نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

الحاكم الشرعي فحضر إلى حلب وقام بالوظيفة نحو سنة أحسن قيام ثم بدا له أن يعود إلى وطنه فاستقال من وظيفته وعاد إلى أنطاكية رحمه الله.

ومن وجهاء أسرته في هذه الأيام نجله العالي محمد أفندي وهو صاحب منزل لإقراء (١) الضيوف وإكرامهم ، ذو وجاهة وإقبال وكلمة نافذة عند الحكومة معروف بالوفاء والصدق والسخاء وكرم الأخلاق.

ومنها أسرة القصيري وهي مما تفرع من سلالة الأسرة الجندية التي لها فروع في حمص وحماة وإدلب ومعرة النعمان. وقد ذكرنا في الكلام على البلدة الأخيرة أنهم ينسبون إلى الأسرة العباسية.

ومنها أسرة المعصراني التي وجد منهم عدة أماثل يعانون التجارة ويعرفون بالأمانة والاستقامة.

ومنها أسرة آل المسكي وهي أسرة معروفة بالوداعة يرتزق أفرادها من التجارة ويعاملون الناس بالمعروف والحسنى ويحرزون ثناء من يعاملهم. ووجيه هذه الأسرة الآن عزت أفندي من خيرة الرجال الموصوفين بالأدب والكمال.

وفي أنطاكية غير ذلك من الأسر الكريمة يطول الكلام عليها وبهذا القدر كفاية. انتهى الكلام على قضاء أنطاكية.

__________________

(١) انظر الحاشية في الصفحة السابقة.

٣٢١

قضاء المعرّة

مدينة معرة النعمان وأسماء محلاتها

الشمالية ٢١٧٥ القبلية ٣٠٤٦.

قرى القضاء

كفر رمان ٤٣٩ حاس ٤٧٧ كفر نبل ١٠١٨ كفر عويد ١٠٦ حزارين ٢٧٥ معرة حرمة ٣٨٥ جبالا ٦٩ معر تماتر ١٦٣ معر زيتا ١٥٢ بسقلا ١٦٥ حيش ٣٥٠ هبيطة ٣٧٧ خان شيخون ١٥٧٥ كفر سنجة ٤٧١ تمانعة ١٥٦ كفر ياسين ٢٢٩ الدير الغربي ١٠١ الدير الشرقي ١٤٦ تح ١٠٨ معر تشمارين ١١٢ معر شمشا ١٨٩ تل نمس ٦٠١ جرجناز ٥٥٠ معر شورين ٦٣٠ معصران ٢١١ دانه ٤٠٣ فطيرة ٨٢ فركيا ٦٦٠ أشنان ١٦٥ دير سنبل ٤٦.

فجملة عدد سكان هذا القضاء (٢٣٢٨٥) نسمة ما بين ذكر وأنثى.

على أن عددا كبيرا من القرى والمزارع في هذا القضاء لم يجر عليه قلم الإحصاء في هذا الجدول لخلوه من البناء وعدم تمكن الحكومة من عد سكانه لأنهم من عشائر الأعراب الموالي وغيرهم الرحّل النّزل الذين يقيمون في قراهم ومزارعهم أيام الزرع واستحصال الغلة فقط ثم يرحلون بماشيتهم إلى الصحراء يتتبعون الكلأ ومواقع القطر.

الكلام على هذا القضاء

وما فيه من الأماكن الشهيرة

قال ياقوت في معجمه : المعرة تأتي بمعان مختلفة وهي الشدة وكوكب في السماء دون المجرّة وتلون الوجه من الغضب. والمعرة في الآية معناها جناية كجناية العرّ وهو الجرب. وقيل المعرة العزم. اه.

٣٢٢

قلت يحتمل أن تكون لفظة المعرة هنا سريانية معناها المغارة سميت بذلك لأن هذه المدينة مشتملة على كثير من المغاير وأن أصلها في السريانية معرتا فتصرّف بها العرب وقالوا معرة وتاؤها في اللغتين للتأنيث. والنعمان هو النعمان بن بشير صحابي اجتاز بها فمات له ولد فدفنه فيها وأقام عليه أياما فسميت به وقال ابن خلكان في تاريخه إن النعمان بن بشير تديّر المعرّة (١) فنسبت إليه وكان يقال لها قبله معرة حمص. اه.

وفي جانب سورها من قبل البلد قبر يوشع بن نون وقد جدد عمارته الملك الظاهر الغازي والحقّ أن قبر يوشع بأرض نابلس. وبالمعرة أيضا قبر محمد بن عبد الله بن عمار ابن ياسر قال ياقوت : وأظن أنها سميت بالنعمان الملقب بالساطع بن عدي بن غطفان ابن عمر بن بريج بن خذيمة بن تيم الله. وهو تنوخ بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان ابن عمران بن لحاف بن قضاعة. وهو مخالف لما قلناه ونقلناه عن ابن خلكان وربما كان هو الصواب لأن التنوخيين كانوا يقطنون هذه النواحي.

وكانت المعرة مدينة كبيرة من أعمال حمص بين حلب وحماة. ماء أهلها من الآبار وعندهم الزيتون الكثير والتين الوافر. ومنها أبو العلاء المعري العالم المشهور القائل :

فيا برق ليس الكرخ داري وإنما

رماني إليها الدهر منذ ليال

فهل فيك من ماء المعرّة قطرة

تغيث بها ظمآن ليس بسال

وقبر أبي العلاء المعري بهذه المدينة. وللناس فيه اعتقاد عظيم يبيتون على قبره شربة ماء ويستعملونها للبرء من الحمى. والمشهور أنه كان مكتوبا على قبره بوصية منه :

هذا جناه أبي عليّ م

وما جنيت على أحد

وهذا البيت ليس له الآن وجود وإنما المكتوب على قبره هذان البيتان :

قد كان صاحب هذا القبر جوهرة

نفيسة صاغها الرحمن من شرف

عزّت فلم تعرف الأيام قيمتها

فردّها غيرة منه إلى الصدف

__________________

(١) أي اتخذها دارا ومكان إقامة.

