نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

وفقراء أهل الذمة. وأجاز أبو حنيفة وحده صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة أيضا وقد فرض سيدنا عمر رضي الله عنه لذمي عطاء في بيت المال فإنه رأى ذميا يسأل الناس الصدقة وهو شيخ فإن فقال عمر حين رآه : لقد ظلمناه ، أخذنا منه الجزية وهو شاب وتركناه يسأل الناس وهو شيخ. وأمر أن يفرض له كفافه من بيت المال ما دام حيا.

قلت ولما كانت الخيرات المشروطة للفقراء في أوقاف المسلمين معدودة كلها من صدقة التطوع فقد أطلق كثير من الواقفين لفظة الفقراء ولم يقيدوها بمسلمين ولا غيرهم لتصرف تلك الخيرات إلى فقراء الملل الثلاث. حتى إني اطلعت على كتاب وقف اشترط فيه صاحبه منزلا للمسافرين وأنواعا من الأطعمة تقدم لهم في الصباح وفي المساء واشترط صراحة أن يرخص فيه بالنزول لمسافري الملل الثلاث الإسلام والنصارى واليهود أغنياء كانوا أم فقراء وأن يقدم لكل مسافر منهم طعام يناسب مقامه ويلائم منزلته فيقدم للأمير مثلا طعام الأمراء وللتاجر طعام التجار.

عيادة الذمي وتعزيته وضيافته

قال الزيلعي إن العيادة نوع من البر وفي القرآن : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) إلى آخر الآية. وأما التعزية فقد قال الحموي نقلا عن النوادر : له جار يهودي أو نصراني مات ابنه يقول له أخلف الله عليك خيرا منه. وأما ضيافته فإنها جائزة لا كراهة فيها. ونقل الحموي عن فتاوي شيخ الإسلام أبي الحسن السعدي أن واحدا من المجوس كان كثير المال حسن التعهد للفقراء المسلمين يطعم جائعهم ويكسو عاريهم وينفق على مساجدهم ويعطي دهان سرجها ويقرض محاويج المسلمين فدعا الناس مرة إلى دعوة اتخذها لجز ناصية ولده فشهدها كثير من أهل الإسلام وأهدى إليه بعضهم هدايا فاشتد ذلك على مفتيهم فكتب إلى أستاذه شيخ الإسلام أن أدرك أهل بلدك فقد ارتدوا بأسرهم. فذكر شيخ الإسلام إن إجابة دعوة أهل الذمة مطلقة في الشريعة ومجازاة المحسن بإحسانه من باب الكرم والمروءة وحلق الرأس ليس من شعار أهل الذمة والحكم بردّة أهل الإسلام بهذا القدر غير ممكن. كذا في الظهيرية من النوع السادس من الفصل السابع من كتاب السير.

١٨١

حلّ طعام الكتابي لنا ، أي ما حلّ له (١)

من طعامه ، وحلّ طعامنا له

في القرآن العظيم (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) أي أحل لكم معاشر المسلمين الذبائح وغيرها من طعام أهل الكتاب اليهود والنصارى وكما أحل لكم طعامهم فقد أحل لهم طعامكم فلا عليكم أن تطعموها وتبيعوا طعامكم منهم.

التزام العدل في الحكم والشهادة

على المسلم وغيره

في القرآن العظيم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي يا مؤمنين قوموا بحق الله واشهدوا بالعدل ولا تحابوا في شهاداتكم أهل ودكم وقرابتكم ، ولا تمنعوا شهادتكم أهل بغضكم وأعداءكم (٢) أقيموا شهادتكم لهم وعليهم بالصدق والعدل ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل بل اعدلوا في كل أحد ، القريب والبعيد والصديق والعدو فالعدل أقرب للتقوى واتقوا الله فهو خبير بأعمالكم.

وفيه أيضا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ* إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا* وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي يا مؤمنين كونوا مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته جاعلين شهادتكم لوجه الله ولو كانت على أنفسكم بأن تقروا أو كانت على والديكم وأقاربكم سواء كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة عليهما ولا تجوروا فيها فالله أولى بالغني والفقير فلا تتبعوا هوى أنفسكم وتعدلوا عن الحق وتحرفوا الشهادة أو تعرضوا عن أدائها فإن الله يعلم ذلك منكم فيجازيكم عليه.

__________________

(١) لعل الصواب أن يقال : «ما حلّ لنا» ليستقيم المراد.

(٢) في الأصل : «وأعدائكم» والصواب كتابة الهمزة على السطر ـ كما صححناها ـ لأن الاسم منصوب عطفا على «أهل».

١٨٢

وأما التزام العدل بالحكم على الذميّ وإنقاذه من غدر خصمه وإنصافه ممن ظلمه فقد ورد فيه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأخبار الصحابة ما تضيق هذه الصفحات عن استيعابه.

قصة زيد السمين اليهودي

وحسبنا من ذلك ما حكاه القرآن العزيز من قصة رجل من الأنصار يقال له طعمة ابن أبيرق من بني ظفر بن الحرث وكان منافقا سرق درع جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع موضوعة في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق الجراب حتى انتهى إلى داره. فلما شعر بذلك خاف من التهمة ومال بالجراب إلى دار رجل من اليهود يقال له زيد السمين فخبأها عنده. ثم التمس صاحب الدرع درعه وتبع الدقيق فأداه إلى دار طعمة فطلب منه الدرع فحلف بالله ما أخذها وما له بها من علم. فأمعن صاحب الدرع نظره بالأثر فرآه قد دخل منزل اليهودي فأخذه منه فقال اليهودي : دفعها إليّ طعمة ابن أبيرق وشهد له على ذلك جماعة من اليهود عند النبي عليه السلام.

