تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج. وقد أرانا الله سبحانه ، بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك. أنموذجا في الدنيا من حال النائم. فإن ما ينعم به ، أو يعذب في نومه ، يجري على روحه أصلا ، والبدن تبع له. وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا ، فيرى النائم أنه في نومه ضرب ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل وشرب ، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب فيه. ويذهب عنه الجوع والظمأ. وأعجب من ذلك أنك ترى النائم ، ثم يقوم من نومه ، ويضرب ويبطش ويدافع ، كأنه يقظان ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. لأن الحكم ، لما جرى على الروح ، استعانت بالبدن من خارجه. ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسّ. فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع ، فهكذا في البرزخ ، بل أعظم. فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى ، وهي متعلقة ببدنها ، لم تنقطع عنه كل الانقطاع. فإذا كان يوم حشر الأجساد ، وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا. ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبيّن لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه ، وضيقه وسعته ، وضمه ، وكونه حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة ـ مطابق للعقل. وأنه حق لا مرية فيه. وأن من أشكل عليه ذلك ، فمن سوء فهمه ، وقلة علمه. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ

وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)

الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(١٥٦)

وقوله تعالى :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ) خطاب لمن آمن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خصّوا به ، وإن شمل من ماثلهم ، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد ، ومكافحة الفجّار. وكل قائم بحق ، وداع إليه ، معرّض للابتلاء بما ذكر ، كله أو بعضه. والتنوين للتقليل. أي : بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه ، وإنما قلّل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان ، وإن جل ، ففوقه ما يقل إليه. وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. وإنما أخبر به قبل الوقوع ، ليوطّنوا عليه نفوسهم ، ويزداد يقينهم ، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به. وليعلموا أنه شيء يسير ، له عاقبة حميدة (مِنَ

٤٤١

الْخَوْفِ) أي خوف العدو والإرجاف به (وَالْجُوعِ) أي الفقر ، للشغل بالجهاد ، أو فقد الزاد ، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله. وقد كان يتفق لهم ذلك أياما يتبلغون فيها بتمرة (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) أي لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم ، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة ، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها (وَالْأَنْفُسِ) بقتلها شهيدة في سبيل الله ، أو ذهاب أطرافها فيه (وَالثَّمَراتِ) أي بأن لا نغلّ الحدائق كعادتها ، للغيبة عنها في سبيل الله ، وفقد من يتعاهدها ، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر ، لا سيما في وقت نزول هذه الآيات. وهو أول زمان الهجرة. فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١]. قال الراغب : هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها : أي إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها ، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها ، بما يدل عليه سابقه.

ثم بيّن تعالى ما للصابرين عنده بقوله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) مكروه ، اسم فاعل من أصابته شدة : لحقته. أي كهذه البلايا (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) أي ملكا وخلقا ، فلا ينبغي أن نخاف غيره ، لأنه غالب على الكل. أو نبالي بالجوع ، لأن رزق العبد على سيده ، فإن منع وقتا ، فلا بد أن يعود إليه. وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له ، فله أن يتصرف فيها بما يشاء (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) في الدار الآخرة. فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا. لأنه لا يضيع أجر المحسنين. فالمصاب يهون عليه خطبه ، إذا تسلّى بقوله هذا ، وتصور ما خلق له ، وأنه رجع إلى ربه ، وتذكر نعم الله عليه. ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما أسترده منه. قال الراغب : وليس يريد بالقول اللفظ فقط ، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئا. وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له ، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه. فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه.

(ثم قال) إن قيل : ولم قلت : إن الأمر بالصبر يقتضي العلم؟ قيل : الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

(أُولئِكَ) إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت (عَلَيْهِمْ

٤٤٢

صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) قال الراغب : الصلاة ، وإن كانت في الأصل الدعاء ، فهي من الله البركة على وجه ، والمغفرة على وجه. وقال الرازيّ : الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم. قال الراغب : وإنما قال (صَلَواتٌ) على الجمع ، تنبيها على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقا وإرشادا ، وفي الآخرة ثوابا ومغفرة (وَرَحْمَةٌ) عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية ، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته.

(تنبيه) ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، عند المصائب ، وفي أجر الصابرين ، أحاديث كثيرة. منها ما في صحيح مسلم (١) عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها.

قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : من خير من أبي سلمة : صاحب رسول الله؟ ثم عزم الله لي فقلتها. قالت : فتزوجت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى الإمام أحمد (٢) عن الحسين بن عليّ عليهما‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها ، وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له عند ذلك ، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها.

وروى الإمام أحمد (٣) بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي. وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولانيّ) فأخرجني وقال : ألا أبشرك؟ قال قلت : بلى. قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تعالى : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال : نعم. قال : فما قال؟ قال : حمدك واسترجع. قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد.

ورواه الترمذيّ وقال : حسن غريب.

وروى البخاري (٤) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يرد الله به خيرا يصب منه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه في : الجنائز ، حديث ٤ ـ ٥.

(٢) أخرجه الإمام أحمد ١ / ٢٠١ حديث رقم ١٧٣٤.

(٣) أخرجه الإمام أحمد ٤ / ٤١٥ ، والترمذيّ في : الجنائز ، ٣٦ ـ باب حدثنا سويد بن مضر.

(٤) أخرجه البخاريّ في : المرضى ، ١ ـ باب ما جاء في كفارة المرض.

٤٤٣

وروى الشيخان (١) عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه.

ورويا (٢) أيضا عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته. كما تحط الشجرة ورقها.

والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة.

وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام ، رحمة الله تعالى ، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا. قال عليه الرحمة : للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس.

أحدها : معرفة عز الربوبية وقهرها.

والثاني : معرفة ذلة العبودية وكسرها. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦] ، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.

والثالثة : الإخلاص لله تعالى إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه. ولا معتمد في كشفها إلا عليه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ١٧] ، (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥].

الرابعة : الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) [الزمر : ٨].

الخامسة : التضرع والدعاء (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا) [يونس : ١٢] ،

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : المرضى ، ١ ـ باب ما جاء في كفارة المرض. ومسلم في : البر والصلة والآداب ، حديث رقم ٥٢.

(٢) أخرجه البخاريّ في : المرضى ، ٣ ـ باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول (ثم الأمثل فالأمثل) ونصه : حديث ٢٢٤١ : عن عبد الله بن مسعود قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يوعك. فقلت : يا رسول الله! إنك توعك وعكا شديدا. قال «أجل. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت : ذلك أن لك أجرين. قال «أجل. ذلك كذلك. ما من مسلم يصيبه أذى ، شوكة فما فوقها ، إلا كفّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها». وأخرجه مسلم في : البر والصلة والآداب ، حديث رقم ٤٥.

٤٤٤

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧]. (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ، وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٤١]. (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٦٣].

السادسة : الحلم ممن صدرت عنه المصيبة (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٤] ، (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر : ٥٣]. إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة (١). وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها ، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم.

السابعة : العفو عن جانيها (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران : ١٣٤]. (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو.

الثامنة : الصبر عليها. وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٦] ، (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر (٢).

التاسعة : الفرح بها لأجل فوائدها. قال عليه الصلاة والسلام (٣) : والذي نفسي بيده! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : حبذا المكروهان الموت والفقر. وإنما فرحوا بها إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها ، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها ، مع تجرعه لمرارتها.

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه في : الإيمان ، حديث ٢٥ ـ ٢٦ من حديث طويل لما قدم أناس من عبد القيس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله للأشج ، أشج عبد القيس.

(٢) أخرجه البخاريّ في : الزكاة ، ٥٠ ـ باب الاستعفاف عن المسألة ونصه : عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاهم. ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نفد ما عنده. فقال : ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم. ومن يستعفف يعفه الله. ومن يستغن يغنه الله. ومن يتصبر يصبره الله. وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر. حديث رقم ٧٨١.

(٣) أخرجه ابن ماجة في : الفتن ، ٢٣ ـ باب الصبر على البلاء ، حديث ٤٠٢٤ ونصه : عن أبي سعيد الخدريّ قال : دخلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يوعك. فوضعت يدي عليه. فوجدت حرّه بين يديّ ، فوق اللحاف. فقلت : يا رسول الله! ما أشدها عليك! قال : إنا كذلك. يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر. قلت : يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال : الأنبياء. قلت : يا رسول الله! ثم من؟ قال : ثم الصالحون. إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر ، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحوّيها. وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء.

٤٤٥

العاشرة : الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها. كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه ، المانع من شهواته ، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء.

الحادية عشرة : تمحيصها للذنوب والخطايا (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلّا كفر به من سيئاته (١).

