نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

فبلغها في الشعانين فجاهر بالاتفاق مع الكنيسة الرومانية. وقيل إنما فعل ذلك تخلصا من التتار. وهذا القول غير صحيح.

الكثلكة في حلب

قال صاحب كتاب عناية الرحمن ما حاصله : ثم في سنة ١٦٢٦ م / ١٠٣٦ ه‍ افتتح رسالة الكثلكة في حلب الرهبان الكبوشيون. ثم في سنة ١٦٦٧ م / ١٠٧٨ ه‍ حضر إلى حلب الرهبان الكرمليون ثم اليسوعيون. وكان المسيحيون في حلب على قول بعضهم ٢٠ ألفا وقيل ٤٠ ألفا. وهم أربع طوائف : الروم والأرمن والسريان والموارنة. فلاقى أولئك المرسلون مصاعب جمة لجهلهم اللغة ولتمسك رؤساء تلك الشيع بعوائدهم ومذاهبهم ونفورهم من المرسلين بل إشهارهم الحرب على رعاياهم إذا انتموا إليهم. غير أن أولئك المرسلين لم تكن تلك المصاعب تثني عزمهم فقد كانوا يذهبون خفية إلى البيوت ويتفنّنون باتخاذ أساليب لاستمالة أهلها إلى الكثلكة اه.

قلت : ومن ذلك الحين بدأت الكثلكة تنتشر في مسيحيّي حلب ، وكثر المنحازون إليها وأخذ الشرّ يتفاقم بين الشعبين إلى أن كان ختامه المقتلة التي حدثت سنة ١٨١٨ م ١٢٣٤ ه‍ كما ألمعنا إلى ذلك في حوادث السنة المذكورة من باب الحوادث.

الطوائف المسيحية في حلب

الطوائف المسيحية الآن في حلب سبع طوائف : الأولى الروم ، وكانت منقسمة إلى فئتين إحداهما تدين بالكثلكة. وفي حدود سنة ١٧١٠ م / ١١٢٢ ه‍ انفصلتا عن بعضهما فصارتا طائفتين تدعى إحداهما بالروم الكاثوليك أو بالملكيين ، والأخرى بالأرتودكسيين أو الروم العتق. الطائفة الثانية الأرمن. وكانوا أيضا فرقتين إحداهما تميل إلى الكثلكة وفي حدود التاريخ المذكور انفصلتا عن بعضهما فصارتا طائفتين إحداهما تدعى بالأرمن الكاثوليك والأخرى تدعى بالأرمن العتق. الطائفة الثالثة السريان وكانوا يعرفون باليعاقبة فانحازوا إلى الكثلكة في التاريخ المذكور تقريبا. ولم يبق منهم على المذهب اليعقوبي سوى بضعة بيوت ، ثم صار يقدم منهم من بلاد الجزيرة وما والاها بعض بيوت كبار واتخذوا لهم قسيسا وبيتا يقيمون فيه شعائر دينهم. الطائفة الرابعة الموارنة وكلهم من الكاثوليك.

١٦١

وقد ألمعنا بتاريخ وجودهم في حلب في الكلام على كنيستهم في باب الآثار. الطائفة الخامسة طائفة اللاتين وهم من الكاثوليك المرتبطين ببطريرك اللاتين المقيم بالقدس. الطائفة السادسة طائفة الكلدان وأكثرهم غرباء من الموصل وغيرها وهم كاثوليك أيضا. الطائفة السابعة بروتستان وتوطّنهم في حلب حادث منذ ٤٠ ـ ٥٠ سنة.

