نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

١٢٣٨ نعير ٥٨٩ بتباس ر ١٥١ وو ١٣٧ يغون آق ر ٣٨٦ و ٧٠ خضر بك ر ٣٢٩ كبوسيه ر ٢٤٢ حاجي حببلو ٥١٦ عدد الأغراب ٢٦.

فجملة سكان قضاء أنطاكية ١٢٢٩٥٢ نسمة ما بين ذكر وأنثى.

الكلام على هذا القضاء وما فيه من الأماكن الشهيرة

هو قضاء في غربي حلب ويبعد مركزه عنها وهو أنطاكية أربعا وعشرين ساعة وهو قضاء واسع معمور كثير الخيرات وافر البركات غزير المياه عظيم المنتزهات متعدد الجهات فيه السهل والوعر وفي كل منهما من الخصب والغلّات ما لا يوجد في غيرهما. والغالب على أهله الثروة لأن لهم من حقوله عدة مواسم من الحبوب والحرير والزيتون والبرتقال والرمان والتين والعنب والتفاح وبقية الفواكه اللذيذة وكلها تنتقل إلى البلاد شرقا وغربا وتباع بأثمان عظيمة.

وأهل أنطاكية اليوم أهل رقة وذكاء وكرم وعلم وسياسة ورياسة. وهي الآن تشتمل على دار للحكومة وثكنة سلطانية و (٢٤) جامعا و (٢٨) مسجدا و (٥) مدارس وتكيتان أحدها (١) لأهل الطريقة المولوية على طرف العاصي أحدثها الأستاذ الشيخ عبد الغني البوشي سنة ١٢٦١ و (٣) كنائس وكنيسة لليهود و (١١٧) حوضا للماء و (٣) سبلان و (٥) حمامات و (١٤٥١) دكانا و (٣٥) مخزنا و (٢٠) خانا و (٥) طواحين على الماء و (٢٥) فرنا و (١٤) منوالا لنسج الأقمشة و (٦) دباغات للجلود و (١٤) حانة و (١٥) مصبنة و (٤١) معصرة للزيت و (٤) بيوت لشرب الخمر ولعب القمار تعرف بالكازينو و (٣) للطعام تعرف باللوكانطه و (١١) صيدلية و (١٥) بيت قهوة ومطبعة قماش. واللغة العامة في قضاء أنطاكية التركية ثم العربية ثم الكردية ثم الأرمنية والرومية ويوجد في كل أمة منهم من يعرف لغة مواطنيه. وهواء أنطاكية جيد لو لا ما فيه من الرطوبة وذلك لأن مهبه من الجهة الغربية فيمر على البحر أولا ثم على السويدية وعلى ما فيها من العيون والمياه ثم على نهر العاصي. ولهذه الأسباب يكتسب رطوبة ظاهرة الأثر على الثياب وقلما يبيت الطعام المطبوخ في أنطاكية وهي كثيرة الأمطار والرعود والبروق والصواعق وربما

__________________

(١) الصواب أن يقال : «وتكيتين ، إحداهما».

٣٠١

حصل ذلك في الصيف أيضا وكثيرا ما تتلبد سماؤها بالغيوم في إبان الحر ليلا أو نهارا فيحبس الريح ويشتد الحر وينتشر البعوض ويبقى الإنسان في اضطراب عظيم. وشرب سكان أنطاكية من العاصي أو من العيون المنحدرة إليها من جبل حبيب النجار.

وكان لمدينة أنطاكية خمسة أبواب مشهورة هي باب بولس وباب الكلب وباب دوكه وباب العاصي وباب

الحديد وسورها العظيم باق حتى الآن لكنه في غاية التوهن ويبلغ محيطه ١٢ ميلا وذلك مسيرة ثلاث ساعات تقريبا وهو محيط بها من جهة الشرق والجنوب والعاصي من شمالها وغربيها.

ومما ورد في فضل أنطاكية ما نقله ابن الشحنة عن ابن العديم أنه قال : قرأت بخط القاضي أبي عمرو عثمان بن إبراهيم الطرسوسي وذكر سندا إلى ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالوا : سمعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول : «ليلة أسري بي إلى السماء رأيت قبة بيضاء لم أر أحسن منها وحولها قباب بيض كبيرة فقلت : ما هذه القباب يا جبريل؟ قال : هذه ثغور أمتك ، فقلت ما هذه القبة البيضاء فإني ما رأيت أحسن منها. قال هي أنطاكية ، هي أمّ الثغور وفضلها على الثغور كفضل الفردوس على سائر الجنان. الساكن فيها كالساكن في البيت المعمور يحشر إليها خيار أمتك وهي سجن عالم من أمتك وهي معقل ورباط وعبادة يوم فيها كعبادة سنة ومن مات فيها من أمتك كتب الله له يوم القيامة أجر المرابطين» (١).

قلت : هذا الحديث غريب وإن كان لا يخلو من الدلالة على فضل هذه المدينة. وفي مسودة تاريخ ابن الملا عن ابن عباس أن الكنز الذي جاء ذكره في القرآن كان بأنطاكية وهو لوح من ذهب مكتوب في أحد جانبيه : لا إله إلا الله الواحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وكان في الجانب الآخر : عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك وعجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها وعجبا لمن أيقن بالحساب غدا كيف لا يعمل. اه.

فأما الكلام على تاريخ أنطاكية فقد جعلناه نبذتين الأولى فيما قاله فيها الفرنج والثانية فيما قاله فيها العرب.

__________________

(١) لم يرد الحديث في ابن الشحنة. وهو في بغية الطلب لابن العديم ١ / ١٠٢ ـ ١٠٣ باختلاف يسير. وصححنا عنه في السند اسم القاضي (أبي عمرو) بدلا من (أبي عمر) و (أبي هريرة) بدلا من (أبي وبرة).

٣٠٢

وخلاصة ما قاله فيها الفرنج أنها مدينة من مدن سوريا على (٣٦) درجة و (٤٨) ثانية من الطول الجنوبي على الضفة الجنوبية من نهر العاصي تبعد ٢٥ ميلا عن البحر من وادي النهر و (٥٥) ميلا عن حلب وهي في غربيها وأول من أسسها سلقوس نيكاتور الذي استولى على سوريا من بعد تقسيم مملكة المكدوني سنة (٣٠٠) قبل المسيح وكان ذلك في العصر الذي تسابق به الناس إلى بناء مدن جديدة على طرز مدينة الاسكندرية فاقتدى سلقوس بمعاصريه وعوضا عن أن يسكن في أنتيغوني عاصمته مزاحما أنتيغون الذي غلبه في إيبوس فقد اختار بقعة أخرى بقصد محو اسمه أو لأنه فضل هذه البقعة على أنتيغوني أو اتباعا لما حصل معه من الأوهام ، فقد نقل عنه أنه بينما كان يقرب للتمثال جوبيتر سيرونيان قربانا انقضّ عليه نسر واختطف أحشاء القربان وطار بها إلى جبل سيليبوس الذي أمر سلقوس أن يبنى عليه حصن (وصورة هذا النسر مرسومة على بعض أوسمة أنطاكية). ثم بنى سلقوس بأسفله هذه المدينة الجديدة غير ممتدة لضفة النهر تماما خشية عليها من طغيانه وجعل مهندس العمل رجلا اسمه كسينوس وسماها أنطيوخية أو أنطاكية تشريفا لاسم أبيه أنطيوخوس.

