تفسير القاسمي - ج ١

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ١

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البقرة

جميعها مدنيّ بلا خلاف. وآيها مائتان وست وثمانون. وقد صح في فضلها عدة أخبار :

منها ما في مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذيّ والنسائيّ عن أبي هريرة رضى الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» (١). وقال الترمذيّ : حسن صحيح.

وروى ابن حبان في صحيحه عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «إن لكل شيء سناما ، وإن سنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام».

وروى مسلم عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ، اقرءوا الزهراوين : البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما ، اقرءوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة» (٢).

(وقوله الزهراوين : أي المنيرتين ـ في الإعجاز أو في وفرة الأحكام ـ والغياية : ما أظلك من فوقك. والفرق : القطعة من الشيء. والصواف : المصطفة. والبطلة : السحرة. ومعنى لا تستطيعها : لا تستطيع النفوذ في قارئها ، أو لا يمكنهم حفظها. والله أعلم).

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : ثواب القرآن ، باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسيّ.

(٢) أخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث ٢٥٢.

٢٤١

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

(الم) (١)

أعلم أن للناس في هذا وما يجرى مجراه من الفواتح مذهبين :

الأول أن هذا علم مستور ، وسرّ محجوب ، أستأثر الله تبارك وتعالى به فهو من المتشابه. ولم يرتض هذا كثير من المحققين وقالوا : لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق. واحتجوا بأدله عقلية ونقلية ، بسطها العلامة الفخر.

(المذهب الثاني) مذهب من فسرها ، وتكلم فيما يصح أن يكون مرادا منها ، وهو ما للجمهور. وفيه وجهان : (الأول) وعليه الأكثر : أنها أسماء للسور.

(الثاني) أن يكون ورود الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد : كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه ، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلوّ عليهم ـ وقد عجزوا عنه عن آخرهم ـ كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه ، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله ـ بعد المراجعات المتطاولة ـ وهم أمراء الكلام ، وزعماء الحوار ، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب ، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز ، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كلّ ناطق ، وشقت غبار كلّ سابق ، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء ، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلّا لأنه ليس بكلام البشر ، وإنه كلام خالق القوى والقدر. قاله الزمخشريّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢)

أي : هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة : ١ ـ ٢]. قال بعض المحققين : اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعيّ ، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة. فيستعملون كلا منهما مكان الآخر ، وهذا معروف في كلامهم. وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة. ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول : إنما

٢٤٢

صحت الإشارة بذلك ، هنا إلى ما ليس ببعيد ، لتعظيم المشار إليه ، ذهابا إلى بعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف.

والريب في الأصل : مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقتها : قلق النفس واضطرابها. ثم استعمل في معنى الشك مطلقا ، أو مع تهمة. لأنه يقلق لنفس ويزيل الطمأنينة.

وفي الحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١).

ومعنى نفيه عن الكتاب. أنه في علوّ الشأن ، وسطوع البرهان ، بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته ، وكونه وحيا منزلا من عند الله تعالى. والأمر كذلك ، لأن العرب ، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية ، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن. وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه ، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا.

(هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي : هاد لهم ودالّ على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين.

قال الناصر في الانتصاف : الهدى يطلق في القرآن على معنيين (أحدهما) الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧]. وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق ، سواء حصل له الاهتداء أو لا. و (الآخر) خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد ، ومنه (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]. فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعا. وعلى الأول ، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبيّن أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥]. وقال (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١]. وقد كان ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منذرا لكل الناس ، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره. وهذه الآية نظير آية : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢]. وكقوله

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك.

٢٤٣

تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧]. إلى غير ذلك ، مما دلّ على أن النفع به لا يناله إلا الإبرار. والمراد بالمتقين ـ هنا ـ من نعتهم الله تعالى بقوله

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣)

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) ، أي يصدقون (بِالْغَيْبِ) ، الغيب في الأصل مصدر غاب. بمعنى استتر واحتجب وخفي. وهو بمعنى الفاعل ـ كالزور للزائر ـ أطلق عليه مبالغة ، والمراد به ما لا يقع تحت الحواس ، ولا تقتضيه بداية العقول ، وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم‌السلام. والمعنى يؤمنون بما لا يتناوله حسّهم. كذاته تعالى ، وملائكته ، والجنّة ، والنار ، والعرش والكرسيّ ، واللوح ونحوها.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، أي يؤدونها بحدودها وفروضها الظاهرة والباطنة. كالخشوع والمراقبة وتدبر المتلوّ والمقروء.