٣٢٣

وزعم مؤرخو حلب أن في معرة النعمان عمودا فيه طلسم للبق تحته مغارة فيها صورة بقة نزل إليها رجل فبطلت خاصتها ، وأن فيها عمودا هو طلسم الحيات يميل مع الريح القوية فيوضع تحته الجوز واللوز فيكسر.

قلت : والمشهور عند أهل المعرة أن الشيخ زين الدين عمر بن الودي مدفون في المعرة. والذي ذكره ابن خطيب الناصرية أنه مدفون في حلب وعلى ذلك جرينا في ترجمته. وينسب إلى المعرة كثير من العلماء والمحدّثين وهذا القضاء في جنوبي حلب ويبعد مركزه عن حلب ٢٢ ساعة وقصبة المعرة الآن تشتمل على دار حكومة ومستودع رديف وقلعة متهدمة وستة عشر جامعا وخمسة عشر مسجدا ومدرستين وأربع حمامات وما يقرب من ٥٠٠ دكان وأربعة وعشرين مدارا (١) وخان واحد وأربعة أفران وعشرة (٢) معاصر زيت وعشرة بيوت قهاوي ومسلخ واحد.

وجامعها الأعظم عمري قديم له من الأوقاف ما فيه كفايته يضاف إليها الفاضل من غلة خان مراد جلبي وخان أسعد باشا. وفيها جامع آخر فيه مقام لسيدنا يوشع له منارة جميلة وأوقاف جليلة لعبت بها أيدي المتغلبين. وجامع آخر فيه غار يشتمل على قبر عطاء الله بن أبي رباح حامل لواء النبي صلّى الله عليه وسلم وعشر مسابغ (٣).

واللغة في هذا القضاء العربية وهو قضاء واسع كثير الأراضي جيد التربة والهواء إلا أن أكثر أراضيه موات للخوف من الأعراب الرحّل. وكان قديما من أعمال حماة ثم ألحق بلواء حلب منذ عهد غير بعيد وكانت المعرة معروفة عند العرب بذات القصور إلى أن سميت بمعرة النعمان للسبب الذي تقدم ذكره.

وذكر ابن بطوطة في رحلته أنه كان يوجد في ضواحي المعرة مقدار عظيم من شجر الفستق أما الآن فلا أثر له هناك إنما يوجد فيها قليل من الكرم وماء أهلها من الصهاريج المطريّة وقد مر على المعرة عدة حوادث ذكرناها في باب الأخبار مرتبة على سنيها فأغنى عن ذكرها هنا.

__________________

(١) المدار : المطحنة تديرها الدابّة.

(٢) الصواب «عشر» لأن المعدود مؤنث فتخالفه العشر.

(٣) ذكرها كما تلفظها العامة ، والصواب بالصاد : «مصابغ».

٣٢٤

كانت المعرة بلدة عظيمة تدل أطلال سورها على أن طولها ساعة في عرض مثلها. وكان لها من جهة القبلة باب يسمى باب نصرة عنده تل كبير يذكر أن فيه كنزا. ومن جهة الغرب باب يدعى باسم السيد شيث يبعد عن قلعتها نحو عشر دقائق وكانت القلعة في وسط البلدة. ومن جهة الشمال باب يدعى باب ايلة عنده بناء ضخم يدل على أنه من بناء السريان. ومن جهة الشرق باب يدعى باب منّس لأنه يخرج منه إلى تل منس وهي الآن قرية معروفة كان ظهر فيها عاديات زجاجية وأسس ضخمة.

في شمالي المعرة أطلال عمران يدعى محلها رويحة. يظهر أنها كانت بلدة عظيمة فيها أبنية ضخمة من جملتها أربعة أقواس عالية جدا يذكر أن أحد الرعاة ضرب حلقة قوس منها فأطارها فإذا هي من ذهب. وفي غربي المعرة إلى الشمال على بعد ساعة عنها ثلاثة أطلال ، أحدها يدعى حندوثين والآخر يدعى فركيا ، عندها بناء ضخم يعرف بدار الملك والثالث يدعى أشنان ، فيه قناة كلدانية تنفذ إلى البساتين. وعلى مقربة من هذه الأماكن أطلال تعرف باسم دير سنبل أو دار صمبل.

وفي غربي المعرة قرية تدعى حاث. في شماليها إلى الغرب أطلال مدينة كبيرة تدعى حاث. وفي هذه القرية آثار أبنية قديمة من جملتها بناء تام تحت الأرض يقال إنه كان وجد فيه مائدة من الرخام. وفي غربي المعرة أيضا قرية تدعى سفوهن (١) في قمة جبل عندها ميدان فسيح يليه تل كبير فيه آثار تدل على أنه كان قلعة. وفي الغرب من سفوهن (١) قرية تدعى الفطيرة ذكر في بعض التواريخ أن أهلها مشهورون بالشر وشراسة الأخلاق وهم معروفون بذلك حتى الآن.

كان اكتشف في اسفوهن على (٢) صندوق حجري فيه منطقة (٣) من ذهب على عقودها بعض رسوم عادية بيع الواحد منها بخمسين ذهبا. وفي غربي سفوهن قرية تدعى فليفل على رأس تل ، فيها آثار اكتشف فيها على (٤) على أعمدة حجرية ضخمة. ويوجد في تلك

__________________

(١) كتبها المؤلف هنا بغير ألف في أولها وهو الصواب. ثم كتبها بعد ثلاثة أسطر بألف قبل السين. وهذه القرية تبعد عن المعرة ٢٥ كم.

(٢) فعل «اكتشف» يتعدى بنفسه ، لا ب «على».

(٣) المنطقة : ما يشدّ به الوسط ، كالزنّار ونحوه.

(٤) كتبها المؤلف هنا بغير ألف في أولها وهو الصواب. ثم كتبها بعد ثلاثة أسطر بألف قبل السين. وهذه القرية تبعد عن المعرة ٢٥ كم.

٣٢٥

النواحي غير ذلك من الآثار القديمة الحثية والكلدانية والرومانية مما يدل على أن تلك الجهات كانت من أجلّ البلدان عمرانا وأكثرها سكانا.

