تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

فيها العجل ، أربعين ، فإذا انقضت انقطع عنا العذاب. ثم بين تعالى إفكهم. لأن العقل لا طريق له إلى معرفة ذلك ، وإنما سبيل معرفته الإخبار منه تعالى ، وهو منتف. فقال سبحانه (قُلْ) منكرا لقولهم وموبّخا لهم (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) أي فتقولوا لن يخلف الله عهده. وجعل بعضهم الفاء فصيحة معربة عن شرط مقدر. أي : إن كان الأمر كذلك فلن يخلفه (أَمْ تَقُولُونَ) أي : أم لم يكن ذلك فأنتم تقولون مفترين (عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي وقوعه جهلا وجراءة. وقولهم المحكيّ ، وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه ، لكنه مستلزم له. لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨١)

(بَلى) إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) أي بلى تمسكم أبدا. بدليل قوله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) أي عملها وهي والسيء عملان قبيحان أصلها سيوءة. من : ساءه يسوه. فأعلّت إعلال سيد. ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار ، بل لا بد أن يكون سببه محيطا به فقال (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة. وسدت عليه مسالك النجاة. بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود. وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

(تنبيه) ذهب أهل السنة والجماعة إلى أنّ الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين لما ثبت في السنة ، تواترا ، من خروج عصاة الموحدين من النار. فيتعين تفسير السيئة والخطيئة ، في هذه الآية ، بالكفر والشرك. ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) من عادة

٣٤١

التنزيل العزيز أنه لا يذكر فيه آية في الوعيد إلا ويتلوها آية في الوعد. وذلك لفوائد : منها ، ليظهر بذلك عدله سبحانه. لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرّين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرّين على الإيمان. ومنها ، أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه. وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق. ومنها ، أنه يظهر بوعده كمال رحمته ، وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سببا للعرفان.

وقد قدمنا عند قوله تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة : ٢٥] أن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل. فإذا عطف عليه العمل ، فإما أن يكون من عطف الخاص على العام. أو يقال : لم يدخل فيه ولكن مع العطف. كما في اسم الفقير والمسكين. فتذكر.

قال الراغب : في هذه الآية دليل على أن قوله تعالى من قبل : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) هو الكفر ، وإحاطة الخطيئة به ، الأعمال السيئة ، وذلك لما قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة.

ثم شرع ، سبحانه ، يقيم الدليل على أنهم ممن أحاطت به خطيئته فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)(٨٣)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ثم بيّن الميثاق بقوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) وهو إخبار في معنى النهي ، كقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) [البقرة : ٢٨٢] ، وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كذا ، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي. وقد بدئ بأعلى الحقوق وأعظمها. وهو حق الله تبارك وتعالى. أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئا. وبهذا أمر جميع خلقه. ولذلك خلقهم. كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥]. وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦]. (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) والإحسان نهاية البر ، فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية ، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين. حتى قرن

٣٤٢

تعالى الأمر بالإحسان إليهما ، بعبادته التي هي توحيده ، والبراءة عن الشرك ، اهتماما به وتعظيما له.

قال حكيم مصر في تفسيره : العلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد ، هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته والقيام بشئونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا. لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضررا. وكانا يحوطانه بالعناية والرعاية. ويكفلانه ، حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه. فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما ، عن علم واختيار ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. وإذا وجب على الإنسان أن يشكر ، لكل من يساعده على أمر عسير ، فضله ، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد ، وما كانت به المساعدة ، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله تعالى ، وهما اللذان كانا يسعدانه على كل شيء ، أيام كان يتعذر عليه كل شيء (وَذِي الْقُرْبى) أي القرابة.

قال الأستاذ الحكيم «الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ، ويوثق الروابط الطبيعية ، حتى تبلغ البيوت ، في وحدة المصلحة ، درجة الكمال. والأمة تتألف من البيوت ، أي العائلات. فصلاحها صلاحها. ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة. وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدّهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد. ثم بين سائر الأقربين. فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمته. لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس. فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم ، يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ويرى منفعتهم عين منفعته ، ومضرتهم عين مضرته؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة ، وصلتها أمتن من كل صلة. فجاء الدين يقدّم حقوق الأقربين على سائر الحقوق.

وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص. ثم ذكر تعالى حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال سبحانه (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ). اليتامى جمع يتيم. وهو من مات أبوه وهو صغير. قدم تعالى الوصية به على الوصية بالمسكين ، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة. فعلم أنها مقصودة لذاتها. وقد أكد تعالى في الوحي الوصية باليتيم. وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا. وحسبك أن القرآن نهى

٣٤٣

عن قهر اليتيم وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا. والسرّ في ذلك هو كون اليتيم لا يجد ، في الغالب ، من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه والعناية بأموره الدينية والدنيوية. فإن الأم ، إن وجدت ، تكون في الأغلب عاجزة. لا سيما إذا تزوجت بعد أبيه. فأراد الله تعالى ، وهو أرحم الراحمين ، بما أكد من الوصية بالأيتام ، أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم. يربونهم تربية دينية دنيوية ، لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم ، فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا. فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد. والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة. فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة. وأما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم ، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا. إلا أنهم قد اتخذوا السؤال حرفة يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس. ولكن المسكين من يعجز عن كسب ما يكفيه.

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي قولا حسنا. أي : كلموهم طيبا ولينوا لهم جانبا. وفيه من التأكيد والتحضيض على إحسان مقاولة الناس ، أنه وضع المصدر فيه موضع الاسم ، وهذا إنما يستعمل للمبالغة في تأكيد الوصف ، كرجل عدل وصوم وفطر. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) خطاب لبني إسرائيل. فالمراد الصلاة التي كانوا يصلونها والزكاة التي كانوا يخرجونها. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن المضيّ على مقتضى الميثاق الذي فيه سعادتكم ورفضتموه. وقوله (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه‌السلام ، أو في كل زمن. فإنه لا تخلو أمة من الأمم ، من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم. والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم ، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهيّ إذا فشا فيها المنكر ، وقلّ المعروف. (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق. ثم نعى عليهم أيضا إخلالهم بواجب الميثاق المأخوذ عليهم في حقوق العباد بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ

دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(٨٤)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) إخبار

٣٤٤

في معنى النهي. والمراد به النهي الشديد عن تعرض بعض بني إسرائيل لبعض بالقتل والإجلاء. أن لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أي أظهرتم الالتزام بموجب المحافظة على الميثاق المذكور (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بلزومه. فهو توكيد للإقرار ، كقولك : أقر فلان ، شاهدا على نفسه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٨٥)

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) خطاب خاص للحاضرين ، فيه توبيخ شديد (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) من غير التفات إلى هذا العهد الوثيق (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) أي تتعاونون عليهم (بِالْإِثْمِ) وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم (وَالْعُدْوانِ) وهو التجاوز في الظلم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ) أي هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم (أُسارى) بضم الهمزة ، وفتح السين ، والألف بعدها. وقرأ حمزة (أسرى) بفتح الهمزة ، وسكون السين كقتلى ، جمع أسير ، وأصله المشدود بالأسر ، وهو القدّ ، وهو ما يقدّ أي يقطع من السير (تُفادُوهُمْ) بضم التاء وفتح الفاء. وقرئ تفدوهم بفتح التاء وسكون الفاء ، أي تخلصوهم بالمال من الفداء. وهو الفكاك بعوض (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) الجملة حال من الضمير في (تُخْرِجُونَ) أو من (فَرِيقاً) أو منهما. وتخصيص بيان الحرمة هاهنا بالإخراج ، مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق ، لكونه مظنة للمساهلة في أمره ، بسبب قلة خطره بالنسبة إلى القتل. ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معا. وذلك مختص بصورة الإخراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص. وهو السرّ في تخصيص التظاهر به فيما سبق. ثم أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام فقال (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي : التوراة وهو الموجب للمفاداة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو المحرّم للقتل والإخراج. ثم اعلم أن ما ذكرناه في قوله تعالى (تُفادُوهُمْ) و (فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين

٣٤٥

من أن ذلك وصف لهم بما هو طاعة ، وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ، والإيمان بذلك. وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك. والمراد أنكم ، مع القتل والإخراج ، إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرما عليكم ، ثم عنده تخرجونه من الأسر.

قال أبو مسلم : والمفسرون ، إنما أتوا من جهة قوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليهم. والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتب وكفرتم ببعض.

