مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

٢٧

سورة النّمل

محتوى السورة : محتوى هذه السورة ـ بصورة عامة ـ كمحتوى سائر السور المكية ، فأكثر إهتمامها ـ من الوجهة الاعتقادية ـ ينصبّ على المبدأ والمعاد.

وأمّا من ناحية المسائل العملية والأخلاقية ، فالقسم الكبير منها يتحدث عن قصص خمسة أنبياء كرام ومواجهاتهم لُاممهم المنحرفة ، لتكون هذه السورة تسلية للمؤمنين القلة بمكة في ذلك اليوم ، وفي الوقت ذاته تكون إنذاراً للمشركين المعاندين الظالمين ليروا عواقب أمرهم في صفحات تاريخ الظلمة الماضين ، فلعلهم يحذرون ويرجعون إلى الرشد.

وأحد خصائص هذه السورة هي بيان قسم مهم من قصة النبي سليمان عليه‌السلام وملكة سبأ ، وكيفية إيمانها بالتوحيد ، وكلام الطير ـ كالهدهد ، والحشرات كالنمل ـ مع سليمان عليه‌السلام.

وهذه السورة سمّيت سورة «النمل» لورود ذكر النمل فيها ، والعجيب أنّها سمّيت بسورة «سليمان» كما في بعض الروايات.

وتتحدث هذه السورة ضمناً عن علم الله غير المحدود ، وهيمنته وسلطانه على كل شيء في عالم الوجود ، وحاكميته على عباده ... والإلتفات إلى ذلك له أثره الكبير في المسائل التربوية للإنسان.

وتبدأ هذه السورة بالبشرى وتنتهي بالتهديد ، فالبشرى للمؤمنين ، والتهديد للناس بأنّ الله غير غافل عن أعمالكم.

٤٦١

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ومن قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلّاالله».

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦)

القرآن مُنزَل من لدن حكيم عليم : نواجه مرّة اخرى ـ في بداية هذه السورة ـ الحروف المقطعة من القرآن (طس) وبملاحظة أنّ ما بعدها مباشرة هو الكلام عن عظمة القرآن ، فيبدو أنّ واحداً من أسرار هذه الحروف هو أنّ هذا الكتاب العظيم والآيات البينات منه ، كل ذلك يتألف من حروف بسيطة ... وإنّ الجدير بالثناء هو الخالق العظيم الموجد لهذا الأثر البديع من حروف بسيطة كهذه الحروف.

ثم يضيف القرآن قائلاً : (تِلْكَءَايتُ الْقُرْءَانِ وَكِتبٍ مُّبِينٍ).

والإشارة للبعيد بلفظ (تلك) لبيان عظمة هذه الآيات السماوية ، والتعبير بـ المبين تأكيد على أنّ القرآن واضح بنفسه وموضح للحقائق أيضاً.

وفي الآية التالية وصفان آخران للقرآن إذ تقول : (هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). لأنّه إذا لم يكن في قلب الإنسان أدنى مرحلة من التقوى والتسليم والإيمان بالواقع ، فإنّه لا يتجه نحو الحق ، ولا يبحث عنه ، ولا يفيد من نور هذا الكتاب المبين. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُم بِالْأَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

وهكذا فإنّ اعتقاد المؤمنين راسخ في شأن المبدأ والمعاد ، وإرتباط متين بالله وخلقه أيضاً ... فالأوصاف المتقدمة تشير إلى اعتقادهم الكامل ومنهجهم العملي الجامع.

وتتحدث الآية التالية عن الأشخاص في المقابلة للمؤمنين ، وتصف واحدة من أخطر حالاتهم فتقول : (إِنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ). أي : حيارى في حياتهم.

٤٦٢

فهم يرون الملوّث نقيّاً ، والقبيح حسناً ، والعيب فخراً ، والشقاء سعادةً وانتصاراً.

وهذا التغير في القِيم ، أو اضطراب المعايير في نظر الإنسان ، يؤدّي إلى الحيرة في متاهات الحياة ... وهو من أسوأ الحالات التي تصيب الإنسان.

ثم تبيّن الآية التالية نتيجة «تزيين الأعمال» وعاقبة اولئك الذين شغفوا بها فتقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ). فهم في الدنيا سيمسون حيارى آيسين نادمين ، وسينالون العقاب الصارم في الآخرة (وَهُمْ فِى الْأَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

وأمّا الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن ، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).

وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم الله سبحانه ، إلّاأنّ الحكمة تبيّن الجوانب العملية ، والعلم يبيّن الجوانب النظرية ... وبتعبير آخر : إنّ العليم يخبر عن علم الله الواسع ، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النبي (محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله).

(إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤)

موسى يقتبس النور : يجري الكلام في هذه السورة ـ كما أشرنا من قبل ـ بعد بيان أهمية القرآن ، عن قصص خمسة أنبياء عظام ، وذكر اممهم ، والوعد بانتصار المؤمنين وعقاب

٤٦٣

الكافرين. فأوّل نبيّ تتحدث عنه هذه السورة ، هو موسى عليه‌السلام أحد الأنبياء «أولي العزم» وتبدأ مباشرة بأهم نقطة من حياته وأكثرها «حسّاسية» وهي لحظة نزول الوحي على قلبه وإشراقه فيه ، وتكليم الله إيّاه ، إذ تقول الآية : (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنّىءَانَسْتُ نَارًا) (١). أي رأيت ناراً من بعيد ، فامكثوا هنيئة (سَاتِيكُم مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْءَاتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢).

في تلك الليلة الظلماء ، كان موسى عليه‌السلام يسير بزوجته بنت النبي شعيب عليه‌السلام في طريق مصر ـ وفي الصحراء ـ فهبت ريح باردة ، وكانت زوجته (أهله) مقرّباً ، فأحسّت بوجع الطلق ، فوجد موسى عليه‌السلام نفسه بمسيس الحاجة إلى النار لتصطلي المرأة بها ، لكن لم يكن في الصحراء أيّ شيء ، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سُرّ كثيراً ، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس ، فقال : سأمضي وآتيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.

وهكذا فقد ترك موسى أهله في ذلك المكان واتّجه نحو «النار» التي آنسها (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحنَ اللهِ رَبّ الْعَالَمِينَ).

إنّ المراد من (مَن فِى النَّارِ) هو موسى نفسه ، حيث كان قريباً منها ومن الشجرة الخضراء التي عندها ، فكأنّ موسى كان في النار نفسها ؛ وأنّ المراد من (مَنْ حَوْلَهَا) هم الملائكة المقربون من ساحة القدس ، الذين كانوا يحيطون بتلك الأرض المقدسة في ذلك الوقت. أو أنّ المراد ـ على عكس ما ذكرنا آنفاً ـ فمن في النار : هم الملائكة المقربون ، ومن حولها هو موسى عليه‌السلام.

ومرّة اخرى نودي موسى بالقول : (يمُوسَى إِنّى أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وذلك يزول عن موسى عليه‌السلام كل شك وتردد ، وليعلم أنّ الذي يكلمه هو رب العالمين ، لا شعلة النار ولا الشجرة ، الربّ القوي العزيز الذي لا يغلب ولا يُقهر ، والحكيم ذو التدبير في جميع الامور.

وحيث إنّ الصدع بالرسالة والبلاغ (وأية رسالة وبلاغ ... رسالة إلى جبار مستكبر ظالم

__________________

(١) «آنستُ» : فعل ماض مأخوذ من «الإيناس» ، وهو الرؤية المقرونة بالراحة النفسية والسكينة وإنّما يطلق على الإنسان فهو لهذا المعنى.

(٢) «الشهاب» : هو النور الذي ينبثق من النّار كالعمود ، وكل نور له عمود يدعى شهاباً ؛ و «القبس» : شعلة من النّار تنفصل عنها ؛ و «تصطلون» : من الاصطلاء وهو الدفء (بالنّار).

٤٦٤

كفرعون) ، لابدّ له من قوة ظاهرية وباطنية وسند على حقانيّته ... فلذا أمر موسى بأن يلقي عصاه : (وَأَلْقِ عَصَاكَ).

فألقى موسى عصاه ، فتبدلت ثعباناً عظيماً ، فلمّا رآه موسى يتحرك بسرعة كما تتحرك الحيّات الصغار خاف وولّى هارباً ولم يلتفت إلى الوراء : (فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقّبْ).

وهنا خوطب موسى مرّة اخرى أن (يمُوسَى لَاتَخَفْ إِنّى لَايَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ).

ومعنى الآية : أن يا موسى إنّك بين يدي خالق الوجود العظيم ، والحضور عنده ملازم للأمن المطلق.

إلّا أنّ في الآية التالية استثناءاً للجملة السابقة ، حيث ذكره القرآن فقال : (إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

أمّا المعجزة الثانية التي أمر موسى أن يظهرها ، فهي اليد البيضاء ، إذ تقول الآية : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).