وكان بنو ظفر قوم طعمة قد بيتوا أمرهم ورتبوا منهم بينة تشهد أن اليهودي هو السارق ، ثم جاؤوا إلى النبي عليه السلام وقدموا بينتهم وقد سأله بنو ظفر أن يجادل عن صاحبهم ويبرئه من عار السرقة فهمّ النبي بذلك وكاد يحكم بعقاب اليهودي فتقطع يده. ثم ظهر له الحق وأطلعه الله على حقيقة الحال فعدل عن أن يجادل عن طعمة واتهمه بالسرقة وحكم عليه بقطع اليد وبرأ ساحة اليهودي من السرقة وأنزل الله عليه في كتابه (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ) ـ طعمة وقومه ـ (خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) ـ مما هممت به من معاقبة اليهودي ـ (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ـ بالسرقة ـ (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) ـ وهو التزوير ـ (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً* وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) ـ وهو طعمة ـ (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) ـ وهو اليهودي ـ (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً* وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) ـ من بني ظفر ـ (أَنْ يُضِلُّوكَ وَما

١٨٣

يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

فانظر كيف كان خطاب الله نبيه عظيما لمجرد ما هم به من الحكم على يهودي وكيف امتنّ الله عليه بهدايته إلى الحق وعدم إيقاعه باليهودي وعرفه أن ذلك من فضله عليه وكيف أكبر الله فعل طعمة وتهمته لليهودي وكيف وبخه ووبخ قومه ووعدهم جميعا بعقابه وسماهم خائنين آثمين وسمى اليهودي بريئا ونفى عنه التهمة ووجهها على طعمة. فما بالك بعدله مع النصارى الذين لم يشتهروا بعداوته بل منهم النجاشي الذي آمن به على بعد وحمى أصحابه من عدوهم حينما هاجروا إليه. ولذلك أخبر القرآن عن قرب مودة النصارى للإسلام فقال : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

فصل في معاملة أهل الذمة

مما جاء من الأحاديث الحاثّة على التزام الحدود مع أهل الذمة وصونهم من التعدي والإيذاء ما أورده أبو داود في سننه عن العرباض بن سارية قال : نزلنا مع النبي عليه السلام خيبر ومعه من معه من أصحابه ، وكان صاحب خيبر رجلا ماردا منكرا ، فأقبل إلى النبي عليه السلام فقال : يا محمد لكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتعذبوا نساءنا ، فغضب النبي عليه السلام وقال يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن وأن اجتمعوا للصلاة ، فاجتمعوا ثم صلى بهم عليه السلام ثم قام فقال : أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن. ألا إني والله لقد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر وإنه لا يحل لكم ضرب أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوا الذي عليهم. انتهى.

قوله «إلا بإذن» أي بإذن الإمام فيما إذا وجب على أحدهم حد شرعي فيأذن الإمام بحده كما يأمر بحد المسلم إذا وجب عليه.

ولأبي داود عن رجل من جهينة رفعه : «لعلكم تقاتلون قوما فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم فيصالحونكم على صلح فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه

١٨٤

لا يصلح لكم». ولأبي داود والترمذي عن سليم بن عامر أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاءه رجل على دابة أو فرس وهو يقول الله أكبر وفاء لا غدر. فإذا هو عمرو بن عسبة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله عليه السلام يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء. فرجع معاوية.

ولأبي داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم رفعوه : «من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة». قوله انتقصه : معناها أو آذاه بشيء ما. وفي الترمذي وصححه : ألا من قتل نفسا معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر ذمة الله ولا يريح رائحة الجنة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفا. وفي النسائي : من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما. ورواه البخاري : من قتل معاهدا. ولأبي داود عن مالك قال بلغني أن العباس قال : ما ختر قوم بالعهد إلا سلّط عليهم العدو. ومعنى ما ختر : ما غدر.

وفي البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن ابن عمر رفعه : إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان. وفي ابن ماجه : ثلاث (١) أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته : رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يؤده حقه. وعنه عليه السلام : إن الله يعذب الذين يعذبون الناس. وفي رواية : الذين يقذفون الناس. وروي : ولا يقفنّ أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه. قال ابن حجر في زواجره تبعا للعلماء ما معناه أنه لا فرق في هذا بين أن يكون المضروب مسلما أو ذميا قال عليه السلام : من ظلم ذميا فأنا خصمه يوم القيامة.

__________________

(١) في سنن ابن ماجه ٢ / ٨١٦ تح. محمد فؤاد عبد الباقي : «ثلاثة» ، وفي آخره : «ولم يوفه أجره» بدل «ولم يؤده حقّه».

١٨٥

في ثبوت الأمانة لأهل الكتاب

قال الزيلعي في الكلام على خبر أهل الكتاب ما خلاصته : إن القرآن العظيم أثبت الأمانة لأهل الكتاب بقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) فخرجت الآية مخرج الوصف لهم بالأمانة. اه. قال المفسرون : هذه الآية نزلت في اليهود خاصة فأخبر الله عنهم أن فيهم أمانة وخيانة وقسمهم إلى قسمين. والقنطار عبارة عن المال الكثير والدينار عبارة عن المال القليل. يقول الله : منهم من يؤدّي الأمانة وإن كثرت ومنهم من لا يؤديها وإن قلّت. وقال ابن عباس في هذه الآية : أودع رجل من قريش عبد الله ابن سلام ألفا ومائتي أوقية من الذهب فأداها إليه فذلك قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ). واستودع رجل من قريش فنحاص بن عازوراء دينار فخانه وجحده ولم يؤدّه فذلك قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً). اه.

لهجة أهل حلب في التكلم

نورد هنا نبذة وجيزة في الكلام على لهجة الحلبيين في كلامهم كالنموذج لعلها تروق لدى من يعتني بالعلم الحديث المعروف باسم فلسفة اللغة فنقول :

الحلبي يلفظ الحرف من مخرجه الحقيقي فيلفظ الجيم جيما لا كيما عبرانية ولا شينا ولا زايا ، والشين شينا لا سينا ، والقاف قافا لا كافا ولا همزة وهكذا بقية الحروف. غير أن النصارى واليهود يخرجون القاف همزة مرققة في الغالب فيقولون في قارىء مثالا آري. كما أن بعض النصارى ربما أخرجوا التاء طاء فقالوا في ترى مثلا طرى. أو أخرجوا السين صادا فقالوا في ساعة مثلا صاعة. لكن هذا قليل. وقد يخرج اليهود الضاد والطاء بين التاء والدال فقالوا في مثل فضله وأعطني فدله وأعتني. ويوجد بعض من المسلمين الذين يعاملون عرب البادية من يخرج القاف كافا مفخمة فيقولون في قال مثلا : كال. والإعراب في كلامنا لا وجود له البتة وتوجد فيه الإمالة بكثرة جائزة وممتنعة كقولهم سريج لحيف قيعد نييم ، في : سراج لحاف قاعد نائم.