وكان إقبال السكان عليها من مدينة أنتيغوني التي دمرها الحرب أو من بعض القرى التي على ضفة العاصي حيث كان الاسكندر شيد هيكلا للوثن جوبيتر بونيوس. وكان الغرباء القادمون إلى تلك المدينة حتى اليهود يعاملون أحسن معاملة والأغراب المكدونيون واليونانيون اختصوا منها بعدة محلات وكان إنشاء المدينة ابتداء على ثلاثة شوارع. ثم أخذت تعظم وتتزايد حتى فاقت جميع البلدان سوى رومة والقسطنطينية. وبلغت سكانها في عهد السلوقيين (٧٠٠) ألف نسمة وانتهت للغاية القصوى من الجمال وحسن الموقع وعظمة التاريخ وكثرة التماثيل والآثار وانفردت بغزارة المياه.

وأما سورها فهو مما تحيرت به العقول إذ كان من الصخر الذي له رؤوس. وهو حصن قوي متين مبني بحسب الهندسة الحربية بدور على ما هبط وما ارتفع من الجبل من أسفله إلى قمته. وهناك أي في قمة الجبل يتألف منه إكليل بديع الشكل غريب المنظر. ويقال إن هذه المدينة كانت في أقدم تاريخها تسمى إيبغانيه باسم إيبغان الذي حكمها منذ سنة ١٧٥ إلى سنة ١٦٤ ق. م وسميت أيضا أنطاكية العاصي لتميزها عن خمس عشرة مدينة من بناء سلوقوس نيكاتور كانت تسمى بأنطاكية.

٣٠٣

وسميت أيضا أنطاكية دفنة أنطاكية دفنة نسبة إلى غابة قديمة العهد شهيرة عند الأقدمين مختصة بعبادة الوثن أبولون ولقبها بلينسيوس مملكة الشرق. وكانت تحسب عاصمة ثالثة للمملكة الرومانية. وكان داخل سور أنطاكية صخور بارتفاع ٧٠٠ قدم وصخور رملية وشلالات ومجار للمياه. وفي وسط ذلك كله بساتين بديعة ورياض أنيقة كأن من نفحات أزهارها طابت قرائح أولئك المشاهير الذين نشؤوا في أنطاكية كيوحنا فم الذهب وليباتيوس وجلياتوس.

ووراء الضفة اليمنى من العاصي سهول واسعة محاطة في إحدى جهاتها بجبل اللكام وبقية الجبال المتفرعة من جبال البياري. ومن الجهة الأخرى محاطة بآكام سلسلة جبال النصيرية.

وكان سلقوس حينما شاد المدينة بنى في غابة دفنة المعروفة الآن بطواحين بيت الماء هيكلا لأبولون التمثال المحبوب عند السلوقيين. ثم رفع ابنه سوتر في وسط المدينة قوسا عظيما كان منصوبا فوقها (١) تمثال جسيم لأبولون. ولم تزل أنطاكية في عهد السلوقيين والرومانيين تعظم وتزداد حسنا وجمالا وحضارة وعمرانا وتكثر فيها الهياكل والشوارع والبساتين والتماثيل والحمامات حتى بلغت غاية يكلّ عنها قلم الوصف. وبعد خراب كنائس اليهود وظهور الديانة المسيحية أخذت تعمر فيها الكنائس المسيحية. وهي أول مدينة أسست فيها كنيسة مسيحية. وأول كنيسة بنيت فيها كانت في أيام قسطنطين وقد بني فيها هذا القيصر عدة بنايات عجيبة. وآخر القياصرة الذي (٢) اعتنوا بتجميلها كان القيصر بالاتس.

وقد توالت على هذه المدينة الجميلة العظيمة نكبات الدهر وانصبت إليها طوارق الحدثان واستولت الزلازل عليها استيلاء لا ينقطع أمده ولا يتناهى مدده واحترقت مرات. وأول زلزال عراها كان قبل المسيح عليه السلام بمائة وثمان وأربعين سنة. ثم في سنة (١١٥) قبل المسيح في عهد القيصر تراجان تعاقبت عليها الزلازل المهولة حتى حولت مجاري أنهارها وهلك بها خلق كثير. ثم لم تزل تعاودها الزلازل إلى أن كانت سنة ٥٢٦ وسنة ٥٢٧ مسيحية فدهمتها زلزلة دمرت معظمها وأهلكت من سكانها (٢٥٠) ألف إنسان فغيروا

__________________

(١) ذكّر الغزّي القوس أولا ، ثم أعاد عليها الضمير مؤنثا. قال الفيروزآبادي : «القوس : مؤنثة وقد تذكر». وكان ينبغي اتباع أحد الوجهين في عبارة الغزي.

(٢) الصواب : «الذين» ، صفة للقياصرة.

٣٠٤

أسسها وسموها تيوبوليس أي مدينة الله أملا أن يصرف عنها البلاء. ثم في سنة ٥٨٧ و ٥٨٨ مسيحية عاودها الزلزال فأهلك من عالمها ٦٠ ألف نسمة.

وفي سنة (١١١٥) مسيحية وسنة ٥٠٩ ه‍ عاودها أيضا فدمرها عن آخرها. ثم في سنة ١٢٣٧ ه‍ وسنة ١٨٢١ م حدث بها زلزال آخر فلم يكن أقل وبالا مما سبق وآخر زلزال أصابها سنة ١٢٨٧ ه‍ وسنة ١٨٧٠ م فدمر نصفها. وكانت هذه الزلازل العظيمة لم تكن وحدها سببا لدمارها بل كان يحدث فيها ثورات وفتن وحروب تأتي على بقية ما يدمره الزلزال. منها ثورة حدثت بها سنة (١٤٥) قبل المسيح فقد ذبح فيها اليهود مائة ألف من السوريين ونهبوا أنطاكية وسنة (٨٣) قبل المسيح استولى عليها ديكرانوس الأرمني. وبقيت في أيدي الأرمن إلى سنة ٦٩ قبل المسيح فعادت إلى السلوقيين.

وفي سنة ٦٤ قبل المسيح استولى عليها الرومانيون وأحرقوها. وفي سنة (٢٥٠) مسيحية بغتها سابور وأوقع بسكانها على حين غفلة ثم نهبها وأحرقها ورحل عنها.

وبالجملة فإن مدينة أنطاكية هي مدينة بولس أحد رسل المسيح صلوات الله عليه وأساقفتها ارتقوا إلى رتب البطاركة وصار لهم حق الجلوس بجانب أساقفة الإسكندرية ورومة والقسطنطينية. وفيها تسمت أتباع المسيح بالمسيحيين. وعلى عهد هرقيليوس استولى عليها المسلمون ولم تكن حينئذ إلا بلدة في حالة الإدبار والقهقرى أو عاصمة مملكة خربت. هذا خلاصة ما قاله مؤرخو الفرنج في مدينة أنطاكية.