والقيد (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) إشارة إلى أنّ بياض اليد ليس من برص ونحوه ، بل هو بياض نوراني يلفت النظر ، وهو بنفسه كاشف عن إعجاز وأمر خارق للعادة.

ومن أجل أن يظهر الله تعالى عنايته ولطفه لموسى أكثر ، وكذلك منح الفرصة للمنحرفين للهداية أكثر ، قال لموسى بأنّ معاجزه ليست منحصرة بالمعجزتين الآنفتين ، بل (فِى تِسْعِءَايتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فسِقِينَ).

ويستفاد من ظاهر الآية أنّ هاتين المعجزتين من مجموع تسع معاجز «آيات» موسى المعروفة.

وأخيراً تعبّأ موسى بأقوى سلاح ـ من المعاجز ـ فجاء إلى فرعون وقومه يدعوهم إلى الحق ، كما يصرح القرآن بذلك في آية التالية : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ).

ومعلوم أنّ هذا الإتهام «بالسحر» لم يكن خاصاً بموسى عليه‌السلام ، بل اتخذه المعاندون ذريعة بوجه الأنبياء ، ليجعلوه سدّاً في طريق الآخرين ، والإتهام بنفسه دليل واضح على عظمة ما يصدر من الأنبياء خارقاً للعادة ، بحيث اتّهموه بالسحر.

ومما يلفت النظر أنّ القرآن يضيف في آخر الآية ـ محل البحث ـ قائلاً : إنّ هذا الإتهام لم

٤٦٥

يكن لأنّهم كانوا في شك من أمرهم ومترددين فعلاً ، بل كذبوا معاجز أنبيائهم مع علمهم بحقانيتها ، (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الإيمان له حقيقة وواقعية غير العلم واليقين ، ويمكن أن يقع الكفر جحوداً وإنكاراً بالرغم من العلم بالشيء.

إنّ القرآن يذكر عاقبة فرعون وقومه على أنّه درس من دروس العبرة ، في جملة موجزة ذات معنى كبير ، مشيراً إلى هلاكهم وغرقهم فيقول : (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦)

حكومة داود وسليمان عليهما‌السلام : بعد الكلام عن جانب من قصة موسى عليه‌السلام في هذه السورة ، يتحدث القرآن الكريم عن نبيّين آخرين من الأنبياء العظام ، وهما «داود» و «سليمان» ... لأنّهما كانا من أنبياء بني إسرائيل أيضاً ، وما نجده من اختلاف بين تاريخهما وتاريخ الأنبياء الآخرين ، هو أنّهما ـ ونتيجة للإستعداد الفكري وملائمة المحيط الاجتماعي في عهدهما ـ قد وفّقا إلى تأسيس حكومة عظيمة ، وأن ينشرا بالإستعانة والإفادة من حكومتهما دين الله ، لذلك لا نجد هنا أثراً أو خبراً عمّا عهدناه من أسلوب في تلك الآيات التي كانت تتكلم عن الأنبياء الآخرين ، وهم يواجهون قومهم المعاندين ، وربّما نالوا منهم الأذى والطرد والاخراج من مدنهم وقراهم .. فالتعابير هنا تختلف عن تلكم التعابير تماماً.

والطريف ، أنّ القرآن يبدأ من مسألة «موهبة العلم» التي هي أساس الحكومة الصالحة القوية ، فيقول : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمنَ عِلْمًا).

إنّ من الواضح أنّ العلم هنا له مفهوم واسع ، بحيث يحمل في نفسه علم التوحيد والإعتقادات المذهبية والقوانين الدينية ، وكذلك علم القضاء ، وجميع العلوم التي ينبغي توفرها لمثل هذه الحكومة الواسعة القوية.

وبعد هذه الجملة ينقل القرآن ما قاله داود وسليمان من ثناء لله : (وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

٤٦٦

والذي يجلب النظر هو أنّه بعد بيان هذه الموهبة الكبيرة «العلم» يجري الكلام عن «الشكر» مباشرة ... ليكون واضحاً أنّ كل نعمة لابدّ لها من شكر ، وحقيقة الشكر هو أن يستفاد من النعمة في طريقها الذي خلقت من أجله.

والآية التالية تتكلم على إرث سليمان أباه داود أوّلاً ، فتقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمنُ دَاوُودَ).