الثانية عشرة : رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم. فالناس معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية (٢). وإنما يرحم العشاق من عشق.

الثالثة عشرة : معرفة نعمة العافية والشكر عليها. فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.

الرابعة عشرة : ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها.

الخامسة عشرة : ما في طيّها من الفوائد الخفية (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء : ١٩]. (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦]. (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور : ١١].

ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم (٣) كان في طيّ تلك البلية أن أخدمها هاجر.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : البر والصلة والآداب ، حديث ٥٢.

(٢) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في : الكلام ، حديث ٨. إنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم. فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب. وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد. فإنما الناس مبتلى معافى. فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.

(٣) أخرجه البخاريّ في : الأنبياء ، ٨ ـ باب قول الله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً). حديث ١١١٣. ونصه : عن أبي هريرة قال : لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام إلا ثلاث كذبات. ثنتين منهن في ذات الله عزوجل. قوله : إني سقيم. وقوله : بل فعله كبيرهم هذا. وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة. فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه؟ قال : أختي. فأتى سارة قال : يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك. وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذّبيني. فأرسل إليها. فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده ، فأخذ. فقال : ادعي الله ولا أضرك. فدعت الله فأطلق. ثم تناولها الثانية : فأخذ مثلها ـ

٤٤٦

فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين. فأعظم بذلك من خير كان في طيّ تلك البلية ، وقد قيل :

كم نعمة مطوية

لك بين أثناء المصائب

وقال آخر :

رب مبغوض كريه

فيه لله لطائف

السادسة عشرة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر ، فإن نمرود ، لو كان فقيرا سقيما ، فاقد السمع والبصر ، لما حاجّ إبراهيم في ربه ، لكن حمله بطر الملك على ذلك. وقد علل الله سبحانه وتعالى محاجته بإتيانه الملك ، ولو ابتلى فرعون بمثل ذلك لما قال (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤]. (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة : ٧٤] ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧]. (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧] ، (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) [هود : ١١٦]. (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [الجن : ١٦]. (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [سبأ : ٣٤].

والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء. ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء (١). ثم الأمثل فالأمثل. نسبوا إلى الجنون (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] والسحر (قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات : ٥٢] ، والكهانة (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩]. واستهزئ بهم (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الحجر : ١١]. وسخر منهم (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] ، (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) [الأنعام : ٣٤]. وقيل لنا (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ

__________________

ـ أو أشد. فقال : ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأطلق. فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان. فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلي. فأومأ بيده : مهيا. قالت : رد الله كيد الكافر (أو الفاجر) وأخدم هاجر.

قال أبو هريرة : تلك أمكم يا بني ماء السماء!

(١) أخرجه البخاري في : المرضى ، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.

٤٤٧

قَرِيبٌ) [البقرة : ٢١٤].

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] ، (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) [آل عمران : ١٨٦]. كالّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم. وكثر عناهم. واشتدّ بلاهم ، وتكاثر أعداهم. فغلبوا في بعض المواطن ، وقتل منهم بأحد (١) وبئر معونة (٢) من قتل. وشجّ وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكسرت رباعيته. وهشمت البيضة على رأسه. وقتل أعزاؤه ومثّل بهم. فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه. وابتلوا يوم الخندق (٣). وزلزلوا زلزالا شديدا. وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وكانوا في خوف دائم وعرى لازم. وفقر مدقع. حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع. ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز برّ في يوم مرتين. وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب (٤) أهله إليه. ثم ابتلي في آخر الأمر بمسيلمة (٥) وطليحة والعنسي (٦). ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة (٧) ما لقوه. ومات ودرعه (٨) عند يهوديّ على آصع من شعير. ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت (يبتلى الرجل (٩) على قدر دينه فإن كان صلبا في دينه شدد في بلائه. ولقد كان أحدهم يوضع (١٠) المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه). وقال عليه الصلاة والسلام. «مثل

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في المغازي ، ١٧ ـ باب غزوة أحد ، إلى ٢٦ ـ باب من قتل من المسلمين يوم أحد.

(٢) أخرجه البخاريّ في المغازي ، ٢٨ ـ باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة ... إلخ.

(٣) أخرجه البخاريّ في المغازي ، ٢٩ ـ باب غزوة الخندق ، وهي الأحزاب.