وكلا القولين يحتمله لفظ المفاداة ، لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه. والآخذ منه للتخليص يوصف أيضا بذلك. إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب. لأن عود قوله (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية. أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات. أفاده الرازيّ. (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض. أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى (إِلَّا خِزْيٌ) ذلّ وهوان مع الفضيحة. والتنكير للتفخيم. (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقد فعل سبحانه ذلك ، فقتلت بنو قريظة وأجليت بنو النضير إلى أذرعات وأريحا من الشام. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) يعني النار (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) أي آثروا (الْحَياةَ الدُّنْيا) على خساستها. واستبدلوها (بِالْآخِرَةِ) مع نفاستها. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) في واحدة من الدارين. (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : أنكر تعالى على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في المدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عبّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع ، حلفاء الخزرج ، وبنو نضير وبنو قريظة حلفاء الأوس فكانوا ، إذا كانت بين الأوس والخزرج

٣٤٦

حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه. فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها ، ويسفكون دماءهم ، وبأيديهم التوراة. يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ولا حراما ، فإذا وضعت الحرب أوزارها وأسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه ، فتفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم. فإذا عيرتهم العرب بذلك وقالوا : كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا إنا أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم. فيقال : لم تقاتلونهم؟ قالوا : إنا نستحي أن تستذلّ حلفاؤنا. فلذلك حين عيرهم عزوجل فقال : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي تفادوهم بحكم التوراة وتقتلونهم. وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا. هذا ملخص ما ساقه ابن كثير عن محمد بن إسحاق بسنده إلى ابن عباس. ورواه أيضا عن السدّيّ. فليحقق تصحيح هذه القصة. وفي الآية تفسير آخر. أي لا تقتلوا أنفسكم لشدة تصيبكم بسكّين أو خنق أو بارتكاب ما يوجب ذلك. كالارتداد والزنى بعد الإحصان. وقتل النفس بغير الحق نحو ذلك. ولا تسيئوا جوار من جاوركم فيضطرون إلى الخروج من دياركم. أو : لا تفسدوا فتكونوا سببا لإخراجكم أنفسكم. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم. وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به. والمراد بالكتاب التوراة. (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) يقال : قفّاه به أتبعه إياه ، من التقفية وهي متابعة شيء شيئا. كأنه يتلو قفاه ، وقفا الصورة منها ، خلفها المقابل للوجه. والمعنى لم نقتصر على الضبط بالكتاب الذي تركه فيكم موسى ، بل أرسلنا من بعده الرسل تترى ، ليجددوا لكم أمر الدين ويؤكدوا عليكم العهود. (وَآتَيْنا عِيسَى) اسم معرّب أصله يسوع. لفظة يونانية بمعنى مخلص. ومثله يشوع ، بالمعجمة ، في اللغة العبرانية (ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ)

٣٤٧

المعجزات الواضحات التي لا مرية فيها لذي عقل. كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص (وَأَيَّدْناهُ) أي قويناه على ذلك كله (بِرُوحِ الْقُدُسِ) بالروح المقدسة كما تقول : حاتم الجود ورجل صدق. وهي الروح الطاهرة التي نفخها الله فيه وميزه بها عن غيره ممن خلق. قال تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١] ، ولذا كان له ، عليه الصلاة والسلام ، بالروح مزيد اختصاص لكثرة ما أحيى من الموتى. وعن الحسن البصري : القدس هو الله. وروحه جبريل. والإضافة للتشريف. والمعنى أعنّاه بجبريل. قال الرازيّ : والذي يدل على أن روح القدس جبريل قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) [النحل : ١٠٢] ، والله أعلم.

وتخصيصه من بين الرسل عليهم‌السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس لحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه‌السلام ، ببيان حقيته وإظهار نهاية قبح ما فعلوا به عليه‌السلام (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) من الحق ، أي لا تحبه. من هوى كفرح ، إذا أحب (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الاتباع له والإيمان بما جاء به من عند الله تعالى (فَفَرِيقاً) منهم (كَذَّبْتُمْ) إذ لم تنل أيديكم مضرّته (وَفَرِيقاً) آخر منهم (تَقْتُلُونَ) غير مكتفين بتكذيبهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)

(وَقالُوا) بيان لنوع آخر من مخازيهم. والقائلون المعاصرون للنبيّ عليه‌السلام (قُلُوبُنا غُلْفٌ) هذا كقوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥] ، أي هي مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها. فلا تفقهه. مستعار من الأغلف الذي لم يختن (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) رد الله أن تكون قلوبهم كذلك لأنها متمكنة من قبول الحق. وإنما طردهم عن رحمته بسبب كفرهم وزيغهم. وهذا كما قال في سورة النساء : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٥٥]. وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) «ما» مزيدة للمبالغة أي فإيمانا قليلا يؤمنون. وهو إيمانهم ببعض الكتاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٨٩)