وأما خلاصة ما قاله فيها مؤرخو العرب فهو أن أول من بني هذه المدينة أنطيخس وهو الملك الثالث بعد الاسكندر. وقيل بناها بعد السنة السادسة من موت اسكندر ولم يتمها فأتمها بعده سلوقوس وهو الذي بنى اللاذقية وحلب والرها وأفامية وبنى أنطاكية على نهر أورنطس وسماها أنطيسوخيا. ثم كملها سلوقوس وزخرفها.

وطولها ٦٩ درجة وعرضها ٣٥ دقيقة لا تحت اثنتي عشرة درجة من السرطان وثلاثين دقيقة يقابلها مثلها من الجدي. وهي في الإقليم الرابع. وقيل أول من بناها وسكنها بنت الروم ابن اليقن ابن سام أخت أنطالية. باللام ، وهي من أعيان البلاد ومهماتها موصوفة بالنزاهة والحسن وطيب الهواء وعذوبة الماء وكثرة الفواكه وسعة الخيرات.

٣٠٥

وقال ابن بطلان في بعض رسائله : وخرجنا من حلب لأنطاكية وبينهما يوم وليلة مسافة عامرة لا خراب فيها أصلا وهي أراض تزرع حنطة وشعيرا تحت شجر الزيتون. قراها متصلة ورياضها مزهرة ومياهها متفجرة يقطعها المسافر بال رخي وأمن وسكون. ولأنطاكية سور وفصيل وللسور ٣٦٠ برجا يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك يضمنون حراسة البلدة سنة ويستبدل بهم.

وشكل البلدة كنصف دائرة قطرها يتصل بالجبل والسور يصعد من الجبل إلى قلّته فتتم دائرة. وفي رأس الجبل داخل السور قلعة تبين لبعدها عن البلد صغيرة. وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية. وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب وفي وسطها بيعة القسيان ، وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده بطرس رئيس الحواريين وهو هيكل طوله ١٠٠ خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين. وكان يدور على الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة (١) ومتعلمو النحو واللغة. وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان للساعات يعمل ليلا ونهارا دائما اثنتي عشرة ساعة وهو من عجائب الدنيا وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومناظر حسنة تخرج منها المياه. وعلة ذلك أن الماء ينزل عليها من الجبل المطل على المدينة وهناك من الكنائس ما لا يحدّ ، كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزّع (٢).

وفي البلد بيمارستان يراعي البطريك المرضى فيه بنفسه ويدخل المجذومين الحمام في كل سنة فيغسل شعورهم بيده ومثل ذلك يفعل الملك بالضعفاء كل سنة. ويعينه على خدمتهم الأجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع. وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة أخرى لذاذة وطيبة لأن وقودها الآس ومياهها تسعى سيحا بلا كلفة. وفي بيعة القسيان من الخدم المسترزقة ما لا يحصى ولها ديوان لدخل الكنيسة وخرجها فيه بضعة عشر كاتبا.

وبين أنطاكية والبحر نحو فرسخين ولها مرسى في بليد يقال له السويدية ترسي (٣) فيه مراكب الفرنج ويرفعون أمتعتهم إلى أنطاكية على الدواب وكان الرشيد العباسي قد دخل

__________________

(١) أي لإصدار الأحكام والفصل في القضايا المعروضة.

(٢) المجزّع : ما اجتمع فيه سواد وبياض على شكل عروق.

(٣) الصواب «ترسو» وماضيه «رسا».

٣٠٦

أنطاكية في بعض غزواته فاستطابها جدا وعزم على المقام بها فقال له شيخ من أهلها : ليست هذه من بلدانك يا أمير المؤمنين. قال : وكيف؟ قال : لأن الطيب الفاخر فيها يتغير حتى لا ينتفع به والسلاح يصدى (١) فيها ولو كان من قلعي الهند. فصدق ذلك وتركها ودفع عنها.

وقال المسعودي في كتابه مروج الذهب في الكلام على بطليموس (٢) : (وكان ملك الشام يومئذ أنطيخس وهو الذي بنى مدينة أنطاكية وكانت دار ملكه وجعل بناء سورها أحد عجائب العالم في البناء على السهل والجبل. ومسافة السور اثنا عشر ميلا وعدة الأبراج فيه ١٣٦ برجا وجعل عدد شرفاته ٢٤ ألف شرفة. وجعل كل برج من الأبراج بتولية بطريق أسكنه إياه برجاله وخيله ، وجعل كل برج منها طبقات والبطريق في أعلاه وجعل كل برج منها كالحصن عليها أبواب حديد وأظهر فيها مباها من أعين وغيرها لا سبيل إلى قطعها من خارجها وجر إليها مياها في قنيّ منخرقة إلى شوارعها ودورها.

قال : ورأيت فيها في هذه المياه ما يتحجر (٣) في مجاريها المعمولة من الخزف فيتراكم الماء المتحجر طبقات ويمنع الماء من الجري بانسداده فلا يعمل في كسره الحديد. وهو مما يولد في أجساد أهلها وأجوافهم وما يحدث في معدهم (٤) من الرياح السوداوية الباردة. اه. قلت : هذه المياه التي ذكرها المسعودي غير معروفة الآن.

وأما فتحها فإن أبا عبيدة بن الجراح سار إليها من حلب وقد تحصن بها خلق كثير من جند قنسرين فلما صار بمهرويه على فرسخين من أنطاكية لقيه جمع من العدو ففضهم وألجأهم إلى المدينة وحاصر أهلها من جميع نواحيها وكان معظم الجيش على باب فارس والباب الذي يدعى بباب البحر. ثم إنهم صالحوه على الجزية والجلاء فجلا بعضهم وأقام بعض منهم فآمنهم ووضع على كل حالم دينارا وجريبا ثم نقضوا العهد فوجه إليهم أبو عبيدة عياض بن غنم وحبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول.

__________________

(١) أي يصدأ ، بالهمز.

(٢) مروج الذهب ١ / ٣٣٥ ط. بيروت.

(٣) في المروج : «فيها من هذه المياه ما يستحجر».

(٤) في الأصل : «معوهم» والتصويب من المروج.

٣٠٧

ويقال بل نقضوا بعد رجوع أبي عبيدة إلى فلسطين فوجه إليها عمرو بن العاصي من إيليا ففتحها ورجع ومكث يسيرا حتى طلب أهل إيليا الأمان والصلح. ثم انتقل إليها قوم من أهل حمص وبعلبك مرابطة ، منهم مسلم بن عبد الله جدّ عبد الله بن حبيب بن النعمان بن مسلم الأنطاكي. وكان مسلم قتل على باب من أبوابها فهو يعرف بباب مسلم إلى حدود سنة ٦٠٠ وذلك أن الروم خرجت من البحر فأناخت على أنطاكية وكان مسلم على السور فرماه روميّ بحجر فقتله. ثم إن الوليد بن عبد الملك بن مروان أقطع جند أنطاكية أرض سلوقية عند الساحل وصيّر لهم الفلز بدينار ومدي قمح (١) فعمروها وجرى ذلك لهم وبنى حصن سلوقية. والفلز مقدار من الأرض معلوم كفدّان وجريب.

