نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

لا يمكن جرّ مائه إلى قويق لانخفاض مجراه عن نهر حلب كذا أذرع (١). فيئس الناس من مجيئه بعد طول أملهم به.

وفي ذلك يقول بعض أصحابنا مماجنا :

قالوا أتى الساجور ، قلت مجاوبا :

ما جاء ساجور ولا خابور

قالوا : جرى في الماء محمرّا وقد

ملأ الحياض ، فقلت : ذا يغمور

يغمور كلمة تركية معناها المطر. وقال بعض المعاصرين في ذلك أيضا :

من قال إن المستحيل ثلاثة

لم يدر رابعها فخذه بلا تعب

الغول والعنقاء والخلّ الوفي

ومياه ساجور تجيء إلى حلب

قناة حلب

قناة حلب قديمة قبل الإسلام وسائقها من محلها غير معلوم إلا أنها كانت على صفة جدول يفيض من برك الخليل قرب قرية حيلان. ويجري ماؤه إلى جهة حلب فيسقي البساتين وينتهي إلى بانقوسا وما جاورها من المحلات التي كانت إذ ذاك بساتين فيفنى ماؤها فيها. ثم إن الملكة هيلانة عملت مجراها على ما هو عليه الآن وساقت ماءها إلى مباني مدينة حلب فنسبت إليها. وعلى كل حال فقد اتفق مؤرخو حلب أن ماءها في أيامهم من عيون إبراهيم الخليل بالقرب من قرية حيلان التي سبق ذكرها.

قلت : هذه العيون عبارة عن ثلاث حفائر مختلفة المساحة. تعرف إحداها في زماننا ببركة الشيخ خليل والثانية ببركة العبد أو ببركة النيلوفر ، والثالثة ببركة هيلانة أو بركة الرشح. وهذه البركة أعظم الحفر ، وكل واحدة من هذه الحفائر ينبع ماؤها من عيون ضمنها. وفي كل واحدة منها أسربة (٢) مطبقة مهندمة تحت الأرض قد سدت بالوحول لتقادم الزمن ، والظاهر أنها أقنية مياه تجري إلى البرك من عيون فيها على نسق الأقنية السريانية أو الرومانية فلو نظفت هذه الأسربة واستقصي مصدرها لكثر الماء وكفى حلب. ثم إن

__________________

(١) كذا والصواب : «أذرعا» بالنصب على التمييز.

(٢) السّرب : القناة الجوفاء التي يدخل منها الماء في جريانه. والجمع أسراب. وجمعها المؤلف على أسربة.

٦١

لكل بركة من هذه البرك مفيض (١) في أعلاها يجري منه الماء قدر غلوة ، ثم يختلط بماء القناة الوافدة من مقسم النهر كما سبقت الإشارة إليه وباجتماع هذه المياه في القناة يعظم ماؤها وتجري في بناء محكم نحو حلب فتمر على ناحيتي بعاذين وبابلي وتسقي بساتينهما.

وفي هذه المسافة تظهر تارة وتختفي أخرى إلى أن ينخفض مجراها في قرب حلب وتنزل في جباب حفرت لها ثم لا تزال تجري حتى تدخل حلب من باب القناة وكانت تظهر عنده قديما أما الآن فلا. ثم تمر من هناك ويتفرع منها أقنية صغار حتى تصل إلى المفيض القبلي عند جامع مستدام بك فيجري ما فاض منها فوق الحجر الأسود الذي هو في ارتفاع ٢٧ سانتيمترا عن أرض القناة وطوله شرقا لغرب ٨٠ سانتيمترا ويجري هذا الفائض إلى الحارات القبلية والباقي يجري إلى بقية حارات حلب. ويتشعب منه فروع عديدة تخترق شوارع تلك الجهات وتنفذ في مساجدها وحماماتها وقساطلها. ويذكر أن هذه القناة كانت قد دثرت وجددها عبد الملك بن مروان في ولايته. وكانت حلب توصف بذات الآبار لأن جميع مياهها قبل القناة كانت من الآبار المعينة. وفي أيام حاكمها محمود زنكي أخذ منها قطعة من المطهرة التي هي غربي الجامع بسوق السلاح وعمل قسطلا إلى رأس الشعيبين وأخرج قطعة أخرى إلى الخشابين وساق منها فرعا إلى الرحبة الكبرى داخل باب قنسرين ثم انقطع ذلك بعد وفاته.

اعتناء الملك الظاهر بقناة حلب

قال ابن الشحنة ما ملخصه : إن قناة حلب في سنة ٦٠٥ سدت طرقها لطول المدة ونقصت ينابيعها. فاستحضر الملك الظاهر غياث الدين غازي صناعا من دمشق وخرج معهم بنفسه وأطلعهم على أصلها وأمرهم بتعديل ما يخرج من ينبوعها وما يصل إلى حلب فتبين لهم أن ما يخرج من الينبوع مائة وستون أصبعا وما يصل إلى حلب عشرون ، فضمنوا له أن يكفوا بها جميع سكك حلب وشوارعها ودورها ومعابدها ويفضل منها ماء وافر يصرف إلى بساتينها وأراضيها. فأمر الملك الظاهر أن تذرع مسافتها من حيلان إلى حلب حلب فكانت خمسة وثلاثين ألف ذراع نجاري فقسم الملك الظاهر هذه المسافة قطعا وعين على كل قطعة منها أميرا معه صناع وفعلة وحمل إليهم الكلس والزيت والحجارة والآجر ،

__________________

(١) الصواب «مفيضا» بالتنوين ، اسم إنّ.

٦٢

فأصلحت جميعها وطبقت إلا مواضع جعلها برسم تنقيتها وشرب الماء منها وأجراها إلى حلب في ثمانية وخمسين يوما.