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ) هو القرآن الكريم الذي مقصود هذه السورة. وصفه

٣٤٨

بالهدى. وتنكيره للتفخيم. ونعته بقوله (مِنْ عِنْدِ اللهِ) للتشريف (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة. وجواب «لما» محذوف دل عليه جواب «لما» الثانية. وعليه ، فقوله تعالى : (وَكانُوا) إلخ .. جملة معطوفة على الشرطية ، عطف القصة على القصة. وقيل : جوابها كفروا. ولمّا الثانية تكرار للأولى ، فلا تحتاج إلى جواب. وقيل : كفروا جواب للأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد. وعلى الوجهين فجملة قوله (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل مجيئه (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) جملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم. والاستفتاح : الاستنصار أي طلب النصر ، أي يطلبون من الله النصر على المشركين لما أنهم كانوا مستذلين في جزيرة العرب ، ولذا كانوا يحالفون بعض القبائل تعزّزا بهم على ما تقدم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) صحته وصدقه. كان من حقهم أن يسارعوا إلى الإيمان به لظفرهم بأمنيتهم حينئذ ، وهو انتصارهم على المشركين وحصول العزة لهم مع المؤمنين. ولكن (كَفَرُوا بِهِ) أي امتنعوا من الإيمان به خوفا من زوال رئاستهم وأموالهم. وأصرّوا على الإنكار مع علمهم بحقيقة نبوته. ولذا قال عبد الله بن سلام في قصة إسلامه (١) : يا معشر اليهود اتقوا الله. فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق. رواه البخاريّ في الهجرة. وروى أيضا أن عبد الله بن سلام لما بلغه مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ. فلما أجابه عنها قال : أشهد أنك رسول الله. وسنذكر الحديث بتمامه عند قوله تعالى (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧] الآية إن شاء الله تعالى. وقوله (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) اللام فيه للعهد أي عليهم ، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم ، كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه. أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليّا. إذ الكلام فيهم. وأيّا ما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ)(٩٠)

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) «ما» نكرة موصوفة بما بعدها ، منصوبة على التمييز ، مفسرة لفاعل بئس. أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم واعتاضوا لها ، فرضوا به

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، سورة البقرة ، ٦ باب قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ).

٣٤٩

وعدلوا إليه. والمخصوص بالذم قوله تعالى : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي كفرهم بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته (بَغْياً) حسدا (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) لأن ينزل ، أو على أن ينزل. أي حسدوه على أن ينزل الله (مِنْ فَضْلِهِ) الذي هو الوحي (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يشاؤه ويصطفيه للرسالة (فَباؤُ بِغَضَبٍ) أي رجعوا لأجل ذلك بغضب ، في حسدهم لهذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كفروا به (عَلى غَضَبٍ) كانوا استحقوه قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل تحريفهم الكلم ، وتضييعهم بعض أحكام التوراة ، وكفرهم بعيسى عليه‌السلام.

قال الرازيّ : إن غضبه تعالى يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته في العذاب ، فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة ، كغضبه على من كفر بخصال كثيرة.

قلت : وفي الصحيحين عن أبي هريرة : «اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك لا ملك إلا الله» (١). والروايات في توصيف غضبه تعالى بالشدة على بعض المنكرات متوافرة. انظر الجامع الصغير.

ويحتمل المعنى. فصاروا أحقاء بغضب مترادف ، فلا يكون القصد إثبات غضبين لأمرين متنوعين أو أمور ، بل المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر ، وإن كان واحدا ، إلا أنه عظيم. والله أعلم.

وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) أن الغضب صفة وصف الله تعالى نفسه بها. وليس غضبه كغضبنا. كما أن ذاته ليست مثل ذواتنا ، فليس هو مماثلا لأبداننا ولا لأرواحنا ، وصفاته كذاته. وما قيل : إن الغضب من الانفعالات النفسانية فيقال نحن وذواتنا منفعلة ، فكونها انفعالات فينا لا يجب أن يكون الله منفعلا بها. كما أن نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين. فصفاته كذلك ليست كصفات المخلوقين ، ونسبة صفة المخلوق إليه كنسبة صفة الخالق إليه. وليس المنسوب كالمنسوب والمنسوب إليه كالمنسوب إليه. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر» (٢) فشبه الرؤية بالرؤية لا المرئيّ بالمرئيّ. وهذا يتبيّن بقاعدة : وهي أن كثيرا من الناس يتوهم ، في بعض

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الأدب ، باب أبغض الأسماء إلى الله ، ونصه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أخنى (أخنع) الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى ملك الأملاك».