قال الراغب : إقامة الصلاة توفية حدودها ، وإدامتها. وتخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط. لهذا ، لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو (أَقِمِ الصَّلاةَ) [هود : ١١٤] ، وقوله (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [الإسراء : ٧٨] ، و (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [المائدة : ٥٥]. ولم يقل : المصلي ، إلا في المنافقين : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٤ ـ ٥] ، وذلك تنبيه على أن المصلين كثير والمقيمين لها قليل ـ كما قال عمر رضي الله عنه : الحاجّ قليل والركب كثير ـ ولهذا قال عليه‌السلام «من صلى ركعتين مقبلا بقلبه على ربه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه». فذكر مع قوله «صلّى» الإقبال بقلبه على الله تنبيها على معنى الإقامة ، وبذلك عظم ثوابه. وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه ، ذكره بلفظ الإقامة ، نحو (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [المائدة : ٦٦] ، ونحو (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن : ٩] تنبيها على المحافظة على تعديله. انتهى.

فالإقامة من أقام العود إذا قوّمه. و «الصلاة» فعلة من صلّى إذا دعا ، ك «الزكاة» من زكى ـ وإنما كتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخّم ـ وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء.

٢٤٤

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يؤتون مما رزقناهم من الأموال من شرع لهم إيتاؤه والإنفاق عليه من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم ، على ما بيّن في آيات كثيرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤)

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) والمراد (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الكتاب المنزل كله ، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي ـ وإن كان بعضه مترقبا ـ تغليبا للموجود على ما لم يوجد. كما أن المراد من قوله (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) الكتب الإلهية السالفة كلها. وهذا كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦] الآية. والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل. فنزول الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يتلقاها جبريل من جنابه عزوجل فينزل بها إلى الرسل عليهم‌السلام. ولهذا يقال : القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، منه بدأ. أي تكلم به حقيقة لا مجازا.

قال الإمام أحمد وغيره : وإليه يعود أي لا يبقى له أثر في الوجود أي هو المتكلم به قال تعالى (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [الأنعام : ١١٤]. وقال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢]. وقال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الزمر : ١].

(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الآخرة في الأصل : تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول وهي صفة الدار ، بدليل قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [القصص : ٨٣]. سميت بذلك لأنها متأخرة عن الدنيا. وقيل للدنيا : دنيا ، لأنها أدنى من الآخرة. وهما من الصفات الغالبة. ومع ذلك فقد جريا مجرى الأسماء. إذ قد غلب ترك ذكر اسم موصوفهما معهما ، كأنهما ليسا من الصفات.

والإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. وفي تقديم الآخرة وبناء (يُوقِنُونَ) على (هُمْ) تعريض بأهل الكتاب ، وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته. كزعمهم أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وأن النار لن تمسّهم إلا أياما معدودة ، واختلافهم في أن نعيم الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا؟ وهل هو دائم أو لا؟ فاعتقادهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة ، فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين!.

٢٤٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

(أُولئِكَ) أي : المتصفون بما تقدّم. (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي على نور من ربّهم ، وبرهان ، واستقامة ، وسداد ـ بتسديده إياهم وتوفيقه لهم ـ. (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون ، المدركون ما طلبوا عند الله ـ بإيمانهم ـ من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنات ، والنجاة مما أعدّ الله لأعدائه من العقاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦)

لمّا بيّن تعالى نعوت المؤمنين قبل ، شرح أحوال مقابليهم وهم الكفرة المردة بأنهم : تناهوا في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتذكير ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَوَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧]. وكقوله سبحانه في المعاندين الكتابيين (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥] الآية.

و (سَواءٌ) اسم بمعنى : الاستواء ، وصف به ، كما يوصف بالمصادر ، مبالغة ، ومنه قوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) بمعنى : مستوية.

و (الإنذار) الإعلام مع تخويف. والمراد هنا : التخويف من عذابه تعالى ، وانتقامه ، والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا أهلا للبشارة ، ولأن الإنذار أوقع في القلوب ، ومن لم يتأثر به فلأن لا يرفع للبشارة رأسا ـ أولى.

وقوله (لا يُؤْمِنُونَ) جملة مستقلّة ، مؤكّدة لما قبلها ، مبيّنة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ

عَذابٌ عَظِيمٌ)(٧)

استئناف معلّل لما سبق من الحكم ، أو بيان وتأكيد له. والختم على الشيء : الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه. والمراد : إحداث حالة تجعلها ـ بسبب تماديهم

٢٤٦

في الغيّ ، وانهماكهم في التقليد ، وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح ـ بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ، ولا ينفذ فيها الحق أصلا.