تقسيم القناة أيام الملك الظاهر

قال ابن شداد : وأمر الملك الظاهر ببناء القساطل. وأول ما بنى منها قسطل على باب الأربعين (لا أثر له الآن) طوله من الشرق إلى الغرب عشرون ذراعا وعلى رأسيه قبتان وفيه أنبوبان مقدار الأصبع. ثم ساق هذه القناة إلى باب النصر وعمل حوضا كبيرا. ومنه إلى بحسيتا وعمل فيها قسطلين. وهناك ينتهي إلى المعقلية ثم ساق من أصل القناة من باب الأربعين إلى الطريق الآخذ إلى العصرونية قسما يأخذ إلى السويقة وقسما إلى البلد وما يليه وهذا الطريق الآخذ إلى البلاط فيه قسطل في رأس العقبة قدّام درب الملك الزاهر. ثم يسير إلى رأس درب الديلم وهناك قسطل ثم إلى الدرب المعروف بالبازيار ، ثم إلى رأس درب بني الزهرة والطيوريين وهناك قسطل ثم إلى درب شراحيل.

والقسم الآخر يأخذ إلى حمام أوران وهناك قسطل ثم إلى وسط جب أسد الله وهناك قسطل ، ثم إلى باب الجنان إلى حضرة مسجد القصر وهناك قسطل ، ثم يعود إلى الطريق الآخذ إلى سويقة اليهود ثم إلى باب النصر ، وهناك حوض كبير يفيض ثم إلى السويقة عند دار الصبغ وهناك قسطل ، وهناك بني المسجد المعلق وبه ينتهي القسم. ثم سيق من أصل الماء من القسم الذي تحت القلعة ثم إلى الأسواق وقصبة البلد مصنعة في الأرض يجتمع إليها جميع ماء القناة. ثم جعل فيها تقاسيم يخرج الماء منها على السوية فيتفرق في حلب على السواء فيخرج منها طريق إلى الجامع الكبير وما يضاف إليه وطريق إلى كتاب الأسود وما يليه ، وطريق إلى باب العراق وما يليه ، وطريق إلى القطيعة وما يليها.

وأما طريق الجامع فبني عليه في رأس دار العدل قسطل. ثم في رأس الصاغة تحت المسجد المعلق وامتد منه إلى حمام العفيف التي عند حبس الدلبة. ثم أخذ من قسطل رأس الصاغة إلى رأس سوق النطاعين ، ثم إلى شرقي الجامع وبني هناك قسطل ، وفيه ينقسم الماء إلى ثلاثة أقسام ، قسم منه فوارة الجامع ، وقسم يسقى وسط الجامع ويصير إلى المطهرة الغربية وما يتصل بها ، وقسم يأخذ إلى باب قنسرين وما يليه ، فإنه يخرج إلى رأس سوق

٦٣

العطارين العتيق ورأس المربعة وينقسم هناك قسمين ؛ ثم يأخذ إلى الخشابين ، وقسم إلى الدركاه فيصير إلى المطهرة الصغيرة المعروفة بتل فيروز ورأس سوق العطر. وأما قسم باب قنسرين فينقسم إلى الزجاجين فيصير إلى رأس درب أسد الدين الآخذ شمالي الأساكفة والبز وهناك قسطل. ثم يصير إلى حضرة مسجد المنحني ثم إلى درب البيمارستان. وهناك يفيض منه ثلاث أنابيب ليلا ونهارا.

وأما طريق باب قنسرين فيصير إلى رأس ابن أبي الأسود ، وهناك قسطل. ثم يصير إلى حضرة المسجد المعروف بابن الإسكافي وهناك قسطل. ثم يصير إلى الرحبة التي عند المسجد المحصب وهناك قسطل. ثم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم يأخذ إلى الطيرة قدام المسجد المعروف بالرئيس صفي الدين طارو في رأس درب المسالخ وهناك قسطل ، وهو آخر هذا الطريق ، وقسم يأخذ إلى باب قنسرين ، وقسم يأخذ إلى الجرن الأصغر عند المسجد وهناك قسطل.

فأما القسم الذي يأخذ إلى باب قنسرين ، فيصير إلى قسطل يفيض منه الماء ثلاث أنابيب ، ثم يخرج منه إلى ظاهر البلد تحت برج الغنم ، ثم يدخل إلى درب البنات وهناك قسطل ، وهذا آخر هذا الطريق. وبالجملة فقد كثرت المياه واتّخذت البرك في الدور. ووصل الماء إلى مواضع من البلد لم يسمع بوصوله إليها قبل ، حتى شرب من القناة الحاضر السليماني. اه.

قال ابن الخطيب ، بعد أن لخص معظم ما ذكرناه : إن الملك الظاهر وقف للقناة أوقافا لعمارتها وإصلاحها ، لكن هذا الوقف اليوم لا نعرفه ، وسيق الماء منها في زمن ابن الخطيب إلى قرب الجمالية خارج باب المقام. ثم انقطع بعد فتنة تيمور أو قبلها بقليل ، قلت:وفي حدود سنة ١٢٨٦ قلّ ماء القناة أيضا وتسلط عليها أصحاب البساتين في ناحية بعاذين وبابلي ، وصاروا يأخذون منها فوق استحقاقهم ، وبقي أهل حلب يتناولون ماءها بالنوبة أسبوعا للقبليين وآخر للغربيين.

ومع هذا فإن الماء كان قليلا جدا بحيث كان لا يصل إلى غالب المحلات القبلية إلا بمشقة عظيمة. فاهتم المرحوم ناشد باشا والي حلب إذ ذاك بشأن القناة وأمر بجمع المال من مستحقي القناة ، فاجتمع له مبلغ عظيم ، فعيّن نظّارا أو عين لكل واحد منهم فعلة

٦٤

وقسما من القناة. فشرعوا بتصليحها من حيلان إلى حلب. وفي برهة نحو ثلاثة أشهر تم عملها وسد خللها ورفع ما كان فيها من الوحول والأحجار. ثم أخرج الوالي مقدّرين للبساتين التي تشرب منها لكي ينظروا في مقدار ما يكفيها من الماء ، فقدروا لكل بستان كفايته منها وحصروه بأنبوب من الحديد مرصوف بأسفل القناة. ثم عين قواما يحرسونها دائما من تطاول البساتنة وتهدم شيء منها. فغزر ماؤها وملأ الحياض والسبلان القديمة والحديثة ، ووصل إلى محلة الفردوس خارج باب المقام.