اليهود في حلب

سيأتي لنا نبذة في أخبار حلب قبل الإسلام نقلا عن تحفة الأبناء أن داود عليه السلام استولى على حلب قبل الهجرة بنحو ١٦٦٥ سنة تقريبا وأنها بقيت بأيدي الإسرائيليين حتى أخرجهم منها ملوك بابل قبل الهجرة بنحو ١٣٠٣ سنة تقريبا. ثم أن سليكس نيكادور أحد الملوك الرومانيين الذي استولى على أنطاكية قبل الهجرة بنحو ٩٦٥ سنة هو الذي أمر اليهود أن يترددوا للتجارة إلى حلب ويقيموا فيها. ورتب عليهم بعض ضرائب فسكنوها وكثر عددهم فيها حتى بلغت مساحة دورهم نصف ساعة طولا. قلت : حكى الحاخام إبراهيم بن شعيا الديان في كتابه المسمى بالعبرانية ، بوعيل صيديق ، أي فاعل الصدق ، الذي فرغ من تأليفه سنة ٥٦١٠ للخليقة أي سنة ١٢٦٦ هجرية ما تعريبه ملخصا أنه كان يوجد في حلب ثمان عشرة كنيسة مختصة بالإسرائيليين غير أن المعروف لنا أربعة : الأولى هي الكنيسة العظمى الكائنة في بحسيتا وكان يقال لها الكنيسة الصفراء. الثانية هي الكائنة في باب الكروم بتغليظ الكاف ، لعله أراد باب الكروم الذي هو باب الملك خارج باب النيرب. قال : وكانت تسمى بالعبرانية كنيسة الببليم ومعناها كنيسة البابليين. والثالثة جامع الحيات وفيها حجر مكتوب عليه بقلم الآشورية واللفظ العربي ما نصه (تاريخ هذا الحائط سنة ٥٥٣ لشطاروت بناه الأمان (أستاذ الفعلة) هليل هكوهين (الكاهن بر ابن) ناتان اه. فعلى هذا يكون مضى على بنائها ١٦٨٣ سنة إلى عامنا هذا وهو سنة ١٣٤٢ ه‍ أي أنها بنيت قبل الهجرة النبوية ب ٣٧٧ سنة وزعم أنها مدفون فيها كتاب مقدس يقال له بالعبرانية كيتر. الكنيسة الرابعة كانت في بستان الشاهبندر قرب جسر الناعورة وهي دائرة لا أثر لها.

قلت سيأتي لنا في باب الأخيار في ترجمة محمد بن علي بن عبد الواحد الزملكاني أن

١٦٢

الكنيسة الثالثة كانت تدعى بكنيسة مثقال وأن صاحب الترجمة في أيام قضائه بحلب وذلك من سنة ٧٢٤ إلى سنة ٧٢٧ انتزعها من يد اليهود وجعلها مسجدا للمسلمين وأنه لم يفعل هذا الفعل إلا بعد أن ثبت لديه أنها محدثة في دار الإسلام وكان ثقة في دينه لا يظن في مثله ظلم ، ولو لم يثبت لديه كفلق الصبح أنها محدثة لما جعلها مسجدا ولو كان في عزمه أن يظلم اليهود لما قنع منهم بأخذ هذه الكنيسة الصغيرة بل في قدرته أن يأخذ منهم كنيستهم الصفراء دون أن يعارضه أحد في وقته لما كان عليه اليهود وغيرهم من ضعف الشوكة وما كان عليه المسلمون من قوتها. فالظاهر أن الحجر المذكور مأخوذ من غير عمارة ومبني بها أو هو مزور حادث ليس بقديم يؤيد ذلك كونه مرصوفا في موضع لا يستدعي التفات الناظر ، أي إنه مبني بعرض الجدار لا فوق باب ولا نافذة كما جرت العادة في وضع الحجارة المنقوشة التي يقصد منها بيان التاريخ أو غيره. على أن نفس الحجرة والجدار التي بنيت فيه ليسا بقديمين بل هما من عمارة المسلمين. يظهر ذلك بأدنى تأمل. ثم أي داع يدعو إلى كتابته باللفظ العربي في التاريخ الذي دل عليه مع أن العرب لم يكونوا موجودين في حلب في ذلك التاريخ ، وهل يوجد في الكتابات الموجودة في بقية آثارهم القديمة كتابة لفظها عربي غير هذا.

