ننتقل إلى قضيّة محاولة اغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر بعض التفاصيل عنها من روايات وأحاديث صحيحة وردت في كتب وصحاح أهل السنّة ، فإليك الأحاديث التي تؤكّد محاولة اغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثناء عودته من تبوك ، وإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ذكر تلك المحاولة التي نجّاه الله منها ، بعد أنْ أطلعه جبريل عليه‌السلام على تفاصيلها ، فكشفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيّنها وذكر أسماء الصحابة المنافقين الذين كانوا على رأس تلك المحاولة ، حيث أخبر بأسمائهم لعدد من الصحابة المخلصين ، منهم حذيفة ابن اليمان رضي‌الله‌عنه.

روى مسلم في صحيحه ، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا أسود بن عامر ، حدّثنا شعبة بن الحجّاج ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن قيس قال : قلت لعمّار أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتهم في أمر عليّ ، أرأياً رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس كافة ، ولكن حذيفة أخبرني عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : « في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة » ، وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ٥ : ١١.

(٢) صحيح مسلم ٨ : ١٢٢.

٢٦٨

قال ابن كثير : قال الحافظ البيهقي : وروينا عن حذيفة أنّهم كانوا أربعة عشر ، أو خمسة عشر ، وأشهد بالله أنّ اثنى عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة أنّهم قالوا : ما سمعنا المنادي ، ولا علمنا بما أراد (١).

في مسند أحمد حدّثنا عبد الله ، حدّثني أبي ثنا أسود بن عامر ، ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن قيس قال : قلت لعمّار : أرأيتهم صنيعكم هذا الذي صنعتم فيما كان من أمر عليّ رأياً رأيتموه ، أم شيئا عهد إليكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقال : لم يعهد إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً لم يعهده إلى الناس كافّة ، ولكنّ حذيفة أخبرني عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : « في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، منهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط » (٢).

قال ابن كثير : وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده قال : حدّثنا يزيد ـ هو ابن هارون ـ أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال : لمّا أقبل رسول الله من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى ، أنّ رسول الله آخذ بالعقبة ، فلا يأخذها أحد ، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوده حذيفة ، ويسوقه عمّار ، إذ أقبل رهط متلثّمون على الرواحل ، فغشوا عمّاراً وهو يسوق برسول الله ، وأقبل عمّار يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله لحذيفة : « قد قد » حتّى هبط رسول الله من الوادي ، فلمّا هبط ورجع عمّار ، قال : « يا عمّار ، هل عرفت القوم » قال : قد عرفت عامّة الرواحل والقوم متلثّمون قال : « هل تدري ما أرادوا » ، قال : الله ورسوله أعلم ، قال : « قال : أرادوا أنْ ينفروا برسول الله فيطرحوه » قال : فسارّ عمّار رجلاً من أصحاب النبيّ فقال : نشدتك بالله ، كم تعلم كان أصحاب العقبة قال : أربعة عشر رجلاً ، فقال : إنْ كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر ، قال : فعذر

__________________

(١) البداية والنهاية ٥ : ٢٦.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٩٠.

٢٦٩

رسول الله منهم ثلاثة ، قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله ، وما علمنا ما أراد القوم ، فقال عمّار : أشهد أني الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد (١).

وروى أحمد في مسنده أيضاً بسنده إلى أبي الطفيل قال : كان بين حذيفة وبين رجل من أهل العقبة ما يكون بين الناس ، فقال أنشدك الله ، كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم : أخبره إذ سألك ، قال : إنْ كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر ، وقال أبو نعيم : فقال الرجل : كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر قال : فإنّ كنت منهم ، وقال أبو نعيم فيهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أنّ اثنى عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، قال أبو أحمد : الأشهاد وعدّنا ثلاثة ، قالوا : ما سمعنا منادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وما علمنا ما أراد القوم ، قال أبو أحمد في حديثه : وقد كان في حرة فمشى فقال للناس : إنّ الماء قليل ، فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوماً قد سبقوه ، فلعنهم يومئذ (٢).