ثم لم تزل بعد ذلك أنطاكية في أيدي المسلمين وثغرا من ثغورهم إلى أن ملكها الروم سنة (٣٥٣) بعد أن ملكوا الثغور : المصيصية وطرطوس وآذنه. واستمرت في أيديهم إلى أن استنقذها منهم سليمان بن قتلمش السلجوقي سنة ٤٧٧ وكتب سليمان إلى السلطان جلال الدولة ملكشاه بن الب ارسلان بخبر فتحها فسرّ به وأمر بضرب البشائر فقال الأبيوردي يخاطب ملكشاه :

لمعت كناصية الحصان الأشقر

نار بمعتلج الكثيب الأحمر

وفتحت أنطاكيّة الروم التي

نشزت معاقلها على الإسكندر

وطئت مناكبها جيادك فانثنت

تلقي أجنّتها بنات الأصفر (٢)

فاستقام أمرها وبقيت بأيدي المسلمين إلى أن ملكها الفرنج الصليبيون من واليها بغى سنان التركي كما ذكرناه في حوادث سنة ٤٩١ واستمرت في أيدي الصليبيين إلى أن استردها منهم الملك الظاهر بيبرس البندقداري سنة ٦٦٦ على ما حكيناه في حوادث هذه السنة. وبقيت في أيدي المسلمين إلى يومنا هذا تتداولها الدول الإسلامية دولة بعد دولة.

مقتطفات في أنطاكية : قال ابن الشحنة : وأنطاكية في شعر المتنبي مشددة الياء في قصيدته التي مدح بها محمد بن زريق :

__________________

(١) المدي : بضم الميم ، مكيال للشام ومصر ، وهو غير المدّ. ج أمداء «القاموس المحيط».

(٢) العجز محرّف في الأصل : «أجثّتها بنات الأصغر» والتصويب من ديوان الأبيوردي ومعجم البلدان. وبنات الأصفر : نساء الروم.

٣٠٨

وحجبتها عن أهل أنطاكيّة

وجلوتها لك فاجتليت عروسا (١)

وأنكر عليه ذلك بعض العلماء. قلت : وكذا الأبيوردي شدد الياء في شعره المتقدم ذكره. والظاهر جواز ذلك لما علمت أن هذه اللفظة معربة عن أنطوخية ومعلوم أن العرب إذا عربت كلمة تصرفت بها كيفما شاءت.

ونسب إلى أنطاكية جماعة كثيرة من أهل العلم وغيرهم منهم عمر بن علي بن الحسن العتكي الأنطاكي الخطيب صاحب كتاب المقبول ، سمع عدة محدثين بدمشق وقدم مرة أخرى في سنة ٣٥٩ مستنفرا فحدّث بها وبحمص عن جماعة كثيرة وروى عنه عدة محدثين من الأفراد الكبار ، مات في أنطاكية سنة (٣٨٢). ومنهم إبراهيم بن عبد الرزاق أبو يحيى الأزدي ويقال العجلي الأنطاكي الفقيه المقرئ. له كتاب في القراءات الثمان وحدث عن جماعة ومات بأنطاكية سنة (٣٣٨). ذكر المسعودي في مروج الذهب في الكلام على البيوت المعظمة عند اليونانيين أن البيوت المضاف بناؤها إلى من سلف من اليونانيين ثلاثة بيوت ، فبيت منها كان بأنطاكية من أرض الشام على جبل بها داخل المدينة والسور محيط بها وقد جعل المسلمون في موضعه مرقبا لينذرهم من قد رتّب فيه من الرجال بالروم إذا وردوا من البر والبحر ، وكانوا يعظمونه ويقربون فيه القرابين فخرب عند مجيء الإسلام. وقد قيل إن قسطنطين الأكبر ابن الملكة هيلانة المظهرة لدين النصرانية هو المخرب لهذا البيت وكانت فيه الأصنام والتماثيل من الذهب والفضة وأنواع الجواهر.

وقد قيل إن هذا البيت هو بيت في مدينة أنطاكية على يسرة الجامع إلى (٢) اليوم سنة (٣٣٢) وكان هيكلا عظميا والصابئة تزعم أن الذي بناه سقالانيوس وهو في هذا الوقت سنة (٣٣٢) يعرف بسوق الجزارين. وقد كان ثابت بن قرّة بن كرايا الصابئي الحرّاني ، حين وافى المعتضد في سنة ٢٨٩ في طلب وصيف الخادم ، ابن ثابت (٣) ، أتى هذا الهيكل وعظمه وأخبر من شأنه ما وصفنا.

__________________

(١) الضمير في «حجبتها» للقصيدة.

(٢) كلمة «إلى» ليست في المروج ٢ / ٢٣٣.

(٣) قوله : «ابن ثابت» مقحم هنا وليس في المروج.

٣٠٩

في مروج الذهب أيضا في الكلام على الهياكل أن في أنطاكية هيكل يعرف بالديماس على يمين مسجدها الجامع مبني (١) بالآجر العادي والحجر عظيم البنيان. وفي كل سنة يدخل القمر عند طلوعه من باب من أبوابه من أعاليه في بعض الأهلة الصيفية. وقد ذكر أن هذا الديماس من بناء الفرس حين ملكت أنطاكية وأنه بيت نار لها. اه.

والنصارى يسمون أنطاكية مدينة الله ومدينة الملك وأم المدن لأن بها كان مبدأ ظهور النصرانية وبها كان كرسي البطريرك الأعظم وكان بأنطاكية كنيسة بربارة وبها كنيسة أخرى تدعى شمونيت ولها عيد معظم عند المسيحيين. وكذلك كان بها كنيسة لبولس تعرف بدير البراغيث وهو مما يلي باب فارس وكان بها كنيسة لمريم العذراء صلوات الله عليها وهي مدورة وبنيانها من إحدى عجائب الدنيا في التشييد والرفعة اقتلع منها الوليد أعمدة عجيبة من المرمر والرخام إلى مسجد دمشق حملت في البحر إلى ساحل دمشق وبقيت فيه وكان قسطنطين ابتنى بأنطاكية هيكلا ذا ثمان زوايا على اسم السيد مريم ، وابتنى في مدينة بعلبك بيعة أخرى. وهو الذي ابتنى كنيسة القسيان في أنطاكية أيضا. وكان يرسل إليها في كل سنة ستة وثلاثين ألف مدّ (٢) من القمح ولما زلزلت أنطاكية سنة ٥٢٦ وسنة ٥٢٧ مسيحية هلك تحت الردم أربعة آلاف وثمانمائة وسبعون رجلا وكل الذين تبقوا من هذا الردم هربوا ومضوا إلى أماكن أخرى. ثم أشار على أهل المدينة رجل عابد بأن يكتبوا على أبواب بيوتهم بلغتهم ما معناه (المسيح معنا) وأن يسموا المدينة مدينة الله.

ولما فتحها سابور الفارسي أمر فصورت له على ما هي عليه من الشوارع والبيوت ومواقعها ومناظرها وعدد منازلها وعلوها وسفلها وبعث بالصورة إلى خليفته بالمدائن وأمره أن يبني له مدينة على صورتها ووصفها حتى لا يكون بينها وبين أنطاكية في منظر العين فرق. فبنيت المدينة وسماها أنطاكية ونقل إليها أهل أنطاكية حتى يسكنوها فلما صاروا إليها ودخلوا من باب المدينة مضى كل أهل بيت منهم إلى شبه منزله كأنهم خربوا من أنطاكية وعادوا إليها.