وفي هذا القضاء عدة آثار قديمة لها ذكر في التاريخ منها قرية خان شيخون وكان اسمها القديم خالس وهي من أعظم قرى هذا القضاء. ومنها كفر طاب وربما قيل لها كفر طوب وفيها يقول محمد بن سنان الخفاجي :

بالله يا حادي المطايا

بين جبالي (١) وأرّضايا

عرّج على أرض كفر طاب (٢)

وحيّها أحسن التحايا

وأهدها (٣) الماء فهي ممن

يفرح بالماء في الهدايا

وقال عبد الرحمن بن محسن المعري :

أقسمت بالرب والبيت الحرام ومن

أهلّ معتمرا من حوله وسعى

إن الألى بنواحي الغوطتين ، وإن

شطّ المزار بهم يوما وإن شعسا

أشهى إلى ناظري من كل ما نظرت

عيني ، وفي مسمعي من كل ما سمعا

ولا كفر طاب عندي بالحمى عوضا

نعم سقى الله سكان الحمى ورعى

وهي الآن خالية من السكان ومحلها بين المعرة وخان شيخون في برية معطشة وليس لها شرب إلا ما يجمعونه من الأمطار. قال ياقوت : وبلغني أنهم حفروا نحو ثلاثمائة ذراع فلم ينبط (٤) لهم.

قلت : وسيأتي لنا في الكلام على «بالس» وهي «مسكنة» أن الفرات أعجز أهلها بحفرة أراضيها عكس كفر طاب فإن أهلها أعياهم الحفر على الماء فلم يجدوه. وإلى هذا أشار أبو العلاء في قصيدة له من اللزوميات حيث يقول (٥) :

أرى كفر طاب أعجز الماء أهلها

وبالس أعياها الفرات من الحفر

__________________

(١) الصواب «حناك» كما في معجم البلدان.

(٢) سقطت كلمة «أرض» من الأصل.

(٣) في ياقوت : واهد لها.

(٤) أي لم يظهر الماء. ونبط ، من باب ضرب : ظهر بعد خفائه. وأنبط الشيء : أظهره وأبرزه.

(٥) اللزوميات ، ط. صادر ١ / ٥٢٤.

٣٢٦

كذلك مجرى الرزق واد بلا ندى

وواد به فيض ، وآخر ذو جفر

خبرت البرايا والتصعلك والغنى

وخفض الحشايا والوجيف مع السفر

فأطيب أرض الله ما قلّ أهله

ولم ينأ فيه القوت عن يدك الصفر

يعاني مقيم بالعراق وفارس

وبالشام ما لم يلقه ساكن القفر

فمل عن بني حواء من نسل آدم

لتنزل بين الحوّاء والأدم والعفر (١)

ولا بدّ في دنياك من نصب لها

وهل وضع الأثقال دهرك عن شفر

أليس هزبر الغاب وهو مملّك

على الوحش يبغي الصيد بالناب والظفر

وأنت إذا استعملت أكواب عسجد

أسأت ويجزيك الإناء من الصفر

لقد سكنت نفسي على الكره جسمها

فألفيتها لا تستقرّ من النّفر

فإن لم تنل وفرا من المال فاستعر

وفارة عقل فهي أزكى من الوفر

وإن لم يكن لبّ الفتى مع شخصه

وليدا فما يفري لنفع ولا يفري

يسمّي غويّ من يخالف كافرا

لك الويل (٢) أي الناس خال من الكفر

حصلنا على التمويه وارتاب بعضنا

ببعض فعند العين ريب من الشفر

وقد اخترنا إثبات هذه الأبيات لما اشتملت عليه من الحكم البالغة والأمثال السائرة التي تهشّ لها نفس كل أديب.

وفي شحشبو فيما زعموا قبر الاسكندر. قيل إنه مات بها ونزع ما في جوفه ودفن وصبّر جسده وجهّز إلى أمه وقد مات بحمص. قال ابن الشحنة : ولا يبعد فإن كفر طاب كانت من أعمال أفامية.

خناصرة

ومما كان في حكم هذا القضاء خناصره. وتعرف الآن بخناصر. وكانت خرابا يبابا لا سكان فيها. وفي حدود سنة ١٣٢٠ قدم على حلب قبيلة من قبائل الجركس مهاجرة من قافقاس تعرف باسم (قباضاي) (٣) فأسكنتهم الحكومة خناصر. ومن تلك الأيام

__________________

(١) نعوت للظباء.

(٢) اللزوميات : له الويل.

(٣) الصواب : «قبارطاي». انظر «عشائر الشام» لأحمد وصفي زكريا ، ص ٦٩٢ ط ١٩٨٣ م. «ع. م».

٣٢٧

أخذت بالعمران وصارت قرية كبيرة. وكانت بلدة قديمة لها حصن بناؤه بالحجر الأسود الصلد على سيف (١) البرّية. وكانت من كورة حمص وبلاد بني أسد وسميت باسم بانيها خناصرة بن عمر خليفة الأشرم صاحب الفيل. وفي خناصرة يقول عدي بن الرقاع العاملي وقد نزل بها الوليد بن عبد الملك ووفد عليه :

وإذا الربيع تتابعت أنواؤه

فسقى خناصرة الأحصّ وزادها (٢)

نزل الوليد بها فكان لأهلها

غيثا أغاث أنيسها وبلادها

نبذة في أخبار عمر بن عبد العزيز

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تديّر خناصرة (٣) ، وتوفي سنة (١٠١) في دير سمعان ودفن به. روي أن صاحب الدير دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه بفاكهة أهداها له فأعطاه ثمنها فأبى الديراني أخذه. فلم يزل به عمر حتى قبض ثمنها ثم قال له عمر : يا ديراني بلغني أن هذا الموضع ملككم. فقال :نعم. فقال : إني أحب أن تبيعني منه موضع قبر مدة سنة فإذا حال الحول فانتفع به. فبكى الديراني وحزن وباعه موضع قبر بأربعين درهما فدفن به. ثم إن المسلمين اشتروا جميع الدير وأبقوه مدفنا لعمر رضي الله عنه وقال فيه بعض الشعراء يرثيه :

قد قلت إذ أودعوه الترب وانصرفوا :

لا يبعدنّ قوام العدل والدين

قد غيّبوا في ضريح الترب منفردا

بدير سمعان قسطاس الموازين

من لم يكن همّه عينا يفجّرها

ولا النخيل ولا ركض البراذين

وقال كثيّر (٤) :

سقى ربّنا من دير سمعان حفرة

بها عمر الخيرات رهن ، دفينها

صوابح من مزن ثقالا غواديا

دوالح دهما ما خضات دجونها

__________________

(١) سيف البرية : طرفها ، وسيف البحر : ساحله.