١٨٦

وحرف المضارعة في كلامنا هو الباء نحو بضرب بشرب في أضرب أشرب وهذا البدل ربما أدى إلى هجنة في بعض الكلمات كقول بعضهم أنا بهيم إذا رأيت جميلا وأنا بصل للأكل وأنا بريد السفر يريد أنا أهيم وأصل وأريد. وإذا أسند المضارع للمتكلمين أبدلت الباء ميما وزيدت قبله ألف فقيل امناكل امنشرب امنلبس. والفعل المبنى للمجهول في الثلاثي يطّرد عندنا على وزن انفعل كانضرب وانكرم ولا يوجد في الرباعي مجردا أو مزيدا فيه. والمفعول به يقترن باللام غالبا فيقال ضرب زيد لعمر. ويوجد المفعول المطلق قليلا والمفعول فيه كثيرا. والمفعول معه غير موجود بل هم يلفظون معه بمع يقولون مثلا أمشينا مع الجبل. وقلّ أن يوجد المفعول من أجله بل يعتاضون عنه بأداة تعليل فيقولون مثلا قمنا إمشان تعظيم المعلّم أي لأجل. والحال قليل في كلامهم والأكثر أن يعتاضوا عنه بكلمة عمال يقولون مثلا إجا فلان عمّال بضحك. وهذه الكلمة يستعملونها أيضا في المضارع المراد منه الحال يقولون مثلا فتنا على فلان شفناه عمّال بكتب. والتمييز موجود في كلامهم ومثله الاستثناء ويعتاضون عن نفي الجنس بحدا أو بما في معناها فيقولون مثلا ما في حدا في الجميع أي لا أحد في الجامع. أو يقولون مكان حدا الدومري ولا يستعملون من حروف النداء سوى يا. ويلحقون الفعل ضمير الفاعل ، تقدّم عليه أو تأخر ، فيقولون اجو الرجيل علينا ، جاء الرجال علينا وهذا على حد أكلوني البراغيث.

وليس عندهم من الأسماء الموصولة شيء سوى أنهم يستعلمون كلمة اللي للذكر والمؤنث مفردا أو غيره ويميزون المراد منها بالصلة بعدها فيقولون مثلا اللّي قام اللي قاموا اللي قامت. وهذه الكلمة تدور في كلامهم على كثرة لأنهم كثيرا ما يعتاضون بها عن التلفظ باسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة وهم يعدّون الفعل القاصر بالتضعيف غالبا كقولهم فلان روّح مصاريه أي صرف دراهمه. ولا وجود للذال في كلامهم بل يقلبونها دالا أو يلفظون بها زايا وتاء التأنيث في الأسماء يقلبونها ياء كقولهم فاطمي عاقلي أي فاطمة عاقلة والثاء تاء كقولهم تيني تليت أي ثاني ثالث وربما لفظوها سينا كقولهم في ثم سم ويخرجون الظاء زايا مفخمة كقولهم في ظاهر زاهر أو يقلبونها ضادا كقولهم أدّن الظهر في أذّن الظهر. وكثير من المتطرفين الذين يعانون اللغة التركية من يلفظ الضاد زايا مفخمة فيقول في مريض مثلا مريز. كما أن بعض المتفرنجين يلفظون القاف كافا فيقول في قرش مثلا كرش حتى إنهم كثيرا ما يخلطون في كلامهم العربي بعض كلمات افرنجية لا عجزا منهم عن أن يأتوا

١٨٧

بنظائرها من اللغة العربية بل ليفهموا أن معرفتهم باللغة العربية قليلة كأنهم يفتخرون بذلك. وبالجملة فإن لكل محلة عندنا لهجة مخصوصة بأهلها غلب عليهم ذلك باعتبار خلطائهم. فسكان محلة باب النيرب يغلب على لهجتهم ألفاظ أهل الصوف والوبر. وسكان محلة الكلاسة يغلب عليهم ألفاظ أهل الحرث. وسكان محلة الفرافرة يوجد في كلامهم كثير من الألفاظ التركية والفارسية إذ كان أكثر المستخدمين في أيام الحكومة العثمانية منهم. والنصارى واليهود يغلب عليهم في تراكيب كلامهم أساليب اللغات الافرنجية لكثرة معاناتهم إياها. وهكذا بقية المحلات ، كل يضارع خليطه.

الألفاظ الدخيلة في لغة الحلبيين عموما كثيرة جدا منها جميع الألفاظ الافرنجية التي ذكرت في قوانين الدولة العثمانية كالكمبيالة والبريتستو والقونطوراتو. وكأسماء الآلات والأدوات كشمندوفر وأوتوموبيل وتلغراف وإستاسيون مما يكاد استعماله يكون عاما في جميع البلاد العربية. ومن الألفاظ الدخيلة في لغة الحلبيين كلمات تركية وفارسية وسريانية وعبرانية محرفة أو مصحفة يطول الكلام عليها بحيث يحتاج إلى وضع معجم على حدته.

أمراض حلب

الأمراض التي يكثر وقوعها في حلب : مرض التّسنين الذي يعتري الطفل حين بلوغه الشهر الخامس أو السادس من عمره. ومن أمثال الحلبيين (طلعت أسنانه حضّروا أكفانه) وذلك أن أشد وقت يخشى فيه على حياة الطفل هذا الوقت الذي تخرج فيه أسنانه اللبنية التي يبدّلها بعد فتختلّ جميع وظائفه الطبيعية وتنحرف صحته وترم لثته (١) ويسيل لعابه ويحمرّ غشاء فمه ويكثر بكاؤه وتضجره ويصحب ذلك إسهال دائم مادته خضراء أو مخاطية بيضاء. وهذا عرض شديد الوطأة على صحة الطفل وقد يوجد غيره من الأعراض الشديدة أو الخفيفة على حسب الاستعداد الطبيعي في الطفل ومساعدة الشّئون والأحوال. وقد يصحب المرض تقرّح اللثة أو الفم جميعه أو تهور بنية المريض وهبوطها سريعا أو وقوعه في سل الأطفال أو انتقال المرض إلى درجة الإزمان. وعلى كل فهو مرض رديء النوع

__________________

(١) ترم : ماضيه «ورم» بمعنى انتفخ. واللّثة ، بكسر اللام وتخفيف الثاء : مغرز الأسنان وما حولها من اللحم.

١٨٨

سيّىء الإنذار على أنه قد يكون في بعض الأطفال بسيطا جدا بحيث لا تكاد تظهر فيهم أعراضه.

حبة حلب

وفي هذا السن أو أقل منه بشهرين يعتري الطفل بثرة يقال لها حبة السنة والبعض يسميها حبة حلب زاعما أنها من خواصها مع أنها غير قاصرة عليها بل هي تظهر في عدة بلاد كالموصل وبغداد وأكثر البلاد التي تشرب من نهري دجلة والفرات وبعض قرى كسروان التي يدعي أهلها أنها انبثّت إليهم من حلب وأنهم يعهدون ابتداء زمن ظهورها فيهم. أما ابتداء زمن ظهورها في حلب فهو غير معلوم ولم أر من صرح به في صفحات التاريخ.