__________________

(١) الصواب : «.. هيكلا يعرف بالديماس ... مبنيا ...» بنصب اسم أنّ منونا ونصب صفته أيضا.

(٢) المدّ : مكيال ضخم اختلف الفقهاء في تقديره. ومن تقديراته القريبة أنه ملء كفّي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدّ يده بهما. وهو غير المدي.

٣١٠

وفي أنطاكية عدة مقامات عالية منها قبر حبيب النجار المذكور في سورة ياسين على قول. وقبر عون بن أرميا النبي. وفي الحديث مرفوعا أن فيها التوراة وعصا (١) موسى ورضراض الألواح من مائدة سليمان بن داود عليهما السلام ومحبرة إدريس ومنطفة شعيب وبرد نوح. ويقال إنه كان في كنيسة القسيان منها كف يحيى عليه السلام.

ولمدينة أنطاكية أخبار طوال في الحروب وأحاديث عن رجالها يطول شرحها وقد أضربنا (٢) الصفح عنها اكتفاء بما لخصناه منها في باب الحوادث وخشية من التطويل الممل.

وهنا نورد حكاية عن صاعقة حكاها ياقوت عن ابن بطلان ذكر أنها سقطت على أنطاكية وفعلت أمورا غريبة. وقد اخترنا إثباتها ليطلع القارئ على ما في عجائب القدرة وما أودعه الله من القوة الغريبة في الصاعقة. قال في آخر سنة ١٣٦٣ للاسكندر الواقعة في سنة ٤٤٢ للهجرة تكاثرت الأمطار وتواصلت أكثر أيام نيسان وحدث في الليلة التي صبيحتها يوم السبت الثالث عشر من نيسان رعد وبرق أكثر مما ألف وعهد وسمع في جملة (٣) أصوات رعد كثيرة مهولة أزعجت النفوس ووقعت في الحال صاعقة على صدفة مخبأة (٤) في المذبح الذي للقسيان ففلقت من وجه النسرانية قطعة تشاكل ما قد نحت بالفاس والحديد الذي تنحت به الحجارة وسقط صليب حديد كان منصوبا على علو هذه الصدفة وبقي في المكان الذي سقط فيه وانقطع من الصدفة أيضا قطعة يسيرة ونزلت الصاعقة من منفذ في الصدفة وتنزل فيه (٥) إلى سلسلة فضة غليظة يعلق فيها الثميوطون وسعة هذا المنفذ أصبعان فتقطعت السلسلة قطعا كثيرة وانسبك بعضها ووجد ما انسبك منها ملقى على وجه الأرض وسقط تاج فضة كان معلقا بين يدي مائدة المذبح.

وكان من وراء المائدة في غربيها ثلاثة كراس خشبية مربعة مرتفعة ينصب عليها ثلاثة صلبان كبار فضة مذهبة مرصعة ، وقلع قبل تلك الليلة الصليبان (٦) الطرفيّان ورفعا إلى

__________________

(١) في الأصل : «وعصى» خطأ.

(٢) الصواب : «ضربنا» أي أعرضنا. أو يقال : «أضرب عنه» : أي أعرض ، من دون كلمة «الصفح».

(٣) في ياقوت : «في جملته».

(٤) في الأصل : «مخبية» تحريف وخطأ.

(٥) بعدها في ياقوت : «إلى المذبح».

(٦) في الأصل : «الصلبان» تحريف.

٣١١

خزانة الكنيسة وترك الوسطاني على حاله فانكسر الكرسيان الطرفيان وتشظيا وتطايرت الشظايا إلى داخل المذبح وخارجه من غير أن يظهر فيها أثر حريق كما ظهر في السلسلة ، ولم ينل الكرسي الوسطاني ولا الصليب الذي عليه شيء.

وكان على كل واحد من الأعمدة الأربعة الرخام التي تحمل القبّة الفضية التي تغطي مائدة المذبح ثوب من ديباج ملفوف على كل عمود فتقطّع كل واحد منها قطعا كبارا وصغارا وكانت هذه القطع بمنزلة ما قد عفن وتهرأ ولا يشبه ما قد لامسته نار ولا ما احترق ولم يلحق المائدة ولا شيئا من هذه الملابس التي عليها ضرر ولا بان فيها أثر. وانقطع بعض الرخام الذي بين يدي مائدة المذبح مع ما تحته من الكلس والنورة كقطع الفاس ومن جملته لوح رخام كبير طفر من موضعه فتكسر وطارت قطعه (١) إلى علو تربيع القبة الفضة التي تغطي المائدة وبقيت هناك على حالته (٢) وتطافر بقية الرخام إلى ما قرب من المواضع وبعد. وكان في المجنّبة التي للمذبح بكرة خشب فبها حبل قنّب مجاور للسلسلة الفضة التي تقطعت وانسكب (٣) بعضها معلّق فيها طبق فضة كبير عليه فراخ قناديل زجاج بقي على حاله ولم ينطف شيء من قناديله ولا غيرها ولا شمعة كانت قريبة من الكرسيين الخشب ولا زال منها شيء.

وكان جملة هذا الحادث مما يعجب منه وشاهد غير واحد في داخل أنطاكية وخارجها في ليلة الاثنين الخامس من شهر آب من السنة المتقدم ذكرها في السماء شبة كوّة ينور منها نور ساطع لامع ثم طفىء وأصبح الناس يتحدثون بذلك.

وتوالت الأخبار بعد ذلك بأنه كان في أول نهار يوم الاثنين في مدينة غنجرة (٤) وهي داخل بلاد الروم على تسعة عشر يوما من أنطاكية زلزلة مهولة تتابعت في ذلك اليوم وسقط منها أبنية كثيرة وخسف موضع في ظاهرها. وكان هناك كنيسة كبيرة وحصن لطيف غابا حتى لم يبق لهما أثر ونبع من ذلك الخسف ماء حار شديد الحرارة كثير النبع المتدافق (٥) ،

__________________

(١) وطارت قطعة : ليست في ط. صادر من معجم البلدان.

(٢) في ياقوت : «على حالها» وهو الصواب.

(٣) في ياقوت : «وانسبك» وهو الصواب ، كما سبق أعلاه.

(٤) في الأصل : «عنجرة» والتصويب من ياقوت.

(٥) في ياقوت : المنبع المتدفق.

٣١٢

وغرق منه سبعون ضيعة وتهارب خلق كثير من تلك الضياع إلى رؤوس الجبال والمواضع المرتفعة العالية فسلموا وبقي ذلك الماء على وجه الأرض سبعة أيام وانبسط حول هذه المدينة مسافة يومين ثم نضب وصار موضعه وحلا.

وحضر جماعة ممن شاهد هذه الحالة فحدثوا بها أهل أنطاكية وحكوا أن الناس كانوا يصعدون أمتهتهم إلى رأس الجبل فيضطرب من عظم الزلزلة فيتدحرج المتاع إلى الأرض (١).