الرياسة الدينية على اليهود في حلب

الرياسة الدينية على يهود حلب كانت منوطة بأرشد واحد من الطائفة المعروفة في أيامنا بطائفة ديان الذين يدعون اتصال نسبهم بنبي الله داود عليه السلام. فكان لا يعقد نكاح إلا بمعرفته ولا يعتبر صك شرعي عندهم إلا بتصديقه حتى هاجر إلى حلب جم غفير من يهود بلاد الأندلس سنة ٨٩٨ ، فكان فيهم الغني وذو المعرفة والسياسي والفلكي. ولذا قام أحد وجهائهم المشهور عندهم باسم (ربي شلومولنيادو باعيل هكيليم) أي مؤلف الظروف وقام معه جملة من زمرته الغرباء ورفضوا رياسة ابن ديان وولوا ربي شلومو مكانه وأناطوا به فصل الدعاوي بين المتخاصمين وعقود الأنكحة وتصديق الصكوك وغير ذلك إلا أن الإسرائيليين الحلبيين لم يزالوا يراعون حقوق طائفة الديان ويخصونها بعقد الاتفاق بين الخطيب ومخطوبته وتصديق سند المهر المؤخر للزوجة وإجراء الختان وقراءة استغفار معلوم عندهم ليلة العيد المسمى بالعبرانية كبور أي عيد الغفران يقرؤه أحد أفراد هذه الطائفة

١٦٣

وأمامه سبع نسخ من التوراة يحملها سبعة أشخاص يدفعون في مقابلة حملها مبلغا معلوما للكنيسة. وفي ذلك الوقت يقوم رجل موظف بالترحيم ويدعو لحملة التوراة ويترحم على رجل من بيت شنفاخ لأنه كان تبرع بدفع ضريبة أميرية ثقلت على اليهود وأغلقت من أجلها كنيستهم.

هذا وبعد وفاة ربي شلومو صاروا ينتخبون لهم حاخاما بعد حاخام بشرط أن يكون من أتقى حاخاميهم دينا وذمة. وهكذا استمر الحال عندهم إلى زماننا هذا. وفي سنة ١١١٦ قدم إلى حلب رجل من فرنج اليهود يقال له السنيور صموئيل بيجوتو وكان من كبار التجار مرعيّ الخاطر عند الدولة العثمانية فامتنع هو وأولاده من بعده من الاعتراف برياسة الحاخام ولم يعملوا بتنبيهاته التي أوجب اتباعها على بقية اليهود في أيامه : منها عدم جواز زيارة الخطيب مخطوبته والاختلاء معها ، وعدم جواز خروج النساء للبرية والبساتين بوجود الرجال ، وعدم جواز زيارة النساء في أول أيام الأعياد وغير ذلك. ثم لما انتخب شلومولينادو حاخاما لم يتحمل نشوز هذه الأسرة عنه (١) فطلب منها أن تساوي بقية اليهود في طاعته بكل ما يأمرها به مستندا في طلبه هذا على بعض مقالات دينية وعلى أن كل إسرائيلي في حلب تجب عليه متابعة أهل البلد. أما الأسرة المذكورة فإنها لم تصغ إلى مقالته تمسكا بصك استخرجه لها من الكتب الدينية أحد الحاخامين المعروف بيهودا قاصين الكفيف وغيره ومآله أن هذه الأسرة لما كانت منذ مدة مديدة خالصة من سائر التكاليف التي يكلف بها بقية اليهود فليس عليها أن تساويهم بها حديثا وقد ذيل هذا الصك عدة من حاخامي القدس والشام حتى صار كتابا طبع على نفقة الأسرة المذكورة بعنوان (ماحانيه يهودا) أي معسكر يهودا. وحفظته هذه الأسرة عندها وكان انتهاء هذه المنازعة سنة ١١٩٨ تقريبا.