(٢) انظر ص ٣٦٥ من هذا الجزء.

(٣) أي اتخذها دار إقامة.

(٤) ديوانه ١٧٩ «ط. بيروت». ونكتفي في كل شعر بالإحالة ، عوضا عن ذكر اختلاف الروايات.

٣٢٨

وقال جرير الخطفى :

ينعى النعاة (١) أمير المؤمنين لنا

يا خير من حجّ بيت الله واعتمرا

حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له

وسرت فينا بحكم الله يا عمرا

فالشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وقال الشريف الرضي (٢) :

دير سمعان لا عدتك الغوادي

خير ميت من آل مروان ميتك

يا بن عبد العزيز لو بكت العين م

فتى من أمية لبكيتك

أنت طهّرتنا من السبّ والشتم م

فلو أمكن الجزاء جزيتك

ولعمري لقد زكوت وقد طبت م

وإن لم يطب ولم يزك بيتك

هكذا ساقها ابن الوردي وقد رأيت لها زيادة وهي :

ولو أني رأيت قبرك لاستحييت م

من أن أرى وما حيّيتك

دير سمعان فيك مأوى ابن حفص

فبودّي لو أنني قد أويتك (٣)

أنت بالذكر بين عيني وقلبي

إن تدانيت منك أو إن نأيتك (٤)

وعجيب أني قليت بني مروان م

طرا وأنني ما قليتك

قد نما العدل منك لما نأى الجور م

بهم فاجتويتهم واجتبيتك

فلو انّي (٥) ملكت دفعا لما نابك م

من طارق الردى لافتديتك

ورثى الرضي هذا أبا إسحاق الصابي بقصيدة طنانة أولها :

أعلمت من حملوا على الأعواد

أرأيت كيف خبا ضياء الوادي

فقال ابن الوردي يعترض عليه ويندد به :

__________________

(١) في الأصل : «النعات» خطأ. والشعر في ديوان جرير ٣٠٤ «الصاوي».

(٢) ديوانه ١ / ١٦٩ «ط. الأعلمي».

(٣) زدنا «قد» ليستقيم الوزن. وأوى المكان (متعد بنفسه هنا) : التجأ إليه.

(٤) في الأصل : «ثائتيك» خطأ.

(٥) في الأصل : «أنني» خطأ.

٣٢٩

أقسمت ما قول الرضيّ بمرتضى

في الموضعين وقد يزلّ العاقل

أبمثل ذا يرثى كفور صابىء

وبمثل ذا يرثى الإمام العادل

قلت : ولو اطّلع ابن الوردي على ما أوردناه من الزيادة لما اعترض على الرضي. قيل إن بني أمية خافوا إن امتدت أيام عمر بن عبد العزيز أن يخرج الأمر عنهم إلى من يصلح فسمّوه. وكان عمر متحريا سنة الخلفاء الراشدين حتى عده الإمام الشافعي وغيره منهم. ولما ولي الخلافة أبطل سب علي رضي الله عنه على المنابر وكتب إلى نوابه بإبطاله. ولما خطب يوم الجمعة أبدل السب في الخطبة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...) إلى آخر الآية. فاستمر الخطباء على قراءتها إلى يومنا هذا. وفي ذلك يقول كثير :

وليت فلم تشتم عليا ولم تخف

بريا ولم تتبع سجيّة مجرم

وصدّقت بالفعل المقال مع الذي

أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم

هذان البيتان من قصيدة لها قصة لطيفة نوردها على طريق الفكاهة ، وهي أن حماد الرواية (١) قال : قال لي كثير عزة ألا أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر. قلت : نعم. قال : شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم ونحن لا نشك أنا سيشركنا في خلافته فلما رفعت لنا أعلام خناصرة لقينا مسلمة بن عبد الملك وهو يومئذ فتى العرب فسلّمنا فردّ ثم قال : أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر. قلنا ما توضّح لنا خبر حتى انتهينا إليك. ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا فوعدنا خيرا وقال متى رجعت إليكم منحتكم ما أنتم أهله.

فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل فأقمنا عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره فلا يؤذن لنا. إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع : لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته كان ذلك رأيا. ففعلت فكان مما حفظت من كلامه : (لكل سفر زاد لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه أو عقابه فترغبوا أو ترهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو (٢) قلوبكم

__________________

(١) في الأصل : «الرواية» خطأ مطبعي. وكان ينبغي تنوين «حمّادا» بالنصب اسما لأنّ ، و «الرواية» صفته. والخبر في الأغاني ٩ / ٢٤٨ بالألف الفارقة ، خطأ.

(٢) في الأصل : «فتقسوا» بالألف الفارقة ، خطأ.

٣٣٠

وتنقادوا لعدوّكم). في كلام كثير لا أحفظه. ثم قال أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيلتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينتفع فيه إلا الحق والصدق. ثم بكى حتى ظننت أنه قاص نحبه. وارتجّ المسجد وما حوله بالبكاء.

