نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

برد حلب

يشتد برد حلب من تاسع كانون الأول ويمتد إلى ثامن يوم من آذار وعند ذلك يأخذ باضمحلال ويعتدل الوقت. وفي الكانونين تهب ريح الشمال وينجرد الشجر وكثيرا ما يجمد الماء وتصول الضواري في الصحاري وتختفي الهوامّ وتكثر الأمطار ويقع الصقيع ويهبط الزئبق في الظل الشمالي عن الصفر نحو خمس درجات ، وربما هبط في بعض السنين إلى ما هو أدنى من ذلك ففي سنة ١٣٢٩ هجرية المصادفة ١٣٢٦ رومية هبط الزئبق في شهر كانون الثاني إلى الدرجة السابعة والعشرين تحت الصفر مستمرا ذلك نحو ثلاثين يوما ، الأمر الذي لم يسمع وقوع نظيره في حلب ، كما نوّهنا عن ذلك في حوادث السنة المذكورة. على أن البرد في بقية السنين مهما كان عظيما فإنه لا يزيد فيه هبوط الزئبق إلى ما دون الدرجة العاشرة تحت الصفر ، وهو إذا بلغ هذه الغاية أو ما قاربها يتألم منه النحفاء والشيوخ ألما زائدا وينشأ عنه أمراض صدرية وعلل ريحية ومفاصلية ، وتعظم نكايته في الأطفال ، ويكثر فيه النقف والقمطلس (١) والزكام والحادر حتى يكاد لا ينجو من ذلك أحد ، وأضرّ ما يكون في الشتاء خلواته الحارّة التي يجتمع فيها الناس للسهر والسمر ، فيوقدون ضمنها النار حتى تصير كأنها بيت من بيوت الحمام ثم يتنازلون الماء البارد الذي قارب الانجماد أو يخرجون إلى الهواء وقد انفتحت مسامهم ، واستعدّت لقبول البرد أجسامهم.

تحول العوارض الجوية في حلب

ذكر صاحب طبقات الأطباء في ترجمة الطبيب الشهير المختار بن الحسن عبدون المعروف بابن بطلان ، المتوفى سنة ٤٥٨. أنه كان يعتقد أن العوارض الجوية في أصقاع حلب كانت باردة ثم تحولت إلى حرارة ، مستدلا على صحة دعواه هذه بما حكاه له أشياخ أهل حلب من أن شجرة الأترجّ ما كانت تنبت في حلب لشدة بردها وأن الدور القديمة في حلب لم تكن تستطاع السكنى في طبقتها السفلى. وأن الباذهنجات (ملاقف الهواء) حدثت في حلب منذ زمان قريب حتى إنه لا دار إلا وفيها باذهنج بعد عدم وجودها مطلقا.

__________________

(١) النقف : هو ما يسمى بالنكاف أو الحمّى النكفيّة. والقمطلس : تخثر الدم في أصابع الرجل أو اليد من البرد. والحادر ، والحدور : ورم الحنكين ، ويسمى أيضا : «أبو كعب».

٤١

أقول : إننا بحثنا في هذه المسألة بحثا دقيقا فظهر لنا فيها عكس ما ادعاه المختار أي أن العوارض الجوية في أصقاع حلب كانت حارة ثم أخذت تتحول إلى البرد. ومن ثمة اضطررنا أن ننتقد أدلة المختار التي نقلها في هذه المسألة عن أشياخ أهل حلب ، فنقول إن عدم نبت شجر الأترجّ في حلب في هاتيك الأيام لا لشدة برد حلب بل لأن هذه الفصيلة من الشجر كانت قبل سنة ٣٠٠ غير موجودة ولا معروفة في حلب وجميع بلاد سوريا والعراق ومصر وغيرها من الممالك الكائنة في المناطق المعتدلة. قال المسعودي في كتابه مروج الذهب ما خلاصته : إن هذه الشجرة يعني شجرة الأترجّ لم تكن موجودة في البلاد قبل الثلاثمائة ، وإنما حملت من أرض الهند إلى غيرها بعد هذا التاريخ ، فزرعت في عمان ، ثم نقلت إلى البصرة والعراق والشام ، حتى كثرت في دور الناس في طرسوس وغيرها من الثغور الشامية وأنطاكية وسواحل الشام وفلسطين ومصر ، وما كانت تعهد ولا تعرف إلخ. وهناك دليل آخر على أن عدم نبت هذه الشجرة في ذلك التاريخ لعدم وجودها لا لشدة البرد ، هو أنه كان يوجد في حلب شجر النخيل الذي هو أقل تحملا للبرد من شجر الأترج ، كما يأتي بيانه قريبا. وأما عدم استطاعة السكنى في الطبقة السفلى من بيوت حلب فهو دليل قد يؤيد عكس المدعي به إذ البلاد الباردة كالأناضول ، يفضل أهلها السكنى في أيام الشتاء في الطبقة السفلى على العليا ، لأنها أقل تعرضا للبرد من العليا. نعم قد يكون عدم استطاعة سكنى أهل حلب في الطبقة السفلى لكثرة رطوبات البلدة في ذلك التاريخ ، لعدم انتظام مجاري قاذوراتها وامتلاء خنادقها من المياه تحصينا لها مع ضيق أزقتها وكثرة أهلها المحصورين داخل سورها الذي كان يقدر بنحو النصف من مساحته الآن. ولهذا كانت الأوبئة والطواعين لا تكاد تفارق حلب. وأما عدم وجود الباذهنجات (١) فيها أولا ثم وجودها أخيرا فإن المفهوم من هذا أن البرد بينما كان في مدينة حلب شديدا ، إذ تحول بغتة إلى الحرّ ، ومسّت الحاجة إلى عمل الباذهنجات ، وهذا مما لا يتصوره عاقل إذ أن سير التحول الجوي بطيء جدا لا يدرك حصوله بأقل من ألف سنة وأكثر ، فالأولى أن يحمل تسرّع أهل حلب إلى عمل الباذهنجات على التفنن وتحسين المباني والاقتداء ببغداد عاصمة الممالك الإسلامية في الشرق بعمل الباذهنجات تلطيفا للجوّ ، وتخفيفا للرطوبات.

__________________

(١) الباذهنج ، كما سبق : ملقف الهواء. وسماه العرب راووق النسيم. وهو مسرب للهواء موجّه خارج البيت إلى الغرب يحدث جريانا إلى داخل الغرفة لتلطيف حرارة الصيف. ويسمى أيضا : «بادنج».

٤٢

أدلة تحول العوارض الجوية

في أصقاع حلب من الحر إلى البرد

الدليل الأول : وجود شجر النخيل في حلب في قديم الأزمان فإن الشاعر الصنوبري المتوفى سنة ٣٣٤ نظم قصيدة بديعة طويلة مدح بها حلب وذكر منتزهاتها وأزهارها ، ثم قال:

أيّ حسن ما حوته

حلب أو ما حواها

سروها الداني كما تدنو

فتاة من فتاها

آسها الثاني قدود

الهيف لمّا أن ثناها

نخلها زيتونها أولا

فأرطاها غضاها (١)

فالمفهوم من البيت الأخير أن شجر النخيل من جملة أنواع الشجر التي كانت في مدينة حلب وهو كما قلنا سابقا أقل تحملا للبرد من شجر الأترجّ ، على أنه الآن لا أثر له في حلب البتة ولا يمكن أن يعيش في أرضها ولا فيما قرب منها.