(٢) أخرجه البخاريّ في : مواقيت الصلاة ، ١٦ ـ باب فضل صلاة العصر.

٣٥٠

الصفات أو كثير منها أو أكثرها أو كلها ، أنها تماثل صفات المخلوقين. ثم يريد نفي ذلك الذي فهمه فيقع في أربعة أنواع من المحاذير : أحدها كونه مثّل ما فهمه من النصوص لصفات المخلوقين. وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني أنه إذ جعل ذلك هو مفهومها وعطّله فبقيت النصوص معطلة. عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جناية على النصوص ، وظنه السّيئ الذي ظنه بالله ورسوله ، حيث خلاف الذي يفهم من كلامهما ، من إثبات صفات الله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى. الثالث : أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير دليل. فيكون معطّلا عما يستحقه الرب تبارك وتعالى. الرابع : أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات من صفات الموات والجمادات وصفات المعدومات. فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب. ومثّله بالمنقوصات والمعدومات. وعطّل النصوص عما دلت عليه من الصفات. وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات. فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل. سبحانه وتعالى عما يقول الظّالمون علوّا كبيرا. أفاده الإمام ابن تيمية. عليه الرحمة ، في القاعدة التدمرية. (وَلِلْكافِرِينَ) أي لهم. والإظهار في موضع الإضمار للإشعار بعلّية كفرهم لما حاق بهم (عَذابٌ مُهِينٌ) يراد به إهانتهم. أي إذلالهم. فإن كفرهم ، لما كان سببه البغي والحسد ، ومنشأ ذلك التكبر ، قوبلوا بالإهانة والصغار في الآخرة كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] أي صاغرين حقيرين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لليهود (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدّقوه واتبعوه (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) من التوراة ، ولا نقرّ إلا بها (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) حال من ضمير «قالوا» بتقدير مبتدأ. أي قالوا ما قالوا وهم يكفرون بما بعده (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) منها غير مخالف له. وفيه ردّ لمقالتهم. لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها (قُلْ) تبكيتا لهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم صادقين في دعواكم

٣٥١

الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم وأنتم تعلمون صدقهم. قتلتموهم بغيا وعنادا ، واستكبارا على رسل الله. فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٧] والخطاب للحاضرين من اليهود والماضين ، على طريق التغليب ، وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل ، كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم. ودلت الآية على أن المجادلة في الدين من عرف الأنبياء عليهم‌السلام ، وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز.

ولما دل على كذبهم في دعوى الإيمان بما فعلوا بعد موسى ، أقام دليلا آخر أقوى مما تقدمه. فإنه لم يعهد إليهم في التوراة ما عهد إليهم في التوحيد والبعد عن الإشراك. وهو في النّسخ الموجودة بين أظهرهم الآن. وقد نقضوا جميع ذلك باتخاذ العجل في أيام موسى ، وبحضرة هارون عليهما‌السلام. فقال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ

وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) (٩٢)

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) من الآيات كفلق البحر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك من الدلائل القاطعات على أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) معبودا من دون الله (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ما ذهب موسى عنكم إلى الطور لمناجاة الله عزوجل. كما قال تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨] وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي بعبادته. واضعين لها في غير موضعها. أو بالإخلال بحقوق آيات الله تعالى. أو هو اعتراض. أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.

ثم ذكر أمرا آخر هو أبين في عنادهم وأنهم مع الهوى فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثا قَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩٣)

٣٥٢

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) على الإيمان والطاعة. (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قائلين (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أي ما أمرتم به في التوراة (بِقُوَّةٍ) بجد (وَاسْمَعُوا) أطيعوا (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك. وظاهر السوق يقتضي أنهم قالوا ذلك حقيقة.