هذه الحبة بثرة جلدية تظهر أولا على هيئة نقطة حمراء كالحة تقرب من الاستدارة شبيهة بلسعة البرغوث. ثم تأخذ بالنتوء والارتفاع حتى تصير على هيئة ثؤلولة ملساء داكنة اللون تنمو رويدا رويدا وقد يختلف نموها من بعض أيام إلى بعض أشهر حتى تزداد خشونة وتقشر أجزاء دقيقة من بشرتها وحينئذ تقل صلابتها ويزيد احتقانها ثم تتقرح ويسيل منها صديد يختلف قواما وطبيعة مع اختلاف اتساعها وغورها (١) إلى أن تؤخذ بالجفاف فيتكون عليها خشكريشة (٢) تسقط ثم يتكون غيرها إلى أن تبرأ وتبقي أثرا لا يزال مدة الحياة.

والغالب أن يكون ظهورها في الشهر الرابع من العمر كما ذكرنا آنفا. وقد تتأخر إلى تمام السنة الأولى أو الثانية وأحيانا إلى سن البلوغ وهي لا تقتصر على الحلبيين فقط بل لا بد من ظهورها في الوافدين جديدا على حلب فتسمهم غالبا في الشهر الأول من قدومهم وقد تتأخر للسنة الثانية كما أنها قد تظهر في بعضهم بعد خروجهم من حلب. أما مدة سيرها فهي لا تكون أقل من ثلاثة أشهر ويكثر إلى سنتين وبقاؤها أكثر من ذلك نادر جدا. وأما أسبابها فقد تأكدت بالملاحظة المدققة أنها غير موروثة ولا معدية بالملامسة إذ أنها قد تعتري الوالدين دون أولادهما وبالعكس. وإذا انتقل الوالدان إلى بلد غير معرض لهذه الحبة فإنها لا تعتري نسلهما في ذلك البلد ولو كانت اعترتهما من قبل. وقد لا تعتري الغرباء

__________________

(١) غورها : عمقها.

(٢) الخشكريشة : القشرة الناشفة أو اليابسة.

١٨٩

المستوطنين الذين يخالطون الحلبيين ويتقلدون جميع عاداتهم والناس يعتقدون أنها مسببة عن الماء ، ولذا يتحامى بعض الغرباء تناول ماء نهر حلب وقناتها شربا ويعتاضون عنه بماء العين البيضاء أو عين التل فيتخلصون من هذه البثرة غالبا.

أكثر ما يكون ظهور هذه الحبة من جسم الإنسان في الأعضاء المكشوفة المعرضة للنور فيكثر ظهورها بالوجه والأنف والأذنين والجفون والساعدين وظهر الكتفين. ويقل ظهورها في الأخمص والساقين. ويندر في مقدّم العنق والصدر والبطن. وأندر من ذلك أن تظهر في باطن الكف والظهر والعجيزتين. وهي تعتري غير الإنسان من الحيوانات كالكلاب والسّنانير (١) وتكون في الأقوياء والضعفاء والمترفهين والفقراء والذكور والإناث على حد سواء. وفي الغالب تكون مفردة وقد تتعدد وربما بلغت ثلاثين حبة متفرقة في جهات مختلفة من البدن يتوالى خروجها فلا يكون ما بين خروج الأولى وما يليها إلا مدة وجيزة وقد تبرأ الأخيرة مع الأولى. والعوام يسمون المفردة منها ذكرا والمتعددة أنثى.

وقد ظهرت هذه الحبة في بعض الخدم والمأمورين الذين رافقوا الملك غليوم إمبراطور ألمانيا في سياحته إلى فلسطين. وبعد أن شاهدهم البروفسور (لابسار) أستاذ الأمراض الجلدية في دار الفنون الطبية في برلين قال : حبة حلب ليست من الأمراض الّتي تستحق الاهتمام وهي تظهر في سكان المناطق الحارة ولا سيما سكان شطوط الفرات ودجلة والعاصي. وشوهدت أيضا في سكان بيسقرا في منتهى جنوب الجزائر وتسمى هناك حبة بيسقرا. وتظهر في سكان السند وتسمى حبة دلهي وهو يرى أنها تتأتى عن لسع نوع من الذباب السيوري. اه.

أقول إن إنذار هذه الحبة جيد لأنها من نوع الحبوب القابلة للبرء. غير أنها تبقي في محلها أثرا مشوها يعظم كلما قربت من الأنف والعين والشفتين. وإذا ظهرت على بعض سلاميات الأصابع فالغالب أن تبطل حركة مفصلها. وهي تستعصي غالبا في ذوي الأمزجة الليمفاوية المستعدين للمزاج الخنازيري والمصابين ببعض الأمراض الجلدية الصعبة كالمرض الزهري والمولدين من أبوين مصابين به.

__________________

(١) السّنانير : جمع سنّور وهو الهرّ ، أو نوع منه شبيه به.

١٩٠

أما ما تعالج به هذه الحبة فأحسنه أن يبادر إلى مسها بقلم نيترات الفضة متى تأكد ظهورها مسا لطيفا في كل عشرة أيام مرة إلى أن تتقرح وحينئذ تغسل مرتين في النهار بماء زهر البلسان وتنشف وتطلى بزيت الزيتون أو دهن اللوز إلى أن تبرأ. ويوجد لمعالجتها بعض أدهنة مركبة مذكورة في الكتب الطبية فراجعها وبلغنا أن بعض أطباء بلدتنا عول على عملية التلقيح لهذه البثرة كالجدري ومارس هذه العملية مدة فظهر له منها تأثير في بعض الأطفال دون بعض.

ومن الأمراض الكثيرة الوقوع عندنا أمراض الجهاز التنفسي كالحادر والنزلة الحنجرية والتشعّب الرئوي والأزمة ، وتكثر في الشتاء وتبدل الفصول وأسبابها كثيرة جدا منها يبس الهواء وقحولته (١) والإقامة في الأماكن الرطبة والإفراط من استعمال التدخين بالتتن والتنبك وكثرة تناول الحوامض وغير ذلك من الأسباب. والله أعلم.

__________________

(١) من قولهم : «قحلت الأرض قحولا : يبست» ، يريد جفاف الهواء.

١٩١

العادات المستعملة عند المسلمين

في أفراحهم وأتراحهم

استعمال جميع ما سنذكره من العادات في الأفراح والأتراح والفصول والمواسم إنما هو أمر أغلبي ، وإلا فكثير من الناس ولا سيما الخواص أو المتصلبين في الدين يقتصرون منها على أشرفها وأبعدها عن المفاسد الدينية.