الدليل الثاني : استقصينا كثيرا من الدور العظام القديمة في حلب فوجدنا أكثرها قد خلت جهتها المتجهة إلى الجنوب من الغرف والخلوات ، وأن أكثر هذه الدور كان يعتني أهلها الأقدمون بجهتها المتجهة إلى الشمال ، لأنهم يبنون فيها الأواوين والغرف سفلا وعلوا ، فعدم اعتنائهم في الجهة المتجهة إلى الجنوب لم يكن له من سبب في تلك الأزمنة سوى شدة حرارتها بسبب إشراق الشمس عليها. واعتناؤهم بالجهة المتجهة إلى الشمال لم يكن ناشئا إذ ذاك إلا عن اعتدال حالتي الحر والبرد في فصل الشتاء ، أما في هذه الأيام ، وفيما أدركناه من الأعوام قبلها ، فإن الجهة المتجهة إلى الجنوب من الدور في حلب هي التي تبذل العناية في بنائها خلوات وغرفا سفلا وعلوا وهي تعتبر عندنا من أشرف جميع المساكن التي تكون في باقي جهات الدار. وإن الدار التي تخلو جهتها هذه من البيوت والغرف تعد عندنا مشوهة. والمثل المشهور عند الحلبيين الآن قولهم : بيت يسكن صيفا وشتاء ، وهو المتجه إلى الجنوب والغرب ، وبيت لا يسكن لا صيفا ولا شتاء ، وهو المتجه إلى الشرق.

__________________

(١) ديوان الصنوبري ٥٠٨ من قصيدة طويلة. والأرضى والغضا : نوعان من الشجر.

٤٣

الدليل الثالث : وجود كثير من شجر الأترجّ في بساتين حلب ، في الزمن القديم. فقد ذكر دار فيو الذي كان قنصل دولة فرنسة في حلب سنة ١٠٤٠ في كتابه الذي سماه (تذكرة أسفاري) أنه شاهد بساتين حلب مملوءة من شجر الأترجّ فهذا دليل صريح على أن العارض الجوي في حلب كان منذ ثلاثمائة سنة معتدلا يمكن أن يعيش فيه هذا النوع من الشجر مع أننا الآن لا نعرف بستانا خارج حلب يشتمل على شيء من هذا الشجر أما في حدائق البيوت فيوجد منه القليل إلا أنه لا تكاد شجرته تبلغ حد الإثمار إلا ويدهمها الصقيع فتيبس. وهكذا قد استمر شأن هذه الشجرة منذ أربعين سنة حتى أصبحنا في يأس من نجاحها في حلب ، وصار الناس عندنا يسمونها شجرة الهمّ لما يتكبدونه من الزحمة في حمايتها وحفظها من البرد.

الدليل الرابع : يوجد الآن في جبل ليلون كثير من أصول شجر الزيتون الذي له فروع ضئيلة لا يزيد ارتفاعها على قدر قامة الإنسان ، وهي غير مثمرة وفي هذا الجبل أيضا أطلال معاصر لعصر زيت الزيتون ، وأحواض منقورة في الصخر لإحراز الزيت ، مما يدل على أن هذا الجبل كان وطنا للزيتون مدة عصور طويلة ، أما الآن فإنه إذا غرس فيه شيء من هذا الشجر ، نبت وطالت فروعه لكنه لا يكاد يبلغ حد الإثمار إلا وتطرقه آفة البرد فيصقع وييبس.

الدليل الخامس : كنا نعهد في ضواحي حلب وبعض البلدان المضافة إليها عددا غير قليل من مغارس الزيتون الناجح المثمر الذي يوجد فيه كثير من الأشجار المعمّرة التي مضى على غرسها مئات من السنين ، بل بعض المسترزقين بالزيتون يبالغون في قدم هذه الأشجار ويقولون إنها قائمة في مغارسها منذ زمن السيد المسيح صلوات الله عليه. على أن أكثر هذه المغارس قد دب العطب فيها منذ عشرات السنين وانتهى عطبها عن آخرها بما فيها من الأشجار المعمرة في سنة ١٣٢٩ وبهذا يستدل على أن البرد الذي عطبت به هذه الأشجار لم يمر عليها نظيره منذ نشأت وإلا لما سلمت كل هذه المدة.

الدليل السادس : أن القطن كان يوجد في جهات حلب أشجار خالدة تبقى الشجرة منه عدة أعوام ، على ما حكاه ابن البيطار في تذكرته ، مع أن القطن لا يكون أشجارا خالدة إلا في الأصقاع المعتدلة في الحر والبرد ، وهو الآن ما لا وجود له في حلب ولا في جهتها

٤٤

مطلقا وإنما يزرع مجددا في كل سنة. هذا ما أدى إليه اجتهادي ودلني عليه البحث والاستقصاء والله أعلم.

اعتدال مناخ حلب

ينبغي أن تعد حلب من البلاد المعتدلة المناخ ، لأنها في وسط معتدل من الأقاليم الرابع ، لكن لما كانت حجارة مبانيها ذات مسام تحفظ الحر والبرد زمنا طويلا ثم تعكسهما ، كان لحرها وبردها تأثير شديد في موسم الشتاء والصيف وهي تستمد البرد أيضا من جبل أومانوس المتوج بالثلوج في أكثر الأوقات وليس بين أصله وبين حلب سوى مسافة ثلاثين ميلا.

ليس لوقوع الثلج في حلب ضابط بعد دخول الكوانين ، إذ ربما وقع في أواخر نيسان.

وأكثر وقوعه في كانون الثاني ، وإذا وقع فالغالب أن لا يبقى أكثر من ثلاثة أيام ، وقليلا ما يبقى أكثر من هذه المدة. وأما البرد فالغالب أن يكون وقوعه قليلا في فصل الربيع.

وأما الضباب فيكثر انتشاره في الكانونين. وإذا انتشر مساء. دل غالبا على المطر ليلا ، أو صباحا دل غالبا على الصحو نهارا. ومن الأمثال السائرة بين أهل حلب قولهم في الضباب : (إذا وقع عشيّه حوّش مغارة دفّيه ، وإذا وقع باكر خذ العصا وسافر).