وانصرفت إلى صاحبيّ فقلت لهما : خذا في شرح من الشعر (١) غير ما كنا نقول لعمر وآبائه فإن الرجل آخريّ وليس بدنيوي. إلى أن استأذن لنا مسلمة في يوم جمعة بعد ما أذن للعامة فلما دخلت سلمت ثم قلت يا أمير المؤمنين طال الثواء وقلّت الفائدة وتحدّث بجفائك إيانا وفود العرب. قال : يا كثيّر إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل. أفي واحد من هؤلاء أنت. قلت : بلى ابن سبيل منقطع به وأنا صاحبك. قال : ألست صاحب أبي سعيد. قلت : بلى. قال : ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعا به. قلت : يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الإنشاد. قال : نعم ، ولا تقل إلا حقا. فقلت :

وليت فلم تشتم عليا ولم تخف

بريا ولم تقبل إشارة مجرم

وصدّقت بالفعل المقال مع الذي

أتيت فأمسى راضيا كل مسلم

ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه

من الأود الباقي ثقاف المقوّم

وقد لبست لبس الهلوك ثيابها

تراءى لك الدنيا بكف ومعصم (٢)

وتومض أحيانا (٣) بعين مريضة

وتبسم عن مثل الجمان المنظّم

فأعرضت عنها مشمئزا كأنما

سقتك مدوفا من سمام وعلقم

وقد كنت في أجبالها في ممنّع

ومن بحرها من مزبد الموج مفعم

وما زلت توّاقا إلى كل غاية

بلغت بها أعلى البناء المقوم

فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن

لطالب دنيا بعده من تقدّم

ومالك إذ كنت الخليفة مانع

سوى الله من مال رعيت ودرهم

تركت الذي يفنى وإن كان رونقا

وآثرت ما يبقى برأي مصمّم (٤)

__________________

(١) في العبارة تحريف ، والصواب كما في الأغاني : «جدّدا لعمر من الشعر».

(٢) الهلوك : البغيّ الفاجرة. وفي الأصل : «الملوك ... ترائى ...» تحريف. والكلام على الدنيا.

(٣) الأصل : «أحياها» تحريف.

(٤) تركت : جواب قوله «فلما أتاك ...».

٣٣١

وأضررت بالفاني وشمّرت للذي

أمامك في يوم من الشرّ مظلم

سما لك همّ في الفؤاد مؤرّق

بلغت به أعلى المعالي بسلّم

فما بين شرق الأرض والغرب كلّها

مناد ينادي من فصيح وأعجم

يقول : أمير المؤمنين ظلمتني

لأخذ لدينار ولا أخذ درهم

ولا بسط كف لامرىء غير مسلم

ولا السفك منه ظالما ملء محجم

ولو يستطيع المسلمون لقسّموا

لك الشطر من أعمارهم غير ندّم

فأربح بها من صفقة لمبايع (١)

وأعظم بها واعظم (٢) بها ثم أعظم

قال : فأقبل عليّ وقال إنك مسئول عما قلت. ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد فقال : قل ولا تقل إلا حقا. فأنشده القصيدة التي مطلعها :

وما الشعر إلا حكمة من مؤلّف

لمنطق حق أو لمنطق باطل

ولا تقبلن إلا الذي وافق الرضا

ولا ترجعنا كالنساء الأرامل

فلما أتمها قال له إنك مسئول عما قلت. ثم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له وأمره بالغزو إلى دابق فخرج إليها وهو محموم وأمر لي بثلاثمائة وللأحوص بمثلها ولنصيب بمائة وخمسين. اه.

قلت : ومما يورد له في هذا الباب أنه لما استخلف وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله فأقاموا ببابه أياما لا يأذن لهم بالدخول حتى قدم عدي بن أرطاة على عمر بن عبد العزيز وكانت له منه مكانة فقال جرير :

يا أيها الرجل المزجي مطيّته

هذا زمانك إني قد مضى زمني

أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه

أني لدى الباب كالمصفود في قرن

وحش المكانة من أهلي ومن ولدي

نائي المحلّة عن داري وعن وطني

قال نعم يا أبا حزرة ونعمى عين. فلما دخل على عمر قال : يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وأقوالهم باقية وسنانهم مشهورة. قال : يا عدي مالي وللشعراء. قال : يا أمير

__________________

(١) في الأصل : «لمبائع» خطأ.

(٢) في الديوان والأغاني : «أعظم» بلا واو.

٣٣٢

المؤمنين إن النبي صلّى الله عليه وسلم قد مدح وأعطى وفيه أسوة لكل مسلم. قال : ومن مدحه؟ قال :عباس بن مرداس ، فكساه حلّة وقطع بها لسانه. قال : وتروي قوله؟ قال نعم :

رأيتك يا خير البرية كلّها

نشرت كتابا جاء بالحق معلما

ونوّرت بالبرهان أمرا مدمّسا

وأطفأت (١) بالبرهان نارا مضرّما

فمن مبلغ عني النبيّ محمدا

وكل امرئ (٢) يجزى بما قد تكلما

تعالى علوا فوق عرش إلهنا

وكان مكان الله أعلى وأعظما

قال : صدقت فمن بالباب قال ابن عمك عمر بن ربيعة (٣) قال لا قرّب الله قرابته ولا حيّا (٤) وجهه أليس هو القائل :

ألا ليت أني يوم حانت منيّتي

شممت الذي ما بين عينيك والفم

وليت طهوري كان ريقك كله

وليت حنوطي من مشاشك والدم

ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي

هنالك ، أو في جنة ، أو جهنم

فليت والله تمنى لقائلها في الدنيا وعمل صالحا والله لا يدخل علي أبدا ، فمن بالباب غير من ذكرت. قلت : جميل بن معمر العذري قال هو الذي يقول :

ألا ليتنا نحيا جميعا وإن نمت

يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها

فما أنا في طول الحياة براغب

إذا قيل قد سوّي عليها صفيحها

أظلّ نهاري لا أراها ويلتقي

مع الليل روحي في المنام وروحها

اعزب به فو الله لا دخل علي أبدا فمن بالباب غير من ذكرت. قال : كثيّر عزة. قال : هو الذي يقول :

الله بيني وبين سيّدها

يفرّ عني بها وأتبع

__________________

(١) في الأصل : «وأطفئت» خطأ.

(٢) في الأصل : «امرء» خطأ.

(٣) الصواب : عمر بن أبي ربيعة.

(٤) في الأصل : «حيى» خطأ.