طوائف اليهود في حلب

جميع طوائف اليهود في حلب على اتباع التلمود وليس فيهم سامرية ولا قراؤون إلا وهو غريب عن حلب. وهم على ثلاثة أنواع : كوهن ينتسبون إلى نبي الله هارون عليه

__________________

(١) أي خروجها عن طاعته ، وعصيانها لتنبيهاته.

١٦٤

السلام. ولاوي وإسرائيلي وهم العموم. هذا والغالب على اليهود في حلب تمسكهم بتقاليدهم الدينية واعتزالهم معاشرة غير أبناء دينهم خصوصا المسيحيين وانهماكهم في مشاغلهم ، وفيهم الغنى المفرط والفقر المدقع وفي تجارهم المهارة في الاقتصاد وأصول التجارة وفنون الحساب وتعدد اللغات الغربية.

النصيرية

هم طائفة يتكلمون بالعربية وينتسبون إلى محمد بن نصير أحد كبراء الشيعة وحزب الإسماعيلية. مسكن هذه الطائفة من ايالة حلب السويدية وجبال القصير وجبل السماق والجبل الأقرع. وكان الغالب عليهم الفاقة والجهل. ثم في هذه الأيام بدأت في بعضهم سمات الغنى والعلم. وكان يوجد فيهم بعض أفراد يدعون معرفة الرمل أو النجوم وهم أصحاب كد وتعب ومعرفة في الفلاحة والزراعة وتربية دود الحرير. قال في كتاب الملل والنحل ما ملخصه : إن النصيرية من غلاة الشيعة يطلقون اسم الإلهية على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لاعتقادهم أن فيه جزءا آلهيا. قلت : في كتاب الباكورة السليمانية ما فيه كفاية لبيان نحلتهم فليراجعه من أراد الوقوف عليها. على أنني مما لم أره في هذا الكتاب رسالة وقعت إلى مؤلفها أحد أكابر النصيرية ، عليها رد من أحد أكابر الدروز فأوردت منها بعضها ضاربا صفحا عن بقيتها تمسكا بالأدب وتحاشيا عما قد يكون مكذوبا ومختلقا. فأقول : من جملة ما في هذه الرسالة قوله :

(جميع ما حرموه من القتل والسرقة والكذب والبهتان والزنا والفاحشة فهو مطلق للعارف والعارفة بمولانا) (يعني به الحاكم بأمر الله أحد الملوك العبيديين في مصر).

ومنها : والحرام على من تكلم لغير المستحق فهو الزنا. ومن عرف الباطن فقد رفع عنه الظاهر وقد كشف لكم المحجوب وان أرواح النواصب والأضداد ترجع في الكلاب والقردة والخنازير وبعضهم في الطير والبوم وبعضهم ترجع إلى الامرأة التي تثكل ولدها وإن المشركين هم النواصب الذين يشركون بين أبي بكر وعمر وعثمان.

١٦٥

اليزيدية

هم طائفة مساكنهم من ايالة حلب جبل ليلون والجومة وبعض جبال مرعش. وهم من شيع الخوارج من فرق الإباضية ينتسبون إلى يزيد بن أنيسة الخارجي بعد حرب الأزارقة الخارجين بالبصرة على علي بن أبي طالب بعد وقعة صفين المنتسبين إلى أبي راشد نافع بن الأزرق وهم يتبرؤون من علي وعثمان ويقولون بكفر من خالف اعتقادهم فيحلون قتله. وكان يزيد المذكور إباضيا نسبة إلى عبد الله بن إباض الخارج في أيام مروان وكان من غلاة الحكماء ثم خالف يزيد المذكور بمسألة واحدة وهي أنه لا بد وأن يبعث نبيّ أعجمي ينزل عليه من السماء كتاب جملة واحدة ينسخ به شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم.