قال أبو السعود : وإسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى ، لاستناد جميع الحوادث عندنا ـ من حيث الخلق ـ إليه سبحانه. وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم ، ووخامة عاقبتهم ، لكون أفعالهم ـ من حيث الكسب ـ مستندة إليهم. فإنّ خلقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر ، بل بطريق الترتيب ـ على ما اقترفوه من القبائح ـ كما يعرب عنه قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥] ونحو ذلك ، يعني كقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وقوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠].

وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل ، وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل.

منها : أنّ القوم لما أعرضوا عن الحق ، وتمكّن ذلك في قلوبهم ، حتى صار كالطبيعة لهم ، شبه بالوصف الخلقيّ المجبول عليه.

ومنها : أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن ، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها. كما في : سال به الوادي ـ إذا هلك ـ وطارت به العنقاء ـ إذا طالت غيبته ـ.

ومنها : أن أعراقهم لما رسخت في الكفر ، واستحكمت ، بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر ، ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف ، عبرّ عن ذلك بالختم ، لأنه سدّ لطريق إيمانهم بالكلية. وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغيّ والعناد.

ومنها : أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه. مثل قولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥]. تهكّما بهم.

ومنها : أن ذلك في الآخرة ، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه. ويعضده قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً) [الإسراء : ٩٧]. انتهى ملخصا.

(فائدة) قال الراغب : المراد بالقلب في كثير من الآيات : العقل والمعرفة.

٢٤٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨)

أصل ناس أناس ، حذفت همزته تخفيفا ، وحذفها مع لام التعريف كاللازم. ويشهد لأصله إنسان ، وأناس ، وأناسيّ ، وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون ـ كما سمي الجن لاجتنانهم ـ ولذلك سموا بشرا. وقيل : اشتقاقه من الأنس ـ ضدّ الوحشة ـ لأن الإنسان مدنيّ بالطبع. والأوّل أظهر.

واعلم أن صفات المنافقين إنما نزلت في السور المدنية. لأن مكّة لم يكن فيها نفاق ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج ، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب. وبها اليهود ـ من أهل الكتاب ـ وهم ثلاث قبائل : بنو قينقاع ـ حلفاء الخزرج ـ وبنو النّضير وبنو قريظة ـ حلفاء الأوس ـ فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج ، وقلّ من أسلم من اليهود ـ إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ـ ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا ، لأنه لم يكن للمسلمين ، بعد ، شوكة تخاف ، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة ـ من أحياء العرب حوالي المدينة ـ. فلما كانت وقعة بدر العظمى ، وأظهر الله كلمته ، وأعزّ الإسلام وأهله ، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول ـ وكان رأسا في المدينة ، وهو من الخزرج ، وكان ابن سيد الطائفتين في الجاهلية ، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم ، فجاءهم الخبر ، وأسلموا ، واشتغلوا عنه ، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله. فلما كانت وقعة بدر ، قال : هذا أمر قد توجّه. فأظهر الدخول في الإسلام ، ودخل معه طوائف ـ ممن هو على طريقته ونحلته ـ وآخرون من أهل الكتاب ، فمن ثمّ وجد النفاق في أهل المدينة ، ومن حولها من الأعراب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩)

قال القاشانيّ : المخادعة استعمال الخدع من الجانبين ، وهو إظهار الخير ، واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله ، لقوله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠]. فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة ، واستبطان

٢٤٨

الكفر والعداوة. وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم ، وإجراء أحكام الإسلام عليهم. بحقن الدماء وحصن الأمول وغير ذلك. وادّخار العذاب الأليم ، والمآل الوخيم ، وسوء المغبّة لهم ، وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم. لكن الفرق بين الخداعين : أن خداعهم لا ينجح إلّا في أنفسهم. بإهلاكها ، وتحسيرها ، وإيراثها الوبال والنكال ـ بازدياد الظلمة ، والكفر ، والنفاق ، واجتماع أسباب الهلكة ، والبعد والشقاء ، عليها ـ وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ، ويوبقهم أشد إيباق ، كقوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] ، وهم ـ من غاية تعمّقهم في جهلهم ـ لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو (وما يخادعون) بالألف.

قال ابن كثير : نبه الله سبحانه على صفات المنافقين ، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون ، فيقع بذلك فساد عريض ـ من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم ، وهم كفّار في نفس الأمر ـ وهذا من المحذورات : أن يظنّ بأهل الفجور خير. ثم إن قول من قال : كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين ـ إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان (١) في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا ـ في غزوة تبوك ـ الذين همّوا أن يفتكوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك ، عزموا على أن ينفّروا به الناقة ، ليسقط عنها ، فأوحى الله إليه أمرهم ، فأطلع على ذلك حذيفة.