ثم تضيف الآية حاكية عن لسان سليمان : (وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

وجملة (أُوتِينَا مِن كُلّ شَىْءٍ) فهي تشمل جميع الأسباب اللازمة لإقامة حكومة الله في ذلك الحين.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩)

سليمان في وادي النمل : يستفاد من آيات هذه السورة ، وآيات سورة سبأ أنّ «حكومة سليمان» لم تكن حكومة مألوفة ، بل حكومة مقرونة بما يخرق العادات والمعاجز المختلفة. وفي الحقيقة فإنّ الله أظهر قدرته في هذه الحكومة وما سخّر لها من قوى. وأوّل ما تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ).

وكانت جنوده من الكثرة بحيث كانوا عند التحرك والمسير ، ومن أجل المحافظة على النظم ، يؤمرون بتوقف مقدمة الجيش لتلحق بها مؤخرتها (فَهُمْ يُوزَعُونَ). «يوزعون» : من مادة «وزع» على وزن (جمَعَ) ومعناه الحبس والإيقاف ، وهذا التعبير متى اطلق على الجند أو الجيش فيعني إيقاف أوّل الجيش ليلحق به آخره ، لكي يحفظ من التشتت والتفرق.

ويستفاد من هذا التعبير أنّ جنود سليمان كانوا كثيرين ، كما كانوا يخضعون للنظم والانضباط.

«حشر» : فعل ماض من «الحشر» على وزن (نشر) ومعناه إخراج الجمع من المقرّ ، والتحرك نحو الميدان للقتال ، وما أشبه ذلك.

٤٦٧

إنّ سليمان عليه‌السلام تحرك بهذا الجيش العظيم (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ). فخاطبت نملة من النمل أصحابها محذرة ، كما تقول الآية : (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسكِنَكُمْ لَايَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ).

ويستفاد ضمناً من جملة (لَايَشْعُرُونَ) أنّ عدل سليمان كان ظاهراً وواضحاً حتى عند النمل ، لأنّ مفهوم الجملة أنّ سليمان وجنوده لو شعروا والتفتوا إلى النملة الضعيفة لما وطأوها بالأقدام ، وإذا وطأوها فإنّما ذلك لعدم توجههم والتفاتهم : (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا).

إنّ سليمان توجه نحو الله .. داعياً وشاكراً مستزيداً فضله : (وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ) (١). أي ، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك ، ولا أنحرف عن طريق الحق (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضهُ). وهو يشير إلى أنّ بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه ، بل المهم أن يؤدّي عملاً صالحاً يرضي به ربّه.

والطلب الثالث الذي طلبه سليمان من ربّه ، كما حكته الآية ، هو أن يجعله في زمرة الصالحين ، إذ قال : (وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦)

قصة الهدهد وملكة سبأ : يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من

__________________

(١) «أوزعني» : من مادة «إيزاع» ومعناه «الإلهام» ، أو المنع عن الانحراف ، أو إيجاد العشق والتعلق ، إلّاأنّ أغلب المفسرين إختاروا المعنى الأوّل.

٤٦٨

حياة سليمان عليه‌السلام المدهشة ، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ. فيقول أوّلاً : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ).

وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة ، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة ، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء ، حتى لو كان طائراً واحداً.

وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهدهد ، لأنّ القرآن يضيف استمراراً للكلام : (فَقَالَ مَا لِىَ لَاأَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ).

ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابياً ، وأن لا يؤثر غياب الهدهد على بقية الطيور ، فضلاً عن الأشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات ، أضاف «سليمان» قائلاً : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطنٍ مُّبِينٍ).

إنّ سليمان قبل أن يقضي غيابياً ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلف.

وقد برهن «سليمان» ضمناً أنّه ـ حتى بالنسبة للطائر الضعيف ـ يستند في حكمه إلى المنطق والدليل ، ولا يعوّل على القوة والقدرة أبداً.

ولكن غيبة الهدهد لم تطل (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان : (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).

إنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال : (إِنّى وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ).

لقد بيّن الهدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريباً ، وأسلوب حكومته.

ولما سمع سليمان عليه‌السلام كلام الهدهد غرق في تفكيره ، إلّاأنّ الهدهد لم يمهله طويلاً فأخبره بخبر جديد ... خبر عجيب ، مزعج مريب ، إذ قال : (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطنُ أَعْملَهُمْ). فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن طريق الحق (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ). وقد غرقوا في عبادة الأصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم (فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ).

ثم أضاف الهدهد قائلاً : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ).

«خبء» : على وزن (صبر) معناها كل شيء خفي مستور ، وهي هنا إشارة إلى إحاطة علم الله بغيب السماوات والأرض ، أي : لِمَ لا يسجدون لله الذي يعلم غيب السماوات

٤٦٩

والأرض وما فيهما من أسرار؟!