قال في إحدى الصحف الإخبارية ما ملخصه : إن الطائفة اليزيدية الآن قوم يعبدون الشيطان ويتكلمون بالكردية ، يلبسون الصوف الخشن ويفترشون الثرى ويتوسدون الحجر والمدر ويدّعون أن عددهم ثلاثة ملايين من الأنفس مع أنهم لا يتجاوزون عشرين ألف نسمة ، ولا يجوز لهم السكنى في المدن ولا مخالطة المسلمين والنصارى وسائر المخلوقات وذلك لاعتقادهم أنهم ليسوا من نسل آدم بل هم من نسل رجل يقال له ابن حجار ، ولدته حورية من الجنان فرباه آدم منفردا عن أولاده ولذلك لا يجوز لهم الاختلاط بأولاد آدم وحواء ، ولا يتعلمون القراءة والكتابة مخافة الخروج عن دينهم والدخول في الدين الإسلامي.

ومن نحلتهم أن من تعلم القراءة والكتابة فجزاؤه القتل في الدنيا والعقاب في الآخرة ولا يجوز لأحدهم أن يتعلم العربية ولا أن يطلع أحد على أسرار ديانتهم سوى واحد يزعمون أنه من سلالة الشيخ عدي ابن مسافر فإنه يجوز له أن يسلم نفسه لنصراني يعلمه القرآن الكريم دون سواه من الكتب العربية ، ولكن يجب عليه أن يمحو أسماء الشيطان من النسخة التي يتعلم منها لأنه لا يجوز لأحد منهم أن يتلفظ باسم الشيطان احتراما له.

ويزعمون أن الله تعالى لما خلق الملائكة تعاظم عليه كبيرهم ـ وهو الشيطان ـ فزجّه في جهنم سبع (١) آلاف سنة باكيا منتحبا حتى ملأ من دموعه سبع جرار كبار فعفا عنه

__________________

(١) الصواب «سبعة» بالتاء المربوطة لأن المعدود «آلاف» مفرده مذكّر «ألف». وأما «السنة» فهي معدود آخر للعدد «سبعة آلاف». بجزءيه ، لا للسبعة وحدها.

١٦٦

ورده إلى الفردوس. والجرار السبع محفوظة لتطفأ بها نار جهنم يوم القيامة. فهذا هو السبب عندهم في تحريم التلفظ باسم الشيطان فإذا لعنه أحد بحضرتهم اغتاظوا منه وحللوا قتله. وهم لا يأكلون من ذبيحة غيرهم ولا يشربون في آنية سواهم وإذا اضطر أحد وخالط مسلما فعليه أن يسجد للشمس ثلاث سجدات : واحدة عند شروقها والثانية عند استوائها والثالثة عند غروبها ، يفعل ذلك على عشرة أيام متوالية أما إذا خالط مسيحيا فعليه أن يفعل ما ذكر للقمر.

ومن خرافاتهم أنه إذا كان أحدهم واقفا وأتى آخر ورسم حوله دائرة لا يخرج منها ما لم يأت آخر ويمحو منها محلا يخرج منه وذلك لاعتقادهم أن الدائرة هي رسم الشمس والقمر وسائر الكواكب فلا يجوز خرق حرمتها بالخطو من فوقها. ولهم أمير في نواحي بلاد العجم عنده طواويس من نحاس لها آلات تحركها ومن عادته أن يرسلها في كل سنة لهم مع أحد أتباعه فيطلبون رضاها فإذا لم تتحرك وضعوا أمامها الحبوب فلا يحركها حتى يرى القدر الكافي من الحبوب. ولهم معبد يحجون إليه فيه قبر في واد كثير الأشجار والرياحين يجري فيه نهر اسمه نهر الشمس يعتقدون أنه آت من القدس تحت الأرض.

ومن فروضهم الختان فلا يسوغ لأحد أن يتزوج ما لم يكن مختونا. وعندهم العماد أيضا فإنهم يتعمدون في نهر الشمس ويغسلون أكفانهم فيه زاعمين أن الموتى لا تدخل الفردوس ما لم تغسل أكفانها في هذا النهر. وغسل الأكفان عندهم كناية عن غسل أدران الذنوب. وهم لا يقتلون الحية السوداء لزعمهم أنها أخفت الملك طاوس وهو الشيطان وأدخلته إلى الجنة. ومن اعتقاداتهم أن سفينة نوح عليه السلام التطمت بصخرة فانثقبت فأتت الحية وأدخلت ذنبها في الثقب فمنعت دخول الماء إلى الفلك فبارك الله في نسل تلك الحية ، ولما كثرت أضرارها على الناس قبض سيدنا نوح على واحدة منها وطرحها في النار فصارت رمادا تكونت منه البراغيث.