فأما غير هؤلاء ، فقد قال الله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١] الآية. وقال تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) ففيها دليل على أنه لم يغربهم ولم يدرك على أعيانهم ، وإنما كان تذكر له صفاتهم ، فيتوسمها في بعضهم ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٠]. وقد كان من أشهرهم بالنفاق ، عبد الله بن أبيّ بن سلول.

واستند ـ غير واحد من الأئمة ـ في الحكمة عن كفّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل المنافقين ، بما ثبت في الصحيحين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي الله عنه «أكره أن يتحدّث العرب أنّ

__________________

(١) أخرجه الإمام مسلم في : صفات المنافقين وأحكامهم ، حديث ٩ و ١٠ و ١١.

٢٤٩

محمدا يقتل أصحابه» (١). ومعناه خشية أن يقع بسبب ذلك تنفير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ، ولا يعلمون حكمة قتلهم ـ بأنّه لأجل كفرهم ـ فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم ، فيقولون : إن محمدا يقتل أصحابه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠)

المرض : السقم ، وهو نقيض الصحة ، بسبب ما يعرض للبدن ، فيخرجه عن الاعتدال اللائق به ، ويوجب الخلل في أفاعيله ، استعير هاهنا لعدم صحة يقينهم ، وضعف دينهم ـ وكذا توصف قلوب المؤمنين بالسلامة التي هي صحة اليقين ، وعدم ضعفه ، كما قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩] أي : غير مريض بما ذكرنا ـ أو استعير لشكّهم ، لأن الشك تردّد بين الأمرين ، والمنافق متردّد ، كما في الحديث «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين» (٢) والمريض متردّد بين الحياة والموت.

(فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بأن طبع على قلوبهم ، لعلمه تعالى بأنّه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار.

وقال القاشانيّ : أي مرضا آخر ـ حقدا وحسدا وغلا ـ بإعلاء كلمة الدين ، ونصرة الرسول والمؤمنين ـ ثم قال : والرذائل كلها أمراض القلوب ، لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة ، وهلاكها في العاقبة.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم ـ بكسر اللام ـ فعيل بمعنى فاعل ـ كسميع ـ وبصير ـ

قال في المحكم : الأليم من العذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه. يعلم

__________________

(١) يشير إلى الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه في : الزكاة ، حديث ١٤٢ ونصه : عن جابر بن عبد الله قال : أتى رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجعرانة ، منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة. ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبض منها. يعطي الناس. فقال : يا محمد ، اعدل. قال «ويلك ، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت ، إن لم أكن أعدل» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني ، يا رسول الله ، فأقتل ، هذا المنافق. فقال «معاذ الله ، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي. إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن ، لا يجاوز حناجرهم. يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة».

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه في : صفات المنافقين وأحكامهم ، حديث ١٧ ونصه : عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين. تعير إلى هذا مرة ، وإلى هذا مرة».

٢٥٠

وجه إيثاره في عذاب المنافقين ـ على «العظم» المتقدم في وصف عذاب الكافرين ـ ويؤيده : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) [النساء : ١٤٥].

(بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء للسببيّة أو للمقابلة ـ أي بسبب كذبهم أو بمقابلته ـ وهو قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم غير مؤمنين. وفيه رمز إلى قبح الكذب ، وسماجته ، وتخييل أن العذاب الأليم لا حق بهم من أجل كذبهم ـ مع إحاطة علم السامع بأنّ لحوق العذاب بهم من جهات شتى ـ ونحوه قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥] ـ والقوم كفرة ـ وإنما خصّت الخطيئات استعظاما لها ، وتنفيرا عن ارتكابها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)

أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢)

شروع في تعديد بعض من مساوئهم المتفرّعة ـ على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق ـ و «الفساد» خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به. ونقيضه «الصلاح» وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض : تهييج الحروب والفتن ، لأن في ذلك فساد ما في الأرض ، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس ، والزروع ، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥]. (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ـ ومنه قيل لحرب كانت بين طيء : حرب الفساد ـ.

وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم ، وإغرائهم عليهم ، واتخاذهم أولياء ، مع ما يدعون في السرّ إلى : تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجحد الإسلام ، وإلقاء الشبه ، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونصب الحرب له ، وطمعهم في الغلبة ، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّيا إلى الفساد ـ بتهييج الفتن بينهم ـ قيل لهم : لا تفسدوا ـ كما تقول للرجل : لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار ، إذا أقدم على ما هذه عاقبته ـ وقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ

٢٥١

وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال : ٧٣] ، فأخبر أن موالاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد ، لما تقدّم.

وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي : بين المؤمنين وأهل الكتاب. نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا : (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) [النساء : ٦٢]. أو معناه : إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد.