وأخيراً يختتم الهدهد كلامه هكذا : (اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستنداً إلى «توحيد العبادة» و «توحيد الربوبية» لله تعالى ، مؤكداً نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.

(قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتَابِي هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَا ذَا يَرْجِعُونَ (٢٨) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَنْ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَا ذَا تَأْمُرِينَ (٣٣) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥)

الملوك مفسدون مخرّبون : لقد أصغى سليمان عليه‌السلام إلى كلام الهدهد بكل اهتمام .. وفكّر مليّاً ، فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد ، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال : (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكذِبِينَ).

سليمان عليه‌السلام لم يتّهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب .. ولم يصدّق كلامه دون أي دليل ... بل جعله أساساً للتحقيق.

وعلى كل حال ، فقد كتب كتاباً وجيزاً ذا مغزى عميق ، وسلّمه إلى الهدهد وقال له : (اذْهَب بّكِتبِى هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ).

يستفاد من التعبير (أَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) أن يلقي الكتاب عندما تكون ملكة سبأ حاضرة بين قومها ، لئلا تعبث به يد النسيان أو الكتمان.

ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان ، واطّلعت على مضمونه ، وحيث إنّها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه ، ومحتوى الكتاب يدل على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة «سبأ» ، لذلك فكّرت مليّاً ، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمة تستشير من حولها ، لذلك

٤٧٠

فقد دعتهم وتوجهت إليهم و (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتبٌ كَرِيمٌ).

وقول الملكة : (إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتبٌ كَرِيمٌ) «أي قيم» لعلّه لمحتواه العميق ، أو لأنّه بُدىء باسم الله أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح.

ثم إنّ «ملكة سبأ» تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت : (إِنَّهُ مِن سُلَيْمنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُّسْلِمِينَ).

وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها ... التفتت إليهم و (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ). «أفتوني» : مشتقة من «الفتوى» ، معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة.

«تشهدون» : مأخوذ من مادة «الشهود» ، ومعناه الحضور ... الحضور المقرون بالتعاون والمشورة.

فالتفت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها ف (قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ).

وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها ... كما أبدوا رغبتهم في الإعتماد على القوة والحضور في ميدان الحرب.

ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني ، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة ، لذلك : (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً).

ولمزيد التأكيد أردفت قائلةً : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ).

إنّ ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً ، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة ، وأنّ سيرتهم تتلخص في شيئين :

١ ـ الإفساد والتخريب.

٢ ـ وإذلال الأعزة ...

لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية ، ولا يكترثون بمصالح الامة وعزتها ... وهما على طرفي نقيض دائماً.

ثم أضافت الملكة قائلةً : علينا أن نختبر سليمان وأصحابه ، لنعرف من هم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟

٤٧١

فينبغي أن نرسل شيئاً إليه (وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).

فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا ، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر ، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية ... فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك ، وينبغي أن نواجهه بالقوة فنحن أقوياء ... وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبي ، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل.

(فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (٣٧)

لا تخدعوني بالمال : خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان «في الشام» ظنّاً منهم أنّ سليمان سيكون مسروراً بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم ، لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان ... فإنّ سليمان عليه‌السلام مضافاً إلى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا ، (قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَاءَاتنِىَ اللهُ خَيْرٌ مِّمَّاءَاتكُمْ).

فما قيمة المال ، ازاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى ، (بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ).

وهكذا فقد حقّر سليمان عليه‌السلام معيار القيم عندهم ، وأوضح لهم أنّ هناك معياراً آخر للقيمة تضمحلّ عنده معايير عبدة الدنيا ولا تساوي شيئاً.

ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل ، قال لرسول ملكة سبأ الخاص : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صغِرُونَ).

لأنّهم لم يذعنوا ـ ويُسلموا ـ للحق ... وإنّما قصدوا الخداع والمكر.

(قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٤٠)

٤٧٢

حضور العرش في طرفة عين : وأخيراً عاد رسل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم ، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة مُلك سليمان عليه‌السلام المعجز وجهازه الحكومي ، وكل واحد من هذه الامور دليل على أنّه لم يكن كسائر الأفراد ولا ملكاً كسائر الملوك ، بل هو مُرسل من قبل الله حقّاً ، وحكومته حكومة إلهية. لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان ، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟

فوصل هذا الخبر ـ عن أيّ طريق كان ـ إلى سمع سليمان عليه‌السلام ، فعزم على إظهار قدرته العجيبة ـ والملكة وأصحابها في الطريق إليه ـ ليعرفهم قبل كل شيء على إعجازه ، ليذعنوا له ويسلّموا لدعوته ... لذلك التفت إلى من حوله و (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ).