جاء في فيض القدير : ( في أصحابي ) الذين ينسبون إلى صحبتي ( اثنا عشر منافقاً ) هم الذين جاؤوا متلثّمين ، وقد قصدوا قتله ليلة العقبة ، مرجعه من تبوك ، حتّى أخذ مع عمّار وحذيفة طريق الثنيّة ، والقوم ببطن الوادي ، فحماه الله منهم ، وأعلمه بأسمائهم ، ( فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة ) زاد في رواية : ولا يجدون ريحها ( حتّى يلج الجمل في سم الخياط ) (٣).

جاء في البداية والنهاية ، عن عروة بن الزبير قال : لمّا قفل رسول الله من تبوك إلى المدينة ، همّ جماعة من المنافقين بالفتك به ، وأنْ يطرحوه من رأس عقبة في الطريق ، فأخبر بخبرهم ، فأمر الناس بالمسير من الوادي ، وصعد هو العقبة ،

__________________

(١) البداية والنهاية ٥ : ٢٦.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

(٣) فيض القدير ٤ : ٥٩٦.

٢٧٠

وسلكها معه أولئك النفر ، وقد تلثّموا ، وأمر رسول الله عمّار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، أنْ يمشيا معه ، عمّار آخذ بزمام الناقة ، وحذيفة يسوقها ، فبينما هم يسيرون ، إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم ، فغضب رسول الله ، وأبصر حذيفة غضبه ، فرجع إليهم ، ومعه محجن ، فاستقبل وجوه رواحلهم بمحجنه ، فلمّا رأوا حذيفة ، ظنّوا أنْ قد أظهر على ما أضمروه من الأمر العظيم ، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله ، فأمرهما فأسرعا حتّى قطعوا العقبة ، ووقفوا ينتظرون الناس ، ثُمّ قال رسول الله لحذيفة : « هل عرفت هؤلاء القوم »؟ قال : ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم ، ثُمّ قال : « علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب »؟ قالا : لا ، فأخبرهما بما كانوا تملاّوا عليه ، وسمّاهم لهما واستكتمهما ذلك ، فقالا : يا رسول الله ، أفلا تأمر بقتلهم ، فقال : « أكره أنْ يتحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه » ، وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصّة ، إلا أنّه ذكر أنّ النبيّ إنّما أعلم بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده ، وهذا هو الأشبه والله أعلم ، ويشهد له قول أبي الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود : أليس فيكم ، يعني أهل الكوفة ، أصحاب السواد والوساد ، يعني ابن مسعود ، أليس فيكم صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره ، يعني حذيفة ، أليس فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان محمّد ، يعني عمّاراً ، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه أنّه قال لحذيفة : أقسمت عليك بالله أنا منهم (١).

وروى القرطبي في تفسيره ، في تفسير سورة التوبة : (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِير) (٢).

__________________

(١) البداية والنهاية ٥ : ٢٥.

(٢) التوبة : ٧٤.

٢٧١

قوله تعالى : (وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ) يعني المنافقين ، من قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة في غزوة تبوك ، وكانوا اثني عشر رجلاً. قال حذيفة : سمّاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى عدّهم كلّهم فقلت : ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال : « أكره أنْ تقول العرب ، لمّا ظهر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بالدبيلة » قيل : يا رسول الله ، وما الدبيلة؟ قال : « شهاب من جهنّم ، يجعله على نياط فؤاد أحدهم حتّى تزهق نفسه » فكان كذلك أخرجه مسلم بمعناه (١).

قال ابن كثير : وروى البيهقيّ من طريق محمّد بن مسلمة ، عن أبي إسحاق ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي البختري ، عن حذيفة بن اليمان قال : كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله ، أقود به وعمّار يسوق الناقة ، أو أنا أسوق الناقة ، وعمّار يقود به ، حتّى إذا كنّا بالعقبة ، إذا باثني عشر رجلاً قد اعترضوه فيها ، قال : فأنبهت رسول الله ، فصرخ بهم ، فولّوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله : « هل عرفتم القوم » قلنا : لا ، يا رسول الله ، قد كانوا متلثّمين ، ولكنّا قد عرفنا الركب ، قال : « هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون ما أرادوا »؟ قلنا : لا ، قال : « أرادوا أنْ يزحموا رسول الله في العقبة ، فيلقوه منها » قلنا يا رسول الله : أولا تبعث إلى عشائرهم ، حتّى يبعث إليك كلّ قوم برأس صاحبهم ، قال : « لا ، أكره أنْ يتحدّث العرب بينها ، أنّ محمّداً قاتل لقومه ، حتّى إذا أظهره الله بهم ، أقبل عليهم يقتلهم » ، ثُمّ قال : « اللّهم ارمهم بالدبيلة » قلنا : يا رسول الله ، وما الدبيلة؟ قال : « هي شهاب من نار ، يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك » (٢).