قال الراغب : تصوّروا إفسادهم بصورة الإصلاح ـ لما في قلوبهم من المرض ـ كما قال (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨] وقوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٤٣] وقوله : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤].

وقال القاشانيّ كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش ، وتيسير أسبابه ، وتنظيم أمور الدنيا ـ لأنفسهم خاصة ـ لتوغّلهم في محبّة الدنيا ، وانهماكهم في اللذات البدنية ، واحتجابهم ـ بالمنافع الجزئية ، والملاذّ الحسية ـ عن المصالح العامة الكلّية ، واللذات العقلية ، وبذلك يتيسر مرادهم ، ويتسهل مطلوبهم ، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحسّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ

السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) بطريق الأمر بالمعروف ، إثر نهيهم عن المنكر ـ إتماما للنّصح ، وإكمالا للإرشاد ـ (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) أي : الكاملون في الإنسانية ، فإنّ المؤمنين هم الناس في الحقيقة لجمعهم ما يعدّ من خواصّ الإنسان وفضائله ـ (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) استفهام في معنى الإنكار. و (السفه) خفّة وسخافة رأي يورثهما : قصور العقل ، وقلّة المعرفة بمواضع المصالح والمضار. ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) [النساء : ٥].

وإنما سفّهوهم ـ مع أنهم العقلاء المراجيح ـ لأنهم : لجهلهم ، وإخلالهم بالنظر وإنصاف أنفسهم ، اعتقدوا أنّ ما هم فيه هو الحقّ ، وأنّ ما عداه باطل ـ ومن

٢٥٢

ركب متن الباطل كان سفيها ـ ولأنهم كانوا في رئاسة في قومهم ، ويسار ، وكان أكثر المؤمنين فقراء ، ومنهم موال ـ كصهيب ، وبلال ، وخبّاب ـ فدعوهم سفهاء تحقيرا لشأنهم! (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ ُسْتَهْزِؤُنَ)(١٤)

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي : أظهروا لهم الإيمان ، والموالاة ، والمصافاة ـ نفاقا ، ومصانعة ، وتقيّة وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم ـ.

واعلم أنّ مساق هذه الآية بخلاف ما سيقت له أوّل قصة المنافقين ، فليس بتكرير. لأنّ تلك في بيان مذهبهم ، والترجمة عن نفاقهم ، وهذه لبيان تباين أحوالهم ، وتناقض أقوالهم ـ في أثناء المعاملة والمخاطبة ـ حسب تباين المخاطبين!

(وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) يقال : خلوت بفلان وإليه أي : انفردت معه ، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى : مضى ، ومنه : القرون الخالية. والمراد ب (شَياطِينِهِمْ) : أصحابهم أولو التمرّد والعناد ، والشيطان يكون من الإنس والجنّ ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢]. وإضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر. واشتقاق شيطان من شطن ، إذا بعد ، لبعده من الصلاح والخير.

ومعنى (إِنَّا مَعَكُمْ) أي في الاعتقاد على مثل ما أنتم عليه ، إنّما نحن في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم. والاستهزاء بالشيء السخرية منه. يقال : هزأت واستهزأت بمعنى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٥)

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يسخر بهم للنقمة منهم ـ هكذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه الضحّاك ـ (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يزيدهم على وجه

٢٥٣

الإملاء ، والترك لهم في عتوّهم وتمرّدهم ، كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠].

و (الطغيان) المراد به هنا : الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ. وأصل المادة هو المجاوزة في الشيء ، كما قال تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١].

(والعمه) مثل العمى ـ إلّا أنّ العمى عامّ في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة ـ وهو التحيّر والتردد ، لا يدري أين يتوجه.

أي في ضلالهم وكفرهم ـ الذي غمرهم دنسه ، وعلاهم رجسه ـ يتردّدون حيارى ، ضلالا ، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا.

والمشهور فتح الياء من «يمدّهم» ، وقرئ ـ شاذا ـ بضمها ، وهما بمعنى واحد. يقال : مدّ الجيش وأمده ـ إذا زاده ، وألحق به ما يقوّيه ويكثره ـ وكذلك مدّ الدواة وأمدها زادها ما يصلحها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا

مُهْتَدِينَ) (١٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميّزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز ، بحيث صاروا كأنّهم حضّار مشاهدون على ما هم عليه. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشرّ وسوء الحال ، ومحلّه الرفع على الابتداء ، خبره قوله تعالى : (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) إلخ. والجملة مسوقة لتقرير ما قبلها ، وبيان لكمال جهالتهم ـ فيما حكي عنهم من الأقوال والأفعال ـ بإظهار غاية سماجتها ، وتصويرها بصورة ما لا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز ـ فضلا عن العقلاء ـ. و (الضَّلالَةَ) الجور عن القصد ، و (بِالْهُدى) التوجّه إليه. وقد استعير الأول : للعدول عن الصواب في الدين ، والثاني : للاستقامة عليه. و «الاشتراء» استبدال السلعة بالثمن ـ أي أخذها به ـ فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه.