العادات المستعملة في الحمل والولادة وما بعدهما

متى علمت المرأة بالحمل أخذت بالتحرز على نفسها وتجنبت حمل الثقيل والركوب على الدوابّ والصعود السريع على الأدراج والمشي الكثير وتناول المسهلات الشديدة إلى دخول الشهر التاسع. وعندها تكثر من الدخول إلى الحمام وقد تتردد من بيتها إلى باب الفرج تفاؤلا وتكون قد استحضرت لوازم المولود من الكسوة والقماط واللفائف ، ويعرف ذلك بالديارة فإذا ابتدأ معها الطلق تحضر القابلة وتعرف بالداية وتصحب معها كرسيا من الخشب قد قوّر مقعده نصف دائرة فكلما جاء المتمخضة طلقة شديدة جلست على هذا الكرسي وإذا تعسر معها المخاض سقوها شيئا من السمن المذاب وبعضهم يحضر لها حربة مركوزة عند أضرحة بعض الصالحين فتتوكأ عليها تبركا وهي على الكرسي إلى أن تضع.

قلت ولادة المرأة جالسة على هذا الكرسي مضرّة برحمها فالأولى أن تستولد مسلنقية (١) نصف الاسلنقاء مستندة إلى وسادة وحينما يولد الطفل تلمسه القابلة فإن كان غلاما صلّت على النبي وإن كان جارية ترضّت عن فاطمة الزهراء. فيتباشر القوم وتبتدىء النساء بالزراغيت. ثم إن القابلة تشتغل بدهن ظهر الولد بالزيت لإزالة الشحم منه وبقطع سرّه وتلبيسه. ويشتغل من حضر من النسوة برفع أمه إلى المرتبة المعدة لها ثم يجيء أحد أقارب المولود ويؤذن في أذنيه.

__________________

(١) اسلنقى : نام على ظهره.

١٩٢

ثم يسمى من قبل أبيه أو جده أو أمه أو جدته ويدفع لأمه فتعرض عليه ثديها. وبعضهم يلعقه من شراب الزوفا ليسرع خروج العقي (١) من بطنه. وقلّ من يستعمل له العقيقة المسنونة. والغالب أن تقتصر الأم في مأكولها ومشروبها على الأغذية اللطيفة والأمراق وتطبخ لها حلوى بالشّونيز (٢) والجوز ليكثر لبنها وتشرب من ماء الحمام المنقوع فيه أصول البنفسج. وتستمر على ذلك مدة أسبوع. وفي ثاني أو ثالث يوم من الولادة يرسل أحد أصدقاء البيت إليه فرشا من الزلابية ومعه أباليج السكر (٣) قد وشي بالألوان. ثم في مساء اليوم السابع يولم أهل المولود وليمة حافلة يدعون إليها أقاربهم وخواصّ معارفهم.

وقد يوجد من جملة الألوان طعام حلو مطبوخ مؤلف من الدبس والشمرة ويعرف بالمغلي وقد يحضرون في تلك الليلة القينات فيغّنين ويطربن من حضر. وقد يقمن إذا رضي صاحب الوليمة فيجمعن من النسوة دراهم تعرف بالنقوط فتعطي كل امرأة بحسبها من ثلاثة قروش فصاعدا. وربما جمع من ذلك مبلغ وافر يعطى بعضه القابلة وقيمة الحمام والقينات ويبقى فضلة لصاحب الدعوة. ثم في صباح تلك الليلة تنصرف كل امرأة إلى بيتها. وقد اعتادت النسوة أن يتهادين في الأفراح بأنواع الحلوى أو الأقمشة أو بعض النقود الذهبية القديمة فكل من كان عندها في فرح سبق لها الهدية من قبل الوالدة أو من ذوي قرابتها تأتي وتهنئتها بمثل هديتها. فإن كانت حلوى وضعتها في ظرف من البلور مصفوفة منضدة وقدمته إليها وإن كانت نقدا من الذهب المذكور علّقته في قلنسوة المولود.

ثم بعد أربعين يوما من يوم الولادة تؤخذ النفساء إلى الحمّام مع أقاربها من النسوة. وربما أفردت لها الحمام خاصة بها وبمن معها فبعد دخولها إليه تطلى جميعها بعسل فيه زنجبيل (٤) ويوضع منه مقدار تحتها ويكبس جسمها بالمرزنوش (٥) القبرص والخزامى المغربية. وتجلس على هذه الحالة نحو ساعة في طرف سطح بيت النار ثم تغسل وتخرج وهذا الكبوس والطلي يعرفان بالشدود وقد تركه كثير من الناس ولا سيما في الصيف.

__________________

(١) العقي : ما يخرج من بطن المولود حين يولد.

(٢) الشونيز : الحبة السوداء ، وهي المعروفة بحبّة البركة.

(٣) يعني السكر الأبيض ، والمفرد أبلوج.

(٤) في الأصل : «زنجيل» خطأ مطبعي. والزّنجبيل : نبات ذو عروق غلاظ تضرب في الأرض ، حرّيفة الطعم.

(٥) المرزنوش : نبات طيب الرائحة ، ويقال أيضا : المرزنجوش.

١٩٣

وأما تربية الولد فإنه يرضع في الغالب حولين كاملين من أمه أو مرضعة مستأجرة. وفي أوائل هاتين السنتين يشدّ بقماط يستوعبه إلى رأسه وهذا غير جيد إذ ربما تلتوي بعض أعضائه من شد القماط ويوضع تحت مقعده تراب يعرف بتراب الهلّك كي يتشرب الرطوبة التي تخرج منه. وهذا غير جيد أيضا إذ ربما تضرّر الطفل من رطوبته على نحو ما يتضرر الإنسان من رطوبة الأرض فالأولى حذفه وتغيير لفائف الطفل كلما أحدث. وقد يؤانس منه وجع في بطنه فتمضغ له أمه لب عجو الدرّاقن وتعتصره في فمه أو يدهن بطنه من دهن البابونج فيسكن الوجع وقلما يغسلونه في غير الحمام. والأولى غسله بالماء الفاتر في أكثر الأيام مع الاحتراز عليه من البرد.

ومما اعتادوه من يوم ولادته إلى أن يمضي عليه بضعة أشهر أن يكحلوه في كل أسبوع تقريبا بكحل أسود مركب من هباب الزيت ويدهنوا مراقّه (١) بالزيت الطيب ويذرّوا فوقها مسحوق ورق الآس كأن ذلك دباغا (٢) لجسمه. وقد اعتادوا إذا خرجت أسنان الطفل أن يسلقوا له قمحا ويخلطوا معه سكرا ورمانا وجوزا ولوزا وفستقا ويطعموه من هذا الخليط ويفرقوا باقيه.