ماء حلب

أما ماؤها فينقسم إلى ثلاثة أقسام : ماء مطر وماء قناة وماء ينبوع. أما ماء المطر فإنه يجمع مما يسقط منه على أسطحة البيوت ، ويحرز في الآبار المعروفة بالصهاريج ، ويترك حتى يرقد فيعود نقيا باردا لطيفا مدرا خفيفا. لكنه كثيرا ما يتكون فيه جراثيم حيوانية للحوقه بعض مواد زفرة. أو يكتسب من طول مكثه رائحة عفنية وطعما نباتيا إذا كانت البئر سحيقة وليس لها نافذة توصل إليها الهواء. وفي هاتين الحالتين يجب اجتنابه. وأما ماء القناة فإن استعمل قبل صفائه في الآبار وغيرها فهو السمّ الناقع يورث الحمى والإسهال وأمراض المعدة وغير ذلك من العلل الفتاكة. وإن استعمل بعد الصفاء والبرودة قل ضرره على شرط خلوه من الجراثيم الحيوية وعدم مكثه في الصهاريج أكثر من ستة أشهر وإلا كان

٤٥

مضرا. وأما ماء الينبوع فهو ما كان من عين التل أو العين البيضاء ، أو غيرهما من العيون القريبة من حلب. كعين اشمونيث وعين العصافير قبلي الصالحين (وعين اشمونيث) هذه في ظاهر حلب من قبليّها تسقي بستانا يقال له الجوهري ، وإن فضل منها شيء صب في قويق. وقد ذكرها في شعره منصور (١) بن مسلم بن أبي الخرجين بتشوق إلى حلب فقال :

أيا سائق الأظعان من سفح جوشن

سلمت ونلت الخصب حيث ترود

أبن لي عنها تشف ما بي من الجوى

فلم يشف ما بي عالج وزرود

هل العوجان الغمر صاف لمورد

وهل خضّبته بالخلوق مدود

وهل عين أشمونيث تجري كمقلتي

عليها وهل ظلّ الجنان مديد

فهو ، أي ماء هذه العيون ، الجامع الصفات المطلوبة في الماء : من الصفاء والخفة والإدرار ، ولا سيما ماء العين البيضاء أو عين التل في شمالي حلب على بعد ساعة منها ، فإن ماءهما الغاية فيما ذكر لو لا كثرة كلسيّته. أما آبار النبع في المدينة فإن ماءها يختلف في طعمه ونفعه وضره باختلاف محالّه فماء آبار قلعة الشريف أو ما قاربها من المحلات مالح آجن يقارب ماء البحر في طعمه وريحه ، والبعض منه لا يمكن أن يطبخ به ولا أن تغسل منه الثياب حتى ولا النحاس لأنه يحيل بياضه إلى السواد بل قد يسود الحجر إذا كثر صبه عليه ، وهو مع هذه الصفات الذميمة عميق سحيق لا يصعد على وجه الأرض إلا بحبل طوله نحو عشرين باعا. وأما بقية الآبار في غير هذه المحلة فمنها ما هو قليل الملوحة جدا حتى لا تكاد تدرك ملوحته إلا بإمعان الذوق ، وذلك كغالب آبار المحلات الخارجة عن باب النصر وآبار محلة الجلّوم وما جاورها. وأكثر الناس يستعمل ماءها شربا وغسلا ، وهي تصعد على وجه الأرض بحبل طوله أربع باعات إلى اثني عشر على حسب اختلاف مواقعها. ومنها ما هو ظاهر الملوحة كآبار بقية محلات حلب كالعقبة وأكثر المحلات المرتفعة. وهذا النوع أكثر الأنواع وقلّ من يستعمله للشرب وغسل الثياب. والخلاصة أن ماء حلب الجاري قليل غير كاف لها وهو كدر قذر لما ينصب إليه من مجاري المياه القذرة قبل جريانه في القناة ودخوله إلى حلب ، ثم لما يلحقه من التلويث في الحياض والقساطل

__________________

(١) منصور بن مسلم : مؤدب ، من العلماء بالعربية. ولد بحلب ، وتوفي بدمشق سنة ٥١٠ ه‍.

٤٦

التي تجري إليها المياه ، ومنها تفيض إلى الآبار والبرك فيتناولها بعض الناس قبل أن ترقد وتصفو فتكثر فيهم الحميات وأمراض المعدة وتكثر في الأطفال الديدان.

هواء حلب

الغالب على هواء حلب الاعتدال بين الحرارة والبرودة. ولجفاف جهات مهابّه ، لقلة المياه الراكدة والجارية فيها ؛ كان الغالب عليه اليبس غير مصحوب برطوبة. وقد تصحبه في بعض الآونات (١) من الفصول الثلاثة التي هي ، الشتاء والربيع والخريف. وهو في حالة اعتداله ويبسه على غاية ما يكون من الموافقة للصحة العامة. ومعظم هيجان الرياح عندنا في شهر تموز ، والغالب أن يكون غربيا ، والعامة تقول : تموز الهاوي. وبعد مضي هذا الشهر تضعف العواصف ويقل خطرها حتى أواسط شباط ، فتهيج ريح شديدة نحو يوم أو يومين. والعامة تسميها نفّاخ الشجر أي إنها تنفخ الشجر وتهيّئه لانبثاق (٢) النور والورق. ثم تأخذ هذه الريح بالضعف إلى نحو اليوم الخامس والعشرين من شباط فيعظم هيجانها ويشتد هبوبها وتدوم هكذا إلى نحو اليوم الخامس من آذار ، والعامة تسميها في هذه المدة ريح الأعجاز. وفي بعض السنين تكون هذه الريح مضرة ضررا فاحشا بالأشجار ، فتنثر زهرها وتسقط ما انعقد من ثمرها. ثم في الحادي عشر من نيسان أو قبله أو بعده بقليل ، تهبّ ريح شديدة شمالية تنقطع تارة وتعود أخرى إلى الحادي والعشرين منه. وهذه الأيام تسمى العوّاء ويقال : لا نوء بعد العوّاء. وهذه العواصف يخشى منها على الشجر ، إذ قد لا يبقى فيها ثمرة واحدة ، ولذا اعتاد كثير من مستأجري البساتين ألا يعقدوا مساقاة أو آجارا مع صاحب البستان إلا بعد مضي هذه الأيام الهاوية. ومعظم الهواء عندنا هو الغربي وبه لقاح الزرع وامتلاء الضرع وسوق الغمام وصحة الأجسام. ويكون في جميع الفصول والمواسم. وقد تهب ريح الشمال ، فإن كان الأوان صيفا فليست بضارة ، وإن كان شتاء اشتد بهبوبها البرد وخيف على الزرع والشجر ، وربما هبت في أوائل الربيع مصحوبة بشيء من الصقيع. فتهلك الحرث (٣) والنسل ، وتتلف الزروع الأرضية

__________________

(١) في الأصل : «الآءنات» فصححناها.

(٢) في الأصل : «وتهيؤه لانبساق» والصواب ما أثبت. والانبثاق : الظهور والإقبال.

(٣) الحرث : الزرع.

٤٧

والشجرية ، وقليلا ما يحصل ضرر من الريح الشرقية ، وقد تضر بعض الزروع إذا هبّت شتاء وتزداد نكاية الحر بهبوبها صيفا ، ولربما حشرت الجراد من الشرق.

وأما الريح الجنوبية فهي نادرة عندنا جدا ولا خطر لها إذا هبّت شتاء ، وإذا هبت صيفا زادت قوة الحر وجلبت معها السموم.