قال ابن حزم في كتابه المحلّى : وأمّا حديث حذيفة ، فساقط ; لأنّه من طريق الوليد بن جميع ، وهو هالك ، ولا نراه يعلم من وضع الحديث ، فإنّه قد روى أخباراً فيها أنّ ابا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنهم

__________________

(١) تفسير القرطبي ٨ : ٢٠٧.

(٢) البداية والنهاية ٥ : ٢٥.

٢٧٢

أرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإلقائه من العقبة في تبوك ، وهذا هو الكذب الموضوع ، الذي يطعن الله تعالى واضعه ، فسقط التعلّق به ، والحمد لله ربّ العالمين (١).

ولكنّ ابن حزم ، تغافل عن أنّ الوليد بن جميع ، هو أحد رجال الصحاح والسنن في كتب أهل السنّة ، وقد وثّقه العديد من علماء الجرح والتعديل عندهم ، وإليك بعض المعلومات التفصيليّة عن هذا الرجل.

الوليد بن جميع في كتب علم الرجال :

ذكر في كتاب الجرح والتعديل : الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري ، روى عن أبي الطفيل ، وعكرمة ، وقثم بن لؤلؤة ، روى عنه يحيى بن سعيد القطّان ، ومحمّد ابن فضيل ، ووكيع ، وأبو نعيم ، وابنه أبو جبلّة ، سمعت أبي يقول ذلك. نا عبد الرحمن ، نا محمّد بن إبراهيم بن شعيب ، نا عمرو بن عليّ الصيرفي قال : كان يحيى ابن سعيد لا يحدّثنا عن الوليد بن جميع ، فلمّا كان قبل موته بقليل ، حدّثنا عنه. نا عبد الرحمن ، أنا عبد الله بن أحمد بن محمّد بن حنبل فيما كتب إلي قال : قال أبي : الوليد بن جميع ليس به بأس. نا عبد الرحمن قال : ذكره أبي ، عن إسحاق بن منصور ، عن يحيى بن معين أنّه قال : الوليد بن جميع ثقة. نا عبد الرحمن قال : سئل أبي عن الوليد بن جميع ، فقال : صالح الحديث. نا عبد الرحمن قال : سألت أبا زرعة عن الوليد بن جميع فقال : لا بأس به (٢).

وذكر في كتاب تاريخ أسماء الثقات : قال أحمد : الوليد بن جميع ليس به بأس (٣).

وذكر في كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال الوليد بن جميع ( د ت س م )

__________________

(١) المحلّى ١١ : ٢٢٤.

(٢) الجرح والتعديل ٩ : ٨.

(٣) تاريخ أسماء الثقات : ٢٤٥.

٢٧٣

هو ابن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي ، عن أبي الطفيل ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وعنه يحيى ابن سعيد القطان ، وأبو أحمد الزبيري وجماعة. وثّقه ابن معين ، والعجليّ. وقال أحمد وأبو زرعة : ليس به بأس. وقال أبو حاتم : صالح الحديث .. ، وقال الفلاس : الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري ، من أنفسهم ، كوفي ، كان يحيى لا يحدثنا عنه ، فلمّا كان قبل موته بقليل أخذتها من عليّ الصائغ ، فحدّثني بها ، وكانت ستة أحاديث (١).

والوليد بن جميع روى له مسلم في صحيحه ، في كتاب الجهاد والسير ، باب الوفاء بالعهد ، وكذلك في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٢) ، وروى له أبو داود ، في كتاب الصلاة ، باب إمامة النساء ، وفي كتاب الخراج والفيء والإمارة (٣) ، وروى له النسائي في كتاب الجنائز (٤) ، والترمذي في باب ما جاء في الإحسان والعفو (٥) ، وروى له غير هؤلاء الكثير من أهل الحديث عند أهل السنّة.