٣٣٣

اعزب به فمن بالباب غير من ذكرت. قال : همام بن غالب الفرزدق قال : أليس هو القائل يفخر بالزنى :

هما دلّتاني (١) من ثمانين قامة

كما انقضّ باز أقتم الريش كاسره

فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا

أحيّ يرجّى أم قتيل نحاذره

وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت

مغلّقة (٢) دوني عليها دساكره

فقلت ارفعوا الأحراس لا يشعروا بنا

وولّيت في أعقاب ليل أبادره

اعزب به فو الله لا دخلي علي أبدا فمن بالباب غير من ذكرت. قلت : الأخطل التغلبي. قال : أليس هو القائل :

فلست بصائم رمضان عمري

ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بزاجر عنا بكورا

إلى بطحاء مكة للنجاح

ولست بقائم كالعير أدعو

قبيل الصبح حيّ على الفلاح

ولكني سأشربها شمولا

وأسجد عند منبلج الصباح

اعزب به فو الله لا وطئ لي بساطا أبدا ، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت : جرير ابن الخطفى قال : أليس هو القائل :

لو لا مراقبة العيون أريننا

مقل المها وسوالف الآرام

هل ينهينّك أن قتلن مرقشا

أو ما فعلن بعروة بن حزام

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأقوام

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا

وقت الزيارة فارجعي بسلام

فإن كان ولا بد فهذا فأذن له فخرجت إليه فقلت : ادخل أبا حزرة فدخل وهو يقول:

إن الذي بعث النبيّ محمدا

جعل الخلافة في إمام عادل

وسع الخلائق عدله ووفاؤه

حتى ارعوى وأقام ميل المائل

والله أنزل في القران فضيلة

لابن السبيل وللفقير العائل

__________________

(١) في الأصل : «دلّياني» والتصويب من الديوان ٣٦١.

(٢) في الأصل : «لا القوم ... معلقة» والتصويب من الديوان.

٣٣٤

إني لأرجو منك خيرا عاجلا

والنفس مولعة بحب العاجل

فلما مثل بين يديه قال : اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقا فأنشأ يقول :

كم باليمامة من شعثاء أرملة

ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

ممّن يعدّك تكفي فقد والده

كالفرخ في العشّ لم ينهض ولم يطر

يدعوك دعوة ملهوف كأنّ به

خبلا من الجن أو مسّا من البشر

خليفة الله ما ذا تأمرنّ بنا

لسنا إليكم ولا في دار منتظر

ما زات بعدك في همّ يؤرّقني

قد طال في الحيّ إصعادي ومنحدري

لا ينفع الحاضر المجهود بادينا

ولا يعود لنا باد على حضر

إنّا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا

من الخليفة ما نرجو من المطر

أتى الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

هذي الأرامل قد قضّيت حاجتها

فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

قال : يا جرير والله لقد وليت هذا الأمر وما أملك إلا ثلاثمائة : فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله. يا غلام أعطه المائة الباقية. فقال والله يا أمير المؤمنين إنها لأحبّ مال كسبته إليّ. ثم خرج فقالوا له : ما وراءك قال : ما يسوءكم خرجت من عند أمير المؤمنين يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراض. ثم أنشأ يقول :

رأت رقى الشيطان لا تستفزّه (١)

وقد كان شيطاني من الجن راقيا

وكان مولد عمر رضي الله عنه بحلوان لما كان أبوه واليا على مصر سنة (٦٠) وجده مروان بن الحكم. وكان عمر أبيض رقيق الوجه جيده نحيف الجسم حسن اللحية غائر العينين بجبهته أثر حافر دابة ولذلك سمي أشجّ بني أمية وخطه الشيب.

وكان قبل أن يلي الخلافة يبالغ في التنعم ويفرط في الاختيال في المشية وكان لعمر غلام يقال له درهم يحتطب له فقال له يوما ما يقول الناس يا درهم. قال : ما يقولون ، الناس كلهم بخير وأنا وأنت بشرّ. قال وكيف ذلك قال عهدتك قبل الخلافة عطرا لباسا فاره

__________________

(١) في الأصل : «لا يستفزّه» والتصويب من الأغاني ٨ / ٤٧ ثقافة.

٣٣٥

المركب طيب الطعام فلما وليت رجوت أن أستريح وأتخلص فزاد عملي شدة وصرت أنت في بلاء. قال : فأنت حر فاذهب عني ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجا.

قال أنس رضي الله عنه ما صليت خلف إمام أشبه برسول الله صلّى الله عليه وسلم من هذا الفتى عمر بن عبد العزيز. وسئل عنه محمد بن علي بن الحسين فقال : إنه نجيب بني أمية يبعث يوم القيامة أمة وحده. وقال بعض أهل العلم كانت العلماء معه تلامذة وقد عمل له ابن الجوزي سيرة في مجلد كبير بقي عند قبره زمنا طويلا. ولما مرض مرض وفاته قيل له لو تداويت. قال لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها. نعم المذهوب إليه ربي.

وكان سائرا على سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد بلغ من الزهد والميل عن الدنيا مبلغهما وكان قبل خلافته إذا اشتري له ثوب بخمسمائة يستخشنه فلما صار خليفة اشتري له ثوب بثمانية فاستلانه. قال مسلمة ابن عبد الملك دخلت على عمر في مرض موته أعوده فإذا عليه قميص وسخ فقلت لامرأته فاطمة وكانت أخت مسلمة اغسلوا ثياب أمير المؤمنين فقالت نفعل ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت ألم آمركم أن تغسلوا قميصه. فقالت والله ما له غيره.

قيل : وكانت نفقته كل يوم درهمين من ماله. ولما ولي الخلافة أتاه أصحاب مراكب الخلافة يطلبون علفها فأمر بها فبيعت وجعل ثمنها في بيت المال وقال تكفيني بغلتي. قالت فاطمة زوجته : دخلت عليه وهو في مصلاه ودموعه تجري على لحيته فقلت أحدث شيء فقال إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والغازي والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثيرة والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة وخصمي دونهم محمد صلّى الله عليه وسلم إلى الله فخشيت أن لا تثبت حجتي عند الخصومة فرحمت نفسي فبكيت. ولما رد إقطاعه الذي ورثه من آبائه لأربابه قيل له : فكيف تصنع بولدك. فجرت دموعه وقال : أكلهم إلى الله.