ثم بعد أن عزل الوالي المشار إليه عن حلب ، أخذ ماؤها بالنقص حتى صار يصعب وصوله إلى محلة الفردوس. وتغلب على مائها كثير من أصحاب البساتين ، ممن ليس له فيه حق ، وقد اعتادت دائرة البلدية أن تجمع في شهر نيسان غالبا من مستحقي ماء القناة مالا تسميه مال القناة ، تصرفه على تنظيفها وترميم ما خرب من جدرانها ، وفي مدة تصليحها يصرف ماؤها إلى النهر وتخلو البلدة من الماء الجاري ، فيستعمل أهلها الماء المدخر في الصهاريج من القناة أو المطر ، والبساتين التي تشرب منها تستقي بهذه المدة من الدواليب المالحة ولا تطول مدة تصليحها أكثر من شهر غالبا.

الاستحقاقات المسجلة في سجلات المحكمة الشرعية

قرأت في أحد سجلات المحكمة الشرعية في حلب ـ بيانا فيما تستحقه الجوامع والحمامات والآبار والقساطل ومحلات حلب من ماء قناتها المذكورة. على أن العمل الآن جار على خلافه فلم أر لزوما لإثباته وإنما ألمعت به هنا ليسهل الاطلاع عليه في سجلات المحكمة على من أحب أن يراه. حرر في اليوم العاشر من شوال سنة ١١٣٣.

قناة الكلّاسة والمغاير

يجري إلى هاتين المحلتين قناة رأسها من نهر قويق في بستان إبراهيم آغا أمام الكتاب ، فتمر هذه القناة بطابق تحت الأرض إلى أن تظهر في قناة محمولة على جدار في بستان ناصر الدين ، وتختفي قليلا ، ثم تظهر وتجوز جسر بستان العجمي ، وهناك يسمونها بالجران ، ثم لا تزال تختفي تارة وتظهر أخرى حتى تصل إلى المحلتين المذكورتين ، فتوزع في شوارعهما وتنصرف إلى مصانع مستحقيها. ومنشئ هذه القناة هو (الحاج موسى الأميري).

٦٥

قناة أخرى

كثيرا ما سمعت من الناس أنه كان يجري إلى حلب قناة منبعها في جبل الجوشن. ولم أر من ذكر هذا من المؤرخين لحلب ، سوى أني رأيت في درّ الحبب في ترجمة (إبراهيم ابن يوسف الشهير بالحنبلي) ما ملخصه أن إبراهيم هذا كان في سنة ٩٣٦ بذل مالا كثيرا في طلب زيادة ماء العين الكائنة في سفح جبل الجوشن بالقرب من مشهد محسن ، حتى ازداد ماؤها واتسعت أرجاؤها وأغنت مجاوريها عن نقل الماء من النهر. واتفق لحجّار ، طلبه إبراهيم المذكور يعمل بها ، أنه قال : بلغني أنه من عمل بها مات سريعا ، ولكني أعمل بها ولا أبالي. فعمل بها فمات سريعا إلى رحمة الله تعالى.

قلت : وقد رأيت هذه العين وليس بها من الماء سوى رشح قليل ، وهي في شمالي مشهد محسن ، في الجبل ، بينها وبينه مرمى حجر داخل مغار مهندمة أرضه بالحجارة. والذي يظهر أنها كان لها قوة الجريان فينصب ماؤها إلى حويض معدّ لها تجاه باب المشهد المذكور. وهذا الحويض باق أثره إلى الآن ، وهو غير الحوض الملاصق هذا المشهد من شماليه الذي تجتمع إليه المياه من المطر.

قناة من الفرات

كثيرا ما نقل إلينا الشيوخ عن آبائهم أنه كان يدخل من باب قنّسرين إلى حلب قناة مأخوذة من الفرات ، رأسها من بالس المعروفة الآن باسم مسكنة. وقد بحثت عن هذا فلم أظفر له بأصل ، سوى أني اطلعت على حاشية لأبي اليمن البتروني ذكرها في خلاصة تاريخ ابن الشحنة قال : فيها كان يدخل إلى حلب قناة من جهة باب قنسرين ، وإنه لما عمل الشيخ منتخب الدين ابن الإسكافي المصنع الذي في المسجد شمالي مسجد المحصب. رأيت هذا الطريق وقد نسيت فاستدللت بذلك على صحة ما قيل.

في سنة ١٣٤١ ادعى جماعة متعددون أنهم مطلعون على قناة مدفونة قرب جبل الجوشن ، ومنهم من ادعى أنه مطلع على قناة مدفونة في جهات بساتين الفستق في شرقي حلب. وتعهد كل مدع منهم بأنه يكفي حلب مؤونة الماء من القناة التي اطلع عليها إذا أعطته البلدية امتيازا بها. غير أنهم لم يثابروا على طلبهم الامتياز.

٦٦

أقول : على فرض وجود هكذا أقنية في حلب وضواحيها ، فهي مما لا يمكن تناول مائه إلا بواسطة دولاب أو مضخة لانخفاض أرضها عن أرض حلب. على أن هذه الأقنية وأمثالها من الأقنية الرومانية أو الكلدانية التي توجد في كثير من قرى حلب كالسفيرة وعسان والله أعلم.

خاتمة

اطلعت في السجل المدون المحفوظ في المحكمة الشرعية بحلب على صورة حجة شرعية سطرت بها مقادير استحقاقات البساتين من قناة حلب ، تاريخها ١٧ صفر سنة ١١٥١ فليراجعها هناك من أراد الوقوف عليها.