وضع الولد في المكتب أو غيره وحفلة الختم

إلى أن يبلغ حد الزواج

وحينما يبلغ الطفل الرابعة أو الخامسة من عمره يضعونه في المكتب وإن كان أنثى وضعوها عند الشيخة أو معلمة الخياطة أو التطريز وكلما بلغ الولد نحو الربع من القرآن أرسلوا لشيخه هدية تعرف بالبخشيش إلى أن يكمله فترسل له هدية وافرة على حسب حال ثروة أهل الولد.

وعندها يعمل له فرح يعرف بالنشيدة وهي وليمة لأولاد المكتب يدعون مع شيخهم صباحا إلى بيت الولد الذي أكمل القرآن ويدعى معهم بعض الأحباب والأصدقاء فيحضرون وقد سبقهم المطربون الذين يضربون بالدفوف وجماعة العازفين بالناي وربما

__________________

(١) المراقّ ، بتشديد القاف : المواضع التي يكون فيها الجلد من الجسم رقيقا.

(٢) الصواب «دباغ» بالرفع خبر كأنّ.

١٩٤

أوجدوا زمرة من دراويش الطريقة المولوية ويعملون نوبة سماح فيطرب من حضر. ثم يدعى الجمع للطعام فيأكلون ثم تصطف الأولاد عدة صفوف ، أهل الصف الأول منهم يحملون أعلاما صغارا ويمشي أمامهم بضعة أولاد متفوقين ينشدون أبياتا من بردة البوصيري وبقية الأولاد يعيدون قوله (مولاي صلّي وسلم إلخ) وقد ينشدون غير ذلك. وأولاد الصف الثاني يحملون أعلاما أكبر من الأعلام التي حملها الصف الأول ويتقدمه واحد ينشد مدائح نبوية والأولاد يعيدون لازمتها.

وأولاد الصف الثالث يقفون فرقتين متقابلتين إلى جانبي الذي ختم ويفتح بين كل ولدين من الصفين درج مكتوب فيه بعض الأدعية. وقد قام بين الصفين ناشد (١) يشدو بمدائح نبوية والأولاد يعيدون لازمتها وقد مشى أمامهم رجل يحمل كرسيا على رأسه فوقه المصحف ، وأمام هذا الصف جماعة المغنين وبأيديهم الدفوف وهم ينشدون مدائح خصوصية ووراءه جماعة الدراويش ومن يحمل المبخرة التي يحرق فيها العود وفي جانبه إنسان ينثر على الناس شعيرا زعما أنه يدفع العين عن الولد. وهكذا يطوفون في الشوارع إلى أن يرجعوا إلى بيت الولد الذي ختم وفيه يقوم بضعة أولاد ممتازين يقرأ كل واحد منهم دعاء يدعو فيه للسلطان ولشيخه وللأولاد بالفتوح والبقية يؤمّنون على دعائه ثم ينصرفون وعند خروجهم من الباب يملأ جيب كل ولد منهم نقلا مركبا من الفستق والزبيب وغيرهما. وفيه مقدار من الدراهم وهكذا تكون خاتمة النشيدة.

ختان الولد

ثم إن الولد إن كان غير مختون فإنه قد يختن في هذا اليوم بعد رجوعه من الطواف المذكور. على أن كثيرا من الناس اعتادوا أن يختنوا الولد في اليوم السابع من ولادته ، كما اعتادوا ثقب أذن البنت للقراط في أثناء ذلك الأسبوع ، فيختنونه دون أن يقيموا له حفلة ومنهم من يفرد احتفالا خاصا لسنة الختان بعد أن يترعرع الولد فيولم صباحا ويحضر المغنين والمطربين وتقدم له الهدايا من أفراد أصحابه فيرسل له أحدهم أرزا أو سكرا أو غنما أو بعض أقمشة حريرية ، كلّ بحسب حاله ، وبعد أن يفطر المدعوون ويطربوا يفتتح شيخ

__________________

(١) الكلمة من العامية الدارجة ، والصواب «منشد» من الإنشاد.

١٩٥

بقراءة قصة المولد النبوي وفي ختامها يجاء بالولد ويختن وينصرف الناس وتحضر المغنيات وتقبل النسوة فيبقين ذلك النهار كله ويجمع منهن النقوط على نحو ما تقدم.

وبعض الغرباء يجعل حفلة الختان مساء فيأكل المدعوون ويتغنى المطربون ثم تحرق الملاعب النارية وفي ثاني يوم تتلى قصة المولد بحضور نفر قليلين وفي ختامها يختن الولد.

أما سكان الأطراف فقد اعتادوا غالبا أن يحتفلوا بالختان على غير هذه الصورة وهي أنهم يولمون صباح اليوم الذي يريدون أن يختنوا الولد فيه ثم يركبون الولد بالحلى والحلل على برذون ويركبون خلفه رديفا ويطوفون به في شوارع البلد وأمامه أحد شيوخ الطرايق مكللا بغطاء وردي وفي يده عقّافة راكبا على برذون يقوده أحد مريديه وأمامه جماعة يضربون طبول البدوي ويحملون أعلام الطريق إلى أن يطوفوا هكذا في أكثر الشوارع ثم يرجعوا إلى بيت المختون وتتلى قصة المولد النبوي ويختن الولد في ختامها.

ومن الناس من يجعل في مكان نوبة الطريق هذه عراضة وهي عبارة عن جماعة يطوفون بالشوارع وهم يلعبون بالعصيّ ومنهم من يلعب بالسيوف والتراس ، ومنهم مدرعون مشاة وفرسان معتقلون رماحا ووراءهم رجل يقود بعيرا على ظهره منصّة مهندمة يقوم فيها رجل قد ألبس كسوة نسوة العرب وفي يده صنوج فيرقص ويتخلع حتى يصل هذا الموكب إلى البيت. وهذا الرجل الرقاص يسمونه عبلة وكثيرا ما يجرون هذا الموكب في غير حفلة الختان.

صيام الطفل في رمضان

ثم إن الولد متى بلغ سن المراهقة صام من رمضان فيعمل له في أول يوم صيامه فرش مملوء من أنواع الحلوى يفطر عليه مساء ذلك اليوم.

