تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢ ـ ٣] ، وقوله إخبارا عن شعيب : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : ٨٨].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ)(٤٥)

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) أي على الوفاء بالعهد (وَالصَّلاةِ) أي التي سرها خشوع القلب للرب. فإنها من أكبر العون على الثبات في الأمر. قال ابن جرير : أي استعينوا على الوفاء بعهدي الذي عاهدتموني في كتابكم من طاعتي واتباع أمري وترك ما تهوونه من الرياسة وحب الدنيا إلى ما تكرهونه من التسليم لأمري واتباع رسولي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر عليه والصلاة. فالآية متصلة بما قبلها. كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال عولجوا بذلك. (وَإِنَّها) الضمير للصلاة. وتخصيصها برد الضمير إليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر ، وجوّز عود الضمير على الاستعانة بهما (لَكَبِيرَةٌ) لشاقة ثقيلة كقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى : ١٣] (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٤٦)

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي محشورون إليه يوم القيامة للجزاء. والظنّ هنا بمعنى اليقين ومثله (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠].

قال ابن جرير : العرب قد تسمي اليقين ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفة والمغيث صارخا والمستغيث صارخا وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده.

والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصر (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي بعد الموت فيجازيهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٧)

٣٠١

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) عطف على نعمتي ، عطف الخاص على العام لكماله. أي فضلت آباءكم (عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم بإنزال الكتاب عليهم وإرسال الرسل فيهم وجعلهم ملوكا ، وهم آباؤهم الذين كانوا في عصر موسى عليه‌السلام وبعده قبل أن يغيروا. وتفضيل الآباء شرف الأبناء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ

وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٤٨)

(وَاتَّقُوا يَوْماً) يريد يوم القيامة أي حسابه أو عذابه (لا تَجْزِي) فيه (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق. فانتصاب (شَيْئاً) على المفعولية. أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية. وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكليّ (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ) لا يقبل (مِنْها عَدْلٌ) أي فدية (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يمنعون من عذاب الله. وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة وذكر لمعنى العباد أو الأناسيّ.

(تنبيه) تمسكت المعتزلة بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة لأنه نفى أن تقضي نفس عن نفس حقا أخلت به من فعل أو ترك ، ثم نفى أن يقبل منها شفاعة شفيع. فعلم أنها لا تقبل للعصاة. والجواب : أنها خاصة بالكفار. ويؤيده أن الخطاب معهم كما قال : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] ، وكما قال عن أهل النار (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَوَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١] فمعنى الآية أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد.

وفي الانتصاف : من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها. وأما من آمن بها وصدقها ، وهم أهل السنة والجماعة ، فأولئك يرجون رحمة الله ، ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادخرت لهم. وليس في الآية دليل لمنكريها ، لأن قوله (يَوْماً) أخرجه منكرا. ولا شك أن في القيامة مواطن. ويومها معدود بخمسين ألف سنة. فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة. وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى

٣٠٢

تعدد أيامها واختلاف أوقاتها. منها قوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، مع قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين : أحدهما محل للتناول والآخر ليس محلا له ، وكذلك الشفاعة. وأدلة ثبوتها لا تحصى كثرة ، رزقنا الله الشفاعة. وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ

وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤٩)

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) تذكير لتفاصيل ما أجمل في قوله تعالى : (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) من فنون النعماء. أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم ، أي آباءكم. فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم. والمراد بالآل ، فرعون وأتباعه ، فإن الآل يطلق على الشخص نفسه وعلى أهله وأتباعه وأوليائه (قاله في القاموس).

ثم بين ما أنجاهم منه بقوله (يَسُومُونَكُمْ) أي يبغونكم (سُوءَ الْعَذابِ) أي أفظعه وأشده (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي يتركونهم أحياء (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) البلاء إما المحنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيع فرعون ، أو النعمة ، إن أشير به إلى الإنجاء. قال ابن جرير : العرب تسمي الخير بلاء والشر بلاء.

فائدة : فرعون لقب لمن ملك مصر كافرا. ككسرى لملك الفرس. وقيصر لملك الروم. وتبّع لمن ملك اليمن كافرا. والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وخاقان لملك الترك. ولعتوّه اشتق منه : تفرعن الرجل ، إذا عتا وتمرد.

وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم (على ما روي في التوراة) خوفه من نموّهم وكثرة توالدهم. وكانت أرض مصر امتلأت منهم. فإن يوسف ، عليه‌السلام ، لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان إلى مصر ، أعطاهم ملكا في أرض مصر في أفضل الأرض كما أمره ملك مصر. وكان لهم في مصر مقام عظيم بسبب يوسف عليه‌السلام. فتكاثروا وتناسلوا. ولما توفي يوسف عليه‌السلام والملك الذي اتخذه وزيرا عنده ، انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل. إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة. فرأى غوّ الإسرائيليين. فقال لقومه : أضحى بنو إسرائيل شعبا أكثر منا وأعظم. فهلمّ نحتال لهم لئلا ينموا. فيكون ، إذا

٣٠٣

حدثت حرب ، أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا. ويخرجون من أرضنا. فسلط عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم. وكانوا كلما أشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة. فشق على المصريين كثرتهم واختشوا منهم. فجعل أهل مصر يستعبدونهم جورا ويمرّرون عليهم حياتهم بالعمل الشديد بالطين واللّبن ، وكل فلاحة الأرض ، وكل الأفعال التي استعبدوهم بها بالمشقّة.

وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله تعالى. ولم يزل الأمر في هذه الشدة عليهم حتى نجاهم سبحانه بإرسال موسى عليه‌السلام. وقوله جل ذكره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٥٠)

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) بيان لسبب التنجية ، وتصوير لكيفيتها ، إثر تذكيرها وبيان عظمها وهولها. وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق. أي واذكروا إذ فلقناه بسلوككم أو ملتبسا بكم أو بسبب إنجائكم. وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك. فالباء على الأول استعانة. مثلها في : كتبت بالقلم. وعلى الثاني للمصاحبة. مثلها في : أسندت ظهري بالحائط. وعلى الثالث للسببية. والوجه الأول ضعيف من حيث إن مقتضاه أن تفريق البحر وقع ببني إسرائيل والمنصوص عليه في التنزيل أن البحر إنما انفرق بعصا موسى. قال تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣] فآلة التفريق العصا لا بنو إسرائيل (فَأَنْجَيْناكُمْ) أي من الغرق بإخراجكم إلى الساحل (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أريد فرعون وقومه. وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي إلى ذلك وتشاهدونه لا تشكون فيه. ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم.

وكانت قصة إغراق آل فرعون المشار لها في هذه الآية ، على ما روي ، أن الحق تعالى لما شاء إخراج بني إسرائيل من مصر من بيت العبودية ، أوقع في نفس فرعون أن يطلقهم من مصر. بعد إباء شديد منه ورؤية آيات إلهية كادت تحل به وبقومه البوار. فدعا موسى وهارون وقال : اخرجوا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل جميعا. واذهبوا اعبدوا الرب كما تكلمتم. فلما ارتحلوا وأخبر فرعون أن الشعب قد هرب ، تغير قلبه عليهم ، وقال : ماذا فعلنا حتى أطلقناهم من خدمتنا؟ فشد مركبته وأخذ

٣٠٤

قومه معه وسعى وراءهم وأدركهم وهم نازلون عند بحر القلزم. وهو المشهور ببحر السويس. فلما رأت بنو إسرائيل عسكر فرعون وراءهم قالوا : يا موسى أين ما وعدتنا من النصر والظفر؟ فلو بقينا على خدمة المصريين لكان خيرا لنا من أن نهلك في هذه البرية (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] وقال (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٢٩]. وأوحى الله إلى موسى عليه‌السلام أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق وأيبس قعره. فدخل بنو إسرائيل فيه. فتبعهم فرعون وجنوده. فخرج موسى وقومه من الجهة الثانية. وانطبق البحر على فرعون ومن معه فغرقوا كلهم. وسيأتي الإشارة إلى هذه القصة في مواضع من التنزيل. ومن أبسطها فيه سورة الشعراء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ)(٥١)

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى) أي بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي لنعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها. وقد روي في ترجمة التوراة أنه تعالى قال لموسى : اصعد إلى الجبل وكن هناك فأعطيك ألواحا من حجارة والشريعة والوصية التي كتبتها لتعلمهم. فصعد موسى إلى الجبل وبقي هناك أربعين يوما وأربعين ليلة. وموسى كلمة عبرانية معناها منشول من الماء (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي إلها ومعبودا (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد مضيّه للميقات (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي بوضع العبادة في غير موضعها. وهو حال من ضمير اتخذتم. أو اعتراض تذييليّ. أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٢)

(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) أي محونا ذنوبكم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي الاتخاذ والظلم القبيح (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٥٣)

٣٠٥

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) يعني الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا يفرق بين الحق والباطل. يعني التوراة. كقولك : رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة. ونحوه قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء : ٤٨] يعني الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا. أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات. أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام. وقيل : الفرقان انفراق البحر. وقيل : النصر الذي فرق بينه وبين عدوه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] يريد به يوم بدر (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لكي تهتدوا بالعمل فيه من الضلال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٥٤)

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) هذه الآية بيان لكيفية وقوع العفو المذكور في الآية قبل ، روى أن موسى عليه‌السلام لما رجع من الميقات ورأى ما صنع قومه بعده من عبادة العجل ، غضب ورمى باللوحين من يده. فكسرهما في أسفل الجبل. ثم أحرق العجل الذي صنعوه. ثم قال : من كان من حزب الرب فليقبل إليّ. فاجتمع إليه جميع بني لاوى. وقال لهم : هذا ما يقول الرب إله إسرائيل : ليتقلد كل رجل منكم سيفه. فجوزوا في وسط المحلة من باب إلى باب وارجعوا. وليقتل الرجل منكم أخاه وصاحبه وقريبه. فصنع بنو لاوى كما أمرهم موسى فقتلوا في ذلك اليوم من الشعب نحو ثلاثة وعشرين ألف رجل (وفي رواية نحو ثلاثة آلاف رجل) وفي غد ذلك اليوم كلم موسى الشعب وقال لهم : أنتم قد أخطأتم خطيئة عظيمة. وإني الآن أصعد إلى الرب فأتضرع إليه من أجل خطيئتكم. فصعد موسى وتضرع للرب وسأل المغفرة لقومه.