فإن قيل : كيف اشتروا الضلالة بالهدى ، وما كانوا على هدى؟

قلت : جعلوا لتمكّنهم منه ـ بتيسير أسبابه ـ كأنه في أيديهم ، فإذا تركوه إلى

٢٥٤

الضلالة قد عطّلوه ، واستبدلوها به ، فاستعير ثبوته لتمكّنهم بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في أنّ هذه المرتبة ـ من التمكّن ـ كانت حاصلة لهم بما شاهدوه ـ من الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة ـ من جهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) عطف على الصلة داخل في حيزها. والفاء للدلالة على ترتّب مضمونه عليها. والتجارة صناعة التجار ، وهو التصدّي للبيع والشراء ، لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال ، وإسناد عدمه ـ الذي هو عبارة عن الخسران ـ إليها ، وهو لأصحابها ، من الإسناد المجازيّ وهو : أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له ـ كما تلبست التجارة بالمشترين ـ وفائدته : المبالغة في تخسيرهم ، لما فيه من الإشعار بكثرة الخسار ، وعمومه المستتبع ، لسرايته إلى ما يلابسهم.

فإن قلت : هب أنّ شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال ، فما معنى ذكر الربح ، والتجارة كأنّ ثمّ مبايعة على الحقيقة؟

قلت : هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا ، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز ، ثم تقفّى بأشكال لها ، وأخوات ـ إذا تلاحقن ـ لم تر كلاما أحسن منه ديباجة ، وأكثر ماء ورونقا ، وهو المجاز المرشّح ، فإيرادهما ـ إثر الاشتراء ـ تصوير لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة ـ الذي يتحاشى عنه كل أحد ـ للإشباع في التخسير والتحسير. وهذا النوع قريب من التتميم الذي يمثله أهل صناعة البديع بقول الخنساء :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار ..!

لمّا شبّهته ـ في الاهتداء به ـ بالعلم المرتفع ، أتبعت ذلك ما يناسبه ويحقّقه ، فلم تقنع بظهور الارتفاع حتى أضافت إلى ذلك ظهورا آخر ، باشتعال النار في رأسه.

وقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي : لزوال استعدادهم ، وتكدير قلوبهم بالرّين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ.

قال الزمخشريّ : فإن قيل : لم عطف بالواو عدم اهتدائهم على انتفاء ربح تجارتهم ، ورتّبا معا بالفاء على اشتراء الضلالة بالهدى؟ وما وجه الجمع بينهما ـ مع ذلك الترتيب ـ على أن عدم الاهتداء قد فهم من استبدال الضلالة بالهدى ، فيكون تكرارا لما مضى؟

٢٥٥

فالجواب : أن رأس مالهم هو الهدى ، فلمّا استبدلوا به ما يضادّه ـ ولا يجامعه أصلا ـ انتفى رأس المال بالكلية ، وحين لم يبق في أيديهم إلا ذلك الضد ـ أعنى الضلالة ـ وصفوا بانتفاء الربح والخسارة. لأنّ الضالّ في دينه خاسر هالك ـ وإن أصاب فوائد دنيوية ـ ولأنّ من لم يسلم له رأس ماله لم يوصف بالريح ، بل بانتفائه ، فقد أضاعوا سلامة رأس المال بالاستبدال ، وترتّب على ذلك إضاعة الربح.

وأما قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) فليس معناه عدم اهتدائهم في الدين ـ فيكون تكرارا لما سبق ـ بل لما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم لطرق التجارة ـ كما يهتدي إليه التجار البصراء بالأمور التي يربح فيها ويخسر ـ فهذا راجع إلى الترشيح.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ

وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)(١٧)

ولما جاء بحقيقة صفتهم ، عقّبها بضرب المثل ـ زيادة في الكشف ، وتتميما للبيان ـ فقال تعالى : (مَثَلُهُمْ) أي : مثالهم في نفاقهم ، وحالهم فيه (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) أي أوقد (ناراً) في ظلمة ـ والتنكير للتعظيم ـ (فَلَمَّا أَضاءَتْ) أي : أنارت النار (ما حَوْلَهُ) فأبصر ، واستدفأ ، وأمن مما يخافه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي : أطفأ الله نارهم ـ التي هي مدار نورهم ـ فبقوا في ظلمة وخوف ـ وجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩]. (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ما حولهم ـ متحيّرين عن الطريق ، خائفين ـ فكذلك هؤلاء استضاءوا قليلا بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، حيث أمنوا على أنفسهم وما يتبعها. ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ـ ظلمة النفاق ـ التي ترمي بهم إلى ظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمد ، ومحصوله : أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدّة حياتهم القليلة ، ثم قطعه الله تعالى بالموت.

