نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

وحجر القوف الذي تعمل منه الأرحاء ، ولكل نوع منها مقطع خاص به في ضاحية حلب. والغالب أن تكون الدار المعتبرة عند أكثر قدماء الحلبيين رحبة يسمونها صحنا مفروشة بالرخام الملون ، مساحتها عشرون ذراعا في مثلها أو أكثر. في جهتها الجنوبية المتجهة للشمال إيوان ، في كل من جانبيه وصدره بيت يعرف بالقبة. وقد يكون فوقه غرفة تعرف بالمربع. وتحته قبو يعرف بالمغارة يهبط إليها بدركات. وتجاه الإيوان حوض يجري إليه الماء من القناة أو من حاصل يملأ من بئر الدار. ووراء الحوض دكة يسمونها مصطبة. وراءها أو في كل من جانبيها حديقة فيها أشجار من الفصيلة العالية الدائمة النضارة والاخضرار ، وفوق هذه الدكة عريش جميل الصناعة ، عرش عليه الياسمين أو ما هو من فصيلته ، وفي كل جهة من بقية جهات الصحن بيوت قائمة على مغاير معدة لحفظ المؤونات.

أما الدور العظيمة القديمة ، فالغالب أن تكون جهتها الموجهة إلى الجنوب خالية من الغرف والخلوات ، كأنهم كانوا يتحاشون من البناء في هذه الجهة فرارا من حرها في فصل الصيف لأن الشمس تتسلط عليها أكثر من تسلطها على غيرها من بقية الجهات. ثم إن الدار العظيمة قد يكون فوق كل مسكن منها غرفة عالية تعرف بالمربع ، سوى البيت القائم في الجهة الغربية الموجهة شرقا ، فالغالب خلوّ سطحه عن الغرفة دفعا لمعارضة الهواء الغربي. وفي الدور العظام القديمة قد تكون الجهة الموجهة جنوبا معمورة بقاعة ذات أواوين وغرف فسيحة الرحاب عالية القباب واسعة العتبة ، فيها حويض يعرف بالفسقيّة (١). وقد يكون في مثل هذه الدار حمام مختص بسكانها ، والبعض من هذه الدور يكون فوق إحدى جهاتها عدة غرف. تجاهها مصيف سماوي أو مسقوف يعرف ذلك بالديوانخانة. وفيها ما يكون فيه بيت سقفه قبة مستطيلة معقودة بالقرميد أو الحجر ، فيها نحو مائة نافذة صغيرة مسدودة بطاسات من الزجاج الكثيف الملون ، يعرف هذا البيت بالثكنة وفيها ما له دار صغيرة تعرف بدار المطبخ معدة للطبخ وسكنى الطباخ والخدم. وهذه الدار كلها يقال لها الحرم. ويتصل بها غالبا دار دونها في العظم وعدد المساكن لها مدخل مختص بها ، يقال لها القناق أو الأوطة ، معدّة لنزل المسافرين ومجالسة الأحباب وأصحاب المصالح ، فترى الرجل عندنا ممتّعا من داره بجنّة دائمة يتنقل فيها في كل فصل إلى ما يلائمه من المساكن. والمرأة المحتجبة تنال

__________________

(١) في الأصل : «بالفستقة» خطأ. والفسقية : حوض من الرخام ونحوه ، مستدير ، ذو نافورة.

٨١

النزهة والنشاط ، وهي في دارها الحصينة التي لا تصل إليها عين أجنبي منتفعة منها بأرضها وأسطحتها التي تستعملها حين الحاجة لنشر الحبوب والثياب المغسولة.

وأحسن جهات الدار عندنا هي الجهة الشمالية المفتوحة نوافذها إلى جهة الجنوب ، فإن مساكن هذه الجهة تامة المنفعة ، تستعمل في جميع فصول السنة ، بخلاف الجهة الجنوبية المفتوحة نوافذها للشمال ، فإنها غالبا لا تستعمل إلا في فصل الصيف. على أننا لا ننكر محاسن الدور التي تعمر الآن عندنا في ظاهر المدينة على النسق الجديد ، إذ تكون كل دار منها قصرا مستقلا ذا طبقات ليس لها سماوي سوى ربض (١) صغير يعرف بالجنينة. يحيط به حائط قصير أو مشبّك من الحديد ، كل قصر منها مشرف على جادة عريضة طويلة مستقيمة ، قد روعي في بناء كل قصر منها مشاكلة القصر الذي يليه من جهة هندسته ونقوش حجارته ، حتى كأن جميع هذه القصور مفرغة في قالب واحد. والمحلات التي بيوتها على هذا النسق ، هي مخلة العزيزية ومحلة الجميلية ، ومحلة التلل وغيرها من المحلات التي كلها خارج سور البلدة من شماليها وغربيها.

اعتاد الحلبيون قديما أن يجعلوا البيت من الدار مستطيلا يبلغ طوله إلى بضعة عشر ذراعا. وعرضه إلى بضعة أذرع. وبقدر عرضه يكون ارتفاع سقفه. وفي جداره الذي يلي صحن الدار عدة نوافذ تعرف بالشبابيك ، فوق كل شباك منها نافذة أصغر منه تعرف بالطاقة. ومن محاسن مباني حلب خاناتها الشهيرة الكثيرة التي ترى كل خان منها يضاهي محلة كبيرة بسعته ، وعدد مخادعه ومرافقه ومسجده وحوضه. وهو بحصانته ومنعته يضاهي حصنا منيعا. وكل مخدع من علوه وسفله كأنه دار مستقلة قد اشتمل داخله على مخازن معدة لاحتكار البضائع ، وخارجه على حجر معدة لوضع نموذج البضائع وجلوس التّاجر وكتابته ونومه وسكنى خادمه وطبخه واستقبال زبونه وأحبابه. فهو فيه على غاية الراحة والأمن والاطمئنان على ماله ونفسه ودوابه.

ومن محاسن حلب أزقتها وشوارعها فهي وإن لم تكن كلها عريضة مستوية إلا أن جميعها مفروش بالبلاط فرشا مسطحا لطيفا. فتراها في كل فصل من فصول السنة نظيفة بيضاء لا ينغض المارة فيها غبار الصيف ولا وحل الشتاء. على أنها منذ سنة ١٣٠٠ بدأ

__________________

(١) الربض ، في الأصل : ما حول المدينة. والمراد هنا الحديقة الصغيرة الملحقة بالبناء ، أو حوله.

٨٢

فيها افتتاح جوادّ (١) عظيمة ، حتى انفردت الآن بجادّة الخندق التي رأسها من باب حديد بانقوسا وآخرها محطة الشام ، وهي جادة مستقيمة تبلغ مسافتها أربعة أميال ، قد ازدحم طرفاها بالمباني العظيمة كالدور والفنادق والقهاوي والحوانيت والخانات والمنتزهات مما لا يضاهيها في عمرانها وحسن مناظرها جادة غيرها في بقية الممالك العثمانية.

ومن محاسنها أيضا كثرة أسواقها وإتقان عمارتها وحسن ترتيبها فترى سوقها الكبير المشتمل على زهاء خمسة عشر ألف دكان قد سقف معظمه بالأقبية الحجرية التي لكل مسافة بضعة أذرع منها نافذة للنور والهواء ، فهو بارد في الصيف دافىء في الشتاء ، ليس للشمس والمطر والعواصف إليه من سبيل ، قد اشتمل هذا السوق العظيم على ثنايا ومنعطفات كل ثنية ومنعطف منها تباع فيه بضاعة معلومة. فترى لباعة الجوخ مثلا سوقا ، ولباعة الحرير سوقا ، ولباعة مال القبان سوقا ، ولباعة مال الشام سوقا ولباعة مال استانبول سوقا ، وهكذا بقية البضائع المأكولة كاللّحم ، والخضر ، والبقول ، لكل نوع منها سوق أو خان يخصه.