الزواج وتوابعه

فإذا بلغ مبلغ الرجال رغب أبواه بتزويجه فتبتدىء أمّه ومن يقربه من النسوة بالخطبة له ، ويبحثن في بيوت البلدة على البنات وربما استغرقن في ذلك أشهرا بل سنة أو سنتين. فإذا اتفق رأيهن على بنت لحسنها وأصلها وأدبها تقدم أقرب رجل إلى الزوج ومعه وجهاء

١٩٦

أهل بيته وخطبوها من أقرب رجل إليها وعينوا معه المهر الذي قد يكون ألف ذهب ، وهذا عند المفرطين بالغنى والثروة. وأما المهر عند غيرهم فلا حد لأقله وقد اعتادوا أن يجعلوا ثلثي المهر معجلا يدفع إلى الزوجة أو وكيلها قبل العقد وثلثة مؤجلا يدفع للزوجة بعد الموت أو التطليق.

والمهر المعجل الذي تأخذه الزوجة ربما أضافت إليه قدره وجهزت بذلك كله نفسها فاشترت به حليا وفرشا ونمارق وأواني صينية وغيرها وحمل ذلك جميعه إلى بيت الزوج. هذا إذا كانت الزوجة غنية أما إذا كانت متوسطة الحال فتضيف إلى المهر قدر نصفه أو ثلثه أو ربعه على حسب سعة حالها. والفقيرة لا تضيف إليه شيئا مطلقا. وبعد أن تتم الخطبة يجتمع نفر من ذوي قرابة العروسين ويأخذون العهد على وليها بالإعطاء ويقرءون على ذلك الفاتحة. وهذا الاجتماع يسمونه بالفاتحة أو بالملاك. وقلّ من يجريه. وفيه يرسل الخطيب إلى مخطوبته هدية من الحلي كالخاتم والقرط وغيرهما.

ثم بعد أن يدفع المهر المشروط تعجيله يباشرون عقد النكاح فيهيّا (١) من قبل الزوجة دار فسيحة جميلة وترسل رقاع الدعوة من قبل وليّ العروسين ويدعو كل منهما من أراد من معارفه وأصحابه إلى الدار المذكورة في وقت معين ، والأكثر أن يكون صباحا فيجتمعون في تلك الدار وقد سبقهم المغنون والمطربون فيستمعون الألحان والأغاني وآلات الطرق نحو ساعة ويطعمون شيئا من الحلوى كالراحة وربّ الكبّاد ، ويتبعون ذلك بقهوة البنّ والدخان. ويكون الشيخ قد كتب اسم الزوجين ووكيليهما وشهوديهما وجملة المهر معجلا ومؤجلا وأكثر أسماء الحاضرين.

ثم ترفع أدوات الدخان ويسكت المغنون والحاضرون ويتلو الشيخ خطبة يذكر فيها فضل الزواج ويدعو الزوجين ، ثم يجلس أمامه وكيلاهما فيلقنهما الإيجاب والقبول وإذا انتهى من عمله افتتح أحد الحفظة بتلاوة شيء من القرآن العظيم وأعقبه أحد من حضر من الشيوخ بالدعاء للزوجين بالرفاء والبنين. ومتى أتم الدعاء ابتدر جماعة المطربين ينقرون بالدفوف وإنشاد بعض المدائح النبوية ثم ينتقلون منها إلى الأغاني المطربة ويحركون آلات الطرب وتدور

__________________

(١) في الأصل : «فيهيء» والصواب رسم الهمزة على ألف لأن الفعل مبني للمجهول ، وما قبل آخره مفتوح ، لا مكسور. وقوله : «من قبل الزوجة» أي أهلها.

١٩٧

كؤوس الشراب الطّهور على الحاضرين ثم قهوة البنّ ، فيشربون وينهضون إلى الانصراف ويقولون لأقرب من يكون للزوج وهم منصرفون : جعله الله مباركا.

هذا ما يكون عند الرجال ، وأما ما يكون عند النساء فإنهن بعد ذهاب الرجال يجتمعن إلى الدار المذكورة ويجلسن العروس بحليها وحللها على كرسي خصوصي ، وتبتدر القينات بالأغاني والعزف بالآلات ويطعم الجميع من الحلوى المتقدم ذكرها ويدار عليهن كؤوس المرطبات ويجمع النقوط للقينات فقط إن سمح رب الدعوة بذلك وإن كان شرط عليهن أن يكتفين بما يعطيهن من الأجرة فلا يجمعن شيئا وإن جمعن فلا يأخذن منه شيئا بل هو لصاحب الدعوة إذا كان ضعيف الحال. ثم إن النسوة يبقين إلى مساء ذلك اليوم وفيه يرجعن إلى بيوتهن وفيها يتعشين.

وأما حفلة الزفاف فهي أنه بعد مضي برهة من الزمن يجهز أهل الزوجة ما يلزمها من الملبوس والمفروش والأواني ، ينفقون على ذلك المهر الذي أخذوه من الزوج ويضيفونه (١) شيئا على حسب حالهم كما بيناه آنفا ، ثم في يوم معين ينقلونه إلى بيت الزوج إما على ظهور الدواب المجمّلة سروجها بالخرز والودع المعصّبة رؤوسها بالمناديل الملونة وإما على ظهور الحمالين ، وهذا أكثر عند الأكابر وقد اعتاد سكان الأطراف غالبا أن يقدموا أمام الدواب جماعة يلعبون بالسيوف والتراس والعصيّ ، وآخرين معهم طبل وزمر وأمامهم واحد ينشد أدوارا من الزجل وهم يرددون اللازمة ويصفقون ويضجّون ويطولون ويقصرون حتى يصلوا إلى بيت الزوج فيوضع فيه الجهاز. ثم في ثاني أو ثالث يوم يأتي أهل الزوجة ويفرشونه في البيت المعدّ له ويصنع لهم أهل الزوج في ذلك اليوم غداء.

ومن جملة العادات المستعملة عند هؤلاء وأمثالهم أن يجتمعوا عدة ليال قبل ليلة القران في دار ذات ساحة فسيحة ويحضرون فيها طبّالا وزمّارا ويفتحون باب الدار لكل وارد فيجتمع إليها جم غفير من أخلاط الناس ويضرب الطبل وينعر الزمر ويقوم اثنان ويتلاعبان بالسيوف كالمتنازلين في الحرب إلى أن يغلب أحدهما فيقوم آخر وهكذا إلى آخر الليل. وربما داخل أحدهما الحنق على صاحبه فضربه مجدا وأثرا فيه. وقد يقوم اثنان يتلاعبان بالعصي على نسق المتلاعبين بالسيوف. وهذه الليالي تسمى بالتعاليل وفي كل ليلة منها يقوم

__________________

(١) الصواب : «ويضيفون إليه».