قال أبو مسلم : وجائز أن يكون المعنى : سمعوه فتلقوه بالعصيان. فعبّر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه : كقوله تعالى (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢]. (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي حبّه على حذف المضاف. وإقامة المضاف مقامه للمبالغة. أو العجل مجاز عن صورته. فلا يحتاج إلى حذف المضاف. وعلى كلّ ، فأشربوا استعارة تبعية. إما من إشراب الثوب الصبغ ـ أي تداخله فيه ـ أو من إشراب الماء ـ أي تداخله أعماق البدن ـ والجامع السراية في كل جزء. وإسناد الفعل إليهم إيهام لمكان الإشراب. ثم بيّن بقوله (فِي قُلُوبِهِمُ) للمبالغة ، فظهر وجه العدول عن مقتضى الظاهر وهو : وأشرب قلوبهم العجل. (بِكُفْرِهِمْ) بسبب كفرهم (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي كما زعمتم ، بالتوراة. وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما في قصة شعيب (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧] وكذا إضافة الإيمان إليهم. وقوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قدح في صحة دعواهم. فإن الإيمان إنما يأمر بعباده الله وحده لا بشركة العبادة لما هو في غاية البلادة. فهو غاية الاستهزاء. وحاصل الكلام : إن كنتم مؤمنين بها عاملين ، فيما ذكر من القول والعمل ، بما فيها ، فبئسما يأمركم به إيمانكم بها. وإذ لا يسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا. فجواب الشرط محذوف ، كما ترى ، لدلالة ما سبق عليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٩٤)

(قُلْ) كرر الأمر بتبكيتهم لإظهار نوع آخر من أباطيلهم. وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس. لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله ، بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام بقوله (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) نصب على الحال من الدار الآخرة. والمراد الجنة. أي سالمة لكم ، خاصة بكم ، ليس لأحد سواكم فيها حق كما تقولون (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً)

٣٥٣

[البقرة : ١١١]. (مِنْ دُونِ النَّاسِ) اللام للجنس أو للعهد وهم المسلمون (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) فسلوا الموت (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الأكدار ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالموت. والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوبا ، نظرا إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب. والمراد بالتمني هنا هو التلفظ بما يدل عليه كما أشرنا إليه ، لا مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجّة ومواطن الخصومة ومواقف التحدي لأنه من ضمائر القلوب. وثمّ تفسير آخر للتمني بأن يدعوا إلى المباهلة والدعاء بالموت. وإليه ذهب ابن جرير. والأول أقرب إلى موافقة اللفظ. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٩٥)

(وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) من المعجزات لأنه إخبار بالغيب. وكان كما أخبر به. كقوله (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤]. (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما أسلفوا من أنواع العصيان. واليد مجاز عن النفس. عبّر بها عنها ، لأنها من بين جوارح الإنسان ، مناط عامة صنائعه. ولذا كانت الجنايات بها أكثر من غيرها. ولم يجعل المجاز في الإسناد ، فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم ، ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي بهم. تذييل للتهديد. والتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ، ونفيه عمن سواهم. ونظير هذه الآية في سورة الجمعة قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [الجمعة : ٦ ـ ٧].

وقد تلطف الغزاليّ في توجيه الإتيان ب «لن» هنا و «لا» في سورة الجمعة بأن الدعوى هنا أعظم من الثانية ، إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ، وأما مرتبة الولاية فهي ، وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة. فلما كانت الدعوى الأولى أعظم ، لا جرم بيّن تعالى فساد قولهم بلفظ «لن» لأنها أقوى الألفاظ النافية. ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة اكتفى في إبطالها بلفظ «لا» لأنه ليس في نهاية القوة ، في إفادة معنى النفي. والله أعلم.

ولما أخبر تعالى عنهم أنهم لا يتمنون الموت ، أتبعه بأنهم في غاية الحرص على الحياة بقوله :

٣٥٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ، ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي : على الحياة. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عطف على ما قبله بحسب المعنى ، كأنه قيل : أحرص من الناس ومن الذين أشركوا. وإفرادهم بالذكر ، مع دخولهم في الناس ، للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص. للمبالغة في توبيخ اليهود. فإن حرصهم ، وهم معترفون بالجزاء ، لمّا كان أشد من حرص المشركين المنكرين له ، دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار. ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بإنباء المعطوف عليه ، عنه ، أي وأحرص من الذين أشركوا.