يوجد في مدينة حلب عدد عظيم من الشوارع والأسواق الضيقة التي تغص بأدنى ازدحام. وسبب ذلك ضيق البلد داخل السور عن سكانه في الأيام القديمة. إذ لا يسعهم أن يعمروا خارج السور لاستيلاء الخوف والجزع عليهم إلا أنه مع هذا كان يوجد عدد عظيم من الساحات والفسحات في أكثر أنحاء البلدة وأرجائها ، فالظاهر أنهم كانوا يتركونها عمدا لتكون لهم ملجأ ومعتصما إذا دهمهم حادث أرضي أو سماوي كالزلزال والحريق ، أو كانوا يتخذونها معتركا في ثوراتهم ، أو يجتمعون فيها لسماع أوامر الحكومة وتنبيهاتها ، أو ليباع فيها بضاعة معلومة ، كالملح ، والحطب ، أو ليقام فيها أسواق يومية ، كسوق يوم الجمعة ، وسوق يوم الأحد أو لغير ذلك من الأغراض والشؤون. والله أعلم بحقيقة الحال.

وأما تربتها فحسبك في مدحها ما سبق لنا بيانه في الكلام عليها فلا نعيده هنا. ولمهارة البساتنة عندنا ترى في البستان الواحد عدة طوائف من الغروس والنباتات ، لكل طائفة منها محل خاص به. فترى أطراف البستان محفوفة بالأشجار التي يعظم حجمها ، كالجوز

__________________

(١) الجوادّ ، بتشديد الدال : جمع جادّة وهي الطريق العريض أو الشارع.

٨٣

والتوت والدلب والصفصاف. والغرض من ذلك كسر سورة الهواء وتنقيته وجذب ما ينبث فيه من الغبار وقاية لبقية الطوائف. ثم ترى أمام هذا السياج صفا من فصيلة الورد ، ثم تراه مقسما لعدة حقول ، في كل حقل منها نوع من الشجر والنبات ، قد رتب على نسق جميل لا يمنع غراسه الشمس والهواء عن غراس بقية الحقول مفروشة أرض الحقل الشجري منها بالبنفسج ، إذا بقيت فيه عامة نهارك لا تراك الشمس ولا تصدك كثرة الريح ولا تضرك قلته. ومن خصائص تربة حلب العنب والتين والبطيخ بنوعيه. وسنتكلم على هذه الأنواع في الفصل الذي تكلمنا فيه على نباتات حلب. وبالحقيقة أن جميع فواكه حلب وبقولها وخضرها في منتهى طبقات الجودة سوى قليل منها.

وأما جمال أبنائها فكثيرا ما سمعت من بعض أولي الأنظار النقادة من السّواح (١) والأغراب وسكان القسطنطينية أن جمال حلب أكثر من جمال الروم المشهورة بالجمال. وقال الدكتور فنديك في كتابه المرآة الوضية في الكرة الأرضية : إن أهل حلب أجمل من جميع سكان البلاد العربية. وترى النساء مع هذه المحاسن البديعة على غاية من العفة والأدب والصيانة والطاعة لأزواجهن ، والرضاء باليسير والقناعة بمعايشهن والقيام بخدمة أزواجهن وأولادهن ومنزلهن. ولذلك ربما مضى الشهر ولم يرفع للمحكمة الشرعية دعوى بالطلاق ، ومع قلته فإنه لا يصدر إلا من رعاع الناس وغوغائهم. وأما مكارم أخلاق رجالها فحسبك دليلا عليها ما اشتهر عنهم من الميل إلى الغريب والولع بأولي الفضائل.

ومن مزاياهم الحسنة تودّد أهل الملل الثلاث إلى بعضهم ، وتبادلهم الصداقة والمحبة وحسن التعامل والمعاشرة مع التزام الحشمة والأدب ، وتناصرهم في الغربة ومزيد ألفتهم وحنينهم إلى بعضهم ، غير ناظرين إلى اختلاف مللهم ومذاهبهم ، وهم في إنفاق المال على أهلهم في حالة متوسطة بين الإسراف والتقتير بحكم آية (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ). أما إنفاقهم في الولائم والصدقات فلربما اصطنع أحدهم وليمة دعا إليها عشرة أشخاص مثلا لكنه هيأ من الطعام ما يقوم بكفاية مائة شخص. وهم أهل تدبير في معائشهم يحتكر الرجل منهم مؤونة عامه في بيته. فيرفع كل نوع منها في وقته المعين ، فلا يبقى محتاجا إلا إلى اللحم الغريض (٢) والخضرة والفاكهة الغضّة.

__________________

(١) الصواب «السّيّاح» جمع سائح ، وفعله يائي العين : ساح يسيح.

(٢) أي الطري ، الجديد «الطازج».

٨٤

وأما دينهم ومروءتهم فيكفيك بالاستدلال عليهما أن حلب مهما كثرت فيها أسباب الفساد أخيرا ، فهي بذلك لم تزل دون بقية البلاد التي تضاهيها بالسعة والثروة. وأهل حلب لأولياء الأمور من أطوع خلق الله تعالى وألينهم عريكة وأقلهم معارضة. حتى قال دارفيو في تذكرته السابق ذكرها : لا يبعد عندي أن تكون هذه المدينة سميت بحلب أخذا من ملاءمة أخلاق أهلها. فكأن شمائلهم الحلب الذي يساغ في الخلق بأدنى كلفة. قلت : ومن حسن شمائل أهل حلب إقبالهم على أعمالهم وقناعتهم بالارتزاق من تجارتهم وقلة تهافتهم على وظائف الحكومة. والغالب عليهم حسن الخلق وسلامة الصدر من المكر والخديعة وصفاء الألوان وجودة الأفكار ودقة الأنظار ، واستعمال الروية وترك العجلة والتهور فيما يبهم أمره وتجهل عاقبته عليهم.

وأما رخص أسعار بضائعها من المأكولات وغيرها قبل الحرب العامة فيغنينا عن إطالة الكلام فيه إيراد نموذج يعرف منه أيضا سعر ما لم نذكره من بقية بضائعها فنقول :

إذا كانت السنة متوسطة أي كانت حالتها دون الخصب وفوق الجدب بيع فيها الشنبل من أعلى أنواع القمح بخمسة وسبعين قرشا. ومن الشعير كذلك بأربعين. ومن العدس بخمسة وستين. وبيع القنطار من الفحم الجيد بمائة وخمسة وعشرين قرشا ، ومن الحطب السنديان بسبعين ، وبيع الرطل من لحم الضأن المسمّن الجيد الخالص من العظم بخمسة عشر قرشا ، ومن زيت الزيتون العذب الصافي والعسل المصفى الأبيض والصابون الحلبي الجيد باثني عشر قرشا. ومن السمن الحديدي الذي لا نظير له في غير حلب بخمسة وثلاثين قرشا ، ومن الدبس العينتابي الجيد بثمانية قروش ، ومن أعلى أنواع العنب بثلاثة قروش ، ومن البطيخ والخيار والمشمش والفاولة والتوت والجانرك والرمان والتفاح والقرع السلاحي والبصل والعجور والبرقوق والإجّاص والخوخ والدرّاقن والسفرجل بقرش ونصف القرش.