ولاوي ، ثالث مولود ليعقوب عليه‌السلام من أولاده الاثني عشر ، معناه في العربية ملتصق أو متصل.

٣٠٦

والأحبار اللاويّون ينسبون إليه. وقد اختارهم تعالى من بني إسرائيل على لسان موسى عليه‌السلام للخدمة المقدسة. وجعلهم من المقربين لديه. وبما سقناه يعلم أن قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أمر لمن لم يعبد العجل ، أعني اللاويين ، أن يقتلوا العبدة. لا كما فهمه بعضهم من قتل بعضهم بعضا مطلقا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٥٦)

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق. إذ سألتم رؤيتي عيانا مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم في دار الدنيا. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن القائلين لموسى ذلك هم السبعون المختارون. ويؤيده آية الأعراف : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِ) [الأعراف : ١٥٥] الآية.

وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عزوجل فإن موسى الكليم عليه‌السلام قد سأل ذلك. فمنع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون؟ أفاده ابن كثير. وقد رأيت دعواهم المذكورة في الفصل الرابع والعشرين في سفر الخروج. وهذا من المواضع المحقق تحريفها. ويدل عليه ما في الفصل الثالث والثلاثين من السفر المذكور أنه تعالى قال لموسى : لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش.

وجهرة ، في الأصل ، مصدر قولك جهرت بالقراءة. استعيرت للمعاينة ، لما بينهما من الاتحاد. في الوضوح والانكشاف. إلا أن الأول في المسموعات ، والثاني في المبصرات. ونصبها على المصدر لأنها نوع من الرؤية. فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس. أو على الحال من الفاعل أو المفعول.

قال ابن جرير : وأصل الصاعقة كل أمر هائل رآه أو عاينه أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وإلى ذهاب عقل وغمور فهم ، أو فقد بعض

٣٠٧

آلات الجسم. صوتا كان ذلك أو نارا. أو زلزلة أو رجفا (قال) ومما يدل على أنه قد يكون مصعوقا وهو حيّ غير ميت قول الله عزوجل (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) يعني مغشيا عليه. ومنه قول جرير :

وهل كان الفرزدق غير قرد

أصابته الصّواعق فاستدارا

فقد علم أن موسى لم يكن ، حين غشي عليه وصعق ، ميتا. لأن الله ، جل وعز ، أخبر عنه أنه لما أفاق قال : تبت إليك. ولا شبّه جرير الفرزدق ، وهو حيّ ، بالقرد ميتا ، ولكن معنى ذلك ما وصفناه.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي إلى تلك الصاعقة. وقوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) قال الراغب الأصبهانيّ في تفسيره : البعث إرسال المبعوث من المكان الذي فيه. لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به ، فقيل : بعثت البعير من مبركه أي أثرته. وبعثته في السير أي هيجته ، وبعث الله الميت أحياه. وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال. وكل ذلك واحد في الحقيقة ، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات (ثم قال) والموت حمل على المعروف ، وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت ، وليس يقتضى قوله (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أنهم ماتوا. ألا ترى إلى قوله : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) لكن الآية تحتمل الأمرين ، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعدي عن الاحتمالات. انتهى. وقد يؤيد الثاني آية الأعراف المذكورة وهي (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) [الأعراف : ١٥٥] ، فالرجفة هي المسماة بالصاعقة هنا ، والتنزيل يفسر بعضه بعضا ، والأصل توافق الآي. وقد ذكر ابن إسحاق والسدّي أن الذين أخذتهم الرجفة هم الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، وسيأتي في الأعراف بسط ذلك إن شاء الله.

دلت الآية على أن طلب رؤيته تعالى في الدنيا مستنكر غير جائز ، ولذا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، سؤال الرؤية إلا استعظمه. وذلك في آيات. منها هذه. ومنها قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء : ١٥٣] ومنها قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١] فدلت هذه التهويلات الفظيعة الواردة لطالبيها في الدنيا على امتناعها فيها. وكما

٣٠٨

أخبر تعالى بأنه لا يرى في الدنيا فقد وعد الوعد الصادق عزوجل برؤيته في الدار الآخرة في آيات عديدة ، كما تواترت الأحاديث الصحيحة بذلك ، وهي قطعية الدلالة. لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة وزعموا أن العقل قد حكم بها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٥٧)