ومن الأماكن التي لها شهرة في التاريخ القديم مكان يقال له (دفنة) في غربي أنطاكية على بعد نصف ساعة منها ويعرف الآن ببيت الماء أو بطواحين بيت الماء وبعضهم يقول بيت المال وهو في شرقي العاصي.

يقال بناها سلقوس نيكاتور منتزها له والصحيح أنها أقدم من سلقوس باني أنطاكية وأن الذي بناها اسمه أبيدفن. غير أن سلقوس حسنها كثيرا ففتح شوارعها وعمر فيها مسارح للتياترو وعمل بها عدة مناظر ومنتزهات. وكان في هذه المدينة هيكل يقال له أبولون معبود السلوقيين ، وكان معمولا من السرو الجبلي. وعلى بعد غلوة (٢) من دفنة بين البساتين كان يوجد مسرح شائق لتمثيل الروايات المعروف بالتياترو. وأبولون المذكور كان عند اليونانيين إله الصنائع والأدبيات والطب وضياء الشمس. وكان على مثال شاب جميل الصورة قد استرسل شعره إلى الأرض وحمل في يده قوسا. وقد بقي هذا الوثن يعبد على وجه الأرض (١١٧٨) سنة وذلك من مبدأ عمله إلى عام احتراقه.

والخلاصة أن موقع دفنة على غاية من جودة الهواء وعذوبة الماء ولطافة المناظر حتى إن سكان أنطاكية ولا سيما الأغنياء منهم لا يستغنون عن التريّض بهذا الموضع ولا يصبرون فيه عن دواعي تعاطي الطرب كالغناء والشرب والملاهي.

ولما قدم الملك بونيانوس إمبراطور استانبول في الجيل الثالث بعد الميلاد لزيارة هذا الهيكل رأى أن المسيحيين لا يوجبون احترامه فغضب عليهم وهدم سائر كنائسهم الموجودة في دفنة وأخرج منها عظام بعض مقدسيهم وأحرقها. وفي ذلك الأثناء قامت فتنة بين أهل

__________________

(١) تصرّف الغزي في النصّ الذي نقله هنا. وقد اقتصرنا على أهمّ الفروق.

(٢) الغلوة : سبق شرحها في الحاشية ص ٥٨.

٣١٣

أنطاكية لاستيلاء القحط عليهم وأحرقوا هذا الهيكل. وفي سنة ٦٢٥ مسيحية زلزلت تلك الجهات وانهدمت دفنة عن آخرها. ومحلها الآن ظاهر للعيان وهو واد بين جبلين فسيح موجه غربا تنبع المياه من قمة هذين الجبلين وتسيح على أباطحها فيرى لها منظر بديع جدا كأنها سلاسل فضة مدلّاة من علو وهي في غاية العذوبة والصفاء وقد نصب على شلالاتها وهي في الجبل نحو عشرة أرحاء (١) تدور بقوة المياه وبعد نزولها إلى وادي دفنة تجري إلى عدة بساتين فترويها ثم تصب إلى نهر العاصي.

وبالجملة فإن دفنة لم يبق لها الآن أثر ولا يدل عليها طلل فسبحان الدائم بعد فناء البلاد والعباد.

ومن الأماكن المشهورة في قضاء أنطاكية ناحية(السويدية) في شمالي سورية وغربي أنطاكية على بعد ستة أميال منها في موضع صخري مقبل على البحر المتوسط في لحف جبل بيروس ، ويقال له أيضا جبل موسى. وهي من أنزه نواحي أنطاكية وأعمرها قد اشتملت على ما لا يحصى كثرة من العيون العذبة والبساتين الحاوية من كل ثمرة وفاكهة.

وقد زعم بعض المؤرخين أنها كانت بلدة فينيقية يقال لها (أولبياهيريا) وأنها كانت محط تجارة بعض الفينيقيين في زمن إقبالهم كاسكندرونة. والصحيح أن الذي اختطها سليقوس نيكاتور جعلها فرضة (٢) لأنطاكية وكانت تسمى في عهد السلوقيين سلوقية. وتمتاز عن غيرها بإضافتها إلى بيروس وكان يسمى باسمها تسعة بلدان. ويروى أن بانيها مدفون في موضع منها.

وقد استمرت في أيدي خلفاء سلوقوس إلى أن انتزعها منهم بطليموس الثالث ثم استعادها أنطيوخوس الكبير ثم استولى عليها تكران ملك الأرمن ولم تلبث معه غير قليل حتى ملكها منه الرومان فانحطت للغاية. وأما ميناؤها فقيل إن الذي حفرها هو القيصر طيباريوس وقيل بل هي قديمة وإنما هذا القيصر أصلحها بعد خللها.

واستمرت مدينة السويدية عامرة بعد انحطاطها إلى سنة (٥٢٦) وفيها زلزلت الأرض هناك وانهدم معظم المدينة. ثم في سنة (٥٢٨) زلزلت مرة أخرى فأتت على بقية مبانيها

__________________

(١) الأرحاء : جمع الرّحى ، وهي الطاحون.

(٢) سبق شرح الفرضة في الحاشية ص ١٢٤.

٣١٤

وهدمتها بالكلية. وأما ميناؤها فكانت من أحسن المواني على البحر المتوسط وهي من عمل الصناعة. تبلغ مساحتها ميلا في مثله بعيدة عن البحر مقدار غلوة كانت تدخل إليها السفن من البحر بمعبر عظيم وتبقى فيها آمنة من كل غائلة. وقد استمرت مستعملة إلى أيام السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري الذي استرد أنطاكية وما جاورها من البلاد من أيدي الفرنج الصليبيين. ودفعا لغائلة عودهم إلى تلك الجهات من الميناء المذكورة أمر بإبطالها فأبطلت وردمت بالتراب وزال الانتفاع منها. والآن يقدم على البحر تجاهها بعض سفن تجارية شراعية وقليل من البواخر فلا تتمكن هذه السفن والبواخر من الأخذ والعطاء إلا بمشقة زائدة.

قال ياقوت : وقد أقطع الوليد الوليد بن عبد الملك جند أنطاكية أرض سلوقية عند الساحل وصير عليهم الفلز (وهو بسيط من الأرض معلوم كالفدّان والجريب) بدينار ومدي قمح فعمروها وجرى ذلك لهم وبنى حصن سلوقية. ولعل السيوف السلوقية والكلاب السلوقية منسوبة إليها. وفي بعض الكتب : كان في جبال الشغر الجارح والكلاب السلوقية الموصوفة من بلاد السلوقية فنسبا إليها ، وهو صحيح. والكلب السلوقي يعرف بدقة الرأس وطول الأنف والرقبة وضمور الصدر وطول القوائم ودقتها (١) وصغر الأذنين وتدليهما عند طرفيهما فقط وطول الذنب ودقته كثيرا. وهو يسبق الخيل بعدوه ويصيد بالشّمّ لا بالنظر.

علاوة نذكر فيها ما علمناه

في أنطاكية وبعض نواحيها

زرت مدينة أنطاكية مرات عديدة وعرفت شيئا من أخلاق أهلها ومحاسن بلدهم ومساويها وجلت في نواحيها وقراها وجبالها وسهولها وأحطت خبرا بما اشتملت عليه من العمران وبما تدرّ على قطانها من الخيرات والبركات فلم أر مدينة ولا صقعا من الأصقاع يضارع أنطاكية وأصقاعها في خيراته ومنتزهاته وطيب مائه وجودة هوائه.