تراب حلب

وأما ترابها فهو من أحسن أتربة البلاد ، تنجب فيه جميع الزروع والغروس التي تنجب بالأقاليم المعتدلة. والغالب على لون أتربة حلب البياض والحمرة والخلو من المادة الرملية وكثرة الصلصالية. ويوجد في حلب كثير من البساتين التي تزرع في السنة أربع مرات. ومع هذا فلا تقصر عن غيرها. والسّرجين العام لتربة حلب فضلات الإنسان والحيوان والنبات ونحو ذلك قال ياقوت في معجم البلدان : وشاهدت من حلب أعمالها ما استدللت به على أن الله تعالى خصها بالبركة وفضّلها على جميع البلاد. فمن ذلك أنه يزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدّخن والكروم والذرة والمشمش والتين والتفاح عذيا (١) لا يسقى إلا بماء المطر ، ويجيء مع ذلك رخصا غضا ربما يفوق ما يسمى بالمياه والسّيح (٢) في جميع البلاد. وهذا لم أره فيما طوفت من البلاد في غير أرضها.

أقول : ليس ما ذكره ياقوت من أنواع الشجر والنبات فقط يعيش عذيا في حلب ، بل هناك أنواع كثيرة من الشجر والنبات الذي لا يعيش في غير تربة حلب إلا سقيا ، ويعيش وينجب فيها بعلا (٣) لا يسقى بغير ماء المطر ، وذلك كالجوز واللوز والرمان والتوت والفستق والبندق والكرز والكمّثرى ، وكاللوبياء والفاولة والبامية والطماطم والباذنجان ، وأنواع اليقطين والخروع (٤) والتبغ ، وبالإجمال جميع أنواع النباتات الربيعية والصيفية ، وكلها تجود وتخصب عذية بقدر جودة فلاحة الأرض وتسميدها وعمقها. ومن جملة أنواع النبات الذي ينبت بنفسه دون استنبات ، ويجود وينبج دون أقل عناية ،

__________________

(١) الدّخن : نبات له حب صغير أملس كحب السمسم. والعذيّ : الذي لا يسقيه إلا المطر.

(٢) السّيح : مصدر ساح الماء : سال وجرى.

(٣) البعل : الزرع يشرب بعروقه ، فيستغني عن السقي.

(٤) الخروع : نبت يؤخذ من ثمره زيت مسهل.

٤٨

عرق السوس ، الذي ينبت في جميع أرجاء ولاية حلب فيقلع وينقع ويستخرج منه مشروب حلو لذيذ نافع مسهل قليلا. وقد بلغ ما أرسل من هذا العرق إلى أميركا في سنة واحدة ما قدرت قيمته بمائة وخمسين ألف ليرة عثمانية.

عرض حلب وطولها وارتفاعها عن سطح البحر

عرض حلب ست وثلاثون درجة وطولها ثلاث وستون درجة. وترتفع عن سطح البحر خمسمائة متر. وعرض البلد عبارة عن بعدها عن خط الاستواء إلى جهة القطب الجنوبي أو الشمالي ، والمعروف قديما أن جميع المعمورة شمالية وطول البلد الذي نعتبره : عبارة عن بعدها عن الجزائر الخالدات في ساحل البحر الغربي. وغاية طول النهار عندنا من مطلع الشمس إلى غروبها أربع عشر (١) ساعة وأربعون دقيقة. وغاية قصر الليل من غروب الشمس إلى طلوعها تسع ساعات وعشرون دقيقة. وغاية قصر النهار من طلوع الشمس إلى غروبها تسع ساعات وخمسون دقيقة ، وغاية طول الليل أربع عشر (٢) ساعة وعشر دقائق. وابتداء فصل الربيع كما هو عامّ في جميع البلاد الشمالية من حلول الشمس في رأس الحمل ، وذلك في اليوم الثامن من آذار ، ويمتد إلى حلوها في أول السرطان ، وذلك في اليوم التاسع من حزيران وهو ابتداء فصل الصيف ويمتد إلى حلول الشمس في أوائل الميزان حادي عشر أيلول ، وهو ابتداء الخريف ، ويبقى إلى حلولها في أول الجدي تاسع كانون الأول ، وهو أوّل الشتاء واستواء الليل والنهار يكون في رابع آذار ، وهو الاستواء الأول الربيعي وفي الرابع عشر من أيلول وهو الاستواء الثاني الخريفي.

معادن ولاية حلب

أراضي ولاية حلب لم تزل كباقي أراضي الولايات العثمانية الآسيوية بكرا قد اختبأ فيها كثير من أنواع الفلزات والمعادن الغنية القليلة النظير. ومما يوجد في ولاية حلب معدن النحاس غربي حلب على مسافة ربع ساعة منها ، وهو في ذيل جبل الجوشن. حكى لي صديق من الصاغة أنه استخرج منه نحاسا في غاية الجودة ، لكنه لم يربح به لكثرة النفقة

__________________

(١) كذا ـ والصواب : «أربع عشرة»

(٢) كذا ـ والصواب : «أربع عشرة»

٤٩

في استخراجه. قال : ولو فتح معمل لاستخراجه لربح. ومن المعادن أيضا معدن شبيه بالفحم الحجري في محل يقال له أبو فياض شرقي حلب ، في بعد عشرين ساعة عنها ، يستعمل الأعراب ترابه ومدره (١) وقودا للطبخ وغيره. ومنها معدن مرمر أصفر في جوار حلب من شماليها في جهة البساتين المعروفة بناحية بعاذين ، ومعادن زجاج في قضاء حارم ، ومعدن غاز سائل في قضاء اسكندرونة اكتشفته الحكومة قبل ثلاثين سنة وأحالت امتيازه إلى أحد المثرين (٢) فباشر تعدينه فلم يفلح ، ومعدن ذهب في ضفاف نهر العاصي فيما يلي أنطاكية ، ومعدن رصاص فضي ، ومعدن أنتيمون ، وحجر الكحل ، ومعدن فحم حجري ، ومعدن الطفال المعروف بالبيلون في قضاء كلّز وأنطاكية. وفي جبال قره مرط إحدى نواحي أنطاكية عدة معادن تستعمل للصبغ. وفي جبل بارسال من أعمال قضاء كلّيس معدن مرمر أصفر ومعدن مرمر وسمّاقي في قرية «جاربين» من أعمال قضاء عينتاب. ومعدن فضة وحديد ومرمر سماقي وأسود في قضاء مرعش ، ومعدن حديد في قضاء الزيتون ، ومعدن كبريت في رأس العين من أعمال لواء الزور. وكانت منذ عهد قريب تابعة حلب كما أشرنا إليه سابقا. وفي جبل البشري من أعمال دير الزور أربعة معادن وهي معدن القار والمغرة (٣) والطين الذي يعمل بواتق (٤) يسبك فيها الحديد ، والرمل الذي يعمل منه الزجاج وهو رمل أبيض كالإسفيداج.