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم ، فمنها تظليل الغمام عليهم. وذلك أنهم كانت تظلهم سحابة إذا ارتحلوا. لئلا تؤذيهم حرارة الشمس. وقد ذكر تفصيل شأنها في توراتهم في الفصل التاسع من سفر العدد. ومنها إنزال المنّ. وقد روي في التوراة أنهم لما ارتحلوا من إيليم وأتوا إلى برّية سين ، الت بين إيليم وسيناء ، في منتصف الشهر الثاني بعد خروجهم من مصر ، تذمروا على موسى وهارون في البرية ، وقالوا لهما : ليتنا متنا في أرض مصر إذ كنا نأكل خبزا ولحما. فأخرجتمانا إلى هذه البرية لتهلكا هذا الجمع بالجوع. فأوحى تعالى لموسى عليه‌السلام إني أمطر عليكم خبزا من السماء. فليخرج الشعب ، ويلتقطون حاجة اليوم بيومها طعامهم من أجل أني أمتحنهم ، هل يمشون في شريعتي أم لا ، وليكونوا في اليوم السادس أنهم يهيئون ضعف ما يلتقطونه يوما فيوما. لأن اليوم السابع يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء. فقال لهم موسى : إن الرب تعالى يعطيكم عند المساء لحما تأكلون. وبالغداة تشبعون خبزا. فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة ، وبالغداة أيضا وقع الندى حول المحلة. ولما غطى وجه الأرض تباين في البرية شيء رقيق كأنه مدقوق بالمدقة. يشبه الجليد على الأرض. فلما نظر إليه بنو إسرائيل قالوا : ما هذا؟ لأنهم لم يعرفوه. فقال لهم موسى : هذا هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا. وقد أمركم أن يلقط كل واحد على قدر ما في بيته ، وقدر مأكله. ففعل بنو إسرائيل كذلك ولقطوا ما بين مكثّر ومقلّل ، وقال لهم موسى : لا تبقوا منه شيئا إلى الغد. فلم

٣٠٩

يطيعوا موسى. واستفضل منه رجال إلى الغد ، فضرب فيه الدود ونتن. فغضب عليهم موسى. وكانوا يلقطون غدوة. كل إنسان يلقط على قدر ما يأكل. فإذا أصابه حر الشمس ذاب. وقد أعطوا في اليوم السادس خبز يومين ليجلس كل رجل منهم في مكانه في اليوم السابع. راحة وتقديسا له. وكان إذا خرج بعض الشعب ليلتقط ، يوم السابع ، لا يجد في الأرض منه شيئا. ودعا آل إسرائيل اسمه المنّ. وكان مثل حب الكزبرة أبيض ، وطعمه كرقاق بعسل ، وأكل بنو إسرائيل المنّ أربعين سنة حتى أتوا إلى الأرض العامرة ودنوا من تخوم أرض كنعان. وروي في ترجمة التوراة أيضا أن المنّ كان يشبه لون للؤلؤ. وكان يطوف الشعب ويلتقطونه ويطحنونه بالرحى. ويدقونه في الهاون ويطبخونه في القدور. ويعملون منه رغفا طعمها كالخبز المعجون بالدهن. ومتى نزل الندى على المحلّة ليلا كان ينزل المن معه.

هذا ما كان من أمر المن. وأما السلوى فروي أيضا : أن جماعة ممن صعد مع بني إسرائيل من مصر تاقت أنفسهم للحم وجلسوا يبكون. ووافقهم بنو إسرائيل على اشتهائه أيضا. وقالوا : من يطعمنا لحما لنأكل؟ قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله بمصر من غير ثمن. والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم. والآن قد يبست نفوسنا ولا تنظر عيوننا إلا المنّ. فلما سمع موسى الشعب يبكون بعشائرهم ، وعلم غضب الرب عليهم ، لذلك ، ابتهل إلى ربه وقال : من أين لي لحم أطعم منه هذا الجمع وهم يبكون عليّ ويقولون أعطنا لحما لنأكل؟ فأوحى إليه ربه أن يجمع سبعين رجلا من شيوخ شعبه وعرفائه. ويقبل بهم إلى خيمة الاجتماع فيكونوا معه. ثم كلمه ربه ووعده أن يعطيه لحما يأكلون منه شهرا حتى يأنفوا منه. فأخبر موسى الشعب بذلك. ثم انحاز إلى المحلة هو وشيوخ قومه. فخرجت ريح وحملت السلوى من البحر وألقتها على المحلة مسيرة يوم حول المحلة من كل جانب ، وكانت تطير بالجوّ ذراعين على الأرض وقام الشعب يومهم ذلك كله ، والليل. وفي غد اليوم الثاني. فجمعوا السلوى أقل من جمع عشرة أكرار. سطحوه سطيحا ويبسوه حول المحلة. وقبل أن ينقطع اللحم من عندهم غضب الرب تعالى على الشعب. فضربه ضربة عظيمة جدا. ودعي اسم ذلك الموضع قبول الشهوة. لأنهم هناك دفنوا القوم الذين اشتهوا. ثم خرجوا من قبور الشهوة وارتحلوا لغيره. انتهى.