فصل نذكر فيه طرفا مما مدحت به حلب

فما جاء بفضلها : ما نقل عن ابن شداد أنها مهاجر إبراهيم عليه السلام. وقد أقام بها مدة طويلة بعد هجرته من حرّان ، ثم بيت المقدس ، حتى قيل إنما سميت حلب بفعله ، ومن ذلك أن نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلم خيّر في الهجرة إلى قنسرين. وهي قصبتها ، ففي الجامع الصغير عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال : «أوحي إلي : أيّ الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك : المدينة أو البحرين أو قنسرين» أخرجه الترمذي والطبري ـ قلت : في هذا الحديث دلالة كادت تكون صريحة على أن أهل قنسرين أو ما جاورها من الصحراء هم عرب ، تحملهم جامعة الجنس واللغة على حماية النبي ونصرته ، كما هو الحال والشأن في أهل المدينة الأنصار ، الأوس والخزرج. ويبعد أن يكون النبي خيّر بالهجرة إلى قوم يبعدون عن مكة تلك المسافة الشاسعة ، وهم غير عرب لا تجمعه وإياهم جامعة الجنس واللغة.

ونقل عن ابن شداد أيضا أنه ذكر في تاريخه ما يقتضي إطلاق قنسرين على حلب نفسها. وقال ابن خطيب الناصرية : ومن ذلك حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق ، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض إلى آخر الحديث. فذكر ابن الخطيب أن وجه الاستدلال بهذا الحديث على فضل حلب كونه لا يصح إطلاق اسم المدينة في تلك الناحية إلا على

٦٧

حلب ، لأنها أقرب المدن إلى دابق. فصحّ أن أهل حلب من خيار أهل الأرض ، ولا شك في ذلك لأن حلب هي من الأرض المقدسة التي هي خيار أهل الأرض.

وعن كعب الأحبار قال : بارك الله في الشام من الفرات إلى العريش. وعن ابن شداد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أن الرعد والبرق يهاجران إلى مهاجر إبراهيم عليه السلام ، حتى لا يبقى قطرة إلا فيما بين العريش إلى الفرات. قال : وحلب واسطة عقد الشام وقلب صدوره والأعيان. وقال ابن الخطيب في الكلام على قناة حلب : كان جماعة من بني أمية اختاروا المقام بناحية حلب وآثروها على دمشق مع طيب دمشق وحسنها وكونها وطنهم ، ولا يرغب الإنسان عن وطنه إلا إلى ما هو أفضل منه.

فمنهم هشام بن عبد الملك انتقل إلى الرصافة وسكنها واتخذها منزلا لصحة تربتها. ومنهم عمر بن عبد العزيز أقام بخناصرة. ومنهم مسلمة بن عبد الملك سكن بالناعورة وابتنى بها قصرا بالحجر الصلد الأسود. وكان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قد ولي الشام جميعه فاختار أن يكون مقامه بحلب ، وابتنى بظاهرها قصرا ببطياس «وهي شرقي حلب غربي النيرب وشمالها». وولد له بها عامة أولاده. كل ذلك لما اختصت به هذه البلاد من الصحة والاعتدال والحصانة. قلت : بطياس كانت قرية على باب حلب بين النيرب وبابلي ، وقد ذكرها البحتري وغيره بأشعاره. وقال أبو بكر الصنوبري يتشوق إليها وهو بالصالحية :

إني طربت إلى زيتون بطياس

بالصالحية ، بين الورد والآس

ثم قال ابن الخطيب : وهرقل على سعة ممالكه اختار الإقامة بأنطاكية ولما فتحت قنّسرين وسار نحو القسطنطينية التفت وقال : سلام عليك يا سوريا سلام لا اجتماع بعده. وكان سيف الدولة يفتخر بها فيقول : حلب معقلي وشاعري المتنبي. وكان سليمان بن حيدر يقول للسلطان صلاح الدين : حلب أمّ البلاد. هذا ما استدلّ به على فضل حلب وامتيازها عن غيرها. وأما ما مدحت به نظما ونثرا فهو كثير يعسر استقصاؤه ، فمن ذلك ما نقل عن ابن شداد حيث قال :

إن حلب أعظم البلاد جمالا ، وأفخرها زينة وجلالا ، مشهورة الفخار ، علية البناء والمنار ، ظلها ضاف ، وماؤها صاف ، وسعدها واف ، ووردها لغليل النفوس شاف ،

٦٨

وأنوارها مشرقة ، وأزهارها مونقة ، وأشجارها مثمرة مورقة ، نشرها أضوع من نشر العبير ، وبهجتها أبهج منظرا من الروض في الزمن النضير ، خصبة الأوراق ، جامعة من أشتات الفضائل ما يعجز عنه الآفاق ، لم تزل منهلا لكل وارد ، وملجأ لكل قاصد ، يستظل بظلها العقاب ، وإليها العفاة (١) من كل حدب تنساب ، لم تر العين أجمل من بهائها ، ولا أطيب من هوائها ، ولا أظرف من أبنائها. قلت : قد مدحها جماعة من مشاهير الأدباء والفضلاء كالبحتري والمتنبي والصنوبري وكشاجم والمعرّي والخفاجي وابن حيّوس (٢) ، والوزير المغربي وابن العباس الصفري وأبي فراس ، والحلوي وابن سعدان ، وابن حرب الحلبي ، وابن النحاس وابن أبي حصينة وابن أبي الحداد وابن العجمي والملك الناصر. فمما قاله البحتري وأجاد :

أقام كلّ ملثّ الودق رجّاس

على ديار بعلو الشام أدراس

فيها لعلوة مصطاف ومرتبع

من بانقوسا وبابلّى وبطياس

منازل أنكرتنا بعد معرفة

وأوحشت من هوانا بعد إيناس

يا علو لو شئت أبدلت الصدود لنا

وصلا ولان لصبّ قلبك القاسي

هل لي سبيل إلى الظّهران من حلب

ونشوة بين ذاك الورد والآس؟

وله أيضا :

يا برق أسفر عن قويق ومل إلى

حلب وأعلى القصر من بطياس

عن منبت الورد المعصفر صبغة

في كل ضاحية ومجنى الآس

أرض إذا استوحشت ثم أتيتها

حشدت عليّ وكثّرت أنفاسي

ولأبي العباس الصفري أحد شعراء سيف الدولة بن حمدان في بعاذين قوله :

يا لأيامنا بمرج بعاذين

وقد أضحك الرّبى نواره

وحكى الوشي بل أبّر على

الوشي بها منثوره وبهاره

__________________

(١) العقاب : طائر من كواسر الطير ، قوي المخالب ، له منقار قصير أعقف ، حادّ البصر. والعفاة : طالبو المعروف والعطاء ، جمع عاف.