الحمّامات المعدنية في ولاية حلب

منها حمّامان في قضاء جسر الشغر وماؤهما كبريتي ينفع من الأمراض الجلدية. ومنها حمّام على جانب الفرات في قضاء بيره جك. وثلاث حمامات في قضاء مرعش والزيتون وقضاء البستان. وحمّام حديدي في القصير من أعمال أنطاكية وهو معروف في زماننا بحمام الشيخ عيسى. قال ابن الشحنة نقلا عن ابن شداد : ويوجد بكورة الجومة (٥) من

__________________

(١) المدر : الطين اللزج المتماسك.

(٢) في الأصل : المثريين.

(٣) المغرة ، بفتح الميم وسكون الغين ، طين أحمر يصبغ به. وبضم الميم : مسحوق أكسيد الحديد.

(٤) جمع بوتقة : وهي الوعاء الذي يذاب فيه المعدن.

(٥) في الأصل : «الحرمة» «ع. م».

٥٠

أعمال قنّسرين عيون كثيرة كبريتية تجري إلى الحمام بقرية يقال لها جندراس (١) ، لها بنيان عظيم معقود بالحجارة يقصده الناس من كل طرف ، فيسبحون به للعلل. قلت : وهو مشهور في زماننا. ثم قال : وبالسخنة من أعمال قنسرين خمس حمامات ماؤها في غاية الحسن والحرارة ينتفعون بها من البلغم والريح والجرب.

قلت : وهي غير مشهورة في زماننا. وقال ابن الشحنة : وبناحية العمق حمّام دخلته مرارا.

قلت : وأنا دخلته مرارا وهو كبريتي وحرارته تبلغ اثنتين وأربعين درجة ، وهو من أشهر حمّامات الولاية في زماننا ينبع ماؤها في حوض مربع مصنوع مساحته خمس أذرع في مثلها وفي أعلاه ثقب سعته ثمانية سانتيمتر في مثلها ، يفيض منه الماء إلى أراضي العمق ، وعلى هذا الحوض قبو معقود بالحجارة. وفي أطراف هذا الحمام عدة عيون كبريتية حارة لو جمعت إلى حوض لكانت حماما عظيما. وفي سنة ١٣٠٠ بنت بلدية حلب على بعض هذه العيون خلوة وصارت تؤجرها بعض الناس. ثم إن جميع هذه الحمامات في زماننا مباح للعامّ لم توضع عليها يد سوى حمام البلدية المذكورة.

مملحة الجبول

قال ابن الشحنة ما ملخصه : إن نهر الذهب يجري من ناحية باب بزاعا البلدة المعروفة شرقي حلب ، حتى ينتهي إلى سبخة الجبول ، فيجتمع في مساكب يعملها أهل الجبول والقرى المجاورة لها ، فيجمد ويصير ملحا أبيض في مثل بياض الثلج معتدلا في الطعم لا مرارة فيه وهو في إقطاع نيابة حلب وعليه مرتبات من صدقات لأناس كثيرة بمراسم مرعية قال : وسمي هذا النهر بنهر الذهب لأن أوله بالقبان وآخره بالكيل. يعني أنه يزرع عليه في أوله الحبوب المأكولة وبعض العقاقير وهي تباع بالقبان ، وآخره يصير ملحا وهو يباع بالكيل.

__________________

(١) لعل الصواب «جندارس» كما في حاشية الدر المنتخب لابن الشحنة ص ١٣١. وقد تصرّف الغزي في النصوص المنقولة ، كما هي عادته.

٥١

قلت : هذا في زمانه أما الآن فيباع الملح في القبان أيضا. وقال : وماء هذا النهر في غاية من الصفاء والعذوبة. قلت : المشاهد في زماننا أن هذه المملحة تجتمع مياهها من نهر الذهب ، ومن أمطار الشتاء التي تنصب إليها من الأراضي المجاورة المتشبعة من مادة الملح فتصير رقراقا متسعا محيطه ثمان عشر (١) ساعة. فإذا جاء عليه شهر تموز جف الماء ورسب الملح ، وهو في غاية الجودة صادق الملوحة سريع الذوب بالماء يصلح للهدايا إلى استانبول وغيرها. وقد يبلغ الملح الذي يستخرج منه سنويا بضعا (٢) وعشرين ألف قنطار حلبي أو أكثر. وهذه المملحة الآن خاصة بنظارة الديون العمومية العثمانية. وقد بلغت مداخيلها سنة ١٣٠١ رومية ألفي ألف وخمسمائة ألف قرش. وذكر ابن الشحنة في جدول تعديل مداخيل حلب سنة ٦٠٩ ، وذلك في أيام الملك الظاهر صلاح الدين ، أنّ دخل الملح في السنة المذكورة ثلاث مائة ألف درهم وعشرون ألف درهم. وبحيرة الجبول هذه لا يوجد فيها شيء من الحيوانات المائية سوى أنه عشية كل ليلة من فصل الربيع يرحل إليها للمبيت أسراب عديدة من الإوز والبط تمضي سحابة نهارها في بحيرات العمق لتقتات من حيواناتها ، فتقبل إليها صباحا وترحل عنها إلى بحيرة الجبول عشية فترقد فيها ، لا ينغّصها فيها شيء من الهوامّ التي توجد في البحيرات العذبة كالبعوض والقمل ، إذ لا وجود لهما فيها بسبب ملوحة مائها.

نهر حلب

قال ابن خطيب الناصرية ما ملخصه : إن نهر حلب اسمه قويق ، وكان يجري في الشتاء والربيع وينقطع في الصيف ، ومنبعه من بلاد عينتاب ، وغوره في المطخ حتى ساق إليه الساجور الأمير أرغون نائب حلب فدام جريانه. وإذا جاء قبليّ حلب تمده العين المباركة فيغور الجميع بالمطخ. وعن ابن شداد أن «قويق» تصغير قاق. وأنه شاهد لهذا النهر مخرجين بينهما وبين حلب أربعة وعشرون ميلا ، أحدهما في قرية الحسينية بالقرب من عزاز ، يجري ماؤها بين جبلين ، حتى يقع في الوطاة قبلي الجبل الممتد من بلد عزاز شرقا وغربا ، والآخر عيون من عينتاب وبعض قراها ، تجري إلى نهر خارج من فم فج عينتاب ، فيقع

__________________

(١) كذا ـ والصواب : «ثماني عشرة» أو «ثمان عشرة».

(٢) كذا ـ والصواب : «بضعة».