ومن العجيب أن ابنه عبد الملك بن عمر كان على سيرته في الزهد وجب العدل. ولما مرض ابنه هذا مرض الموت دخل عليه أبوه عمر فقال له يا بني كيف تجدك. قال :أجدني في الحق. قال : يا بني إن تكن في ميزاني أحب إلي أن أكون في ميزانك فقال له ابنه يا أباه لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب. فمات في مرضه وله سبع

٣٣٦

عشرة سنة. قيل وقال عبد الملك لأبيه يوما : يا أمير المؤمنين ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحيه وباطلا لم تمته. فقال يا بني إن أجدادك قد دعوا الناس عن الحق فانتهت الأمور إليّ وقد أقبل شرها وأدبر خيرها ولكن أليس حسنا وجميلا أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت حقا وأمتّ فيه باطلا حتى يأتيني الموت فأنا على ذلك.

وبالجملة فإن أخباره كلها جميلة ولو أخذنا باستقصائها لضاق عنها هذا الكتاب وقد ذكرت له في كتب السير خطب ومواعظ وأفعال تدل على علو منزلته في مراتب أهل الله والصفوة الملأ (١). وفي هذا القدر كفاية للتنبيه على فضله وعدله رضي الله عنه.

الأسر الشهيرة في معرة النعمان

أشهر أسرة في هذه البلدة وأقدمها : أسرة آل الحراكي يتصل نسبها بالحسين رضي الله عنه. تولى نقابة أشراف هذه البلدة أبو بكر أفندي ثم ولده طاهر أفندي ثم ولده نورس باشا الشهير المتحلي برتبة مير ميران (٢) وهو أعظم رجل وجد في هذا القضاء لما اتصف به من فرط الذكاء والسخاء والوجاهة ونفوذ الكلمة لدى الخاص والعام والقريب والبعيد وكان منزله كدار للضيوف يجد فيها الضيف من حسن القرى والكرامة ما لا يجده في منزل غيره وكان الضيف يقيم عنده الأشهر العديدة بل ربما أقام عنده بعض الأغراب المستخدمين في حكومة المعرة مدة خدمتهم فلا يجدون في طول هذه المدة سوى ما يتجدد لهم من البر والإكرام كل يوم. وكان ينزل عنده بعض سوّاح (٣) من كبار رجال الغرب فيتجلى لهم كرم الشرقيين وحسن أذواقهم وذكاء فطرتهم لما يجدونه لديه من الحفاوة والإكرام والنظافة في المأكل والمشرب وجمال الظروف والأواني وأثاث المنزل ولطف المعاملة.

وجيه هذه الأسرة الآن حكمت بك نجل المرحوم نورس باشا فهو جار على سنن والده بالسخاء وإقراء (٤) الضيوف وكرم الأخلاق والوجاهة عند الحكومة ولطف المعاشرة.

__________________

(١) الملأ : علية القوم ، أشرافهم.

(٢) مير ميران : تركيب فارسي الأصل. و «مير» أي أمير ، أو آمر. والألف والنون في آخره علامة الجمع.

(٣) الصواب : «سيّاج». انظر الحاشية ١ ص ٨٤.

(٤) انظر الحاشية ١ ص ٣٢٠.

٣٣٧

ومن الأسر الكريمة في مدينة المعرة أسرة آل الجندي المنسوبين إلى الأسرة العباسية. جدهم الأعلى الشيخ ياسين قدم إلى هذه البلاد من بغداد بعد حادثة التتار الجنكزيين فأقام في قرية بكفالون وفيها كانت وفاته وتفرق أولاده بعده في حماة وحمص وإدلب وحلب وقرية الشيخ في القصير. ومنهم امتدت سلسلة هذه الأسرة في البلاد المذكورة. وممن عرفناه من أفرادهم في المعرة الأستاذ السيد الشيخ صالح أفندي مفتي هذا القضاء المتوفى في حلب سنة ١٣١١ المدفون في مقبرة الشيخ جاكير كان رحمه الله على جانب عظيم من العلم والعمل واللطف والظرف والسخاء وكرم الأخلاق. وقد خلفه بفتوى بلده نجله المرحوم الشيخ أحمد أفندي ثم ولده الشيخ سعدي أفندي ثم أخوه الأستاذ الشيخ أسعد أفندي حفظه الله.

ومن الأسر الشهيرة في المعرة أسرة آل يوسف وهو الجد الأعلى لهذه الأسرة وكان ذا ثروة طائلة يقال إن مبدأها كان من كنز ظفر به في خان أسعد باشا في المعرة حينما جعل ناظرا على عمارته لأنه كان معروفا بالأمانة والاستقامة وقد وقف على المعرة وقفا عظيما. وله طاحون في حماة. وأهل هذه الأسرة عندهم نسب يتصل بالعباسيين. وجيه هذه الأسرة الآن السيد الماجد عمر آغا أحد أعيان هذا القضان.

ومن الأسر الشهيرة في هذه البلدة أسرة يقول أفرادها إن نسبهم يتصل بنسب بني الشحنة الذين كان منهم عدة علماء وقضاة في حلب وغيرها. على أن لدى هذه الأسرة مكتبة فيها عدة كتب مخطوطة قد تقرّب صحة دعواهم. انتهى الكلام على قضاء المعرة.

الكلام على دير سمعان وتفسير الدير وما يتعلق به

دير سمعان المتقدم ذكره يقال له أيضا دير النقير وكان في موضع نزه والبساتين محدقة به وعنده قصور وهو الآن من أعمال المعرة على مقربة منها إلا أنه خرب وقبر عمر بن عبد العزيز لم يزل معروفا به يقصده الزوار إلا أن القبر مهمل غير معتنى بشأنه. وقد مر أبو فراس بن أبي الفرج البزاعي على هذا الدير فرآه خرابا فقال (١) :

يا دير سمعان قل لي أين سمعان

وأين بانوك خبّرني متى بانوا

وأين سكانك اليوم الألى سلفوا

قد أصبحوا وهم في الترب سكّان

__________________

(١) الأبيات في معجم البلدان «دير سمعان».