(٤) أخرجه البخاريّ في المغازي ، ٣٤ ـ باب حديث الإفك.

(٥) أخرجه البخاريّ في المغازي ، ٧٠ ـ باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال ، وفيه قدوم مسيلمة الكذاب ، و ٧١ ـ باب قصة الأسود العنسي.

(٦) أخرجه البخاريّ في المغازي ، ٧١ ـ باب قصة الأسود العنسي.

(٧) أخرجه البخاريّ في المغازي ، ٧١ ـ باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة.

(٨) أخرجه البخاريّ في : الجهاد ، ٨٩ ـ باب ما قيل في درع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عن عائشة رضي الله عنها قالت : توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودرعه مرهونة عند يهوديّ بثلاثين صاعا من شعير.

(٩) أخرجه الترمذيّ في : الزهد ، ٥٧ ـ باب ما جاء في الصبر على البلاء. عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. فيبتلى الرجل على حسب دينه. فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه. وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه. فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ، ما عليه من خطيئة.

(١٠) أخرجه مسلم في قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام ، في الزهد ، حديث رقم ٧٣.

٤٤٨

المؤمن (١) مثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء». وقال عليه الصلاة والسلام (مثل المؤمن (٢) كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح ، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج) فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عزوجل. وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢] ، فلأجل ذلك تقللوا في المآكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك. ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عزوجل والإقبال عليه.

السابعة عشرة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالى. فإن المصائب تنزل بالبرّ والفاجر. فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة ، ومن رضيها فله الرضا. ولرضا أفضل من الجنة وما فيها. لقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] ، أي من جنات عدن ومساكنها الطيبة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ

يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ)(١٥٨)

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ، (الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) : علمان لجبلين بمكة. ومعنى كونهما من شعائر الله : من أعلام مناسكه ومتعبّداته.

قال الرازيّ : كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله ، فهو من شعائر الله. قال الله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [الحج : ٣٦] ، أي : علامة للقربة. وقال (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) [الحج : ٣٢] ، وشعائر الحج معالم نسكه. ومنه المشعر الحرام. ومنه إشعار السنام ـ وهو أن يعلم بالمدية ـ فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها ، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله. و (الشعائر) جمع شعيرة وهي

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : الأدب ، ٧٩ ـ باب ما جاء في مثل المؤمن القارئ للقرآن ، وغير القارئ : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مثل المؤمن كمثل الزرع ، لا تزال الرياح تفيئه ، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء. ومثل المنافق مثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد.

(٢) أخرجه البخاريّ في : التوحيد ، ٣١ ـ باب في المشيئة والإرادة. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مثل المؤمن كمثل خامة الزرع ، يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها. فإذا سكنت اعتدلت. وكذلك المؤمن يكفّأ بالبلاء. ومثل الكافر كمثل الأرزة. صمّاء معتدلة ، حتى يقصمها الله ، إذا شاء.

٤٤٩

العلامة ، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ، ومنه قولك : شعرت بكذا أي علمت انتهى.

و (الحجّ) في اللغة : القصد. و (الاعتمار) : الزيارة. غلبا في الشريعة على قصد البيت وزيارته ، على الوجهين المعروفين في النسك. و (الجناح) بالضم : الإثم والتضييق والمؤاخذة. وأصل (الطواف) : المشي حول الشيء. والمراد : السعي بينهما.

وقد روي في سبب نزول الآية عدّة روايات :

ولفظ البخاريّ عن عروة قال (١) : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فو الله! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! قالت : بئسما قلت يا ابن أختي! إنّ هذه لو كانت كما أوّلتها عليه ، كانت : لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار. كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها عند المشلّل. فكان من أهلّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلمّا أسلموا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك؟ قالوا : يا رسول الله! إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) الآية.

قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بينهما. فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.

ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إنّ هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أنّ الناس ـ إلّا من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة ـ كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن ، قالوا : يا رسول الله! كنا نطوف بالصفا والمروة. وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا. فهل علينا من حرج أن نطّوّف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...) الآية.

قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة ، والذي يطوفون ثمّ تحرّجوا أن يطوفوا

__________________

(١) أخرجه البخاريّ بنصه في : كتاب الحج ، باب حدثنا أبو اليمان.

٤٥٠

بهما في الإسلام. من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا ، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.

وفي رواية معمر عن الزهريّ : إنا كنّا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة ، أخرجه البخاريّ تعليقا ، ووصله أحمد وغيره.