أول ما يتراءى للمقبل على مدينة أنطاكية من جهة حلب سفح جبل حبيب النجار

__________________

(١) في الأصل : «ودقتهما» والصواب ما أثبتناه.

٣١٥

فيرى منحدرا فسيحا قامت فيه المنازل والعمائر ذات القصور الباسقة والمباني الشاهقة المنبثة بين الحدائق والبساتين. ثم لا يلبث القادم عليها حتى يسمع من جهتها نعر (١) النواعير الدائرة بقوة مياه العاصي الشبيهة بنواعير حماة. وقد يستقبل النسيم القادم إليها في إبان فصل الخريف بأرج الآس الذي غرسته يد القدرة في جبالها وهضابها القريبة منها والبعيدة عنها. وبعد أن يجتاز إليها ذلك الجسر القديم يرى بلدا عظيما معمورا حسن المباني بعضها من الأخشاب وبعضها الآخر ـ هو الأكثر ـ من الحجارة المنهدمة قد تعلق في كثير من جدرانها سواق خشبية يجري فيها ماء النواعير إلى أماكن لكل منها قسطل معلوم.

إذا صعدت إلى بعض مرتفعات جبل حبيب النجار تراءت لك البلدة كنصف دائرة استدار عليها العاصي من شرقيها وشماليها وغربيها واعترضها الجبل من جنوبيها فصار قطرا لها. وترى هذا الجبل على عظمته وطول مسافته قد تمشّى في وديانه وقممه ذلك السور العظيم الذي أوله من قرب المكان المعروف بباب بولس وآخره قرب دفنة (٢).

أهل أنطاكية متعصبون بالدين. والجمال غالب في نسائهم وقد اشتدت في وجهائهم وأعيانهم محبة الجاه والتقرب إلى الحكومة. وهم ميالون إلى العلوم والآداب والمعارف. وفي طباعهم السخاء والإحسان إلى الضيف والتسابق إلى إكرامه.

التجارة في أنطاكية قليلة الجدوى ، ولذا كان معظم الثروة التي لا يمكن للإنسان أن يملكها في أنطاكية يحرزها من قراها وبساتينها فأرباب الثراء من هذه الجهة هم الذين يزاحمون بعضهم بالتقرب إلى الحكومة ليتمكنوا من إخضاع مزارعيهم ويصونوا حقولهم وغلّاتهم منه ومن غيره أرباب الصيال والسطوة في البر. وهذا هو السبب الذي جعلهم في أكثر الأوقات منقسمين إلى فئتين كل منهما ينضم إليها فريق من أهل البلدة والأكثر أن تكون إحدى الفئتين غالبة والأخرى مغلوبة مبتعدة عن الحكومة عاجزة عن حفظ أرزاقها في البر.

مدينة أنطاكية تتصل بساتينها من جهة الغرب بناحية السويدية المشتملة على عدة نواح كالحسينية والزيتونية والميناء.

__________________

(١) نعر نعرا : صاح وصوّت.

(٢) سبق الكلام على «دفنة» ص ٣١٣ ـ ٣١٤.

٣١٦

وناحية السويدية هذه مما لا نظير له في البلاد من جهة حسن مناظرها وغزارة مياهها ووفور غلاتها التي هي أنواع البرتقال والفواكه والزيتون والتين والرمان والحرير والحنطة والشعير والشوفان. ترى لكل أسرة من الأسر المقيمة في هذه الناحية لمعاناة الفلح والزرع والغراس قصرا مشيدا جميلا قائما بين الغابات من الأشجار المثمرة ينبع في طرف عنها عين خرّارة ماؤها على غاية ما يكون من الصفاء والعذوبة والبرودة.

والسويدية في أكثر مناحيها منحدرات من الشرق إلى الغرب وهي تستوعب مسافة طولها نجوا (١) من ثلاث ساعات في عرض مثلها. تنتهي من جهة الغرب وقسم من جهة الجنوب بالبحر. فإذا وقفت في أي بقعة من بقاعها تجلت لك مناظر مدهشة لأنك بعد أن تطل منها على مسافة بعيدة مشحونة بجنات تجري من تحتها الأنهار ، ينتهي بصرك بذلك البحر العظيم الذي يتراءى لك فيه شبح جزيرة قبرص وما قاربها من الجزائر.

ناحية السويدية كلها مقاصف ومنتزهات غير أنه يوجد فيها بعض منتزهات تمتاز عن غيرها من جهة حسن مناظرها وجودة هوائها ومائها : من ذلك منتزه يعرف باسم (جوليك) ذلك المنتزه الوحيد الذي لا نظير له حتى في جزر الأرخبيل ولذا يقصده في كثير من السنين المصطافون من البلاد والغربية من الفرنسيس والإنكليز وغيرهم يقيمون عنده في مضارب يحضرونها معهم إذ لا توجد فيه مبان تصلح للإقامة.

ومن أحاسن منتزهات السويدية العديمة النظير جبل موسى المشتمل على قرى يسكنها الأرمن كقرية كبوسية وقرية خضر بك وقرية حاج حببلو فإن كل قرية من هذه القرى واقعة من هذا الجبل في سفح سترته المشاجر والغابات وجرت من قممه مياه العيون المتفجرة المنحدرة إلى وديان اتخذت حقولا لزرع الخضر والبقول كالطماطم والبطاطة التي يستغل منها ذووها مبالغ تسد عوزهم وتكمل لهم من أمر معاشهم ما ينقصهم من صنائعهم التي هي استخراج الحرير والحياكة والصياغة وطرق النحاس ظروفا وأواني وغير ذلك من الصنائع التي اتخذوها وهم في رؤوس تلك الجبال الشاهقة.

ومن نواحي أنطاكية العديمة النظير ناحية القصير المشتملة على سهول وجبال كلها مملوء بالغراس والحقول المستعدة لزرع الحبوب قد تدفقت مياهها وطاب نسيمها. تتوالى

__________________

(١) الصواب «نحو» بالرفع خبرا للمبتدأ «طولها».

٣١٧

على قطّانها مواسم غلاتها موسما تلو موسم : غلة الزيتون ثم غلة التين والعنب ثم غلة البطيخ وأنواع اليقطين ثم غلة الحبوب كالحنطة والشعير.

ومن نواحي أنطاكي (١) العامرة أيضا جبال قره مورط وهي شعاب من جبل اللكام غلب عليها غابات الأرز والسنديان والسرو الجبلي وغيرها ويزرع فيها التبغ فينجم منه ما هو الغاية باللذة. وفيها وديان لزرع الخضر والبقول والحبوب. وفي بعض جهات هذه الجبال أنواع من الأتربة التي تستعمل للصبغ.

يصاد من نهر العاصي أنواع من الأسماك تباع في أنطاكية بأرخص سعر. والغريب أن أهل أنطاكية يكرهون سمك السّلور المعروف في حلب باسم السمك الأسود فلا يأكله في أنطاكية غير الغرباء وهو يباع بأبخس ثمن.