٣٣٨

أصبحت قفرا خرابا مثل ما خربوا

بالموت ثم انقضى عمر وعمران

وقفت أسأله جهلا ليخبرني

هيهات من صامت بالنطق تبيان

أجابني بلسان الحال إنهمو

كانوا ويكفيك قولي إنهم كانوا

وأهل حمص يقولون إن دير سمعان في ناحيتهم وإن قبر عمر بن عبد العزيز فيه والصحيح أن قبر عمر في دير المعرة. وفي معجم البلدان في الكلام على دير مرّان أنه دير مشرف على كفر طاب قرب المعرة يزعمون أن فيه قبر عمر بن عبد العزيز وهو مشهور بذلك يزار إلى الآن.

وسمعان هذا هو أحد مقدسي النصارى ويقولون إنه شمعون الصفا وله عدة أديرة بنيت على اسمه منها هذا المقدم ذكره وآخر بنواحي أنطاكية على البحر. وعن ابن بطلان أن بظاهر أنطاكية دير سمعان وهو مثل دار الخلافة ببغداد يضاف به المجتازون وله من الارتفاع كل سنة عدة قناطير من الذهب والفضة وقيل إن دخله سنة أربعمائة كان ألف دينار ومنه يصعد على جبل اللكام. ودير سمعان أيضا بنواحي حلب بين جبل بني عليم والجبل الأعلى وهو في جبل سمعان الآتي ذكره.

والدير معناه في اللغة بيت يتعبد فيه الرهبان ولا يكون في المصر الأعظم إنما يكون في الصحاري ورؤوس الجبال فإن كان في المصر كان كنيسة. والديراني صاحب الدير. قلت : وكان الدير لا يعمر إلا في محال منفردة ثم أجيز بناؤه خارج أسوار المدن. وبعد القرن الخامس عشر للمسيح أخذوا يعمرونها في المدن ومنشأ وجود الزهد والرهبانية في دين النصارى ما كان عند الطائفة الغنوستكية ومتأخري الأفلاطونيين من الترهب والزهد فكان عند اليهود زهاد يسمونهم إيسينية وترابونية يعتزلون الناس ويكلفون أنفسهم الأمور الشاقة ولا يشربون خمرا ولا يأكلون لحما ولا يتزوجون ويسكنون الأماكن المهجورة.

ولما كانت القرون الوسطى من رفع عيسى عليه السلام أخذت مذاهب فيثاغور تمتزج بالديانة النصرانية ومال إليها كثير من عباد النصارى وزهادهم فمن ذلك الوقت أخذوا يعتزلون الناس ويسكنون الخلاء ليتفرغوا للاشتغال بالأمور الإلهية وسموا أنفسهم بالرهبانية. وأول من سن ذلك ماري بولص سنة ٢٥٠ مسيحية ومن ذلك الوقت أخذت الأديرة تنتشر في عالم النصرانية حتى بلغت عددا عظيما. ثم إن بعض تلامذة ماري بولص

٣٣٩

وضع للرهبان قانونا بناه على أربع قواعد أصلية كما كانت عند قدماء الرهبان وهي الخلوة وشغل اليد والصلاة والصوم.

وكان رهبان المشرق منقسمين إلى أربع طوائف إحداها السنوبيتية كانوا جميعا مشتركين في المسكن والمطعم والعمل. والثانية الأرمنية كانت تسكن الأخصاص والمغاير (١) المتفرقة والثالثة الأنخورية كانت تنتقل من صحراء إلى أخرى ويأكلون وينامون في أي محل أدركهم الليل أو لحقهم الجوع. والرابعة السياحة وهي شبيهة بقدماء عباد آلهة الشام من جهة أنهم كانوا يسبحون من قطر إلى آخر ويتجرون بآثار يقولون إنها من آثار القديسين ويتعيشون مما يأتي إليهم من معتقديهم. وما زالت الأديرة في ازدياد وانتظام حتى صارت من أعظم أسباب اتساع التنصر وإحياء الغابات المقفرة والأراضي العقيمة التي عادت أريافا خصبة.

وتقدمت الفلاحة واستوطنت في البلاد المقفرة قبائل عديدة حول أديار (٢) وكان الرهبان ينسخون كتب الرومان واليونان المتعلقة بالأزمنة القديمة ويشتغلون في ترجمتها فانتشرت بذلك العلوم عند الأمة النصرانية والتفتت الأفكار إلى احترام الرهبان الذين كانوا مع هذه الفوائد يعيشون من الصدقات التي توضع على الهياكل. ثم في سنة ٣١٣ مسيحية صدر أمر قسطنطين بأن يؤذن للكنائس والطوائف الرهبانية أن تتملك الأراضي والعقارات ووقف على كنيسة الحواريين وقفا عظيما. ثم في سنة ٢٢١ مسيحية رخص للنصارى بأن يوصوا بأملاكهم للكنائس ففي أقرب وقت اتسعت مداخيل معابدهم حتى جاوزت الحد وحمل البطر والترف الأساقفة على أن يشتغلوا بإدارتها عن أمورهم الدينية وقد عظمت سلطتهم حتى إنهم كانوا يتصرفون بالأرض والقرية الموقوفة عليهم مع أرقّائها أي خدامها. ثم فرضوا العشر على النصارى مستندين في ذلك إلى الشريعة الإسرائيلية لأنها فرضت على بني إسرائيل أن يأتوا إلى الهياكل بعشر ثمارهم. وما زالوا يتمادون بالتسلط حتى بلغوا منه الغاية. ثم أزيلت الأسباب وصلح شأنهم بعد مشقات يطول شرحها.

__________________

(١) الأخصاص : جمع خسّ ، بضم الخاء ، وهو بيت من شجر أو قصب. والمغاير : خطأ شائع في جمع المغارة ، والصواب : «المغاور» كالمفازة والمفاوز.

(٢) هنا كلمة ناقصة بعد المضاف «أديار» وهي المضاف إليه ، ولعل التركيب في الأصل هو : «أديار الرهبان» أو «أديار النصارى».

٣٤٠