(٢) في الأصل : «ابن حبّوش» وهو تصحيف ، صوابه ما أثبتناه.

٦٩

وكأن الشقيق ، والريح تنفي الظ

لّ عنه (١) جمر يطير شراره

أذكرتني عناق من بان عني

شخصه ، باعتناقها ، أشجاره

وفي بابلّا يقول الوزير أبو القاسم المغربي :

حنّ قلبي إلى معالم بابلّا

حنين المولّه المشغوف

مطلب اللهو والهوى وكناس

الخرّد الغيد والظباء الهيف

حيث شطّا قويق مسرح طرفي ،

وسواقيه مؤنسي وأليفي

ليس من يكثر الحنين إلى الأوطان

إن شتّت (٢) النوى ، بظريف

ذاك من شيمة الكرام ومن عهد

الوفاء المحبّب الموصوف

وللمتنبي من قصيدة يشكر بها سيف الدولة وكتبها إليه من الكوفة :

كلما رحّبت بنا الروض قلنا

حلب قصدنا وأنت السبيل

فيك مرعى جيادنا والمطايا

وإليها وجيفنا والذّميل (٣)

ولأبي بكر أحمد الصنوبري من قصيدة مطلعها :

احبسا العيس احبساها

وسلا الدار سلاها

اسألا أين ظباء الدا

ر أم أين مهاها

سدت يا شهباء كلّ المدن

مقدارا وجاها

فإذا ما كانت المدن

رخاخا كنت شاها (٤)

وهذه القصيدة طويلة جدا يذكر فيها جميع منتزهات حلب في تلك الأيام ، وقد ذكرتها على طولها في ترجمة المذكور فراجعها.

وقال كشاجم من قصيدة :

وما منعت جارها بلدة

كما منعت حلب جارها

__________________

(١) في الأصل : «عن» والتصويب من معجم البلدان «بعاذين».

(٢) في الأصل : «شئت» ، والتصويب من معجم البلدان «بابلّا».

(٣) في الأصل : «وخيفنا والزميل» تصحيف وتحريف.

(٤) الرّخّ والشاه : من قطع الشطرنج.

٧٠

هي الخلد تجمع ما تشتهي

فزرها فطوبى لمن زارها

وللهو فيها ، شهور الربيع ،

أريج يعطّر أزهارها

إذا ما استمدّ قويق السماء

بها فأمدّته أمطارها

وأقبل ينظم أنجادها

بفيض المياه وأغوارها

وأرضع جنّاتها درّة

ينسّي الأوائل تذكارها

وقال عبد الله أبو محمد بن محمد بن سنان الخفاجي الحلبي وهو بديار بكر :

سقى الهضبة الأدماء من ركن جوشن

سحاب يروّي نوره وينير

وحلّ عقود المزن في حجراته

نسيم بأدواء القلوب خبير

فما ذكرته النفس إلا تبادرت

مدامع لا يخفى لهن ضمير

وقال أبو النصر محمد بن محمد الخضري الحلبي (١) :

يا حلبا حيّيت من مصر

وجاد مغناك حيا (٢) القطر

أصبحت في جلّق حرّان من

وجد إلى مربعك النضر

والعين من شوق إلى العين

والفيض غدت فائضة تجري

ما بردى عندي ولا دجلة

ولا مجاري النيل من مصر

أحسن مرأى من قويق إذا

أقبل في المد وفي الجزر

يا لهفتا منه على نغبة

تبلّ مني غلّة الصدر

ومنها :

كم فيك من يوم ومن ليلة

مرّا لنا من غرر الدهر

ما بين بطياس وحيلان والمي

دان والجوشن والجسر

وروض ذاك الجوهريّ الذي

أرواحه أذكي من العطر

وزهره الأحمر من ناظر

الياقوت ، والأصفر كالتبر

والنور في أجياد أغصانه

منتظم أبهى من الدرّ

__________________

(١) انظر ص ٥٤ ـ ٥٥ والأبيات منقولة من الدر المنتخب ١٥٣.

(٢) في الأصل : «طيب» بدل «حيا» وهو تغيير أخلّ بوزن البيت. والتصويب من الدّر المنتخب. والحيا : المطر.

٧١

منازل لا زال خلف الحيا

على رباها دائم الدرّ

تالله لا زلت لها ذاكرا

ما عشت في سرّي وفي جهري

وكيف ينساها فتى صيغ من

تربتها الطيبة النشر

وكلّ يوم مرّ في غيرها

فغير محسوب من العمر

إن حلّ قلبي إليها فلا

غرو حنين الطير للوكر

يا ليت شعري هل أراها وهل

يسمح بالقرب لها دهري

وقال أبو العلاء المعري :

يا شاكي النوب انهض طالبا حلبا

نهوض مضنى لحسم الداء ملتمس

واخلع حذاك إذا حاذيتها ورعا

كفعل موسى كليم الله في القدس

وقال عبد الله بن عباس الصفري متشوقا وهو بدمشق :

من مبلغ حلب السلام مضاعفا

من مغرم في ذاك أعظم حاجه

أضحى مقيما في دمشق يرى بها

عذب الشراب من الأسى كأجاجه

وقال أبو فراس الحمداني :

وأبيت مرتهن الفؤاد بمنبج م

السوداء ، لا بالرقّة البيضاء

الشام ، لا بلد الجزيرة ، لذّتي

وقويق ، لا ماء الفرت ، مناثي

وقال الشيخ سعد الدين محمد ابن الشيخ محيي الدين بن العربي :

حلب تفوق بمائها وهوائها

وبنائها والزّهر من أبنائها

ظلّت نجوم النصر من أبراجها

فبروجها تحكي بروج سمائها

والسّور ، باطنه ففيه رحمة

وعذاب ظاهره على أعدائها

بلد يظلّ بها الغريب كأنه

في أهله فاسمع جميل ثنائها

وقال شمس الدين محمد بن العفيف من قصيدة :