ومن العجيب والغريب أنّ ابن حزم روى للوليد بن جميع في المحلّى نفس رواية محاولة اغتيال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحّحه واستشهد برواية مسلم أيضاً (٦).

وقد وردت عدّة روايات في أنّ عدداً من الصحابة كان كثيراً ما يسأل حذيفة ، هل أنا من هؤلاء الاثنى عشر؟ وكما تعلمون أنّ في مثل هذه الحادثة ، حادثة محاولة اغتيال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نتحدّث عن عدد محصور من الصحابة ، في زمن محصور ، وهو رجوع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك ، وأظنّ أنّ من لم يشارك في تلك الحادثة يعرف نفسه أكثر من غيره ، وإلاّ فلا داعي لأيّ شخص لم يشترك في هذه

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٤ : ٣٣٧.

(٢) صحيح مسلم ٥ : ١٧٧ ، ٨ : ١٢٣.

(٣) سنن أبي داود ١ : ١٤٢ ، ٢ : ٢٤.

(٤) سنن النسائي ٤ : ١١٦.

(٥) سنن الترمذي ٣ : ٢٤٦.

(٦) المحلى ١١ : ٢٢١.

٢٧٤

الفعلة الشنيعة أنْ يسأل عن نفسه إلا في حالتين ، إمّا أنْ يكون ذا قوّة ، ويحاول من خلال سؤاله أنْ يُرهب حذيفة رضي‌الله‌عنه الذي كان يعلم أسماءهم ، وفي الحالة الثانية ينطبق عليه المثل العربي الذي يقول : كاد المريب أنْ يقول خذوني. فقد كان عمر بن الخطّاب يسأل حذيفة صاحب سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذكرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المنافقين. فقد روى ابن القيّم في الجواب الكافي قال : عمر بن الخطّاب يقول لحذيفة أنشدك الله هل سمّاني لك رسول الله ، يعني في المنافقين (١).

المهم أنّ سنّة قتل الأنبياء عند اليهود والنصارى قد طبّقها المنافقون من الصحابة ، وحاولوا قتل نبيّهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين وتمام عدّة المرسلين ، خير الخلائق أجمعين. هذا وقد كانت هناك محاولات عدّة لاغتيال الرسول ، غير تلك المحاولة التي ذكرناها ، فقد كان هناك محاولات في حنين ، وبعد فتح مكّة ، وتفاصيل تلك المحاولات كلّها مذكورة بالتفصيل في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن أراد المزيد فليرجع إلى المراجع المتعلّقة بمثل هذا الموضوع.

وخلاصة الأمر ، أنّ هذه المحاولة لاغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قدمتها بين يديك من روايات وأحاديث أهل السنّة ، فكما قام اليهود والنصارى بقتل الأنبياء ، فها أنت ترى أنّ المسلمين قد اتّبعوهم واقتدوا بهم في هذه السنّة ، وهي سنّة قتل الأنبياء ، وفي هذا تصديق لأحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي حذّر فيها المسلمين من تقليد واتّباع سنن الأمم السابقة ، فمن أراد النجاة فعليه أنْ يكون في صفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيته عليهم‌السلام ; لأنّهم وعلى مرّ التاريخ ، هم الذين دافعوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّته ووصيّته ، والتزموا بذلك ، نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يجعلنا من أهل سفينة النجاة ، سفينة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنْ يثبّتنا على صراطهم المستقيم ، وعلى ولايتهم ومحبّتهم ، وأنْ يرزقنا زيارتهم في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة ، إنّه سميع مجيب.

__________________

(١) الجواب الكافي ١ : ٢٦.

٢٧٥

اغتيال فاطمة الزهراء

بنت رسول الله سلام الله عليها

هذا البحث ، هو بحث آخر من أبحاث أوجه المقارنة بين بني إسرائيل والنصارى والمسلمين والأمّة الإسلاميّة اتّبعتهم واقتفت أثرهم في ذلك. وهو قتل الأنبياء وأوصياء الأنبياء والصدّيقين الذين هم من عترة الأنبياء وأتباعهم. هذه قضيّة أخرى من القضايا الهامّة والخطيرة في تاريخنا الإسلامي. والتي حاول الكتّاب والعلماء الابتعاد عنها دائماً دون بحث ، ومحاولة تغطيتها وطمس تفاصيلها.