وأما منسوجاتها فإن الرجل الفقير كان قبل الحرب العامة يمكنه أن يعمل منها في السنة أربعة أثواب من نسيج حلب ، بطانتها من البزّ الفرنجي يصرف عليها ثمانين قرشا تكفيه عامة عامه. أما أجور البيوت والمنازل في حلب فقد كانت في حلب رخيصة جدا لأن الدار المشتملة على أربعة مساكن مع بقية المرافق والمنافع تؤجر عن سنة كاملة في متوسط

٨٥

محلات حلب بألف ومائتي قرش. ومثل هذه الدار في بعض محلاتها المتطرفة ربما كانت لا تزيد أجرتها في السنة على خمسمائة قرش. هذا كله كان قبل حدوث الحرب العامة بقليل ، حينما كان الذهب العثماني يعتبر بمائة وسبعة وعشرين قرشا. أما الآن فإن أسعار البضائع المذكورة قد تضاعفت ، أي صارت مثلين إذا اعتبرنا الذهب المذكور بمائة وسبعة وعشرين ، وإلى أربعة أمثال إذا اعتبرناه بمائتين وثمانين قرشا كما هو معتبر الآن. على أن بعض البضائع ينقص عن هذا المعدل قليلا ، وبعضها يزيد قليلا سوى أجور المنازل والحوانيت فإنها تزيد زيادة منكرة لم يسبق لها نظير فإن الدار التي كانت أجرتها السنوية اثني عشر ذهبا عثمانيا تبلغ أجرتها الآن ستين أو سبعين ذهبا. وسبب ذلك كثرة وجود المهاجرين الأرمن وغيرهم المقدّر عددهم بستين ألف نسمة.

أما عظمة حلب واتساعها فحسبنا ما قاله في ذلك باترك روسل : إن مدينة حلب تستحق أن تعد في المملكة العثمانية بعد استانبول ومصر بعظمتهما وإن كانت فوقهما بإتقان البناء والنظافة وحسن المنظر.

وأما منتزهاتها فحسبنا منها ما ذكره الصنوبري في قصيدته التي أثبتناها في ترجمته. وزد عليها الآن جادة الجسر الجديد وغيره. وأما مبانيها العلمية والخيرية فهي مما لا يضاهيها بذلك مدينة لأنه يوجد فيها من هذه المباني في محلة واحدة ما لا يوجد في غيرها من المدن التي تعد في السعة من مرتبتها. وسيرد عليك في باب الآثار ما تعلم منه صحة قولنا ، فقد عددنا في محلة الجلوم فقط نيّفا وثلاثين أثرا ، ما بين مسجد وجامع ومدرسة وبيمارستان وتكيّة ومكتب وسبيل ماء.

الأوزان والمقاييس والكيول المستعملة في حلب

الرطل الذي كان مستعملا في حلب منذ خمسمائة سنة أو أكثر يزن (٧٢٠) درهما ويقسم إلى (١٢) وقية ، كل وقية (٦٠) درهما ، كل درهم (١٦) قيراطا ، كل قيراط (٤) قمحات. وكان ولم يزل يسمى كل مائة رطل قنطارا. ثم لمّا استولى المرحوم إبراهيم باشا المصري على حلب ، ألزم أهلها بأن يستعملوا الحقّة التي تزن أربعمائة درهم ، وهي المعروفة في زماننا بالأقّة العتيقة. ونحن نصطلح تسميتها بالحقّة ، لكن دراهمها كانت تنقص عن دراهم الرطل الحلبي القديم أربعة في المائة. وبعد انجلاء إبراهيم باشا عن هذه البلاد ،

٨٦

عاد الحلبيون لاستعمال الرطل القديم. حتى حضر إلى حلب من قبل الدولة العثمانية رجل عرف بوقته بالمبايعجي لشراء النقود الذهبية والفضية وتعديل الأوزان ، فزاد الرطل الحلبي درهمين في كل مائة درهم منه. وبقي اعتباره سبعمائة وعشرين درهما.

وفي سنة ١٢٦٤ تقريبا أمر الوالي أن يرجع الناس إلى استعمال الحقّة لتتساوى أوزانهم مع أوزان استانبول. ثم أشار عليه بعض خلصائه أن يرخص للناس باستعمال الرطل لكنه يزيد فيه ثمانين درهما. فيساوي نصفه حقّة فعمل بما أشار به إليه وجعل الرطل ثمانمائة درهم. وقسمه إلى ١٢ وقية كل وقية ٦٦ درهما وثلثا الدرهم. واستمر الحال على هذا المنوال إلى حدود سنة ١٢٧٧ وفيها تصاعدت أسعار النقود في حلب حتى بلغ الذهب العثماني مائة وأربعة وثلاثين قرشا وثلث القرش ، والمجيدي ستة وعشرين قرشا وثلاثة أرباع القرش. وعلى هذه النسبة ارتفعت أسعار بقية النقود فأضرت هذه الحالة بالتجارة والصناعة والأجورات ، واجتمع التجار وطلبوا من الوالي إرجاع النقود إلى ما كانت عليه وكان سعر الذهب العثماني قبلا مائة قرش ، والمجيدي عشرين قرشا. فامتنع الوالي من إجابتهم زاعما أن رجوع أسعار النقود إلى أصلها مع بقاء أسعار البضائع على حالتها الراهنة مما يوجب ضرر الفقراء ، قائلا : إن الرأي عندي إذا كان ولا بد من إرجاع النقود إلى أصلها أن يزاد في الأوزان حتى يكسب الفقير من البضائع قدر ما يخسره من النقود. ثم أمر أن يزاد في الرطل مائتا درهم حتى يكون ألف درهم من دراهم أوزان المبايعجي المذكورة آنفا ، وأن يقسم هذا الرطل إلى عشرة (١) أواق ، كل أوقية مائة درهم من الدراهم المذكورة. غير أن الحداد الذي عدل هذا الرطل لم يكن ماهرا. ولذا ظهر الخلل في الأوزان مع بعضها وفي القبان بالنسبة إليها.

ودام ذلك إلى زمن تنظيم حالة الولاية في أيام المرحوم جودت باشا. حيث أسس المجلس البلدي الذي يعد تصليح الأوزان من أجل وظائفه. فعيّن حدادا ماهرا وأمره أن يعدل الأوزان على الدراهم التي يزان بها الذهب والحرير وهي تزيد على دراهم المبايعجي درهمين في المائة تقريبا. وعليه بلغ الرطل ألفا وسبعة عشر درهما ونصف الدرهم من دراهم المبايعجي ، مع أنه لم يزد على ألف درهم من دراهم الحرير والذهب. وحينئذ استقام الرطل

__________________

(١) الصواب «عشر» لأنها تخالف المعدود ، وهو هنا مؤنث.

٨٧

واستوى درهم الحرير والذهب بدرهم سائر البضائع وعدّل القبان على هذه النسبة واستمر هذا الحال إلى يومنا هذا. وقد جرت العادة أن يتخذوا الأوزان من الحديد والصّفر. وبعض باعة الفحم والحطب وغيرهما من الموزونات الكبيرة الحجم يتخذونها من الحجارة. وقد اصطلح الحلبيون على أن يسموا كل مائة رطل من هذه الأرطال المعروف واحدها بالرطل الجديد قنطارا جديدا ، وكل مائتي حقّة تزن ٤٠٠ درهم من دراهم استانبول قنطارا عتيقا. وأكثر من يستعمله التجار في أجور نقل البضائع وغيرها.