وأخرج مسلم (١) في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا ، هم وغسّان ، يهلّون لمناة. فتحرّجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، وكان ذلك سنّة في آبائهم : من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة. وإنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك حين أسلموا. فأنزل الله عزوجل في ذلك : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

وروي الفاكهيّ عن الزهريّ : أن عمرو بن لحيّ نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد. فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها ، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلّوا لها. فمن أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة. قال : وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ومن دان دينهم من أهل يثرب.

وروى النسائيّ بإسناد قويّ عن زيد بن حارثة (٢) قال : كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما «إساف ونائلة» كان المشركون إذا طافوا تمسّحوا بهما ... الحديث.

وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال : قالت الأنصار : إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية. فأنزل الله عزوجل (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ...) الآية.

وروى الفاكهيّ وإسماعيل القاضي في «الأحكام» بإسناد صحيح عن الشعبيّ قال : كان صنم بالصفا يدعى «إساف» ، ووثن بالمروة يدعى «نائلة» ، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما. فلما جاء الإسلام رمى بهما ؛ وقالوا : إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم ، فأمسكوا عن السعي بينهما ، قال : فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ...) الآية.

وقد استفيد من مجموع هذه الروايات أنه تحرّج طوائف من السعي بين الصفا

__________________

(١) أخرجه مسلم بنصه في : الحج ، حديث ٢٦٣.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الطهارة.

٤٥١

والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكلّ. والله أعلم.

وجواب عائشة ، رضي الله عنها ، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ. لأنّ الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمّن يطوف بهما ، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه. (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) ، أي : من فعل خيرا فإنّ الله يشكره عليه ويثيبه به. ومعنى (تطوّع) أتى بما في طوعه أو بالطاعة ، وإطلاقه على ما لا يجب عرف فقهيّ لا لغويّ. و (الشكر) من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل.

قال الراغب : الشكر ، كما يكون بالقول ، يكون بالفعل ، وعلى ذلك قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣] ؛ قال : وليس شكر الرفيع للوضيع إلّا الإفضال عليه وقبول حمد منه.

تنبيهات :

الأول : تمسّك بعضهم بقوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) على أنّ السعي سنّة ، وأن من تركه لا شيء عليه. فإن كان مأخذه منها : إنّ التطوع التبرّع بما لا يلزم فقد قدّمنا أنه عرف فقهيّ لا لغويّ ، فلا حجّة فيه. وإن كان نفي الجناح ، فقد علمت المراد منه.

وممن ذهب إلى أنه سنّة ، لا يجبر بتركه شيء ، أنس فيما نقله ابن المنذر وعطاء. نقله ابن حجر في (الفتح).

وقال الرازيّ : روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء ، أنّ من تركه فلا شيء عليه. وأما حديث (١) : اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي رواه أحمد وغيره ، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل ، وفيه ضعف.

ومن ثمّ قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجّة في الوجوب. ذكره الحافظ ابن حجر في (الفتح).

الثاني : صحّ أنّه (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بين الصفا والمروة سبعا ، رواه الشيخان وغيرهما

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ، جزء سادس صفحة ٤٢١. ونصه : عن حبيبة بنت أبي تجزئة قالت : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه. وهو وراءهم وهو يسعى. حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، يدور به إزاره ، وهو يقول «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي».

(٢) أخرجه البخاريّ في : الصلاة ، باب قول الله ، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. ونصه : عن عمرو ـ

٤٥٢

عن ابن عمر. وأخرج مسلم وغيره (١) من حديث أبي هريرة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه ، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو. وأخرج أيضا (٢) من حديث جابر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا دنا من الصفا قرأ : إنّ الصفا والمروة من شعائر الله. أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحّد الله وكبّره قال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلّا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ دعا بين ذلك ، فقال مثل هذا ثلاث مرات ، ثمّ نزل إلى المروة حتى إذا نصبت قدماه في بطن الوادي ، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا. وظاهر هذا أنه كان ماشيا.

وقد روى مسلم (٣) في صحيحه عن أبي الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : طاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ليراه الناس ، وليشرف وليسألوه ، فإن الناس غشوه.

ولم يطف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلّا طوافا واحدا.

قال ابن حزم : لا تعارض بينهما ، لأن الراكب إذا انصبّ به بعيره فقد انصبّ كلّه وانصبّت قدماه أيضا مع سائر جسده.