إنّ الارتباط بأهل البيت عموماً ، والسيّدة الزهراء خصوصاً ، هو حكم شرعيّ لا مناص منه. سواء أكان من ناحية المحبّة ، يقابلها البغض ، أو من ناحية الإيمان والاتّباع ، ويقابلها الكفر والجحود. فالمسلمون جميعاً مأمورون بحبّهم واتّباعهم والتقيّد بنهجهم سلام الله عليهم جميعاً.

لكنّ قضيّة سيّدتنا أمّ الأئمّة ، وأمّ أبيها بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، السيّدة الصدّيقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها فيها أمر آخر مهم جداً ، ألفت نظر القارئ العزيز إليه ، وهو أن السيّدة الصديقة فاطمة الزهراء سلام الله عليها تعتبر في مظلوميتها الميزان الفاصل بين الإيمان والنفاق. وبين البغض والحبّ ، وميزان يعرف الإنسان المسلم من خلاله ، هل هو في صفّ الحقّ أو مع الباطل؟ وكذلك في

٢٧٦

معرفة من هو المحقّ ومن المبطل.

وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى اختبر الناس وامتحنهم بالفتن ، وهذه سنّة إلهيّة معروفة ، لمعرفة المؤمنين من غيرهم ، قال تعالى في سورة العنكبوت : (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (١) ، وإذا كانت المقاييس لمعرفة الحقّ والباطل تختلط في كثير من الأحيان ، بسبب الاختلاف في الأفهام بين الناس ، فكلّ طرف عادة يعتقد أنّه على حقّ ، وأنّ خصمه هو الذي على الباطل ، هذا واقع مشهور بين الناس من يوميّات هذه الحياة الدنيا.

فكثيراً ما تجد طرفين أو عدّة أطراف مختلفون على معنى حديث ، أو آية بينهم ، وهذا مشتهر عند أهل السنّة كثيراً ، وكلّ طرف يحاول أنْ يُقنع الطرف الآخر بصحّة فهمه ، لكنّ المشكلة تكمن في المقياس في هذه الحالة وهو أن كلّ طرف له مقاييس بالنسبة لصحة الحديث أو ضعفه تختلف عن خصمه. وهو واقع أيّها القارئ العزيز بين جميع مذاهب المسلمين ، لكنّ المختلف في قضيّة مظلومية الزهراء هنا ، ليس النصوص فقط ، بل السيّدة الزهراء عليها‌السلام نفسها هي المقياس ، وهي الميزان.

ولذلك قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة فترة دعوته ، يوجه أنظار المسلمين إلى السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، من أجل تعزيز مقوّمات المقاييس والموازين عند حصول أيّ فتنه ، من الممكن أنْ تحصل للمسلمين ، في أيّ زمان ، أو في أيّ مكان.

لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحمةً للعالمين ، وأنّه هو الآخذ بيد المستضعفين إلى النجاة والسعادة الأبدية ، وإلى رضى الله سبحانه والفوز بالجنّة ، والنجاة من النار

__________________

(١) العنكبوت : ١ ـ ٣.

٢٧٧

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (١).

لأجل ذلك ، عزّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك المقاييس والموازين ، من مثل تلك التي تتعلّق بالسيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، بنصوص قطعيّة متواترة ، لا تختلف عليها طائفة من المسلمين. وذلك للتسهيل على المؤمنين ، لوزن مواقفهم وسلوكهم ، بميزان دقيق صحيح ، يؤدّي إلى نتيجة صادقة وحقيقيّة.

في البداية أودّ ذكْر عدد من الروايات الصحيحة والمتواترة عند أهل السنّة فقط ، وإلاّ فإنّ الشيعة رضوان الله تعالى عليهم ، قد حسموا موقفهم من السيّدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وبذلك نالوا رضى الله ورضى رسوله والمؤمنين ; لأنّهم أخذوا بالمقياس السليم والصحيح ، وهو الكتاب والعترة الطاهرة ، بل في الحقيقة أنّ هذه القضيّة ، قضيّة السيّدة الزهراء عليها‌السلام ، هي أساس مذهب الإماميّة ، وجميع القضايا الأخرى تترتب على هذه القضيّة ، وهذا ما يدلّ على أهميّة هذا البحث والتدقيق فيه.