أما المقاييس المستعملة في حلب ، فهي على أربعة أضرب :

الأول : ذراع المعمار أو النجار وهو خاص بالبنائين والنجارين ، يستعينون به على أعمالهم ، وباعتباره يتقبلون الأعمال مع الناس في فرش الأرض بالبلاط وتعمير الجدران ومجاري المياه وغير ذلك. وهو ينقسم إلى أربعة وعشرين قيراطا ويستعملونه من الخشب ويجعلونه ذا أربعة أضلاع ، عرض كل ضلع قيراط منه غالبا.

الثاني : ذراع القماش. وهو دون ذراع المعمار بقيراطين ونصف من قراريطه. وينقسم إلى نصف ، وثلث ، وربع ، وسدس ، وثمن ، ونصف الثمن ، ويسمى شاهية. والأتراك يسمونه كراخا. وهذا الذراع ليس من الضبط على شيء إذ قلما يتفق ذراعات ولا يوجد بينهما فرق.

الثالث : ذراع الجوخ وهو خاص بكيل الجوخ. وهو أقصر من ذراع القماش بقليل كما ستعرفه.

الرابع : الهنداسة ، وهي خاصة ببعض الخياطين يستعملونها بتفاصيل الثياب وتنقص عن ذراع القماش شاهية ، وهي والذراعان اللذان قبلهما يكونان من الحديد. وكل هذه الأذرع قديمة لم نعلم بها تغييرا منذ القدم.

أما الكيول : فإنها كانت قبل سنة ١٢٧٧ أصغر مما هي عليه الآن إذ كان يبلغ الشنبل ثمانيا وأربعين حقّة ، تزن أربعة وعشرين رطلا من أرطال تلك الأيام. فلما زادت الأوزان بعد التاريخ المذكور كما قدمناه ، أضيف للشنبل اثنتا عشرة حقّة ، فصار يبلغ ستين حقة ، تزن أربعة وعشرين رطلا من الأرطال الجديدة. ثم لما تنظمت الولاية وأسس المجلس

٨٨

البلدي. صار يزيد فيه وينقص منه حسب رأيه. وتكرر منه هذا العمل عدة مرات حتى استقر الآن ٣٤ ـ ٣٥ رطلا جديدا من الحنطة النقية الجيدة التي لا يعلو عليها حنطة. ثم إن الشنبل ينقسم إلى جزءين. كل جزء منهما يقال له قلبة في اصطلاح الكيالين. والقلبة هي الكيل الخشبي الذي يكال به الحب ، والناس يسمونه نصف شنبل. وإلى أربعة أجزاء ، كل جزء يسمى كيلا. وإلى ثمانية أجزاء كل جزء يسمى ثمنيّة. وإلى ستة عشر جزءا ، كل جزء يسمى قيراطة. ولا يوجد كيل يكال به الشنبل دفعة واحدة إنما يكال بالقلبة على مرتين أو بما هو أصغر منه على حسب اللزوم.

نسبة مقادير الأوزان والكيول والمقاييس إلى المتر

لما كانت معرفة مقادير الأوزان والمقاييس والكيول على وجه الضبط والتدقيق لا تتم إلا بتطبيقها على أشهر مقياس في العالم ؛ فقد رأينا أن نحرر الأوزان الحلبية ومقاييسها وكيولها على المتر الفرنسوي الذي هو غاية بالضبط والتحرير. وهو كلمة يونانية معناها المقياس ، قالوا إنه يساوي جزءا من عشرة ملايين جزء من ربع محيط دائرة الأرض الذي هو ما بين القطب إلى خط الاستواء. وقد قسموه إلى عشرة أجزاء ، سموا كل جزء منها (ديسي متر) أي عشر المتر. وقسموا كل ديسي متر إلى عشرة أجزاء ، سموا كل جزء منها (سنتيمتر) أي عشر عشر. وقسموا كل سنتيمتر إلى عشرة أجزاء سموا كل جزء منها (ميللي متر) أي عشر عشر عشر المتر ، أي جزءا من ألف جزء من المتر. وسموا كل عشرة أمتار (ديكا متر). وكل عشرة ديكا متر (إيكتو متر). وكل عشرة إيكتو متر (كيلو متر). وكل عشرة كيلو متر (ميريا متر). وقد اصطلحت الدولة العثمانية على تسمية ديسي متر بعشر الذراع. وعلى تسمية السانتيمتر بعشير الذراع. وتسمية الميللي متر بمعشار الذراع. وتسمية الكيلومتر بالميل الإعشاري. وتسمية الميريا متر بالفرسخ الإعشاري. وقد حرر الأوروبيون على هذا المتر الكيلو الذي هو الوزن العام أيضا. وذلك أنهم اعتبروا الكيلو ألف جزء ، ويعرف أيضا بالأفّة الجديدة. وسموا كل واحد من أجزائه غراما. واعتبروا الغرام وزنا يساوي ملء مكعب سانتيمتر من الماء المقطر البالغة حرارته أربع درجات. وقسموا الغرام إلى مائة جزء سموا كل واحد منها سانتيغراما ، وإلى ألف

٨٩

جزء سموا كل واحد منها ميلغراما. وكانت الحكومة العثمانية تستعمل مقياسا ذراعيا تسميه دونما ، وهو جديد مساحته ١٦٠٠ أو عتيق مساحته ٩٠٠ ذراع معماري مربع.

وهاك بيانا في نسبة الأوزان المعتبرة عندنا اليوم إلى الكيلو وأقسامه :

وهي الرطل الحلبي الجديد يساوي ٣ كيلو و ٢٠٧ غرامات و ٤ سانتيغرام. والوقيّة وهي قسم من عشرة أقسام من الرطل المذكور تساوي ٣٢٠ غراما و ٧ سانتيغرام. والدرهم الذي هو جزء من مائة جزء من الوقية يساوي ٣ غرامات و ٢٠٧ ميلغرام. والقيراط يساوي ٢٠ سانتيغرام. والقمحة تساوي ٥ سانتيغرام.

وهناك بيانا آخر في نسبة المقاييس والكيول المعتبرة اليوم عندنا إلى المتر وأقسامه وهي: ذراع القماش يساوي ٦٩ سنتيمتر و ٥ مليمتر. والشاهية منه تساوي ٤٢ مليمتر. وذراع الجوخ يساوي ٩٨ سنتيمتر. والشاهية منه تساوي ٤٢ مليمتر. وذراع المعمار أو النجار يساوي ٧٦ سنتيمتر و ٥ مليمتر. والقيراط منه يساوي ٣٢ مليمتر. والهنداسة تساوي ٦٥ سنتيمتر و ٢ مليمتر. والقلبة التي هي نصف شنبل ، عمق فراغها ٣٣ سنتيمتر وقطره ٤٩ سنتيمتر.