١٩٨

واحد من قبل صاحب الحفلة ويقف أمام كل رجل ويتملقه ويمدح بيته وأهل محلته فيعطيه شيئا من الدراهم حتى يستوعب جميع الحاضرين. وهذا العمل يقال له الجبوة ثم إن هذه التعاليل قد تكون عند جماعة الأكابر على صفة جميلة بأن يحضروا فيها جماعة الموسيقى والمغنين والمطربين ويحرقون فيها الألعاب النارية دون عمل الجبوة. وبعد إجراء هذه التعاليل يباشرون حفلة ليلة القران وتكون العروس قد أخذت على الحمام عدة مرات وفي كل مرة منها تغسل عند خروجها منه بماء الورد.

وقبل ليلة أو ليلتين يدعو أهل الزوجة إليهم أقاربهم وأحبابهم من النسوة ويفرقون عليهم نقش الحنّاء وتسمى تلك الليلة ليلة النقش ويكون المدعوون قد أرسلوا هداياهم على حسب أقدارهم إما أرزا أو سكرا أو شاة أو ثوبا هنديا أو غير ذلك. ثم في صباح اليوم الذي في مسائه يكون القران ، يحضر المدعوون إلى بيت الزوج للفطور على السماط وقد سبقهم المطربون فيأكلون ويطربون وينصرفون. واعتاد بعض الأكابر أن يجعل هذه الوليمة عامة فلا يدعو إليها أحدا بل يحضر إليها أحباب هذا البيت وأصحابه دون دعوة ولا تقدمة من الهدايا المتقدم ذكرها ، ويكون وقتها غالبا بعد العصر. أما النساء في هذا اليوم فإنهن يأتين في ظهيرته إلى منزل الزوج ثم يتوجه من أقاربه عدة (١) نسوة إلى منزل العروس فتلبس ثيابها ويأتين بها لمنزل زوجها راكبات معها في عجلات مجملة تسير بكل سكون ووقار.

أما سكان الأطراف فإنهم ما برحوا مثابرين في ذلك على العادة القديمة وهي إتيان النساء بالزوجة إلى بيت زوجها ماشيات وهن في الطريق يزرغتن وينشدن التهاني ولا يمررن بها على حمّام زعما بأن جنّ الحمام تتخطفها. فإن وصلن بها إلى منزل زوجها استقبلتها القينات بالدفوف والأغاني التي تناسب مقامها ثم أجلست على كرسي معدّ لها واشتغلت القينات بالغناء وتحريك آلات الطرب إلى المساء وفيه تبسط الموائد وتتعشى النسوة ثم يرجعن إلى ما كن عليه من السماع والطرب.

ويكون الزوج قد أخذ إلى منزل أحد الأصدقاء بعد مضي بضع من الليل وقد اجتمع فيه الناس والمغنون والمطربون فيلبس ثيابه في هذه البرهة ويخرج إلى الطواف في الشوارع هو ومن معه من الجموع ويقف إلى جانبه من يشبهه ويسمى سخدوجا (٢) ويصطف إلى

__________________

(١) في الأصل : «عدد» والصواب ما أثبت.

(٢) يمشي على يمين العريس في حفلة تلبيسة العرس ، والذي يمشي على يساره يسمى وصيفا.

١٩٩

جانبيه صفان متقابلان في يد كل واحد من أفرادهما شمعة موقدة أو فانوس مسرج. وعلى كل واحد منهم غالبا أن يغني مواليا وعند إتمامه ينضمون إلى بعضهم مثنى وثلاث ورباع ويقولون بصوت عال : الله يساور جوز جوز جيز. وأظن أن هذه العبارة محرفة عن (الله يصور الزوج زوج جهاز). وقد تقدم أمام هذين الصفين كبكبة من الناس فيهم طبال وزمار أو ذو طبيلات وكمنجا وأمامهم كبكبة أخرى يصفقون ويصيحون ويطولون ويقصرون ، وقد مشى أمامهم القهقرى رجل ينشدهم زجلات ركيكة وهم يعيدون لازمتها والمشاعل توقد أمامهم والأولاد الصغار يتقاذفون بجمرها. وربما وجد مع هؤلاء الجماعات رجل يرمي بالشهب النارية المعروفة بالفتّاش. كما أنه ربما وجد معهم جوق الموسيقى الكبير المعروف بالعسكري.

ولا يزالون هكذا حتى يصلوا إلى باب منزل الزوج فيقفوا عنده مليا وهم يصيحون ويضجون بتلك الزجلات ثم يقف الحاضرون حلقة ويغني من كان منهم صيّتا مواليا معروفا لا يتغنى به إلا في ذلك الموقف وفي آخره يصيح بقوله الفاتحة فيقرؤها الناس ويدعو أعلم الجماعة دعاء البركة للعروسين. ثم يدخل الزوج إلى الدار ويصيح واحد من القوم بتعيين الحمّام الذي ينزله الزوج في غده وينصرفون وتكون القينات قد خرجن إلى قرب الباب واستقبلن الزوج بالأغاني المناسبة لمقامه ومشين أمامه إلى قرب البيت الذي فيه الزوجة ، وتكون هي قد نهضت لاستقباله ومعها أقرب من يكون إليها من النسوة وحينما يلتقيان يتقدم أقرب رجل إلى زوجها فيأخذ منه يدا ومنها أخرى ويضعهما في بعضهما فيتصافحان ويدخلان إلى البيت المعدّ لهما ويوضع فوقهما غطاء وردي اللون وتأتي القينات فيتغنين أمامهما ويحركن آلات الطرب برهة والشموع موقدة بين أيديهما. ثم ينصرف الجمع ويبقى العروسان وحدهما وتستمر القينات والنسوة على ما هن عليه من الصفو والطرب.

وفي أواسط الليل يوضع للقينات مائدة تشتمل على أنواع الحلوى والنقل فيأكلن ويطعمن منها من شئن ثم يرجعن إلى التغني والطرب والرقص إلى الصباح فينصرف الكل إلى بيوتهن والزوج يقدم إلى زوجته هدية تسمى بالصبحية وهي تقابله بمثلها ، ثم يتوجه إلى الحمام المعين للقوم فيدخل معه طائفة من أحبابه وأصحابه فيمرحون فيه ويختضبون بالحناء ثم يغتسلون ويخرجون وفي هذا اليوم يصنع أحد أصحاب الزوج وليمة باسمه يقال لها الصبحية فيدعوه إليها مع أقاربه وأصحابه وتكون في الغالب مشتملة على جماعة المطربين

٢٠٠