أقول والبارق العلويّ مبتسم

والريح مقبلة والغيث ينسكب

إذا سقى حلب من مزن غادية

أرضا فخصّت بأوفى قطره حلب

٧٢

أرض متى قلت من سكّان أربعها؟

أجابك الأشرفان الجود والحسب

قوم إذا زرتهم أصفوك ودّهم

كأنما لك أمّ منهم وأب

ولعيسى بن سعدان الحلبي متشوقا :

يا لبرق كلما لاح على

حلب مثّلها نصب عياني

بات كالمذبوب في شاطي قويق

ناشر الطرّة مسحوب الجران

كلما مرّت به ناسمة

موهنا جنّ على باب الجنان

ليت شعري من ترى أرسله

أنسيم البان أم رفع الدخان

وقال أبو سعيد ابن العزّي من قصيدة :

أيا ساكني الشهباء عندي لعهدكم

قديم ولاء لم يشب بملال

أياديكم عندي أياد عميمة

توالت ، وما شكري لها متوال

أقوم بشكر أرتضيه لمثلكم

لقد كلّفت نفسي إذا بمحال

أيا راحلا يزجي الركائب ظلّعا

رويدك من أين لها وكلال

إذا حلب يممت ساحة أرضها

فحيّ قياما بالمقام غوال

وعرّج بباب الأربعين مبلّغا

سلامي أحبابا به وموال

وطارحهم عني قديم مودة

أغار عليها أن تمرّ ببالي

إذا ما ذكرت الفيض فاضت مدامع

توالى عليها وبلها المتتالي

ولم آل عن باب الجنان تسليا

لسلسال ماء كالحياة زلال

سقى المشهد الأعلى فأعلام جوشن

بواكر داني الهيدبين سجال

وروّى مقرّ الأنبياء سحائب

يؤلّفها ريحا صبا وشمال

بذلت لروض الجوهريّ جواهرا

من الدمع هنّ اليوم غير غوال

أقامت بقلبي للمقام لواعج

لمرأى أنيق عنده وجمال

يذكّرني الفردوس طيب نعيمه

فيا حسنه لو لم يثب بزوال

مغان عهدت الأنس فيهن دائما

فما بالها ولّت كطيف خيال

وقضّيت أياما بها ولياليا

فيا طيب أيامي بها وليال

وما حلب إلا مقرّ مكارم

ومعدن أفضال وكنز معال

٧٣

إذا ظفرت كفّاك منها بصاحب

فقل في خليل حاز حسن خلال

تقصّر عن شهبائنا الشهب رفعة

فقد جمعت وصفي علا وجلال

وقال ابن عبد العزيز العجمي في قصيدة يمدح بها السلطان صلاح الدين :

منازلنا حيث المزار قريب

وداعي الهوى يدعو الهوى فيجيب

سقى حلبا جفني ربوعك باكرا

من المزن مجرور الذيول سكوب

ومنها :

فيا جيرة الشهباء إن طال نأينا

وحالت حزون بيننا وسهوب

صفوت لكم حبا على القرب والنّوى

فسيّان منكم مشهد ومغيب

وأخلصكم مني ودادا تصادقت

بحسن الصفا منّا عليه قلوب

وكلّ الذي يأتيه من حسناته

زماني مع (١) هذا البعاد ذنوب

فخلّوا نسيم الريح من سفح جوشن

يوافيه منه نسمة وهبوب

أحملها شوقا سلامي إليكم

فيعبق منها للجنوب جيوب

فيا ليت شعري والأماني تعلّة

أيضحي بعيد الدار وهو قريب

فيسرح طرفي في ثنيّات جوشن

بروض رعاه العزّ وهو خصيب

ويكرع من صافي قويق بمزود

هو الدهر لي دون المياه حبيب

وقال الناصر يوسف بن عبد العزيز بن الظاهر الغازي :

يا برق أنش (٢) من الغمام سحابة

وطفاؤها منه على بطياس

وأدم على تلك الربوع وأهلها

غيثا يروّيها مع الأنفاس

وعلى ليال بالصفاء قطعتها

مع كل غانية وظبي كناس

وقال الملك الناصر :

سقى حلب الشهباء في كل أزمة

سحابة غيث نوءها ليس يقلع

فتلك دياري لا العقيق ولا الغضى

وتلك ربوعي لا زرود ولعلع

__________________

(١) لا يستقيم الوزن هنا إلا إذا سكنّا العين ، أو وضعنا «إلى» موضع «مع».

(٢) فعل أمر ، أصله «أنشئ» وماضيه «أنشأ».

٧٤

وله أيضا :

لك الله إن شارفت أعلام جوشن

ولاحت لك الشهبا وتلك المعالم

فبلّغ سلامي من محبّ متيم

ينوح اشتياقا حين تشدو الحمائم

ولبعضهم من قصيدة :

حيّا الحيا تربة شهباء من حلب

بما تدرّ به الأنواء من حلب

وصاب أرجاءها صوب العهاد ولا

زال السحاب عليها خدّ منسحب

ومنها :

من لي بها ورداء الوصل يجمعنا

ونحن نرفل في موشّيها القشب

آها على طيب أيام لنا سلفت

لو كان ينفع تأويه لمكتثب

ما إن تذكرت أوقات السرور بها

إلّا ورحت حليف الهم والكرب

ومات طرفي بماء الدمع في غرق

ومهجتي بزناد الشوق في لهب

لأن بكيت على داري ونحت بها

فلست أول محزون ومنتحب

ولشرف الدين بن سليمان الحلبي مجاوبا لأخيه بدر الدين :

أيا ساكني الشهباء جادت ربوعكم

دموعي إذا ما الغيث ضنّ غمامه (١)

لئن (٢) لاح برق في حمى الحيّ موهنا

فمن نار وجدي يستمدّ ضرامه

وإن هب معتلّ النسيم على الرّبى

فمن سقم جسمي يستعير سقامه

أتاني كتاب منكم ففضضته (٣)

كما شقّ عن ثوب الرياض كمامه

وقبّلته حتى محوت سطوره

ولذّ لقلبي في البعاد التثامه

فمنّي عليكم طيّب النشر عاطر

يفضّ لديكم كلّ وقت ختامه

__________________

(١) في الأبيات إصراف ، وهو من عيوب القافية ، حيث جاء روي بعضها مضموما ، وبعضها الآخر مفتوحا.