وعندي ـ في الجمع بينهما ـ وجه آخر أحسن من هذا وهو : أنه سعى ماشيا أوّلا ، ثمّ أتمّ سعيه راكبا ، وقد جاء ذلك مصرّحا به.

ففي صحيح مسلم (٤) عن أبي الطفيل قال : قلت لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ، أسنّة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنّة! قال : صدقوا وكذبوا ...! ـ قال ـ قلت : ما قولك صدقوا وكذبوا ..؟ قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثر

__________________

ـ ابن دينار قال : سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت العمرة ، ولم يطف بين الصفا والمروة ، أيأتي امرأته؟ فقال : قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، وطاف بين الصفا والمروة. وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

وأخرجه مسلم في : الحج ، حديث ١٨٩.

(١) أخرجه مسلم في : الجهاد والسير ، حديث ٨٤.

(٢) أخرجه مسلم في : الحج ، حديث ١٤٧.

(٣) أخرجه مسلم في : الحج ، حديث ٢٥٥.

(٤) أخرجه مسلم في : الحج ، حديث ٢٣٧ وهو الشطر الثاني من الحديث.

٤٥٣

عليه الناس. يقولون : هذا محمد ..! حتى خرج عليه العواتق من البيوت ـ قال ـ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يضرب الناس بين يديه ـ فلمّا كثر عليه ركب. والمشي والسعي أفضل.

وفي الصحيحين (١) عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوّته ...!

وعن كريب مولى ابن عباس : أنّ ابن عباس قال (٢) : ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنّة ، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون : لا نجيز البطحاء إلّا شدّا ..! رواه البخاري تعليقا ، ووصله أبو نعيم في مستخرجه. قال شرّاح الصحيح : المراد بالسعي المنفيّ هو شدّة المشي والعدو. فهو ، رضي الله عنه ، لم ينف سنية السعي المجرد ، بل مجاوزة الوادي بقوّة وعدو شديد ، إذ أصل السعي هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم.

الثالث : في البخاريّ (٣) عن ابن عباس في قصّة هاجر أم إسماعيل : إنّ الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتردادها في طلب الماء. ولفظه : وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى (أو قال ، يتلبط) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرّات.

قال ابن عباس : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا ... الحديث.

قال ابن كثير : لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة ، تطلب الغوث من الله تعالى متذللة ، خائفة ، مضطرة ، فقيرة إلى الله عزوجل ، كشف تعالى كربتها ، وآنس غربتها ، وفرج شدّتها ، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم ،

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : المغازي ، ٤٣ ـ باب عمرة القضاء ، حديث ٨٦٢.

(٢) أخرجه البخاريّ في : مناقب الأنصار ، ٢٧ ـ باب القسامة في الجاهلية ، حديث ١٨٠٤.

(٣) أخرجه البخاريّ في : الأنبياء ، ٩ ـ باب يزفون. النسلان في المشي حديث ١١٨٣.

٤٥٤

وشفاء سقم. فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذلّه وحاجته إلى الله في هداية قلبه ، وصلاح حاله ، وغفران ذنبه ، وأنّه يلتجئ إلى الله عزوجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب ، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم ، وأن يثبته عليه إلى مماته ، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه ـ من الذنوب والمعاصي ـ إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة ، كما فعل بهاجر عليها‌السلام.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي

الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ)(١٥٩)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

لما تقدم أنّ بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحقّ ، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم ـ ترغيبا وترهيبا ـ بأنه يشكر من فعل ما شرعه له ، ويعلم من أخفاه وإن دقّ فعله وبالغ في كتمانه ، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم. ولعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق. إذ كانت هذه كلّها في الحقيقة قصصهم. والخروج إلى غيرها إنّما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين ، لأنّ هذا الكتاب هدى ؛ وكان السياق مرشدا إلى أنّ التقدير بعد «شاكر عليم» : ومن أحدث شرا فإنّ الله عليم قدير ، فوصل به استئنافا قوله ـ على وجه يعمهم وغيرهم ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا ...) الآية ، بيانا لجزائهم. فانتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوّله من قوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٤٢] ، فكانت البداية خاصة ، وكان الختم عاما ، ليكون ما في كتاب الله أمرا منطبقا ـ على نحو ما كان أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تقدّمه من الرسل خلقا ـ لينطبق الأمر على الخلق بدءا وختما انطباقا واحدا ، فعمّ كلّ كاتم من الأولين والآخرين. نقله البقاعي.