أوزان البلدان التابعة ولاية حلب

أوزان البلدان التابعة ولاية حلب المخالفة لأوزانها أيام الحكومة العثمانية هي : أورفة : قنطارها ٣٠ رطلا ، كل رطل ست حقق ، كل حقة ٤٠٠ درهم من دراهم إستانبول ، ويسمى هذا الرطل خندكاري ، أي سلطاني ، وبيره جك ، وهي البيرة وسروج رطلهما ١٢ وقية ، والوقية ٦٧ درهما ، وروم قلعة ، رطلها ٣٠ حقة ، كل حقة ٤٠٠ درهم ، ومرعش ، رطلها الخندكاري كرطل أورفة والوطني حقتان ، وأندرين ، رطلها ١٢ وقية ، كل وقية ٢٠٠ درهم ، ومثلها البستان ، والزيتون ، رطلها ١٢ وقية ، كل وقية ٨٤ درهما ، وأنطاكية ، شنبلها ١٦ علبة ، كل علبة ٢٢ حقة ، وجسر الشغر ، كيلتها ٢٢ علبة ، كل علبة ١٦ حقة ، وناحية الأردو ، كيلتها ١٦ علبة ، كل علبة ١٦ حقة ، والمعرة ، كيلتها ٤ قراريط ، كل قيراط أقة ، كل أقة ٥٠٠ درهم ، وأورفة ، كيلتها ٨ أثمان ، الثمن ١٠ حقق ، الحقة ٤٠٠ درهم ، وروم قلعة ، كيلتها شنبلان ، الشنبل أربعة أثمان ، كل

٩٠

ثمن حقة ، وسروج ، كيلتها ٨ أثمان ، الثمن ١٥ حقة ، ومرعش وزيتون وبازرجق ، كيلتها ١٦ قيراط ، القيراط ١٦ حقة ، والبستان ، كيلتها اسمه سلمه ، ٦ حقق ونصف ، وأندرين ، كيلها اسمه طاس ٦ حقق ، وناحية كوكسون كيلها اسمه سلمه ٦ حقق وبيلان علبتها ٢٠ حقة.

السلع التي توزن بغير الرطل الجديد

يوجد عندنا كثير من السلع والبضائع التي توزن برطل قديم زنته ٦٠٠ درهم. وربما استدل من هذا على أنه هو الرطل الذي كان معتبرا قبل الرطل الذي دراهمه ٧٢٠ درهما ، والبضائع التي لم تزل توزن به ، هي الكافور الهندي والبخور الجاوري ودرهمه مساو درهم الرطل المذكور ، ومن ذلك الحرير فإنه يوزن بالدرهم المساوي درهم الرطل الجديد الحالي ، وكل ألف درهم منه يسمونه وزنة ، والذهب واللؤلؤ والمسك والعنبر وعطر الورد توزن بالمثقال المساوي أربعة وعشرين قيراطا ، كل قيراط يزن خمس قمحات ، والفضة توزن بالدرهم ، وكل ألف وثمانمائة درهم منها يسمونها رشقا ، والقرمز يوزن بالأقة التي استعملها الناس في أيام المرحوم إبراهيم باشا المصري ، والنيل لم يزل يوزن بالرطل القديم الذي زنته ٧٢٠ درهما ، وجميع البضائع الافرنجية ، وكالسكاكر والبهار والقصدير ، يبتاعها تاجر السوق بالرطل الذي هو ٨٠٠ درهم ، ثم يبيعها على حساب الرطل الحالي ، والرطل المذكور الذي هو ٨٠٠ درهم هو المعتبر أيضا عند المكارية في أحمالهم ، والمستعمل عند الأطباء هو الكيلو والغرام وأقسامهما. والله سبحانه وتعالى أعلم.

الكلام على النقود

كل من عرف اختلاف الناس بتقدير أسعار النقود القديمة التي ذكرها الواقفون في كتبهم ـ كالأقجة والشاهية والعثماني والأسدي وزر محبوب ـ يرى من الواجب أن نتكلم على النقود المستعملة في زماننا والذي قبله بقليل ، وأن نسلك في بيان أسعارها طريقة تحفظ معرفتها إذا استبدلت بغيرها وفقدت من عالم الوجود حفظا على المقادير التي أرادها منها الواقفون فيما شرطوه لذراريهم ، أو للوظائف الدينية والنفقات الخيرية ، حيث اعتبروا النقد المعروف في زمانهم المسمى بالقرش. فنقول على أوجه الاختصار :

٩١

إن عمدة النقود المستعملة في زماننا وما قبله بقليل بل المستعملة في سائر البلاد العثمانية هي الذهب العثماني المعروف بالليرة والريال المعروف بالمجيدي. فأما الذهب المذكور فعياره من أربعة وعشرين ، واحد وعشرون قيراطا وقمحة ووزنه درهمان وربع درهم أو مثقال ونصف مثقال أو سبع كرامات وتسعة عشر سانتيما. وأما المجيدي فهو من فضة وعياره من مائة : سبعة وسبعون ونصف قيراط ووزنه سبعة دراهم وثلث الدرهم من دراهم حلب وسبعة ونصف من دراهم إستانبول ، أو أربعة وعشرون غراما وثمان سانتيمات. وقد اعتبرت الحكومة الليرة مائة قرش والمجيدي تسعة عشر قرشا واعتبرت كل قرش أربعين جزءا سمته بارة بدون نقص ولا زيادة أخذا وإعطاء وأما التجار والباعة وبقية الناس فهم يتداولون بينهم الليرة والمجيدي المذكورين بحسب أسعار الذهب والفضة فهم فيما فوق سعرهما المعتبر عند الحكومة الذي ذكرناه هنا يزيدون فيهما وينقصون.

النقود القديمة

قرأت في بعض صحف الأخبار أن الأقجة كانت قبل القرن الثاني عشر تزن ثلث الدرهم وكان كل ٦٠ منها يساوي عملة تدعى قزل قروشي ، أي القرش الأحمر ، أو فلوري وهو ذهب النجمة. فلو فرضنا أن درهم الفضة يباع باثنتين وسبعين بارة ، كانت قيمة هذا الذهب ٣٦ قرشا من قروش أيامنا المقدّر كل واحد منها بأربعين بارة. ثم في عهد السلطان محمد الثالث تدنت قيمة الأقجة فصار كل ست منها يساوي درهم فضة. ثم اختل أمر السكة وكثر غشّها فضربت سكة جديدة على الترتيب الموجود في زماننا إذ جعل القرش أربعين بارة والبارة ثلاث أقجات. قلت : الأقجة كلمة تركية معناها القطعة ، كالبارة.

الصنائع في حلب

أما الصنائع القديمة التي كانت في حلب ثم انقرضت وفقد أهلها فسأنبه على ما علمته منها. وأما الصنائع الحاضرة الموجودة في حلب فكثيرة ، وأعظمها بل هي التي عليها مدار تعيّش السواد الأعظم من أهل حلب ، هي صنعة نسج الأقمشة فقد كان يوجد لها في حلب نحو خمسة عشر ألف منوال. ثم أخذ هذا العدد بالتناقص حتى انحط في هذه الأيام إلى نحو ألفي منوال يحاك عليها القطنية والغزلية المعروفة بآلاجه ، والحريرية المعروفة

٩٢

بالجتارة ، والمقصبة المعروفة بالمسيخ والدوناطو وشغل الليل والدامسقو الدمشقي وتقليد الشال العجمي والأزر الحريرية المقصبة ، والملاحف المتنوعة الحريرية المقصبة والغزلية الموشاة والمناديل الحريرية والمقصبة المعروفة بالبوشية التي يعتمّ بها بعض الشبان من المحلات المتطرفة وأنواع العباءات الحريرية والصوفية والغزلية مقصبة وغيرها. وهذه الصنعة لم أقف على ابتداء دخولها إلى حلب ، وهي الآن منحطة جدا عما كانت عليه قبلا. فقد كان يوجد لها في حلب من نحو خمسين سنة تقريبا زهاء خمسة عشر ألف منوال كما أسلفنا ذكره ولا يخفى ما كان ينتج عن ذلك للحلبيين من المنافع والفوائد إذ كان يلزم لتشغيل كل منوال منها لا أقل من أربعة أشخاص من الصناع والعملة ، ما بين حائك ومسدّ وصبّاغ وفتال ودقّاق وشطاف وقصار وصقّال ، لا جرم أنه كان ينتفع منها ستون ألف نسمة ما بين غني وفقير وكبير وصغير وذكر وأنثى.