وقوله تعالى : (كُلُوا) على إرادة القول أي قائلين لهم أو قيل لهم كلوا. وقوله (وَما ظَلَمُونا) كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة. معطوف

٣١٠

على مضمر قد حذف للإيجاز ، والإشعار بأنه أمر محقق غنيّ عن التصريح به. أي فظلموا بأن أكثروا من التضجر والتذمر على ربهم وشكوى سكناهم في البرية وفراقهم مصر. وما ظلمونا بذلك ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، بالعصيان. إذ لا يتخطاهم ضرره وبذلك حق عليهم العذاب الذي ضربوا به كما ذكرناه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٥٩)

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

هذا إشارة إلى ما حلّ ببني إسرائيل ـ لما نكلوا عن الجهاد ـ ودخولهم الأرض المقدسة ـ أرض كنعان ـ لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه‌السلام ، وإنما أطلق على الأرض المذكورة قرية ، لأنّ القرية : كل مكان اتصلت به الأبنية واتّخذ قرارا. وتقع على المدن وغيرها ـ كذا في كفاية المتحفظ ـ ثم إنّ ما قصّ ـ هنا ـ ذكر في سورة المائدة في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) [المائدة : ٢٠] الآيات :

وقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) في التأويلات : يحتمل المراد من الباب حقيقة الباب ، وهو باب القرية التي أمروا بالدخول فيها. ويحتمل من الباب القرية نفسها ، لا حقيقة الباب ـ كقوله (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) ذكر القرية ولم يذكر الباب ـ وذلك في اللغة جائز. (ويقال : فلان دخل في باب كذا ، لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن كونه في أمر هو فيه).

وقوله (سُجَّداً) يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود. فيخرّج على

٣١١

وجوه : على التحية لذلك المكان ، ويحتمل على الشكر له لما أهلك أعداءهم الجبارين ، ويحتمل الكناية عن الصلاة ـ إذ العرب قد تسمّي السجود (صلاة) ـ كأنّهم أمروا بالصلاة فيها ، ويحتمل أن الأمر بالسجود ـ لا على حقيقة السجود والصلاة ـ ولكن أمر بالخضوع له والطاعة والشكر على أياديه ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) خبر محذوف ، أي مسألتنا حطة ـ والأصل النصب ـ بمعنى : حطّ عنّا ذنوبنا حطّة ، وإنّما رفعت لتعطي معنى الثبات.

وقوله سبحانه (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي : بدّلوا أمره تعالى لهم ـ بدخول الأرض مجاهدين ـ بالإحجام عنه ، وتثبيط الناس. ولذا قال أبو مسلم «قوله تعالى : (فَبَدَّلَ) يدلّ على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل. والدليل عليه : أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة. قال تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ) ـ إلى قوله ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) [الفتح : ١٥] ولم يكن تبديلهم إلّا الخلاف في الفعل لا في القول. فكذا هنا ، فيكون المعنى : إنهم لما أمروا بدخول الأرض ـ وما ذكر معه ـ لم يمتثلوا أمر الله ، ولم يلتفتوا إليه».

وفي تكرير (الَّذِينَ ظَلَمُوا) زيادة في تقبيح أمرهم ، وإيذان بأنّ إنزال الرجز عليهم لظلمهم. و (الرجز) : هو الموت بغتة ، كما تقدّم.

قال الراغب : وتخصيص قوله (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) هو أنّ العذاب ضربان : ضرب قد يمكن ـ على بعض الوجوه ـ دفاعه ، أو يظنّ أنه يمكن فيه ذلك ، وهو كلّ عذاب على يد آدميّ ، أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق. وضرب لا يمكن ـ ولا يظنّ ـ دفاعه بقوّة آدميّ ـ كالطاعون ، والصاعقة ، والموت ـ وهو المعنيّ بقوله : (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(٦٠)

هذا تذكير لنعمة أخرى كفروها. وروي في توراتهم أنه ارتحلت كل جماعة بني إسرائيل من برية سينا بأمره تعالى ، وحلوا في رقادين ، ولم يكن هناك ماء

٣١٢

ليشربوا ، فخاصموا موسى ، وقالوا له أعطنا ماء لنشرب ، أخرجتنا من مصر لتقتلنا نحن وأولادنا ، ودوابنا بالعطش؟ فابتهل موسى إلى ربه في السقيا ، فأوحى إليه أن أمض أمام الشعب ، وخذ معك من شيوخ إسرائيل. والعصا التي ضربت بها النهر خذها بيدك. واذهب إلى صخرة حوريب ، فاضربها فيخرج منها ماء ليشرب الشعب. ففعل موسى كذلك أمام شيوخ إسرائيل. انتهى.

وقوله تعالى : (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) أي عدد أسباط يعقوب الاثني عشر ، لكل سبط منهم عين قد عرفوها. قال الراغب : وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده ، وهذا المنكر ، مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات ، فقد ترك النظر على طريقته. إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجر الحديد ، وأن الحجر المنفر للنحل ينفره ، والحجر الحلاق يحلق الشعر ، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة. وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم ، فغير ممتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض.

وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي لا تمشوا في الأرض بالفساد ، وخلاف أمر موسى. قال الراغب : فإن قيل : فما فائدة قوله (مُفْسِدِينَ) والعثوّ ضرب من الإفساد؟ قيل : قد قال بعض النحويين : إن ذلك حال مؤكدة ، وذكر ألفاظا مما يشبه. وقال بعض المحققين : إن العثو ، وإن اقتضى الفساد ، فليس بموضوع له ، بل هو كالاعتداء ، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد ، وهو مقابلة المعتدي بفعله نحو (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤] ، وهذا الاعتداء ليس بإفساد ، بل هو ، بالإضافة إلى ما قوبل به ، عدل. ولو لا كونه جزاء لكن إفسادا. فبين تعالى أن العثو المنهي عنه ، هو المقصود به الإفساد. فالإفساد مكروه على الإطلاق ، ولهذا قال : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦] ، وقد يكون في صورة العثو والتعدي ما هو صلاح وعدل ، كما تقدم. وهذا ظاهر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ

٣١٣

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) قال قتادة : لما ملّوا طعامهم وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالوا ذلك. قال الراغب : إن قيل : كيف قال (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) وكان لهم المن والسلوى ، قيل : إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة ، كقولك : فلان يفعل فعلا واحدا في كل يوم ، وإن كثرت أفعاله ، إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها. وهذا المعنى في إنكار الطعام أبلغ. لأنهم لم يكتفوا في إنكاره بقولهم (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ) ، حتى أكدوا بقولهم (واحِدٍ) أو أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها) هو الثوم لقراءة ابن مسعود «وثومها» وللتصريح به في التوراة في هذه القصة. وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء لتقارب مخرجيهما كقولهم للأثافي «أثاثي» ، وقولهم وقعوا في عاثور شر وعافور شر ، وللمغافير «مغاثير» (وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أي أدون قدرا ، وأصل الدنوّ القرب في المكان ، فاستعير للخسة ، كما استعير البعد للشرف والرفعة ، فقيل : بعيد الهمة. (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أي بمقابلة ما هو خير ، أي أرفع وأجل ، وهو المنّ الذي فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية ، والسلوى من أطيب لحوم الطير ، وفي مجموعهما غذاء تقوم به البنية. وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة ولا تغذية (اهْبِطُوا مِصْراً) هكذا هو منوّن مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية ، وهو قراءة الجمهور ، بالصرف.

قال ابن جرير : ولا أستجيز القراءة بغير ذلك ، لإجماع المصحف على ذلك ، أي من الأمصار ، أي انحدروا إليه (فَإِنَّ لَكُمْ) فيها (ما سَأَلْتُمْ) أي فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في القفار ، والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير ، في أي بلد دخلتموها وجدتموه. فليس يساوي مع دناءته ، وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولما حكى الله تعالى إنكار موسى عليه‌السلام على اليهود استبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، بعد تعداد النعم ، جاء بحكاية سوء صنيعهم بالأنبياء ، وكفرهم ، واعتدائهم ، وضرب الذلة عليهم لذلك ، استطرادا فقال : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) فمن هنا إلى قوله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين

٣١٤

كانوا في عهد موسى ، يدل على هذا قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) فإن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم. والذلة بالكسر الصغار والهوان والحقارة. والذل بالضم ضد العز. والمسكنة مفعلة من السكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفقر. والمسكين مفعيل منه ـ كذا في السمين ـ وفي الذلة استعارة بالكناية حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة ، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك. وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أذل الفرق ، وأشدهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت له ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال ، وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ ، فهو مرتد بأثواب المسكنة. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا به ، أي صار عليهم ، أو صاروا أحقاء به. من قولهم. باء فلان بفلان ، أي صار حقيقا أن يقتل بمقابلته. فالباء على التقديرين صلة باؤوا ، لا للملابسة. وإلا لاحتيج اعتبار المرجوع إليه ، ولا دلالة في الكلام عليه (ذلِكَ) إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم (بِأَنَّهُمْ) بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الباهرة التي ظهرت على يدي عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام. وقتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرا ، ولم يذكر قتل رسول من الرسل. وذلك ـ والله أعلم ـ لقوله (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] وقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧٢] وقال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل ، والله أعلم. كذا في التأويلات.

وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِ) لم يخرج مخرج التقييد ، حتى يقال إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال ، لمكان العصمة. بل المراد نعي هذا الأمر عليهم ، وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر ، حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا ، والغلوّ في العصيان ، والاعتداء ، كما يفصح عنه قوله تعالى : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي جرّهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر ، وقتل الأنبياء عليهم‌السلام. وقيل : كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم ، كما أنه بسبب الكفر والقتل ، فهو بسبب ارتكابهم المعاصي ، واعتدائهم حدود الله تعالى. وعليه فيكون ذكر علل إنزال العقوبة بهم في نهاية حسن الترتيب. إذ بدئ أولا بما فعلوه في حق الله تعالى وهو كفرهم بآياته. ثم ثنّي بما يتلوه في العظم ، وهو قتل

٣١٥

الأنبياء. ثم بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم. ثم بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير ، مثل الاعتداء. وهذا من لطائف أسلوب التنزيل.

ثم أعلم تعالى بأن باب التوبة مفتوح على الوجه العامّ لليهود وغيرهم. وأن من ارتكب كبائر الذنوب التي تستوجب الغضب الإلهيّ ، وضرب الذلة والمسكنة ، كما حل باليهود ، إذا آمن وتاب فله في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين. وعادة التنزيل جارية بأنه متى ذكر وعد أو وعيد ، عقب بضده ليكون الكلام تاما فقيل :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

أي إن الذين آمنوا بما دعا إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه. قال في فتح البيان :

كأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية ، وحال من قبلها من سائر الملل ، يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحق ما ذكره الله من الأجر. ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دقه وجله. والمراد بالإيمان هاهنا هو ما بينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله ، لما سأله جبريل عليه‌السلام عن الإيمان فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره» (١).

ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية. فمن لم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن. ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ، ولم يبق يهوديّا ولا نصرانيّا ولا مجوسيّا. انتهى.

قال الراغب في تفسيره : تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين : أحدهما الإقرار بالشهادتين ، الذي يؤمن نفس الإنسان ، وماله عن الإباحة إلا بحق ، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به كالإسلام. والثاني تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه. فقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) عنى به المتدين بدين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) عنى به المتحري للاعتقاد اليقينيّ ، فهو غير الأول. ولما كانت

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في المقدمة ، ٩ ـ باب في الإيمان ، حديث رقم ٦٣.

٣١٦

مشاهير الأديان هذه الأربع ، بيّن تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه ، وقبل أن ينسخ ، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقينيّ ، وأتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ثم قال : وقول ابن عباس : إن هذا منسوخ بقوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] ، يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام ، وأن الله عزوجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبيّ عليه‌السلام. فأمّا في وقته ، فالأديان كلها منسوخة بدينه. أي فليس مراد ابن عباس ، ومن وافقه ، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحا من اليهود ، ومن ذكر معهم ، على عمله ، في الآخرة الجنّة ، ثم نسخه بآية (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) بل مراده ما ذكر الراغب. وهذا ما لا شبهة فيه. ولذا قال ابن جرير : ظاهر التنزيل يدل على أنه تعالى لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان ، بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عن جميع ما ذكر في أول الآية.

تنبيه :

ظاهر هذه الآية ، مع تفسير الراغب (مَنْ آمَنَ) بالمتحري للاعتقاد اليقينيّ ، مما قد يستدل به العنبريّ لمذهبه. فقد نقل الأصوليون في باب الاجتهاد والتقليد أن العنبريّ ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب ، حتى في الأصول ، ووافقه الجاحظ. قال الغزاليّ في المستصفى : ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية ، إن كان معاندا على خلاف اعتقاده ، فهو آثم. وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم. وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر ، فهو أيضا معذور. وإنما الآثم المعذب ، المعاند فقط. لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ، ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى ، إذ استد عليهم طريق المعرفة. ثم ردّه الغزاليّ بأدلة سمعية ضرورية ، وذلك مثل معرفتنا ضرورة أمره عليه‌السلام اليهود والنصارى بالإيمان به ، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ، وذلك لا ينحصر في الكتاب والسنة.

ثم قال الغزاليّ : وأما قوله ـ أي الجاحظ ـ : كيف يكلفهم ما لا يطيقون؟ قلنا : نعلم ضرورة أنه كلفهم ، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون ، فلننظر فيه ، بل نبه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ، ونصب من الأدلة ، وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات ، الذين نبّهوا العقول ، وحركوا دواعي النظر ، حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل.

٣١٧

وقوله (وَالَّذِينَ هادُوا) أي تهودوا. يقال : هاد يهود ، وتهوّد ، إذا دخل في اليهودية. هو هائد ، والجمع هود. وهم أمة موسى عليه‌السلام ، وإنما لزمهم هذا الاسم ، لأن الإسرائيليين الذين رجعوا من جلاء سبعين سنة ، ومن سبي بابل إلى وطنهم القديم ، كان أكثرهم من نسل يهوذا بن يعقوب (بالذال المعجمة ـ فقلبتها العرب دالا مهملة).

وقوله تعالى : (وَالنَّصارى) جمع نصران ، كندامى جمع ندمان ، يقال : رجل نصران ، وامرأة نصرانة ، والياء في نصرانيّ للمبالغة ، كما في أحمريّ ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه‌السلام ـ كذا في الكشاف ـ أو هو جمع نصرانيّ ، مغيّر عن ناصريّ ، نسبة إلى ناصرة ـ القرية المعروفة ـ وقد نسب إليها المسيح عليه‌السلام ، لأنه ربّي بها. وجاء في الإنجيل «يسوع الناصريّ». وقوله تعالى : (وَالصَّابِئِينَ) جمع صابئ ، ويقال لهم الصابئة. قال ابن جرير : الصابئ هو المستحدث ، سوى دينه ، دينا ، كالمرتدّ من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب «صابئا» يقال منه : صبا فلان يصبو صباء ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت. وقد اختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم ، من أهل الملل. فقال بعضهم : يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوما لا دين لهم. فعن مجاهد : الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى ، ولا دين لهم. وعن ابن زيد : الصابئون دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل ، يقولون لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ. وعن قتادة : أنهم قوم يعبدون الملائكة.

وقال الإمام الشهرستانيّ ، في الكلام عن الصابئة ما مثاله : والصبوة في مقابلة الحنيفية. وفي اللغة : صبا الرجل إذا مال وزاغ. فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة. وهم يقولون : الصبوة هو الانحلال عن قيد الرجال. وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين. والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب ، الحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة. فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة. فالصابئة قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، ولا يقولون بالشريعة والإسلام. فيقابلون أرباب الديانات تقابل التضاد. والصابئة الأولى الذين قالوا بعاذيمون وهرمس ، وهما شيت وإدريس ، ولم يقولوا بغيرهما من الأنبياء. وهم أصحاب الروحانيات. فيعتقدون أن للعالم صانعا حكيما مقدّسا عن سمات الحدثان.