و (اللعن) الطرد والإبعاد عن الخير ، هذا من الله تعالى ؛ ومن الخلق : السبّ ، والشتم ، والدعاء على الملعون ، ومشاقّته ، ومخالفته ، مع السخط عليه ، والبراءة منه. والمراد بقوله : (اللَّاعِنُونَ) كلّ من يصح منه لعن ، وقد بيّنه بعد قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [البقرة : ١٦٢] ، وقد دلّت

٤٥٥

الآية على أنّ هذا الكتمان من الكبائر ، لأنه تعالى أوجب فيه اللعن ، لأنّ ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلّف لا يجوز أن يكتم ، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته ، وبلغ للعنه من الشقاوة والخسران الغاية التي لا يدرك كنهها ..! وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتمان العلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال (١) : لو لا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدّثت شيئا أبدا (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ...) [البقرة : ١٥٩] الآية ، وقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ..) [آل عمران : ١٨٧] الآية.

ثم استثنى تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا

التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١٦٠)

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ـ أي عن الكتمان ـ (وَأَصْلَحُوا) ـ أي عملوا صالحا ـ (وَبَيَّنُوا) ـ ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع ـ (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ـ أي أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم ـ (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمرّ به الحال إلى كفره بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ

وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)

خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : العلم ، ٤٢ ـ باب حفظ العلم ، حديث ١٠٢ ونصه : عن أبي هريرة قال : إن الناس يقولون : أكثر أبو هريرة. ولو لا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا. ثم يتلو : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) ، إلى قوله : الرَّحِيمُ. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم. وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشبع بطنه ، ويحضر ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون.

٤٥٦

خالِدِينَ فِيها) ـ أي في اللعنة ، أو في النار ، على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها ـ (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ـ إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال. أي : لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم ؛ أو من النظر بمعنى الرؤية أي : لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٧٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(١٦٣)

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرّده بالإلهية. وأنه لا شريك له ولا عديل.

قال الراغب : يجوز أن يكون قوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) خطابا عاما ، أي المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر ؛ ويجوز أن يكون خطابا للمؤمنين. والمعنى. الذي تعبدونه إله واحد ، تنبيها أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناما آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك. إن قيل : ما فائدة الجمع بين : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وبين (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وأحدهما يبنى على الآخر؟ قيل : لما بين بقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها ـ وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة ـ أكده بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحقّ لهذا المعنى أن يكون مؤكدا وتكرر عليه الألفاظ ، إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه. انتهى.

وقال الرازي : إنما خص سبحانه وتعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو ، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية ، وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلّا للرحمة والإحسان. انتهى.

ولما كان مقام الوحدانية لا يصحّ إلّا بتمام العلم وكمال القدرة ، نصب تعالى الأدلة ، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات ، على ذلك تبصيرا للجهّال وتذكيرا للعلماء بقوله :

٤٥٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي

فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ

مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ

السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع ـ (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر ، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] ، أو اختلاف كلّ منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا كما قال : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١] ، أي : يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك. (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي : في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليم لغيره.

قال الراغب : ولما لم يكن فرق بين أن يقال : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) وبين أن يقال : والبحر الذي يجري فيه الفلك ، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر وإن أخر في اللفظ ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا. ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه ـ قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى. (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) أي المزن (مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار (بَعْدَ مَوْتِها) باستيلاء اليبوسة عليها (وَبَثَّ فِيها) أي نشر وفرق (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) من العقلاء وغيرهم (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي : تقليبها في مهابها : قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا ، وفي أحوالها : حارة وباردة وعاصفة ولينة ، فتارة مبشرة بين يدي السحاب ، وطورا تسوقه ، وآونة تجمعه ، ووقتا تفرقه ، وحينا تصرفه.

قال الثعالبي : إذا جاءت الريح بنفس ضعيف وروح فهي النسيم ، فإذا كانت شديدة فهي العاصف ، فإذا حركت الأغصان تحريكا شديدا وقلعت الأشجار فهي

٤٥٨

الزعزعان والزعزع. فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة ، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار ويقال لها زوبعة أيضا ، فإذا هبت بالغبرة فهي الهبوة ، فإذا كانت باردة فهي الصرصر ، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل ، فإذا كانت حارة فهي الحرور والسّموم ، فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم. ومما يذكر منها بلفظ الجمع : الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار ، واللواقع التي تلقح الأشجار ، والمعصرات التي تأتي بالأمطار ، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.

(وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء ـ كما تهوي بقية الأجرام العالية ـ حيث لم يكن لها ممسك محسوس ، ولا يعلو ، ولا ينقشع ؛ مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة : فالكثيف يقتضي النزول ، واللطيف يقتضي العلو ، والمتوسط يقتضي الانقشاع. ذكره البقاعي.

لطيفتان :

الأولى : قال الثعالبي : أول ما ينشأ السحاب فهو النّشء ، فإذا انسحب في الهواء فهو السحاب ، فإذا تغيرت له السماء فهو الغمام ، فإذا أظلّ فهو العارض ، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق فهو العماء ، فإذا عنّ فهو العنان ، فإذا كان أبيض فهو المزن.

الثانية : قال الراغب : التسخير القهر على الفعل. وهو أبلغ من الإكراه. فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه ، كحمل الرحى على الطحن. وقوله تعالى : (لَآياتٍ) : أي عظيمة كثيرة ، فالتنكير للتفخيم كمّا وكيفا (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول ، فيستدلون على قدرته ، سبحانه ، القاهرة ، وحكمته الباهرة ، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جلّ شأنه.

قال البقاعي : وسبب تكثير الأدلة أنّ عقول الناس متفاوتة. فجعل سبحانه العالم ـ وهو الممكنات الموجودة ، وهي جملة ما سواه ، الدالّة على وجوده وفعله بالاختيار ـ على قسمين : قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى في عرف أهل الشرع : الشهادة والخلق والملك. وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى : الغيب والأمر والملكوت. والأول يدركه عامة الناس ، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس. فالله تعالى ـ بكمال عنايته ورأفته ورحمته ـ جعل العالم بقسميه محتويا على جمل وتفاصيل من وجوه

٤٥٩

متعدّدة ، وطرق متكثرة ، تعجز القوى البشرية. عن ضبطها ، يستدلّ بها على وحدانيته ، بعضها أوضح من بعض ، ليشترك الكل في المعرفة ، فيحصل لكلّ بقدر ما هيّئ له ، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه ، فذلك ـ والعياذ بالله ـ هو الشقيّ انتهى.

قال المهايمي : وكيف ينكرون وجود الله ، وتوحيده ، ورحمانيته ، ورحيميته ، وقد دلّ عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات؟ ثم قال : أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان. لأن لهما أجزاء يفتقران إليها ، فلا بدّ لها من محدث ليس بعض أجزائهما ، لأنه دخله التركيب الحادث ، والقديم لا يكون محلا للحوادث ، والمحدث لا بدّ أن يكون قديما قطعا للتسلسل. وعلى التوحيد ، فلأن إله السموات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر. وعلى الرحمتين لأنه عزوجل جعل في الأرض موادّ قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السموات. وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السموات ولا بدّ لها من محرك ، فإن كان حادثا فلا بدّ له من محدث. وعلى التوحيد ، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له ، فيلزم اجتماعهما وهو محال. فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما. وعلى الرحمتين ، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما ، إذ دوام الليل مبرّد للعالم في الغاية ، ودوام النهار مسخّن له في الغاية. وأما دلالة الفلك على وجود الإله ، فلأنها أثقل من الماء فحقّها الرسوب فيها ، فإمساكها فوق الماء من الله. ودخول الهواء فيها ـ وإن كان من الأسباب ـ فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة ، إذ يقلّ الهواء جدا فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جدا ، فلا ينبغي أن ينسب إلّا إلى الله تعالى من أوّل الأمر ؛ وعلى التوحيد ، فلأن إله الفلك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه ، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك ؛ وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات ، والمسافر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها. وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله ، فلأنه أثقل من الهواء ، فوجوده في مركزه لا يكون إلّا من الله. وعلى التوحيد ، فلأنّ إله الماء لو كان غير إله الهواء ، لمنع من التصرف في ملكه. وعلى الرحمتين ، فلأنّه أحيى به الأرض معاشا للحيوانات ، وبثّ به الدواب تكميلا لمنافع الإنسان. وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله ، فلأنها حادثة تحدث هذه مرّة وهذه أخرى ، وقد يعدم الكلّ ، فلا بدّ من

٤٦٠