٥٢

في الوطاة المذكورة ، ويجتمع النهران ويصيران نهرا واحدا يجري إلى دابق ويمر بحلب وقبل وصوله إليها يمدّه عدة عيون فيعظم وتدور به الأرحاء ، وأولها بقرية مالد شمالي حلب. وبعد أن يجتاز بحلب تمدّه أيضا عيون أخرى منها العين المباركة ، فيزيد بها ويسقي مواضع كثيرة في طريقه حتى يمر على قنسرين ، ثم يغور في المطخ ، ويخرج من بحيرة أفامية. ودليل ذلك احمرار ماء هذه البحيرة إذا احمر قويق في الشتاء لطغيانه. قلت : هذا من ابن شداد وهم غير معقول ، ودليل ليس بمقبول. قال : والمسافة بين مفيضه وأفامية نحو أربعة عشر ميلا. قال ياقوت في معجم البلدان اسم نهر قويق الذي بحلب مقابل جبل الجوشن «العوجان» بالتحريك. وأنشد لابن أبي الخرجين شعرا :

هل العوجان الغمر صاف لوارد

وهل خضبّته بالخلوق مدود؟

(١) وعن بعضهم أن مخرج هذا النهر اسمه قويق. وأهل الخلاعة تكنيه أبا الحسن. وذكر بعضهم أن مخرج هذا النهر من قرية تسمى سيناب (٢) على سبعة أميال من دابق ، يمر إلى حلب بثمانية عشر ميلا ، ثم إلى قنّسرين اثني عشر ميلا ، ثم إلى المرج الأحمر المعروف بتل السلطان ألب أرسلان السلجوقي خيم به مدة فنسب إليه. ثم قال : جاء عن بعض المفسرين في قوله تعالى : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) كان ذلك على نهر حلب ويقال له قويق.

قال ابن الشحنة : ورأيت لهذا النهر منبعا في قرية يقال لها ارقيق بين حلب وعينتاب.

ثم قال : قال ابن شداد ومن أحسن ما مدح به نهر حلب قول أبي بكر أحمد بن محمد الصنوبري الحلبي ، وهو :

قويق له عهد لدينا وميثاق

وهذي العهود والمواثيق أذواق

ففي الخوف ، إنا لا غريق نرى له ،

فنحن على أمن وذا الأمن أرزاق

ومنها :

__________________

(١) انظر ص ٤٦ والخلوق : نوع من الطيب.

(٢) كذا. والذي في معجم البلدان : «سبتات» ثم قال ياقوت : «وسألت عنها بحلب فقالوا : لا نعرف هذا الاسم». وروي في شعر الصنوبري «سيبات».

٥٣

وفاضت عيون من نواحيه ذرّف

ولمّا تعاونها جفون وآماق (١)

ومنها :

هو الماء إن يوصف (٢) بكنه صفاته

فللماء إغضاء لديه وإطراق

ففي اللون بلّور وفي اللمع لؤلؤ

وفي الطعم قنديد (٣) وفي النفع درياق

إذا عبثت أيدي النسيم بوجهه

وقد لاح وجه منه أبيض برّاق

فطورا عليه منه زرق حقيقة

وطورا عليه جوشن منه رقراق

وكم عنده نيلوفر متشوّف

رؤوس كتبر والزبردج أعناق

وقد عابه قوم ، وكلّهم له

على ما تعاطوه من العيب عشّاق

يهاب قويق أن يملّ فإنما

يقيم زمانا ثم يمضي فيشتاق

وقالوا أليس الصيف يبلي لباسه

فقلت : الفتى في الصيف يقنعه طاق

وما الصبح إلا آئب ثم غائب

تواريه آفاق وتبديه آفاق

وله فيه أيضا :

قويق على الصفراء ركّب جسمه

فما لهب القيظ الأليم يطابقه

إذا جدّ جدّ الصيف غادر جسمه

ضئيلا ، ولكنّ الشتاء يوافقه

قال ابن الشحنة : يريد أن أصحاب الأمزجة الصفراوية تنتحل أجسامهم في الصيف ويوافقهم الشتاء وأن قويقا يقل ماؤه في الصيف حتى يصير حول المدينة كالساقية.

قال : وقد فهمت من هذا أمرا بديعا وراء ما ذكره ابن شداد ، وهو أن قويقا تصغير قاق الطائر المعروف ، وهو يخالف طبعه الحرّ ، فيكون في غاية الضعف صيفا وفي غاية النشاط شتاء. ثم قال : عن ابن شداد عن أبي النصر محمد بن إبراهيم الخضر الحلبي (٤) :

__________________

(١) في الأصل : «وأوراق» سهو من المؤلف ، وهي قافية البيت الذي قبله في القصيدة. والتصويب من ابن الشحنة والديوان.

(٢) في الأصل : «يصف» والتصويب من ابن الشحنة والديوان.

(٣) في الأصل : «قندود» تحريف. والقنديد : عسل قصب السكر إذا جمد.

(٤) أبو نصر الحلبي : هو محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر ، توفي سنة ٦٥٥ ه‍.

٥٤

ما بردى عندي ولا دجلة

ولا مجاري النيل من مصر

أحسن مرأى من قويق إذا

أقبل في المدّ وفي الجزر

يا لهفتا منه على نغبة

تبلّ منّي غلّة الصدر

وأنشد بعضهم :

لله يوم مدّ في صدره

قويق مقصور جناحيه

معتدلا يلثم ماء الحيا

منه بمخضرّ عذاريه (١)

وقد وصفه كثير من الشعراء وفي هذا القدر كفاية. والذي أراه أن هذا النهر من جملة الأنهار الطبيعية قديم جدا لا يعرف من جرّه من أصله ، خلافا لمن زعم أن الذي جرّه هو الشيخ قويق المدفون بالتربة جنوبي حمام اللبابيدية وهذه التربة لا نعلم أحدا دفن بها غير أرغون نائب حلب ، الذي ساق إلى نهرها الساجور كما تقدم وكما تعرفه بعد. ولعل «قويق» أضيف إليه أرغون لمزيد عنايته به فقيل عنه شيخ قويق فحرفته العامة إلى الشيخ قويق. وعندي أن لفظة قويق تحريف قواق لا تصغير قاق ، وهي أي قواق يجوز أن تكون من الكلمات التي يستعملها الآن عرب البادية مما لم تحط به معاجم اللغة. وذلك أن عرب البادية يسمون مجرى ماء المطر في المطر «قواق» يلفظون قافها كافا مفخمة. ولما كان نهر حلب معظم مائه من المطر سمي بهذا الاسم ، فهو على هذا التقدير لفظ عربي. ويجوز أن تكون هذه الكلمة وهي قواق لفظة تستعمل الآن بالتركية بمعنى الحور ، وهو الشجر المعروف وذلك أن هذا النهر كان ولم يزل يزرع على شطوطه في مبدئه من بلاد عينتاب شجر الحور فينمو وينجب ويباع منه مقادير عظيمة. فعرف النهر به لكثرة زرعه عليه. والذي يؤيد هذا أن إطلاق هذه اللفظة على هذا النهر لم يكن إلا في أيام دولة بني طولون إذ أنهم أول قوم من الأتراك حكموا حلب بعد فتحها. ويؤيد ذلك أن هذا الاسم للنهر المذكور لم نره في شيء من النظم والنثر أقدم من كلام الشاعر البحتري الذي استغرقت حياته جميع أيام الدولة المذكورة. كان هذا النهر يسمى قديما شالوس. وقال دارفيو إن هذا النهر يقال له سيغا أو سيكويم وإنه كان يسمى قديما بيلوس. وسماه كزانفون اليوناني

__________________

(١) الدر المنتخب ١٣٧ وروايته : «مصندلا يلثم ... لمخضرّ عذاريه».