ونقل ـ عن كثير من السلف ـ تفسير آخر ، وهو : تمثيل إيمانهم أوّلا ، ثم كفرهم ثانيا. فيكون إذهاب النور في الدنيا ، كما قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون : ٣] الآية ، فلمّا آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهم ـ كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا ـ ثمّ لمّا كفروا ، ذهب الله بنورهم : انتزعه ـ كما ذهب

٢٥٦

بضوء هذه النار ـ وعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله. فإنهم ـ لمّا وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ـ مثّل هداهم ـ الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ـ والضلالة ـ التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم ـ بذهاب الله بنورهم ، وتركه إيّاهم في الظلمات.

قال الزمخشريّ في الكشف : ولضرب العرب الأمثال ، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني ، ورفع الأستار عن الحقائق ، حتى تريك المتخيّل في صورة المحقّق ، والمتوهّم في معرض المتيقّن ، والغائب كأنّه مشاهد ـ وفيه تبكيت للخصم الألدّ ، وقمع لسورة الجامح الأبيّ.

ولأمر ما ، أكثر الله ـ في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه ـ أمثاله ، وفشت في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلام الأنبياء والحكماء. قال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣].

و (والمثل) في أصل كلامهم بمعنى : المثل وهو النظير. يقال : مثل ، ومثل ، ومثيل ـ كشبه وشبه وشبيه ـ ثم قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده : مثل. ولم يضربوا مثلا ، ولا رأوه أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول ، إلّا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه. ومن ثمّ حوفظ عليه ، وحمي من التغيير.

فإنه ـ لو غير ـ لربّما انتفى الدلالة على تلك الغرابة. وقيل : إن المحافظة على المثل إنّما هي بسبب كونه استعارة. فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به. فإن وقع تغيير ، لم يكن مثلا ، بل مأخوذا منه ، وإشارة إليه ـ كما في قولك : بالصيف ضيعت اللبن بالتذكير.

وقال بعضهم : قد استعير المثل للحال ، أو القصّة ، أو الصّفة ـ إذا كان لها شأن ، وفيها غرابة ـ كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا. وكذلك قوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥] أي ـ فيما قصصنا عليك من العجائب ـ قصة الجنّة العجيبة الشأن ، ثمّ أخذ في بيان عجائبها (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [النحل : ٦٠] أي : الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة. (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) [الفتح : ٢٩] أي : صفتهم وشأنهم المتعجّب منه.

ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا : فلان مثلة في الخير والشر ، فاشتقّوا منه صفة للعجيب الشأن.

٢٥٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)(١٨)

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) الصمم : آفة مانعة من السماع ، سمّى به فقدان حاسّة السمع ، لما أنّ سببه اكتناز باطن الصّماخ ، وانسداد منافذه ، بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموّجه. والبكم : الخرس. والعمى : عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر.

وصفوا بذلك ـ مع سلامة حواسّهم المذكورة ـ لما أنّهم سدّوا عن الإصاخة إلى الحقّ مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويتبصّروا بعيونهم ، فجعلوا كأنما أصيب بآفة مشاعرهم ـ كقوله ـ :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

وكقوله :

أصمّ عن الشيء الذي لا أريده

وأسمع خلق الله حين أريد

(فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ـ بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة ـ لا يعودون إلى الهدى ـ بعد أن باعوه. أو عن الضلالة ـ بعد أن اشتروها. فالآية الكريمة تتمّة للتمثيل بأنّ ما أصابهم ، ليس مجرّد انطفاء نارهم ، وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة ـ مع بقاء حاسة البصر بحالها ـ بل اختلّت مشاعرهم جميعا ، واتصفوا بتلك الصفات فبقوا جامدين في مكانهم لا يرجعون ، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخّرون؟ وكيف يرجعون إلى ما ابتدءوا منه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ

مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)(١٩)

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) تمثيل لحالهم إثر تمثيل ، ليعمّ البيان منها كلّ دقيق وجليل ، ويوفي حقّها من التفظيع والتهويل. فإنه تفنّنهم في فنون الكفر والضلال حقيق بأن يضرب في شأنه الأمثال. وكما يجب على البليغ ـ في مظانّ الإجمال والإيجاز ـ أن يجمل ويوجز ، فكذلك الواجب عليه ـ في موارد التفصيل والإشباع ـ أن يفصّل ويشبع.