وأما تجويز كون الواو للاستئناف وقد تم الكلام عند قوله : (عَلى حَياةٍ) تقديره (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ناس يود أحدهم ، على حذف الموصوف ، وقول أبو مسلم : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وتقديره : ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ، ثم فسر هذه المحبة بقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ـ فلا يخفى بعده. لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر ، أن يكون المراد :

ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم : إن الدار الآخرة لنا ، لا لغيرنا والله أعلم.

(يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) بيان لزيادة حرصهم ، على طريق الاستئناف. و (لَوْ) مصدرية ، بمعنى «أن» مؤوّل ما بعدها بمصدر ، مفعول يود. أي يود أحدهم تعمير ألف سنة (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ما) حجازية ، والضمير العائد على أحدهم اسمها ، وبمزحزحه خبرها ، والباء زائدة ، وأن يعمر فاعل مزحزحه ، أي وما أحدهم المتمني بمن يزحزحه ، أي يبعده وينجيه ، من العذاب ، تعميره. قال القاضي :

٣٥٥

والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ، ولو قال تعالى : وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فسوف يجازيهم عليه.

وما ذكره بعض المفسرين من أن البصير في اللّغة بمعنى العليم لا يخفى فساده ، فإن العليم والبصير اسمان متباينا المعنى لغة. نعم! لو حمل أحدهما على الآخر مجازا لم يبعد ، ولا ضرورة إليه هنا. ودعوى أن بعض الأعمال مما لا يصح أن يرى ، فلذا حمل هذا البصر على العلم ـ هو من باب قياس الغائب على الشاهد ، وهو بديهيّ البطلان. قال شمس الدين ابن القيم الدمشقيّ في كتاب الكافية الشافية.

وهو البصير يرى دبيب النملة السّوداء تحت الصخر والصّوّان

ويرى مجاري القوت في أعضائها

ويرى عروق بياضها بعيان

ويرى خيانات العيون بلحظها

ويرى ، كذاك ، تقلّب الأجفان

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٩٨)

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ).

روى البخاريّ في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال (١) : سمع عبد الله ابن سلام بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو في أرض يخترف ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّي سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبيّ. فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال : «أخبرني بهن جبريل آنفا» ، قال : جبريل؟ قال «نعم» قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ). «أما أول أشراط الساعة ، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام أهل الجنّة ، فزيادة كبد حوت. وإذا سبق ماء

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، سورة البقرة ، باب قوله (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ).

٣٥٦

الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت» قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيّ رجل عبد الله فيكم»؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام»؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله. فقالوا : شرّنا وابن شرنا. وانتقصوه.

قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال (١) : حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبيّ. وساق نحوا مما تقدم. وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليّك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : فإن ولي جبريل ، ولم يبعث الله نبيّا قط ، إلا وهو وليه. قالوا : فعندها نفارقك. ولو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال : فما منعكم أن تصدقوه؟ قالوا : إنه عدوّنا ، فأنزل الله عزوجل (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) إلى قوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فعندها باؤوا بغضب على غضب. وفي رواية للإمام أحمد والترمذيّ والنسائيّ في القصة : فأخبرنا من صاحبك؟ قال جبريل عليه‌السلام. قالوا : جبريل! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا. لو قلت «ميكائيل» الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان! فأنزل الله تعالى (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) إلى آخر الآية. ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقد روى ابن جرير عن الشعبيّ قال : نزل عمر الرّوحاء ، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلّون إليها. فقال : ما هؤلاء؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى هاهنا. قال فكره ذلك ، وقال : أيما؟ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركه. ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدّق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب! ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك. قلت : ولم ذلك؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا. قال قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان قال ، ومرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند جزء أول ، حديث رقم ٢٥١٤.

٣٥٧

ابن الخطاب! ذاك صاحبكم فالحق به. قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال : فسكتوا. قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظّم عليكم فأجيبوه. قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت. قال : أمّا إذ نشدتنا به. فإنا نعلم أنه رسول الله. قال : قلت ويحكم ، إذا هلكتم. قالوا : إنا لم نهلك. قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا : إن لنا عدوّا من الملائكة وسلما من الملائكة. وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قال : قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم. قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل. قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا. وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ، ونحو هذا. قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا : أحدهما عن يمنيه والآخر عن يساره ، قال : قلت : فو الله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل. قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان. فقال لي : يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ عليّ (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) حتى قرأ الآيات. قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك بالخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر.