٥٥

خالس. قال : وهو نهر صغير فيه أنواع من السمك والسوريون يحسبونه إلهة ولا يسمحون لأحد أن يصيده وكذلك الحمام كانوا يعبدونه ولا يرضون على من يؤذيه. اه.

قلت : المعروف عندنا الآن أن مبدأ هذا النهر من عينتاب. وبعد أن يتصرف أهل عينتاب بمائه كما شاؤوا تجري منه بقية إلى حلب فتمر على قريتي ساسغين وجاغدغين في قضاء عينتاب فتمده عيونهما فيعظم. وعند وصوله إلى قرية حيلان على بعد ثلاث ساعات من حلب يدخل نحو ثلثه في معبر إلى قناة حلب ، والثلثان يجريان لسقاية البساتين في حافتيه. ثم في قرب حلب تمده العين البيضاء وعين التل. وبعد أن يجاوز قرية الشيخ سعيد بنحو ساعتين تنصب إليه العين المباركة ويسقي بساتين قرية الوضيحي ، وقرية الحاضر ، ثم لا يزال يجري حتى يغور في أجمة المطخ. وفي الصيف يفنى ماؤه في سقاية الأراضي بقرية خان طومان لقلة مائه حينئذ. ولو اعتنت الحكومة به صيفا ومنعت القرى المجاورة له قبل حلب من سقي أراضيهم منه لقام بكفاية حلب وبساتينها أتم قيام بدون مضايقة ولا تقسيط ، فإن أصحاب البساتين كثيرا ما يقسطون ماءه صيفا ، فيأخذه الشماليون أسبوعا والقبليون أسبوعا. ورأيت في سجلات المحكمة الشرعية بحلب إعلاما تاريخه ١١٥٩ يتضمن منع أهل قرية ساسغين وجاغدين من أخذ ماء تلك العيون لسقي أراضيهم. وقد اعتادت الحكومة أو دائرة البلدية أن تجمع في كل سنة من مستحقي مائه مالا تسميه مال النهر ، تصرفه على تصليح حوافيه وكري (١) الوحول الراسبة فيه. ولهذا النهر في بعض السنين طغيان عظيم من كثرة الأمطار فينبسط ماؤه إلى مسافة ميل من جانبيه ويحطم ما عليه من النواعير ، ويعطل بعض الأرحاء ، ويقلع كثيرا من الأشجار ، ويتلف الزروع الشتوية في البساتين ويهدم بيوتا كثيرة من محلة الوراقة على حافته الغربية. لكن هذا الطغيان لا يدوم فوق عشرين يوما ثم يأخذ بالتناقص حتى يعود إلى حالته الأولى. وقد طغى في زمن سيف الدولة الحمداني حتى أحاط بداره على سفح جبل الجوشن وفي ذلك يقول أبو الطيب المتنبي (٢) :

حجّب ذا البحر بحار دونه

يذمّها الناس ويحمدونه!

يا ماء هل حسدتنا معينه

أم اشتهيت أن ترى قرينه؟

__________________

(١) الكري : الحفر. والمراد هنا الجرف أو تفريغ المجرى.

(٢) العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب ، لليازجي ص ٣٨٢ ط. بيروت ١٣٠٥ ه‍ ، ١٨٨٧ م.

٥٦

أم انتجعت للغنى يمينه

أمن زرته مكثّرا قطينه؟

أم جئته مخندقا حصونه

إنّ الجياد والقنا يكفينه

يا ربّ لجّ جعلت سفينه

وعازب الروض توفّت عونه

إلى أن قال في سيف الدولة :

بحر يكون كل بحر دونه

شمس تمنّى الشمس أن تكونه

وقد طغى هذا النهر الصغير على الصليبيين وهم يحاصرون حلب فأغرق خيامهم وشتت شملهم ، وتمكن آق سنقر من حلب بعد طغيانه بيوم واحد. أما الحيوانات المائية في هذا النهر فهي نوع من السمك يعرف عندنا بالإنكليزي ، لذيذ جدا وهو يشبه سمك الحيات المعروف باسم ما رماه. وزعم بعض مؤرخي الفرنج أن الملكة هيلانة هي التي جلبت جرثومة (١) هذا السمك من جهات رومة إلى برك الخليل قرب قرية هيلانة المذكورة. والله أعلم. ومما يوجد في هذا النهر أيضا سمك صغير الحجم جدا يعرف بالقبوضي ، وسمك كبار مفلس يشبه الفراتي أي سمك نهر الفرات ، يسمونه البنّي ، وأهل حلب يحبون هذا النوع من السمك ويقولون فيه من أمثالهم : (إن شفت أطيب منّي لا تأكلني). ويوجد في هذا النهر أيضا كثير من الحيات المائية والسرطانات والسلاحف حتى إن بعض الناس يدعونه بنهر السلاحف.

قال ابن الشحنة : عاف قوم ماء قويق لكثرة السلاحف فيه. ولهذا اشتهر منه المكان المعروف (٢) بجسر السلاحف. وغاب عنهم أن في وجودها نفعا كبيرا فإن دم السلحفاة ينفع المصروع وكذا مرارتها والتلطخ بدمها ينفع من وجع المفاصل. انتهى.

ومما يكثر فيه أيضا الضفادع التي تصدع بنقيقها من كان قريبا منها ، خصوصا إذا قل ماؤه ، وتكتبت كتائب في غدرانه المترقرقة فإنها يزداد نقيقها ولا تكاد تسكت. وإلى ذلك أشار بعضهم بقوله (٣) :

قويق إذا شمّ ريح الشتا

ء أظهر تيها وكبرا عجيبا

__________________

(١) الجرثومة : الأصل.

(٢) في الدر المنتخب لابن الشحنة ١٣٩ : «المخصوص» بدل «المعروف».

(٣) الأبيات للصنوبري في الديوان ٤٥١ والدر المنتخب ١٣٩.

٥٧

وماثل دجلة والنيل وال

فرات بهاء وحسنا وطيبا (١)

وإن أقبل الصيف أبصرته

ذليلا حقيرا حزينا كئيبا

إذا ما الضفادع نادينه

قويق قويق أبى أن يجيبا

وتمشي الجرادة فيه فلا

تكاد قوائمها أن تغيبا

والاستقاء من هذا النهر في زماننا على ثلاثة أنحاء :

الأول : خليج يعرف بالعدّان ، يؤخذ منه ويجرّ عن مأخذه مسافة حتى تنخفض له الأرض ويتمكن من سقايتها.

الثاني : الدولاب المعروف بالغرّاف ، يدور بالبقر والبغال والبراذين ، وهذا أعم الوسائط.

والثالث : النواعير تدور بنفسها على الماء ، وهي أقل الوسائط إذ لا يوجد عليه أكثر من خمس نواعير.