(٢) في الأصل : «لأن» خطأ.

(٣) في الأصل : «ففضته» وهو غير مستقيم وزنا ولا معنى.

٧٥

ولمحمد بن إسماعيل الآمدي :

سقى حلبا ومن فيها سحاب

كدمعي حين يهمي بانسجام

فإنّ بها ، وإن شطّت ، مغاني

أحباء على قلبي كرام

سلام كلما هبّت قبول

عليهم من محبّ ذي ذمام

سلام متيّم صبّ كئيب

معنّى مدنف حلف السقام

وله :

سقى الله وادي بانقوسا من الحيا

سماء (١) يروّي تربه ويصيب

وحيّا به قوما كراما أعزّة

عليّ وذكراهم إليّ حبيب

صحبتهم والشعر أسود حالك

وغصن التصابي والشباب رطيب

إذ العيش غضّ والزمان مساعد

وقد غاب عنا حاسد ورقيب

وقال تقي الدين بن حجة :

غدت حلب تقول دمشق حفّت

بأنواع من الورد الغريب

فبالجوريّ إن هي كاثرتني

قنعت أنا ببستان النصيبي

وللصنوبري :

وللظهر من حلب منزل

تثاب العيون على حجّه

أعد نحو جوشنه نظرة

إلى سمته وإلى برجه

إلى بانقوسا وتلك التي

حكت راكبا لاح من فجّه

لترتاض نفسك من روضه

ويمرح طرفك في مرجه

ولابن سنان الخفاجي :

قل للنسيم : إذا حملت تحية

فاهد السلام لجوشن وهضابه

واسأله هل سحب الربيع رداءه

فيها وجرّ الفضل من أهدابه

وتبسمت عنه الرياض وأفصحت

بثناء بارقه ومدح سحابه

فلقد نحلت وعادني من نحوه

شجن بخلت به على خطّابه

__________________

(١) السماء ، هنا : المطر. وكذلك «الحيا».

٧٦

وقال منصور النحوي :

عسى مورد من سفح جوشن نافع

فإني إلى تلك الموارد ظمآن

وما كل ظنّ ظنّه المرء كائن

يقوم عليه للحقيقة برهان

ولابن سنان الخفاجي :

يا برق طالع من ثنيّة جوشن

حلبا وحيّ كريمة من أهلها

واسأله هل حمل النسيم تحية

منها فإن هبوبها من سبلها

ولقد رأيت فهل رأيت كوقفة

للعين يشفع (١) هجرها في وصلها

ولابن الوردي :

عليك بصهوة الشهباء تكفي

بجوشنها محاربة الزمان

فللغرفات في طيب شميم

يضوع شذاه من باب الجنان

ولعمر اللبقي :

يمّم حمى حلب تلق السرور على

جبين أبنائها النيّر (٢) البهج

فعج ولج وتأمل بلدة شملت

باب الجنان وباب النصر والفرج

وليوسف الدمشقي نقيب أشراف حلب :

قال لمن رام النّوى عن بلدة

ضاق فيها ذرعه من حرج

علّل القلب بسكنى حلب

إنّ في الشهباء باب الفرج

انتهى ما أوردته في مدح حلب نظما ونثرا. ولو أطلقت في ذلك عنان القلم لا تسع المجال وأفضى الحال إلى الملال. وفي هذا القدر كفاية.

قال أبو ذر ، سبط ابن العجمي : ولم يهج حلب إلا من نزح منها إما لقهر (٣). وكان هذا في وقت ما ، ولا يضرها هذا في كثرة ما مدحت به كما قال ابن الوردي :

__________________

(١) في الأصل : «كوقعة للعين تشفع» ، والتصويب من ديوان ابن سنان.

(٢) تقطع همزة الوصل هنا في «ال» ليستقيم الوزن.

(٣) في العبارة نقص. وتستقيم إذا حذفت «إما».

٧٧

بالجهل والجاه لا بالعلم والأدب

تنال ما شئت ممن شئت في حلب

وأجازه ابنه فقال :

ولا تقل شاع بين الناس حسن ثنا

عن أهلها فلكم قد شاع من كذب

أقول : لم نسمع لابن الوردي في مذّمة حلب غير هذا البيت. وأما في مدائحها فله فيها أشعار مشهورة ومقالات في كتبه مدونة مسطورة لم نورد منها هنا شيئا استغناء بشهرتها.

وقال من قصيدة الفراسة :

وحلب خزانة الذكاء

وموطن العفّة والحياء

طالعها للغرباء سعد

وهي لمن فيها شقا وكدّ

لكنها تعطي دقيق العلم

لأهلها من بعد لطف الفهم

لكنها نتيجة التلاحي

وموطن المراء والكفاح

والعصبيات لديهم وافره

وعلقة الحذق عليهم ظاهره

ذكر قصيدة الفراسة

هذه أرجوزة تعد ٢٣٨ بيتا. وقد تضمنت ذكر فضائل الأجناس وما خص كل جنس من جميل الطبع وقبيح الخلق ، وأثر كل بلدة (١) بأهله على سبيل الاختصار ، وهي من النوادر العزيزة الوجود بحيث لم أطلع عليها في غير مسودة تاريخ كنوز الذهب. وكان المرحوم الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رآها عندي في إحدى زياراته منزلي وطلب مني أن أسمح له بنقلها فاعتذرت له ولم أجبه على طلبه حرصا عليها. وأخبرني أنه لم يرها مدة حياته سوى مرتين هذه المرة إحداهما ، مع كثرة اطلاعه وولعه بالبحث والتنقيب عن الكتب المخطوطة النادرة. والذي ظهر لي أن قلة وجودها ناشئ عما تشتمل عليه بعض فصولها من بيان عيوب الأمم والبلدان وذكر مساويهما. وهذا هو السبب الذي منعني عن تحريرها في هذه المقدمة. وإن كانت مما له علاقة قوية بالتاريخ. والغالب على الظن ـ استدلالا

__________________

(١) كذا ، والصواب «بلد» لمجيء ضميره مذكّرا.