ورواه مختصرا ابن أبي حاتم أيضا ، وفيه انقطاع ، فإن الشعبيّ لم يدرك زمان عمر رضي الله عنه. كذا قاله الحافظ ابن كثير ، وساقه أيضا الواحديّ ، وزاد في آخره : قال عمر : فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر.

قال العلامة البقاعيّ : وقد روى هذا الحديث أيضا إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبيّ ، عن عمر رضي الله عنه. قال شيخنا البوصيريّ : وهو مرسل صحيح الإسناد ، انتهى.

وثمّ روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره ، لا نطوّل كتابنا بسردها ، ومرجعها واحد. فإن قيل : بين رواية البخاريّ الأولى وما بعدها تناف. فالجواب : لا منافاة ، لأن قراءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام ، ردّا لقول اليهود ، لا يستلزم نزولها حينئذ. فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف

٣٥٨

من الروايات. فإن طرقها يقوي بعضها بعضا ، وكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو لليهود ، تلا عليه الآية ، مذكّرا له سبب نزولها ـ كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح.

وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ في «الإتقان» حيث قال (تنبيه) قد يكون في إحدى القصتين ، (فتلا) فيهم الراوي ، فيقول (فينزل). وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس‌سره في كتابه «أصول التفسير» وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيرا ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية وذكر بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها. سواء تقدمت القصة أو تأخرت. إسرائيليا كان ذلك أو جاهليا أو إسلاميا. استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم.

فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلا. وللقصص المتعددة هنالك سعة. فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية. انتهى.

وقوله تعالى (لِجِبْرِيلَ) قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز ، وبفتح الجيم بدونها أيضا ، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها. قال ابن جنيّ : العرب إذا نطقت بالأعجميّ خلطت فيه.

وقوله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) تعليل لجواب الشرط قائم مقامه ، والبارز الأول لجبريل عليه‌السلام ، والثاني للقرآن ، أضمر من غير سبق ذكر ، إيذانا بفخامة شأنه ، واستغنائه عن الذكر ، لكمال شهرته ونباهته ، لا سيما عند ذكر شيء من صفاته. وقوله (عَلى قَلْبِكَ) زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، فإنه القابل الأول له ، إن أريد به الروح. ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو ، وهذا كقوله (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] ، وكان حق الكلام أن يقال (على قلبي) لأنه المطابق لقل ، ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقا لكونه كلام الله. وأنه أمر بإبلاغه. وقوله (بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره. وقوله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من التوراة وبقية الصحف المنزلة. وقوله (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة ، كما قال تعالى (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصلت : ٤٤] الآية. وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] ، وفيه رد على اليهود ، حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة

٣٥٩

كما تقدم ، فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضا. فإن قيل : من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب ، فكيف استقام قوله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) جزاء للشرط؟ أجيب بأن قوله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) تعليل لجواب الشرط ، كما أسلفنا. والمعنى : من عادى جبريل من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته ، بل يجب عليه محبته ، فإنه نزل عليك كتابا مصدقا لكتبهم. فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه ، في إنزاله ما ينفعهم ، ويصحح المنزل عليهم. وقيل : الجواب محذوف تقديره «فليمت غيظا». وعليه فلا يكون (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) نائبا عنه. ووجهه أن يقدر الجواب مؤخرا عن قوله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة ، كأنه قيل : من عاداه ، لأنه نزل على قلبك فليمت غيظا.

قال الرضى : كثيرا ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام ، قال الله تعالى (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) [الحجر : ٣٤] ، وقيل تقديره : فهو عدو لي وأنا عدوه ، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، وهي قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) أي من كان عدوا لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر. وأفادت الآية غضب الله تعالى لجبريل على من عاداه. وقد روى البخاريّ في صحيحه ، عن أبي هريرة حديثا قدسيا «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» (١).

وصدّر الكلام بذكر الجليل تفخيما لشأنهم وإيذانا بأن عداوتهم عداوته عز وعلا. وقدم الملائكة على الرسل ، كما قدم الله على الجميع ، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي ، ونزوله بتنزيل الملائكة ، وتنزيلهم لها بأمر الله ، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب ، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وإنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلا للتغاير الوصفيّ ، منزلة التغاير الذاتيّ ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر ، واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ، إذ

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الرقاق ، باب التواضع ونصه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله قال : من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه. ولئن استعاذني لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته.

٣٦٠