وكانت هذه الأقمشة تنتقل من حلب إلى سائر البلاد شرقا وغربا وتربح أرباحا عظيمة تستحق الذكر وما ذلك إلا لحسنها وإتقانها. وأما أسباب انحطاطها فكثيرة منها التفات الناس إلى استعمال الأقمشة الافرنجية لزخرفتها ورخصها ، وإن كانت سريعة التلف وعديمة الاحتمال ومنها تجدد هذه الصنعة في غير حلب من البلاد كعينتاب ومرعش وحمص وديار بكر وخربوط وبعض بلاد الرّوم إيلي التي كان جل رواج أقمشة حلب عليها ، فاستغنت الآن بما عندها بل صارت ترسل أقمشتها إلى غيرها من البلاد وتزاحم بها الحلبيين. ومنها طمع أهلها في إعطائها حقها من الصبغ الثابت ومادة النسج من الجنس الجيد ، وهذا بالحقيقة من أعظم أسباب انحطاطها. ومنها كثرة الضرائب التي وضعتها عليها دولة روسية فقد كان يروج في كثير من ولاياتها جملة وافرة من أقمشة حلب. هذا مجمل الكلام على هذه الصنعة.

وأما بقية الصنائع الموجودة في حلب : فمنها صنعة عمل التيل الفضي الذي يصرف منه مبالغ وافرة في الشرق والغرب كمصر وبغداد وحمص وديار بكر والحجاز واليمن وغيرها ، وبسبب هذه الصنعة في حلب يروج في تجارتها مبلغ وافر من سبائك الفضة ولا يوجد أثر لهذه الصنعة إلا في حلب واستانبول إلا أن أهل حلب أكثر إتقانا لها. ومنها صنعة التطريز والزركشة وهما مختصتان عندنا بالنساء ، ويدخل في الصنعة الأولى منها تطريز العمم المعروفة بتقليد الزنار الهندي ، وهذا النوع ينفذ منه مقدار وافر إلى فلسطين والشام والبلاد الرومية وجزيرة العرب وبعض بلاد الغرب وكثير من الممالك الأوروبية والأميركانية. ومنها

٩٣

صنعة القزّ وتعرف بالعقادة وهي عبارة عن تنويع السلوك الحريرية والغزلية إلى أنواع شتى كالسفائف والبنود والقيطان والأزرار والعرى ، وأكثر من يشتغل في هذه الصنعة النساء.

ومنها صنعة صبغ المناديل التي تستعملها العرب تحت العقال ويعتمّ بها كثير من القرويين والأكراد. وهذه الصنعة كانت في نجاح عظيم ذات أرباح وافرة وكان يخرج منها إلى جزيرة العرب وأرمينية وجبال الأكراد ما لا يدخل تحت إحصاء. ثم في السنين الأخيرة أدركها الانحطاط بسبب تقليد الافرنج لها بما هو أحسن منها زخرفة وأرخص ثمنا. وكان يوجد في حلب نحو خمسين محلا تشغل فيه ، ويعرف محلها بالكرخانة وهي صنعة مركبة ينتفع منها خلق كثير ما بين تاجر بالقماش وأنواع الأصبغة ، وطابع وصبّاغ وشطاف ، ولم يبق الآن لتشغيلها سوى بضع كرخانات. ومنها صنعة الصياغة وتركيب الماس والياقوت وبقية الأحجار الكريمة ويوجد لها نحو خمسين دكانا. وأكثر من يشتغل بها النصارى.

ومنها صناعة الحدادة وهي على نوعين : قديمة وجديدة ، فالقديمة مختصة يعمل المسامير وأزرار الأبواب وشبكات النوافذ. والجديدة منها مختصة بعمل الطرابزونات والموازين والقبّان وتصليح الأقفال وإصلاح بعض أدوات المعامل المتحركة بالبخار والبترول وغيرها. ومنها نوع يشتغل أهلها بتصليح الأسلحة كالبنادق والسيوف والخناجر.

ومنها صنعة النجارة وهي على أنواع : فمنها ما هو مختص بعمل الدواليب والغرافات المائية. ومنها ما هو مختص بعمل آلة الحراثة ومحل ذويها سوق قبو المسلاتية في القرب من باب بانقوسا ، وفي سوق باب النيرب وسوق باب الجنان. ومنها ما هو مختص بتنجير تدفيف البيوت وخزنها وأبوابها وما شاكل ذلك. ومنها ما هو مختص بعمل الأشياء الدقيقة كالصناديق الافرنجية. ومنها ما هو مختص بعمل الأعواد المطربة. وهذا النوع حادث في مدينتنا منذ أربعين سنة.

ومنها صنعة الدباغة ومحلها على نهر قويق في ظاهر باب أنطاكية ، ويدبغ فيها الجلد الأبيض المعروف عندنا بالحور والجلد الأحمر والقرمزي والأصفر. وكان أحد التجار النصارى أحضر من أوروبة مدبغة تدور بالبخار يدبغ فيها الجلد الافرنجي المستعمل للقندرات ، والجلد الذي كان يدبغ فيها لا يربح كثيرا ولا يرغبه الصناع ، فأفلس صاحبها وعطلت مدبغته.

٩٤

ومنها صنعة النعال وهي أنواع : فمنها ما يستعمله الفلاحون وعرب البادية وهو الجزمة الصفراء ذات الساق والخف والبسطار ، وحذاء كلها غليظ جدا. ويقال لصنّاعها الأساكفة وهم مسلمون. ومنها ما يستعمله بعض قدماء النصارى ، وهو أسود على نسق القارب له حذاء غليظ وصنّاعها نصارى. ومنها ما كان يستعمله بعض شيوخ الملل الثلاث وهو البابوج الأصفر ، وقد بطل الآن استعماله. ومنها المست الذي هو خف ساتر لرجل المرأة حتى ركبتها ، كانت تلبسه ضمن البابوج المذكور. ومنها ما يستعمله بعض الناس من الملل الثلاث في فصل الشتاء ضمن النعل الظاهري ، وهو جرموق أسود لطيف يستر الكعب ونصف القدم ويعرف بالقلجين ، أو يستر الكعب والقدم ويزرّ على الرجل بواسطة سلوك ويعرف باللبجين. وصناع هذه الأنواع من الملل الثلاث ، وقد كاد الآن يبطل استعماله. ومنها النعل القرمزي الذي تختلف أنواعه لطافة وكثافة وشكلا وصورة ويعرف بالصرماية ، ومنها ما يستعمله بعض سكان الأطراف والفلاحين ومن يعاني السفر ، وهو الجزمة الحمراء والقرمزية وصناعها مسلمون. وهذه الأنواع كلها يوجد لبيعها زهاء مائة دكان ، وأجمع محل لها السوق المعروف بالقوافخانة وراء قبلية الشافعية من الجامع الكبير. ومن العجب أن هذه الحرفة لم يؤثر في نجاحها ظهور القندرة بل هي لم تزل على ما كانت عليه ، مع أن كثيرا من الناس عندنا اعتاضوا عنها بالقندرة.