وهنا أظهر شخصان استعدادهما لإمتثال طلب سليمان عليه‌السلام ، وكان أمر أحدهما عجيباً والآخر أعجب ، إذ (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنّ أَنَاءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ). فهذا الأمر عليّ يسير ، ولا أجد فيه مشقّة ، كما أنّي لا أخونك أبداً ، لأنّي قادر على ذلك (وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ). «العفريت» : معناه المارد الخبيث.

وجملة (وَإِنّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ) المشفوعة بالتأكيدات من عدّة جهات تشر إلى احتمال خيانة هذا العفريت ... لذلك فقد أظهر الدفاع عن نفسه بأنّه أمين وفيّ.

أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلاً صالحاً له علم ببعض ما في الكتاب ، ويتحدث عنه القرآن فيقول : (قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتبِ أَنَاءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

فلما وافق سليمان عليه‌السلام على هذا الأمر ، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالإستعانة بقوته المعنوية : (فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِىءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ).

ثم أضاف قائلاً : (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ).

الفرق بين «علم من الكتاب» و «علم الكتاب» : في كتاب ينابيع المودة للقندوزي عن أبي سعيد الخدري قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذه الآية (قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) قال : ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه‌السلام. وسألته عن قول الله عزوجل (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَن عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) قال : «ذاك أخي عليّ بن أبي طالب».

والإلتفات إلى الفرق بين «علم من الكتاب» الذي يعني (العلم الجزئي) و «علم الكتاب»

٤٧٣

الذي يعني (العلم الكلي) ، يكشف البون الشاسع بين آصف وعلي عليه‌السلام.

(قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٤٤)

نور الإيمان في قلب الملكة : نواجه في هذه الآيات مشهداً آخر ، مما جرى بين سليمان عليه‌السلام وملكة سبأ فسليمان من أجل أن يختبر عقل ملكة سبأ ودرايتها ، ويهيء الجوّ لإيمانها بالله ، أمر أن يغيروا عرشها وينكّروه ف (قَالَ نَكّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَايَهْتَدُونَ). والمراد من جملة (أَتَهْتَدِى) هي معرفة عرشها.

(فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهكَذَا عَرْشُكِ) إنّ ملكة سبأ أجابت جواباً دقيقاً و (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ).

ومع كل ذلك فإنّ ملكة سبأ استطاعت أن تعرف عرشها رغم كل ما حصل له من تغييرات ... فقالت مباشرة : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ). أي : إذا كان مراد سليمان عليه‌السلام من هذه المقدمات هو اطلاعنا على معجزته لكي نؤمن به ، فإنّنا كنّا نعرف حقانيته بعلائم أخر ... كنّا مؤمنين به حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة فلم تكن حاجة إلى هذا الأمر.

وهكذا فإنّ سليمان عليه‌السلام منعها (وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ) بالرغم من (إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كفِرِينَ).

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يجري الكلام عن مشهد آخر من هذه القصّة ، وهو دخول ملكة سبأ قصر سليمان الخاص.

وكان سليمان عليه‌السلام قد أمر أن تصنع إحدى ساحات قصوره من قوارير ، وأن يجري الماء

٤٧٤

من تحتها ، فلما وصلت ملكة سبأ إلى ذلك المكان (قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ) (١). فلما رأته ظنته نهراً جارياً فرفعت ثوبها لتمر وسط الماء وهي متعجبة عن سبب وجود هذا الماء الجاري ، وكما يقول القرآن : (فَلَّمَا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا) (٢).

إلّا أنّ سليمان عليه‌السلام التفت إليها و (قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ) (٣). فلا حاجة إلى الكشف عن ساقيك فلا يمس الماء قدميك.

وهنا ينقدح سؤال هام ، وهو أنّ سليمان نبي كبير ، فلم كان لديه هذا البناء الفائق والتزيّن الرائق ... والصرح الممرّد والبساط الممهّد .. وصحيح أنّه كان حاكماً مبسوط اليد ، إلّاأنّ الأنسب أن يكون له بساط مألوف كسائر الأنبياء.

إلّا أنّه ، ما يمنع أن يُري سليمان ملكة سبأ التي كانت ترى قدرتها وعظمتها بالعرش والتاج والقصر العظيم والزينة .. يريها هذا المشهد لتذعن لأمره ، ولتحتقر ما عندها؟! وهذه نقطة انعطاف في حياتها لتعيد النظر في ميزان القيم ومعيار الشخصية.