من جملة منتزهات أنطاكية المنفردة بالمحاسن والعمائر منتزه ناحية الجربية الكائنة على مقربة من مدينة أنطاكية وهي ممتدة على سفح جبل تحدرت فيه مياه من عيون خرارة تسقي ما في الناحية من البساتين المتنوعة الثمار. في كل بستان منها على الغالب قصر منيف يسكنه في فصل الصيف صاحبه ويخال لمن كان فيه كأنه في جنة عالية قطوفها دانية تجري المياه من تحت القصر. وللساكن فيه من المناظر ما وصفناه من المناظر في ناحية السويدية ناهيك بمنتزه لم يرض عمرو بن العاص أن يبات فيه خشية افتتان الجند بمحاسنه إذا أصبحوا.

هذه المنتزهات هي غير منتزهات كثيرة قريبة من مدينة أنطاكية كالمنتزه المعروف باسم العين الطويلة أضربنا الصفح عن ذكرها (٢) إيجازا للكلام.

مدينة أنطاكية قد تقدمت في الأيام الأخيرة بالعمران وتجدد فيها على الضفة الشمالية من نهر العاصي مبان عظيمة آخذة نحو الطريق المؤدية إلى ناحية السويدية (٣).

مما انفردت به مدينة أنطاكية من الفواكه المشمش العجمي المعروف عند أهلها باسم (شكر باره) والدرّاقن والسفرجل والأنكي دنيا وقصب السكّر والبرتقال والليمون وأنواع البطيخ الأصفر والعنب والرمان وحب الآس والعنّاب. وانفردت أيضا بلبن الجاموس وما

__________________

(١) هذا سهو من المؤلف والصواب «أنطاكية».

(٢) انظر الحاشية ٢ ص ٣١١.

(٣) في الأصل : «السوية» فصحّحناها.

٣١٨

يعمل منه كالزبدة والجبن فهما مما لا نظير له في غير أنطاكية. وانفردت أيضا بالتبغ المعروف بالتتون والفلافل الحمراء التي يكثر الأنطاكيون من أكلها وينقل منها إلى حلب وغيرها قناطير مقنطرة طرية ومسحوقة. وانفردت أيضا بكثرة ما يعمل في مصابنها من الصابون وربما كان معادلا صابون حلب بالجودة والكثرة.

مساوىء أنطاكية

من مساوىء مدينة أنطاكية في الشتاء كثرة الأمطار والرعود والصواعق والزلازل. وهي بالحقيقة في موقع جبلي بركاني يدلّك عليه موقع بيت المال ونبع المياه فيه من قمم الجبال ، الأمر الذي يبرهن لك على أن هذه المياه الغزيرة لم يدفعها إلى تلك القمم صعدا سوى حركة بركانية أعقبت انفجار بركان عظيم.

ومن مساوئها أيضا انحباس النسيم عنها في بعض ليالي الصيف وكثرة الرطوبة وقد تقدم الكلام عليهما. وأحسن ما تكون أنطاكية في أيام الخريف. إذ يكون هواؤها في هذا الفصل لطيفا منعشا يحمل إليها من الجبال الكائنة في جوارها أريج الآس والمرسين (١). وتطيب فيها الأثمار ويلذ السهر والسمر في المنتزهات المشادة على أطراف نهر العاصي كالفنادق والمطاعم.

الأسر الشهيرة في هذه المدينة

من الأسر الشهيرة في مدينة أنطاكية أسرة آل بركة وهي تعرف في أنطاكية باسم بركة زاده. جدها الأعلى من مدينة حمص من عشيرة بني خالد بن الوليد وهو أول من قدم إلى أنطاكية واتخذها وطنا.

وجيه هذه الأسرة فقيد الوطن المرحوم الحاج رفعت آغا أحد رجال عصره المعروفين بالوجاهة والذكاء والجاه والقبول لدى الحكام والعلوم والمعارف وكرم السجايا وطلاقة

__________________

(١) المرسين : فسّره صاحب متن اللغة بأنه «شجرة الآس ، وهو ريحان القبور». أما صاحب معجم الألفاظ الزراعية ففسره بأنه نبات كان يخضب به الشعر ويسمّى أيضا : الكتم.

٣١٩

المحيا وسخاء اليد وإقراء (١) الضيوف. وقد تقلب في عدة خدم مهمة في الحكومة العثمانية. وفي أيامه الأخيرة انتخب عضوا لمجلس المبعوثين.

كان يقرأ ويكتب باللغة التركية والعربية والفارسية والفرنسية ، ويحسن من كل لغة من هذه اللغات أدبياتها وهو حسن اللهجة جميل المحاضرة.

أقمت في منزله زهاء ثمانية أشهر يجدد لي كل يوم منها إكراما واحتراما ولم أر في جميع هذه المدة الضيوف التي تجلس على مائدته يقل عددهم عن ثلاثين ضيفا يقدم إليهم في طعام العشاء وطعام الغداء أنفس المآكل والأطعمة يجلس معهم ويسامرهم بلطائفه وينظر إلى كل واحد منهم بوجه كله بشر وطلاقة مما يدل على سخائه ورحب صدره وعلو جنابه ، وكان يستقضيه الناس مصالحهم ومهماتهم فلا يرد أحدا منهم إلا شاكرا له مثنيا عليه. وكان الحكام يحبونه ويهابونه سيما حكام أنطاكية فإنهم كانوا لا يخرجون عن إرادته رحمه الله.

أما وجيه هذه الأسرة الآن وعين أعيان أنطاكية بل هو من أجل أعيان سوريا حضرة صاحب الفخامة صبحي بك نجل المرحوم الحاج رفعت آغا السالف الذكر وهو رئيس اتحاد دولة سورية المنفرد بمزاياه الكرائم والمشار إليه بالبنان لما اتصف به من المحاسن والمكارم. ومن رجال هذه الأسر المولى العالم الفاضل الأستاذ صفوت أفندي مفتي القضاء.

ومن الأسر الكريمة في أنطاكية أسرة آل خلف المعروفة باسم خلف زاده لر وهي أسرة عريقة بالمجد وجد منها عدة رجال أجلاء يستحقون المدح والثناء.

ومن الأسر الشهيرة في أنطاكية أسرة آل المفتي نسبة إلى السيد العالم العلامة الحاج يحيى أفندي مفتي أنطاكية الأسبق ، كان من كبار علماء عصره وأفاضل أدبائهم ، ينظم الشعر التركي والعربي والفارسي ويتكلم باللغات الثلاث. وحينما كنا معه في الحجاز تلقى صحيح البخاري بالرواية على العلامة المحدث الشيخ أحمد الدحلاني شيخ الإسلام في الديار الحجازية وصاحب كتاب الفتوحات الإسلامية. وكنت أقابل معه النسخة التي يتلقى بها الحديث عن الأستاذ المشار إليه. وبعد أن عاد من الحجاز إلى بلدته أنطاكية اختاره والي حلب وحاكمها الشرعي لأن يكون رئيس كتاب المحكمة الشرعية في حلب ونائب غيبة

__________________

(١) الصواب «وقرى» بكسر القاف وهو مصدر قرى الضيف يقريه قرى أي أضافه وأكرمه. ولا يقال : أقرى الضيف إقراء.

٣٢٠