ومنها صنعة الحذاء المعروف بالقندرة ، صناعها من الملل الثلاث وهم يحسنونها إتقانا وزخرفة. ومنها صنعة النحاس الأحمر والأصفر يعرف أهلها بالجانجية وهي متقنة عندنا ولأهلها قدرة على عمل جميع الظروف والأواني ولها نحو خمسين دكانا. وأجلّ سوق جامع لها سوق النحاسين بالقرب من مسجد العريان خارج باب النصر وأكثر صناعها نصارى.

ومنها صنعة الخبازة وأهلها متقنون لها فيصنعون أنواع الأخباز اليابسة كالبقسماد والكعك المحمر المعروف عندنا بكعك السخانة وغيرهما من الأخباز التي يتزودها المسافرون وأنواع الأخباز الطرية كالمعروف بالصمون. وهذه الأنواع منها ما يخبز في التنور ومنها ما يخبز في الفرن وهو القسم الأعظم. وصناع الأول مسلمون والثاني من الملل الثلاث. وكثيرون من سكان الأطراف من يستغني عن الخبز بالأجرة ويخبز في تنّور بيته أو على صفحة الحديد المعروفة بالصاج المستعمل عند العرب والأكراد غالبا.

ومنها صنعة الحلوى وهي على نوعين : الأولى : يعرف محلها بالمعصرة ، وعرفت بهذا

٩٥

الاسم لأن فيها يكون اعتصار السيرج من السمسم واستخراج نقيع الزبيب الذي يعقد ويضاف إليه رغاء الجذور المعروفة بعرق الحلاوة ليبيضّ ويكون ناطفا ثم يضاف إليه مقدار معلوم من طحينة السمسم فيصير حلوى تعرف بالحلاوة الطحينية ، ويكثر الناس من أكلها شتاء يأتدمون بها عوضا عن الفواكه. وقد بطل الآن عملها من نقيع الزبيب واعتيض عنه بالسكر وهذه المعاصر قد يباع فيها أيضا نوع من الحلوى المعروفة بالمامونية المركبة من خاص الدقيق والسمن والسكر ، ونوع آخر يعرف بالكرابيج وهي كتل في حجم البيضة أو أصغر تتركب من خاص الدقيق المعروفة بالسميد ومن السمن وتحشى غالبا لبّ الفستق أو اللوز أو الجوز وتقلى بالسيرج أو السمن أو تخبز ثم تغمس بالناطف وتؤكل.

والنوع الثاني من صنعة الحلوى : هي التي يعرف صنّاعها بالشراباتية لأنهم هم الذين يصنعون أنواع الأشربة الحلوة وأنواع الربوب والحلوى التي تؤكل في المواسم والأعياد كالمعروفة بالمعمول والغريبة وأنواع الملبّسات وأعظم محل لمبيعها سوق العطارين يوجد لها فيه نحو ثلاثين دكانا ذووها من المسلمين واليهود فقط. ويوجد في حلب من أنواع الحلوي العجينية شيء كثير يطول شرحه ، أشهرها الحلوى المعروفة في كل البلاد باسم باقلاوة وهذه لفظة مركبة من بامك أي نظيفة ، وهي فارسية ، وحلاوة وهي عربية.

ومنها صنعة الصابون : لها في حلب نحو خمس عشرة مصبنة تشتغل بطبخ الصابون من كانون الأول إلى غاية هيار (١). وصناعها من الملل الثلاث. ويطبخ فيها في سنة الخير زهاء أربعمائة طبخة ومعدل وزن الطبخة الواحدة أربعة عشر قنطارا وستة وخمسون رطلا بالوزن الحلبي وقد تزيد على ذلك. والحلبيون ما زالوا محافظين في هذه الصنعة على إتقانها واجتناب الغش فيها ، ولذلك كان صابونها رائجا في التجارة أكثر من صابون غيرها.

ومنها صنعة الشعيرية المعكرونة ويوجد لعملها آلة تدور بالدوابّ ، يخرج منها أنواع وأشكال من المعكرونة. والمعكرونة قليلة الاستعمال عند الحلبيين وأكثر من يستعملها الأغراب من الفرنج وغيرهم.

ومنها صنعة العرق والخمر وهي مختصة بالنصارى واليهود ويجلب منها مقدار وافر

__________________

(١) هيار : هو شهر «أيّار» أو «مايس».

٩٦

من زحلة وعينتاب ومرعش وأنطاكية وجزيرة سقس. وهذا كله عدا الأنواع الكثيرة التي تستحضر من بلاد الفرنج وتستهلك وأعظمها الكونياك والجعة.

ومنها صنعة غزل القطن والصوف وهي مختصة بنساء الفلاحين وسكان الأطراف وينسج من غزلهما الخام البلدي والعباءات والجرابات التي تعمل باليد ولا يصلح لغير ذلك.

وكان يوجد لغزل القطن معمل كبير يدور على الماء في سيف العاصي مما يلي مدينة أنطاكية وهو معمل عظيم يشتمل على آلات الحلج والغزل والنسج والطي. وكان يخرج منه في كل يوم من الغزل حمل بغل. وكان ابتداء تأسيسه عن يد تجار من اليهود في حدود سنة ١٢٩٠ فصرفوا عليه نفقات باهظة وأحضروه من أوروبا ونفدت ثروتهم ولم يكمل. وكان أكثر ما يصرف غزله في حلب ويباع بثمن دون ثمن الغزل الافرنجي. ثم في سنة ١٣٠٨ أقفل وقد تحطمت أدواته وبيع منها القدر الكثير في حلب وغيرها.

ومنها صنعة حلج القطن وهي مختصة بسكان الأطراف من المسلمين يباشرونها في دواليب بسيطة تدار بأيديهم أو بأرجلهم. وكان وجد لها آلة افرنجية تدور على ماء نهر قويق قد نصبت في أحد الطواحين واشتغلت مدة ثم تعطلت. ثم وجد بعدها كثير من المحالج الافرنجية التي تتحرك بقوة النار ولم تزل حتى الآن.

ومنها صنعة فتل حبال القنّب وهي متقنة عندنا جدا وأهلها مسلمون ، ومحل بيعها سوق الحبّالين وراء قبلية الحنفية من الجامع الكبير فيوجد لها بهذا السوق نحو أربعين دكانا.

ومنها صنعة تجليد الكتب وهي غير متقنة وصناعها بضعة أشخاص من الملل الثلاث.

ومنها صنعة الخزف الذي تعمل منه الخوابي وشربات الماء والقرميد والجرار الخضر والمناقل والزّبادي والكيزان (١) وهي من الصنائع الباقية على حالتها من قديم الزمان.

ومنها صنعة الخياطة باليد أو بالآلة المعروفة التي تدار باليد أو بالرجلين وصناعها من الملل الثلاث.

ومنها صنعة نسج الحواشي التي توضع بأطراف ثياب النسوة المعروفة بالتنتة وصنعة

__________________

(١) الكيزان : جمع كوز ، وهو إناء للماء من الخزف. ذو عروة وأنبوب ، والزّبادي : جمع زبدية ، وهي وعاء من الخزف المحروق المطليّ بالميناء.

٩٧

المنسج وهي التطريز بالحرير والقصب باليد أو بالآلة ، وصناع كلها نساء. وكان يوجد من النوع الثاني مناديل مطرزة على غاية من الحسن والحذق صناعها وبراعتهم كان لا يمتاز وجه المنديل من قفاها (١).