وبتعبير آخر : إنّ هذه النفقات المالية إزاء أمن منطقة واسعة ، وقبول دين الحق ، والوقاية عن الإنفاق المفرط للحرب ـ لم تكن أمراً مسرفاً. ولذلك حين رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع : (قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمنَ لِلَّهِ رَبّ الْعلَمِينَ).

لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجميل ، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا. أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّاً.

ربّاه ... أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي إليك.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧)

__________________

(١) «صرح» : معناه الفضاء الواسع ، وقد يأتي بمعنى البناء العالي والقصر وفي الآية المشار إليها آنفاً معناه ساحة القصر أي فضاءه الواسع ظاهراً.

(٢) «اللّجة» : في الأصل مأخوذة من اللجاج ، ومعناه الشدة ، ثم أطلق على ذهاب الصوت وإيابه في الحنجرة تعبير «لجة» ، أمّا الأمواج المتلاطمة في البحر فتسمى «لُجة» وهي هنا في الآية بهذا المعنى الأخير.

(٣) «الممرّد» : معناه الصافي ؛ و «القوارير» : جمع قارورة وهي الزجاجة.

٤٧٥

صالح في ثمود : عد ذكر جانب من قصص موسى وداود وسليمان عليهم‌السلام فإنّ هذه الآيات تتحدث عن قصة رابع نبي ـ وتبيّن جانباً من حياته مع قومه ـ في هذه السورة ، وهي ما جاء عن صالح عليه‌السلام وقومه «ثمود» ، إذ يقول القرآن : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صلِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ).

وكما قيل من قبل : إنّ التعبير ب «أخاهم» الوارد في قصص كثير من الأنبياء ، هو إشارة إلى منتهى المحبة والإشفاق من قبل الأنبياء لُاممهم ، كما أنّ في بعض المواطن إشارة إلى علاقة القربى «الروابط العائلية للأنبياء بأقوامهم».

إنّ جميع دعوة هذا النبي العظيم تلخصت في جملة (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ). أجل ، إنّ عبادة الله هي عصارة كل تعليمات رسل الله تعالى.

ثم يضيف قائلاً : (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ).

فأخذ صالح عليه‌السلام ينذرهم ويحذرهم من عذاب الله الأليم ... إلّاأنّ اولئك لم يستجيبوا له وتمسكوا بعنادهم وطلبوا منه باصرار أن إذا كنت نبيّاً فليحل بنا عذاب الله «وقد صرحت الآية (٧٧) من سورة الأعراف بأنّهم سألوا نبيّهم نزول العذاب» : (وَقَالُوا يَا صلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

إلّا أنّ صالحاً أجابهم محذراً و (قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ).

إنّ عذاب الله إذا حلّ بساحتكم ختم حياتكم ولا يبقى مجال للإيمان.

تعالوا واختبروا صدق دعوتي في البعد الإيجابي والأمل في رحمة الله في ظل الإيمان به (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وهذا أمر عجيب حقّاً أن يريد الإنسان اختبار صدق دعوة نبيّه عن طريق العقاب المهلك ، لا عن طريق طلب الرحمة.

إنّ هؤلاء القوم المعاندين بدلاً من أن يصغوا لنصيحة نبيّهم ويستجيبوا له ، واجهوه باستنتاجات واهية وكلمات باطلة ... منها أنّهم (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ). ولعل تلك السنة كانت سنة قحط وجدب ، فقالوا : إنّ هذا البلاء والمشاكل والعقبات كلها بسبب قدوم هذا النبي وأصحابه.

لكنه ردّ عليهم و (قَالَ طئِرُكُمْ عِندَ اللهِ) فهو الذي يبتليكم بسبب أعمالكم بهذه المصائب التي أدّت إلى هذه العقوبات.

في الحقيقة إنّ ذلك اختبار وامتحان إلهي كبير لكم ، أجل : (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ).

٤٧٦

هذه امتحانات وفتن إلهية ... هذه إنذارات وتنبيهات لينتبه ـ من فيهم اللياقة من غفلتهم ، ويصلحوا انحرافهم ويتجهوا نحو الله.