وفي سنة ثلاثة وثلاثمائة وألف أحضرت البلدية من بعض معامل أوروبا مضخة يديرها محرك في قوة ستة حصن ، يتحرك بالبخار ، نصبتها على النهر في بستان إبراهيم آغا أمام الكتاب ، وسلطت ماءها إلى جنينة الناقوس قرب العبارة الجارية في أملاك البلدية ، فلم تنجح هذه الآلة لكثرة نفقتها وقلة مائها. هذا وإن الانتفاع بماء هذا النهر شربا وغسلا لا يزال ممكنا حتى يصل إلى الدبّاغة جنوبي جسر باب أنطاكية على غلوة (٢) منه وهناك يفسد ماؤه فيحمر لونه من الأصبغة وينتن ريحه ويتغير طعمه من روث الجلود التي تغسل فيه.

جر الساجور إلى قويق

في سنة ٧١٣ اجتهد بجر نهر الساجور إلى قويق الأمير سيف الدين سودون النّاصري نائب حلب ، فصغّر غدرانه وفتح له جدولا طوله أربعون ذراعا صرف عليه ثلاثماية ألف درهم أكثرها من ماله ، فاخترمته المنية قبل إتمامه سنة ٧١٤ ودفن بتربته خارج باب المقام.

__________________

(١) في الأصل : «بهاء ولطفا وحسنا وطيبا» وبه يضطرب الوزن ، والتصويب من الديوان.

(٢) الغلوة : مقدار رمية سهم. وتقدّر ب ٣٠٠ ذراع إلى ٤٠٠ «المعجم الوسيط».

٥٨

ولما أتى إلى حلب الأمير سيف الدين أرغون دوادار الناصري سنة ٧٣٠ نائبا ، وبنى مدرسته وتربته التي هي عند باب الحديث تجاه حمام سوق الخيل المعروفة الآن بالشيخ قويق ، احتاج إلى ماء عذب يجري إلى مدرسته المذكورة فهندم قناة عظيمة تجري من الساجور وتصبّ في نهر قويق ، واستلم ماءها من عند قرية هيلانة من نهر قويق وحرفها إلى قناة حلب ، ثم أخذ منها مقدار كفاية مدرسته المذكورة. وقد حفر نهر الساجور ووسع مضيقه وجمع الناس على ذلك بحيث كمل العمل في قرب ستة أشهر بعد تعب زائد وإنفاق مال كثير. وكان وصول الماء إلى حلب سنة ٧٣١ وكان يوم وصوله مشهودا. خرج النائب والأمراء والأعيان لتلقّيه مشيا إلى ظاهر البلد بالتكبير والتهليل ، فرحين مسرورين. وفي ذلك يقول القاضي الفاضل شرف الدين الحسيني ابن الريان :

لما أتى نهر الساجور قلت له :

ما ذا التأخّر من حين إلى حين؟

فقال : أخّرني ربي ليجعلني

من بعض معروف سيف الدين أرغون

وقال القاضي الفاضل بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي :

قد أصبحت شهباؤنا تثني على

أرغون في صبح وديجور

من نهر الساجور أجرى لها

للناس بحرا غير مسجور

والمفهوم من هذا وما أجريته من الاستقصاء أن قناة حلب قبل أرغون هذا كانت تجري من ماء برك الخليل فقط وأن جريان ثلث نهر قويق إليها كان في أيام أرغون لا قبلها أخذه عوضا عن ماء الساجور الذي أجراه إلى قويق ثم انقطع الساجور وبقي جريان هذا الثلث مستمرا. على أن الساجور بعد أن ساقه أرغون على الصفة المتقدم ذكرها استمر يجري إلى نهر حلب حتى حدث بها زلزلة شديدة سنة ٩٤٠ فتهدمت الجسور التي بناها أرغون وأجرى الماء من فوقها وانقطع الماء. وكان أرغون قد وقف على هذه الجسور لتعميرها وترميمها وقفا عظيما ، لكن هذا الوقف قد تداولته أيدي الغصب ، وبقي الساجور منقطعا عن نهر حلب.

كان مكتوبا على إحدى عضادات الجامع الكبير ما صورته : لما كان بتاريخ رابع جمادى الآخرة سنة ٩٠١ ورد المرسوم الكريم العالي المولوي الملكي المخدومي الكافلي السيفي الأشرفي مولانا الملك الناصر كافل المملكة الحلبية بأن لا يسقى من ماء الساجور الواصل

٥٩

إلى حلب زرع حاسين وفافين وملعون من يزرع على ماء الساجور زرعا.

قلت : قرية حاسين وفافين في شمالي حلب على بعد نصف مرحلة منها ، ونهر قويق يجري من فافين ، وقسم منه يجري إلى حاسين بواسطة قود طاحون فيها.

ومكتوبا على عضادة أخرى في الجامع الكبير ما صورته : لما كان بتاريخ سبعة وعشرين جمادى الآخرة سنة ٩٠٢ ورد المرسوم العالي المولوي المخدومي كافل المملكة الحلبية المحروسة الملك الناصر بإبطال ما كان يؤخذ من وقف نهر الساجور الواصل إلى حلب ، وملعون ابن ملعون من يأخذ على جباية الوقف المذكور بارة الفرد ، ويجدد هذه المظلمة أو يعين على إعادتها أو يأمر بإعادتها. انتهى.

قلت : ولم يزل الساجور منقطعا عن حلب إلى سنة ١٠٤٠ فاجتهد هذه السنة بجرّه مرة ثانية رجل من أغنياء الحلبيين يقال له نعسان آغا ووقفت عليه وقفا جيدا من خانات ودكاكين وأفران ودور وغير ذلك مما يقوم بوظيفة عمله إذا توهن ، فقال بعضهم يمدحه :

لما أتى حلب الساجور قلت له :

كيف اهتديت وما ساقتك أعوان؟

فقال : كانوا نياما عن مساعدتي

حتى تيقّظ طرفا وهو نعسان

ولم يزل يجري الساجور إلى حلب حتى امتدت إلى أوقافه أيدي المتغلبين وأخذت جسوره بالخراب شيئا فشيئا حتى تعطلت عن آخرها ، وذلك في حدود سنة ١١٣٥ وبقي مقطوعا إلى سنة ١١٥٠ وفيها اهتمت الحكومة بإعادته فجمعت مالا عظيما من الحلبيين وصرفته على تصليح مجراه القديم فعاد يجري إلى نهر قويق مقدار ربعه في الزمن السابق ولم يلبث غير سنيّات حتى تعطلت مجاريه وانقطع بالكلية كأن لم يكن.

وفي سنة ١٢٨٧ قل الماء في حلب. ويبست المشاجر فاهتمت الحكومة بجر الساجور إلى حلب وجمعت من الناس نحو مائتي ألف وأحد عشر ألف قرش ، وعملت له مجرى غير مجراه القديم حتى استقام العمل على زعم بعض المهندسين. وفي يوم جرّه إلى قويق خرج الناس إلى الملتقى بالطبول والزمور ووقفوا هناك ينتظرون مجيء الماء إلى أن حان المساء فجاءهم مخبر يقول لهم إن العمل لم يكمل بعد فرجعوا بالخيبة. ثم شاع أن نهر الساجور

٦٠