ومنها صنعة تطريز الطرابيش بالقصب ويستعملها عرائس الأكراد وصنّاعها مسلمون.

ومنها صنعة تصليح الساعات ، وصناعها من الملل الثلاث.

ومنها صنعة البناء والعمارة وهي من الصنائع المتقنة عندنا قديما وحديثا ، ولإتقانها كان يؤخذ كثير من صناعها إلى الأماكن البعيدة ويستخدمون في بناء الحصون والمعاقل وحسن آثار صناعها الظاهرة تغني عن إطالة الكلام في وصفهم وهم مسلمون ونصارى ، ومساكن المسلمين منهم محلة الكلاسة غالبا والنصارى محلة الحميدية على الأكثر.

ومنها صنعة الخراطة ، وهي تكوير الأخشاب وتركيبها في بعضها لمقاصد شتى وهذه الصنعة غير ناجحة عندنا ويجلب من مصنوعاتها شيء كثير من دمشق والحجاز والهند. وصناعها عندنا مسلمون.

ومنها صنعة التنك وهي عمل ألواح الصفيح والتوتيا أواني وظروفا ، وصناعها من الملل الثلاث.

ومنها صنعة الحلاقين وصنّاعها من الملل الثلاث ، وأكثرهم يشتغل بالآلة المعروفة بمنكمة القص ويوجد بعض حلاقين أغراب يتقنون هذه الصنعة أكثر من الحلبيين.

ومنها صنعة القصابة وهي فرم اللحم وتنويعه إلى خشن وناعم حسبما يقتضيه الطعام المطبوخ وهذه الصنعة متقنة عندنا غاية الإتقان وصناعها مسلمون إلا أن أكثر من يقوم بوظيفة الذبح هم جماعة من اليهود.

ومنها صنعة كيّ الثياب والطرابيش بالمكاوي النارية المعروفة وصناع كيّ الثياب نساء من الملل الثلاث وصناع كيّ الطرابيش نصارى ويهود.

__________________

(١) في العبارة اضطراب ، لكن المقصود منها واضح.

٩٨

ومنها صنعة عمل أنابيب النارجيل المعروفة عندنا بالقمجات أو بحيات النرجيلة. وصناعها مسلمون ونصارى.

ومنها صنعة السروج والأكف (١) وجميع الأنواع المستعملة للخيل والبغال والحمير والجمال وصناع جميعها مسلمون.

ومنها صنعة الرقم وهي تجليد الطبول أو وضع رقمها. وصناعها جماعة القرباط المقيمين في ظاهر باب النيرب الذين اختصت بهم صنعة شدّ المناخل والغرابيل من شعور الجيف وجلودها. هذا جلّ الصنائع الموجودة الآن عندنا ولم أترك منها إلا ما لا يعبأ به أو ما هو داخل في غيرهما ذكرته ونبهت عليه.

الصنائع المفقودة

وأما الصنائع التي فقدت من حلب وفقد صناعها : فمنها صنعة القاشاني الذي كان يجعل ظهارة لجدران بعض المباني العظيمة كالمساجد والبيوت الكبار وقد نفد منه إلى الممالك الأوروبية وغيرها مما لا يدخل تحت إحصاء. ولم يزل التجار الأوروبيون يرسلون منه مبالغ في كل سنة. ومع هذا فإنه لم يزل يوجد عندنا منه شيء كثير في جدران المساجد والبيوت. على أنني لم أظفر بقول ينبئ بأن القاشاني كان يشغل في حلب ، إنما ذكرته في صناعتها القديمة اعتمادا على ما سمعته من الشيوخ تواترا عن أسلافهم وعلى ما يظهر من توقيعه على المرافق والعضادات توقيعا يبعد أن يكون عمل في غير حلب ثم نقل إليها. وقد أخبرني بعض الثقات أنه وجد قطعة من القاشاني حرر فيها نقشا في ظاهرها ما يأتي : (شغل المعلم ميخائيل) وأن هذه القطعة كانت عند المستر هاندرسون قنصل دولة الإنكليز الذي كان في حلب في حدود سنة ١٣٠٠.

ومنها صنعة تدهين البيوت بدهان اللّازورد والحل الذهبي على ضروب وأشكال من النقوش وصور الأزهار. وكانت هذه الصنعة على غاية الإتقان وناهيك دليلا على إتقانها ما نراه في بعض البيوت التي مضى على دهنها نحو مائتي سنة أو أكثر فيتخيل للرائي أنها

__________________

(١) الأكف : جمع إكاف ، وهو ما يوضع على الحمار أو البغل ليركب عليه. كالسّرج للفرس. ويسمى أيضا : البردعة.

٩٩

لم يمض عليها سوى سنيّات قليلة لما يشاهد من رونقها وبهجتها. أما الآن فإنه يوجد لهذه الصنعة صناع يعرفونها على نسق بسيط لا يستحقّ الذكر وقد ذهب مؤخرا بعض الشبان من المسيحيين إلى أميركا وتعلم هذه الصنعة على الأصول الحديثة وأتقنها واشتغل بها في حلب فكان عمله غاية في الرونق والإتقان. والمنتظر تعميم هذه الصنعة على هذا المنوال.

ومنها صنعة القمريات وهي عمل أغلاق للنوافذ العليا من البيوت. وكيفية عملها أن يسقط الزجاج الملون على مقدار الحجم المطلوب ويصبّ فوقه الجبسين المائع ، فإذا جمد صار الزجاج قطعة واحدة فينحتون عنه الجبسين إلا ما لصق بين الزجاجات ثم يحيطونها بإطار من الخشب ويضعونها في محلها. وكانت هذه الصنعة متقنة جدا كما يظهر من طيقان قبليّة جامع العدلية. ولم يبق لها الآن سوى دكان واحدة تشتغل بها على صفة بسيطة وصانعها مسلم.

ومنها صنعة الترّاس (١) ، وكانت حلب مشهورة بها كما أفاده الحاج خليفة المعروف بكاتب جلبي في كتابه الذي سماه جهاننما. ولم يبق الآن من أهلها أحد.

ومنها صنعة عمل السيوف فقد فقدت ومات صناعها. ويحكى أنه كان يوجد لها في حلب صناع ماهرون أسر أكثرهم تيمور لنك حين استيلائه على حلب وكانوا يصنعون هذه السيوف من الفولاذ الخالص الذي يحمل إلى حلب من الهند.

ومنها صنعة الشمع الشحمي والعسلي. وكانت صنعة كبيرة جدا ، واشتهر بها عدة بيوت في حلب. وقد بطلت بظهور الشمع الافرنجي لم يبق بها الآن سوى دكان واحدة يباع فيها الشمع العسلي يوقدونه في بعض المساجد. وأكثر الكنائس وبعض النصارى يصنعونه في بيوتهم.

ومنها صنعة الكبريت من عود الشهدانج (٢) المطلي من طرفيه بالكبريت. ومنها صنعة الظروف الخزفية التي تستعمل للتبغ : كالبواتق والسبلان ورؤوس النارجيلة ولم يبق لها الآن سوى دكان واحدة.

__________________

(١) التّراس : صانع التّروس. وحرفته هي «التراسة». والتّروس جمع ترس وهو ما كان يتوقّى به في الحرب.

(٢) سيشرح المؤلف نفسه الشّهدانج ص ١٠٣.

١٠٠