وإليك عزيزي القارئ ، بعض ما ورد في كتب وصحاح أهل السنّة ، الذين أهملوا قضيّة الزهراء عليها‌السلام ، وحتّى أنّهم لم يعتبروها ميزاناً لمعرفة موقفهم ، بل إنّهم طمسوها ، ومرّوا عنها ، كأنّها لا تعنيهم ، وليس لهم بها أيّ شأن أو علاقة. فهم حسب ما يعتقدون لا يهتمون بأمر قد حصل منذ الزمن البعيد. ولا داعي للبحث فيه وتناوله نهائياً. بل إنّ الحقيقة ، أنّهم طمسوا التاريخ والأحاديث النبويّة المتعلّقة به ، ومنعوا أتباعهم من تداولها والبحث فيها بحجّة الفتنة ، لكنّهم في الحقيقة لا يدركون أنّهم أهملوا كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتعلّق بهذا الموضوع ، واعتبروه هباءً منثوراً لا قيمة له ، ولا يجوز النظر فيه ، بل وأكثر من ذلك يردّون ويضعفون كلّ ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ المواضيع التي تتعلّق بالسيّدة الزهراء عليها‌السلام ، مع أنّ جميع

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٧.

٢٧٨

كتبهم تؤكّد على تواترها والقطع بصحّة تلك النصوص والروايات ، لكنّهم لا يعتقدون بها ، إلا أنّها مجرّد كلام ، وليس هو وحي من الله ، مع أنّهم يعتقدون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينطق عن الهوى إنْ هو وحي يوحى قال تعالى في سورة النجم : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (١) ، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الحشر : (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (٢).

إنّ كلّ مسلم ، مدرك سليم العقل ، يعلم لو لم تكن هناك حكمة نبويّة ، وإرادة إلهيّة ، وأمر مهم ، فيه مصلح للمسلمين ، لما ركّز عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا التركيز الكبير ، على موضوع وقضيّة فاطمة الزهراء سلام الله تعالى عليها.

سيّدة نساء أهل الجنّة :

وإليك عزيزي القارئ ، بعض النصوص ، والتي تعزّز موقعيّة السيّدة الزهراء عليها‌السلام في العالمين.

قال السيوطي أخرج الحاكم وصحّحه ، عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « أفضل نساء العالمين خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية امرأة فرعون » (٣).

وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « إنّ الله اصطفى على نساء العالمين أربعاً : آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ،

__________________

(١) النجم : ١ ـ ١٠.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) الدرّ المنثور ٢ : ٢٣.

٢٧٩

وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وسلّم » (١).

وأخرج أحمد ، والترمذي وصحّحه ، وابن المنذر ، وابن حبّان ، والحاكم ، عن أنس : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، وآسية امرأة فرعون » (٢).

وروى الطبري في تفسيره جامع البيان ، عن قتادة قوله : (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) (٣) ، ذكر لنا أنّ نبيّ الله ، كان يقول : « حسبك بمريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد من نساء العالمين » (٤).

وروى الحاكم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة إلاّ ما كان من مريم بنت عمران » (٥).

وعن عائشة : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال وهو في مرضه الذي توفي فيه : يا فاطمة ، ألا ترضين أنْ تكوني سيّدة نساء العالمين ، وسيّدة نساء هذه الأمّة ، وسيّدة نساء المؤمنين (٦).

وروى في كنز العمّال : عن عليّ ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لفاطمة : « ألا ترضين أنْ تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة ، وابنيك سيّدا شباب أهل الجنّة » (٧).

__________________

(١) الدرّ المنثور ٢ : ٢٣.

(٢) الدرّ المنثور ٢ : ٢٣.

(٣) آل عمران : ٤٢.

(٤) تفسير الطبري ٣ : ٣٥٧.

(٥) المستدرك ٣ : ١٥٤.

(٦) المستدرك ٣ : ١٥٦ ، وفي البخاري ٧ : ١٤٢ بلفظ : « ألا ترضين أنْ تكوني سيّدة نساء المؤمنين ، أو سيّدة نساء هذه الأمّة » ، وسيأتي كاملاً.

(٧) كنز العمّال ١٣ : ٦٧٤ ـ ٦٧٥ ، عن البزّار.

٢٨٠