(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣)

تآمر تسعة رهط في وادي القرى : نقرأ هنا قسماً آخر من قصة صالح وقومه ، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته ، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل صالح من قِبل تسعة «رهط» من المنافقين والكفار ، وفشل هذا التآمر في وادي القرى منطقة النبي صالح وقومه. يقول القرآن في هذا الشأن : (وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ). «الرهط» : يعني في اللغة الجماعة التي تقلّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين ، فإنّه يتّضح أنّ كلّا من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص ، وقد اجتمعوا على أمر واحد ، وهو الإفساد في الأرض والاخلال بالمجتمع (ونظامه الاجتماعي) ومبادىء العقيدة والأخلاق فيه.

ولا ريب أنّ ظهور «صالح» بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم ، ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم : (قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصدِقُونَ).

الطريف أنّ اولئك كانوا يقسمون بالله ، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون بالله ، مع أنّهم يعبدون الأصنام ، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمة.

جاء في التواريخ أنّ المؤامرة كانت بهذه الصورة ، وهي أنّ جبلاً كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح ، وكان يأتيه ليلاً بعض الأحيان يعبد الله فيه ويتضرع إليه ،

٤٧٧

فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل ، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثم يعودوا إلى بيوتهم ، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.

فلما كمنوا في زاوية واختبأوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض ، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال.

لذلك يقول القرآن في الآية التالية : (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَايَشْعُرُونَ).

ثم يضيف قائلاً : (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ).

وكلمة «مكر» تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الإهتداء إلى أمر ما .. ولا تختص بالامور التي تجلب الضرر ، بل تستعمل بما يضر وما ينفع .. فإذا نسبت هذه الكلمة إلى الله فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل الآخرين.

ثم يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا). أجل ، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم ، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعاً (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

إلّا أنّ الأخضر لم يحترق باليابس ، والأبرياء لم يؤخدوا بجرم الأشقياء ... بل سلم المتقون (وَأَنجَيْنَا الَّذِينَءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).

(وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٥٥)

انحراف قوم لوط : إنّ النبي الخامس الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة : نبي الله العظيم «لوط». يقول القرآن في الآيتين محل البحث أوّلاً : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ). «الفاحشة» : تعني الأعمال السيئة القبيحة ، والمراد منها الإنحراف الجنسي وعمل اللواط المخزي.

ثم يضيف القرآن قائلاً : (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النّسَاءِ).

ولكي يتّضح بأنّ الدافع على هذا العمل هو الجهل ، فالقرآن يضيف قائلاً : (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).

٤٧٨

تجهلون بالله ، وتجهلون هدف الخلق ونواميسه ، وتجهلون آثار هذا الذنب وعواقبه الوخيمة.

(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمْ يُشْرِكُونَ) (٥٩)

عندما تعدّ الطهارة عيباً كبيراً : والآن ، لنستمع إلى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق «لوط». يقول القرآن : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُواءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ). فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد.

جاء في الروايات أنّ لوطاً كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاماً وينصحهم ، إلّاأنّه لم يؤمن به إلّاأسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم.

بديهي أنّ مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا ، فينبغي أن يطوى «طومار» حياتهم ، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن : (فَأَنجَيْنهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنهَا مِنَ الْغبِرِينَ) (١).

وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين «سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد» فلما أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء ، وتزلزت الأرض بهم ، فدفنوا جميعاً تحت الحجارة والأنقاض ، وإلى هذا تشير الآية التالية : (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ).

وفي آخر آية من الآيات محل البحث ، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه المنحرفين ، يتوجه الخطاب إلى النبي الكريم «محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليستنتج ممّا سبق ، فيقول له : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).

الحمد والثناء الخاص لله ، لأنّه أهلك امماً مفسدين كقوم لوط ، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم.

ثم يضيف قائلاً : (وَسَلمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى).

سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود ، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين

__________________

(١) «الغابرين» : جمع الغابر ومعناه هنا الباقي من الذاهبين من المكان.

٤٧٩

وعباد الله الصالحين ، ومن والاهم بإحسان.

ثم يقول : (ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ).

(أَمْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٦٤)

أمع كل هذه الأدلة ما تزالون مشركين : في آخر آية من آيات البحث السابق ، القي هذا السؤال الوجيز المتين : (ءَاللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ). أمّا في الآيات محل البحث فتفصّل السؤال .. وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة ، لتناقش المشركين وتحاكمهم ، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلاً.

فالآية الاولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض ، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه ، فتقول : هل أنّ معبوداتكم أفضل (أَمَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ).

«الحدائق» : جمع «الحديقة» ، وهي البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط ، وله ماء كاف ؛ و «البهجة» : معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.

ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول : (مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا).

فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض ، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة ، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض ، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة

٤٨٠