٧٨

من أسلوبها واستنباطا من تسميتها البلدان والأقاليم وأجناس الناس بأسمائها المذكورة فيها ـ أنها مما نظم في القرن الرابع أو الخامس. وإليك عناوين فصولها التي تكلم في كل فصل منها عن محاسن ومساوي أمة أو بلدة. وهي بعد خطبتها : (ذكر العرب) (ذكر الفرس) (ذكر أجناس الترك) (ذكر الديلم) (ذكر الأكراد) (ذكر الروم) (ذكر الأرمن) (ذكر الفرنج) (ذكر اللان) (ذكر الهند) (ذكر السند) (ذكر البربر) (ذكر الزرنج) (ذكر أجناس السودان) (ذكر صقع سرنديب) (ذكر خراسان) (ذكر نيسابور) (ذكر أصفهان) (ذكر الري) (ذكر مرو) (ذكر طوس) (ذكر هراة) (ذكر همذان) (ذكر الأهواز) (ذكر مازندران) (ذكر البصرة) (ذكر الكوفة) (ذكر بغداد) (ذكر بابل) (ذكر الموصل) (ذكر الجزيرة) (ذكر نصيبين) (ذكر سنجار) (ذكر حرّان) (ذكر الرّها وماردين وآمد) (ذكر الرافقة) (ذكر الشام) (ذكر منبج) (ذكر حلب) (ذكر حماة) (ذكر شيزر والمعرة) (ذكر حمص) (ذكر دمشق) (ذكر فلسطين) (ذكر مصر) (ذكر المغرب) (ذكر الحجاز) (ذكر اليمن).

فصل ملحق بما مدحت به حلب

لا يخفى أن البلد إنما يفوق غيره ويفضل عليه بجودة هوائه ومائه ، وجمال بنائه وأبنائه ، وطيب تربته وحسن بضائعه ورخص أسعاره ، وسعة تجارته وعظمه وشرف موقعه وكثرة منتزهاته ومبانيه العلمية والخيرية.

فأما جودة هواء حلب وصحة مناخها فذلك أمر مستفيض اعترف به الأغراب ، وأخبر عنه السواح (١). وفضّلها كثير منهم على هواء أكثر مشاهير البلاد العثمانية. وناهيك دليلا على ذلك نضارة وجوه أهلها ، واعتدال أجسامهم ولطف ألوانهم وقلة العاهات والأمراض فيهم ، مع تهاونهم بحفظ صحتهم. فلو عددت من فيهم من العمي والصمّ والحدبان والعرج والمقعدين والمجانين والمعتوهين والمصروعين ، وغيرهم من ذوي الآفات والزمانات لما زادوا جميعا على واحد في الألف. ومن محاسن حلب أن فتك الأمراض الوبائية فيها أقل منه في

__________________

(١) الصواب «السيّاح» بالياء.

٧٩

غيرها. والظاهر أن العدوى من حيث هي ضعيفة النكاية في حلب ، فقد شاهدنا فيها كثيرا من الناس الذين يلامسون المصابين بأمراض تنتقل بالعدوى ويأكلون ويشربون من آنيتهم ولا يصابون بمرضهم.

وأما ماؤها المركّز في صهاريجها فهو من أعذب المياه وأصفاها وألطفها. ونقل ابن الشحنة عن بعض العلماء أنه فضّل ماء صهاريجها المملوء من قناتها على ماء النيل والفرات. وفي ماء حلب يقول أبو فراس :

لقد طفت في الآفاق شرقا ومغربا

وقلّبت طرفي فيهما متقلبا

فلم أر كالشهباء في الأرض منزلا

ولا كقويق في المشارب مشربا

ومن فضل صهاريج حلب أن الغني والفقير في مائها على السواء. وذلك أن الفقير يمكنه أن يشرب في أوقات القيظ كل شربة ، ماء عذبا باردا نقيا يتناوله من صهريج بيته أو صهريج محلته المباح للعموم ، بخلاف بقية البلاد الكبيرة فإن فقيرها لا يمكنه أن يشرب في إبّان القيظ كل مرة من الماء المذكور ، لأنه يحتاج إلى ثمنه أو ثمن الثلج الذي لا يخلو شربه عن الضرر أيضا أو التحليل على تبريده بغير واسطة.

وأما بناؤها فقد جمع بين حسن الظاهر والباطن ، فترى الجدار من جهتيه كأنه سبيكة فضة ، والقادم على حلب يشاهد صعيدها كأنه مليء بقصور من فضة مموهة بالذهب ، وهذا مع إتقانه ومتانته وقلة كلفته. فأما إتقانه فإن كل دار في حلب تصلح أن تكون حصنا في غيرها. وأما قلة كلفته فحسبك أن من يملك نحو ثلاثمائة ذهب تركي ، يمكنه أن يعمّر بها دارا كاملة المنافع والمرافق يسكنها ذو أسرة يبلغ عددها سبعة أشخاص. ويتمتع بها هو وأعقابه من بعده مئات من السنين. وكثيرا ما يوجد عندنا دور مضى عليها خمسمائة سنة وهي عامرة آهلة ، ربما بقيت خمسمائة سنة أخرى.

والحكمة في إتقان بناء حلب هي لزوجة ترابها المعدّ للبناء وقوة كلسها ومهارة بنائيها وجودة حجارتها. فإنه يوجد في مقاطعها من الحجر الصلد الصلب الذي لا تكاد تعمل فيه المعاول ، إلى الحجارة التي يمكن حتّها ونحتها بأدنى كلفة. فما بين هذين النوعين زهاء عشرة أنواع ، لكل نوع منها لون ومحل من البناء ، كالنحيت المائل للصلابة ، والنحيت الهشّ ، ولونهما أبيض ، واللبن والرخام الأبيض والأصفر والأسود والسماقي والمرمري

٨٠