٢٥٨

(والصيب) السحاب ذو الصوب. والصوب المطر. والمراد بالسماء : السحاب ، كما قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) [الواقعة : ٦٩]. وهي في الأصل : كل ما علاك من سقف ونحوه.

(فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) التنوين في الكلّ للتفخيم والتهويل ـ كأنّه قيل : فيه ظلمات داجية ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف ـ (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) الصاعقة : الصوت الشديد من الرعدة يسقط معها قطعة نار تنقدح من السحاب ـ إذا اصطكّت أجرامه ـ لا تأتي على شيء إلا أحرقته (حَذَرَ) ـ أي خوف ـ (الْمَوْتِ) ـ من سماعها ـ (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) علما وقدرة فلا يفوتونه. والجملة اعتراضية منبّهة على أنّ ما صنعوا ـ من سدّ الآذان بالأصابع ـ لا يغني عنهم شيئا ، فإنّ القدر لا يدافعه الحذر ، والحيل لا تردّ بأس الله عزوجل. وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير ـ الراجع إلى أصحاب الصيّب ـ الإيذان بأنّ ما دهمهم ـ من الأمور الهائلة المحكيّة ـ بسبب كفرهم ، فيظهر استحقاقهم شدّة الأمر عليهم ، على طريقة قوله تعالى : (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا) [آل عمران : ١١٧] فإن الإهلاك الناشئ عن السخط أشد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا

وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) استئناف آخر وقع جوابا عن سؤال مقدّر ـ كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل : يكاد يخطف أبصارهم ، أي : يأخذها بسرعة (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي : في ضوئه (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي : وقفوا ، وثبتوا في مكانهم ـ ومنه : قامت السوق ، إذا ركدت وكسدت. وقام الماء ، جمد ـ وهذا تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين : بشدّته على أصحاب الصيّب ، وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل ـ بما يأتون وما يذرون ـ إذا صادفوا من البرق خفقة ـ مع خوف أن يخطف أبصارهم ـ انتهزوا تلك الخفقة فرصة ، فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي ، وفتر لمعانه ، بقوا واقفين متقيدين عن الحركة (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) أي : لزاد في قصيف الرعد فأصمّهم ، أو في ضوء البرق فأعماهم. ومفعول «شاء» محذوف ، لأنّ الجواب يدلّ عليه. والمعنى : ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها. ولقد تكاثر هذا الحذف في «شاء» و «أراد». لا

٢٥٩

يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب ـ كنحو قوله : فلو شئت أن أبكي دما لبكيته ، وقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء : ١٧]. (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل للشرطيّة ، وتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهانيّ.

تنبيهات :

الأول : محصول التمثيلين ـ غبّ وصف أربابهما بوقوعهم في ضلالتهم التي استبدلوها بالهدى ـ هو أنه شبّه ، في الأول ، حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل. وفي الثاني : شبّه حالهم بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثف ظلماتها ـ بتراكم السحب ، وانتساج قطراتها ، وتواتر فيها الرعود الهائلة ، والبروف المخيفة ، والصواعق المختلفة المهلكة ، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت. وبذلك يعلم أنّ التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة ، وهو الذي تقتضيه جزالة المعاني ـ لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها. فإنك إذا تصورت حال من طفئت ناره بعد إيقادها .... إلخ. وحال من أخذتهم السماء ... إلخ. حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين ، على وجه يتقاصر عنه تشبيه المنافق ـ في التمثيل الأول ـ بالمستوقد نارا ، وإظهاره الإيمان بالإضاءة ، وانقطاع انتفاعه بانتفاء النار وتشبيه دين الإسلام ـ في الثاني ـ بالصيّب ، وما يتعلق به ـ من شبه الكفار ـ بالظلمات ، وما فيه ـ من الوعد والوعيد ـ بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة ـ من الإفزاع والبلايا والفتن ـ من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وأيضا في تشبيه المفردات ، وطيّ ذكر المشبهات تكلّف ظاهر. وأيضا في لفظ (المثل) نوع إنباء عن التركيب ، إذ المتبادر منه القصة التي هي في غرابتها كالمثل السائر ، وهي في الهيئة المركبة دون كل واحد من مفرداتها. وأيضا في التمثيل المركب اشتمال على التشبيه في المفردات إجمالا ، مع أمر زائد : هو تشبيه الهيئة بالهيئة ، وإيذانه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئة عجيبة حقيقة بأن تكون مثلا في الغرابة.

التنبيه الثاني :

قال الإمام العلامة «ابن القيّم» في كتابه (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية)

«في هذه الآية ، شبّه ، سبحانه ، أعداءه المنافقين ، بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم ،

٢٦٠