٣١٨

والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله ، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا وفعلا وحالة. أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، الذين جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. قالوا فنحن نتقرب إليهم ونتوكّل عليهم ، منهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب. وأما الفعل ، فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع وتصريف الأمور من حال إلى حال ، يستمدون القوة من الحضرة الإلهية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية ، فمنها مدبرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها وهي هياكلها. ولكل روحانيّ هيكل ، ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحانيّ إلى ذلك الهيكل الذي اختصّ به نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره. وكانوا يسمون الهياكل أربابا ، وربما يسمونها آباء ، والعناصر أمهات. ففعل الروحانيات : تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانية : مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلّية صادرة عن روحانيّ كلّي ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحانيّ جزئيّ. فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك. ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجوّ مما يصعد من الأرض فينزل ، مثل الأمطار والثلوج والبرد والرياح ، وما ينزل من السماء : مثل الصواعق والشهب ، وما يحدث في الجو من الرعد والبرق والسحاب والضباب وقوس قزح وذوات الأذناب والهالة والمجرة ، وما يحدث في الأرض من الزلازل والمياه والأبخرة ، إلى غير ذلك. قالوا : وأما الحالة ، فأحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والسرور في جوار رب الأرباب كيف يخفى؟ هذا ملخص ما أفاده العلامة الشهرستانيّ في كتاب ـ الملل والنحل ـ ثم ساق مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء جرت في المفاضلة بين الروحاني المحض والبشرية النبوية. وأوردها على شكل سؤال وجواب. فلتنظر ثمّ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه ـ في الرد على المنطقيين ـ إن حرّان كانت دار هؤلاء الصابئة ، وفيها ولد إبراهيم عليه‌السلام (أو انتقل إليها من العراق. على اختلاف القولين) وكان بها هيكل العلّة الأولى. هيكل العقل الأول ، هيكل النفس الكلية ، هيكل زحل. هيكل المشتري. هيكل المريخ ، هيكل الشمس. وكذلك الزهرة وعطارد والقمر. وكان هذا دينهم قبل ظهور النصرانية فيهم. ثم

٣١٩

ظهرت النصرانية فيهم مع بقاء أولئك الصابئة المشركين ، حتى جاء الإسلام. ولم يزل بها الصابئة والفلاسفة في دولة الإسلام إلى آخر وقت. ومنهم الصابئة الذين كانوا ببغداد وغيرها ، أطباء وكتابا ، وبعضهم لم يسلم. وكذلك كان دين أهل دمشق وغيرها قبل ظهور النصرانية. وكانوا يصلّون إلى القطب الشماليّ. وتحت جامع دمشق معبد كبير له قبلة إلى القطب الشماليّ كان لهؤلاء. فإن الصابئة نوعان : صابئة حنفاء موحّدون ، وصابئة مشركون. فالأول هم الذين أثنى الله عليهم بهذه الآية. فأثنى على من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا. من هذه الملل الأربع : المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين. فهؤلاء كانوا يدينون بالتوراة قبل النسخ والتبديل ، وكذلك الذين دانوا بالإنجيل قبل النسخ والتبديل. والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين ملة إبراهيم إمام الحنفاء قبل نزول التوراة والإنجيل. وهذا بخلاف المجوس والمشركين ، فإنه ليس فيهم مؤمن. فلهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج : ١٧] ، فذكر الملل الست هؤلاء ، وأخبر أنه يفصل بينهم يوم القيامة. لم يذكر في الست من كان مؤمنا ، وإنما ذكر ذلك في الأربعة فقط. ثم إن الصابئين ابتدعوا الشرك فصاروا مشركين. والفلاسفة المشركون من هؤلاء المشركين. وأما قدماء الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، ويؤمنون بأن الله محدث لهذا العالم ، ويقرون بمعاد الأبدان ، فأولئك من الصابئة الحنفاء الذين أثنى الله عليهم. ثم المشركون من الصابئة كانوا يقرّون بحدوث هذا العالم كما كان المشركون من العرب يقرون بحدوثه. وكذلك المشركون من الهند. وقد ذكر أهل المقالات أن أول من ظهر عنه القول بقدمه من هؤلاء الفلاسفة المشركين ، هو أرسطو. انتهى.

وما قرره الإمام ابن تيمية ، يؤيد ما ذهب إليه كثير من المفسرين ، من أن معنى قوله تعالى (مَنْ آمَنَ) من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ ، مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد ، عاملا بمقتضى شرعه ، وذلك كأهل الكتابين أو كان من الصابئة الموحدين. وذهب آخرون إلى أن معنى قوله (مَنْ آمَنَ) من أحدث من هذه الطوائف ، إيمانا خالصا بما ذكر. قالوا : لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام. وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه ، فلا ملابسة له بالمقام ، والصابئون ليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات. فليتأمل.

وقوله تعالى (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي : الذي وعدوه على تلك الأعمال المشروطة

٣٢٠