ومن خرافاتهم أيضا أن نفوسهم بعد الموت تذهب إلى الفردوس وأن نفوس العصاة منهم تتناسخ وتدخل في أجساد الكلاب والحمير والبغال وسائر الحيوانات فإذا كان لأحدهم ولد شقي أخفى عنه أمواله لاعتقاده أن ابنه سيصير بعد موته حمارا أو بغلا ثم يموت ويتقمص من الموت إلى هذه الدنيا فيستولي على ما خبأه هو في الأرض. وذكر في معجم التاريخ

١٦٧

والجغرافية أنهم أكراد منتشرون بين الموصل والخابور في جبل سنجار ومنهم من يسكن في أريوان التابعة لروسية يحلّ عندهم قتل المسلمين. وعندهم أن الملك طاوس سيأتي في آخر الزمان ويبيد جميع المخلوقات وينشر ديانتهم في الدنيا كلها.

الإسماعيلية

كان ابتداء قدوم الإسماعيلية إلى حلب تحت اسم القرامطة سنة ٢٨٩ كما سيأتي لنا في باب الأخبار في حوادث السنة المذكورة. قال في دائرة المعارف للبستاني ما ملخصه أن الإسماعيلية فرقة من غلاة الشيعة سرية سياسية وديانتهم مؤلفة من الوثنية واليهودية والمسيحية والإسلامية وهم منسوبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق لأنهم قالوا بإمامته. وذلك أن عدد الأئمة الذين وقع الاتفاق عليهم عندهم قبل انقسام الإمامية ستة وهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثم ابنه الحسن بالوصية ثم أخوه الحسين ثم ابنه زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق.

ومن هناك افترقت شيعتهم إلى فرقتين فرقة ساقوا الإمامة من موسى الكاظم بن جعفر الصادق لأنه مات بعد إسماعيل ويسمون بالاثني عشرية أو الإمامية لوقوفهم عند الثاني عشر من الأيمة وقولهم بغيبته إلى آخر الزمان. وفرقة ساقوها من إسماعيل بن جعفر فقالوا بإمامته بالنص من أبيه جعفر وإن كان قد مات قبل أبيه ، كما أوصى موسى لأخيه هارون. وفائدة النص بقاء الإمامة في عقبه وهم الإسماعيلية. ثم قالوا انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمد المكتوم وهو أول الأيمة المستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة بل يكفي أن يكون ظهر وأظهر دعوته فقط وإذا كانوا يعتقدون بقاء الإمامة في العلويين سموا الأيمة الذين لم يظهروا بعد إسماعيل بالمستورين أو المكتومين وهم ثلاثة محمد المكتوم ثم ابنه جعفر المصدق ثم ابنه محمد الحبيب وبعده ظهر ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في المغرب فهو من الأيمة الظاهرين.

ولا تخلو الأرض عندهم من إمام إما ظاهر بذاته أو مستور لا بد له من ظهور حجة ودعاة. ويدور عدد الأيمة عندهم على سبعة عدد الأسبوع والسماوات والكواكب ولذلك سموا بالسبعية ، أو لزعمهم أن النطقاء بالشريعة أي الرسل سبعة : آدم ونوح وإبراهيم وموسى

١٦٨

وعيسى ومحمد وإسماعيل بن جعفر وهو السابع من النطقاء. وبين كل اثنين من النطقاء سبعة أيمة يتممون شريعته فكل ناطق بغير شريعة من قبله فيتمم شريعته سبعة أيمة بعده يسمون بالمستورين. ولا بد في كل شريعة من سبعة يقتدى بهم وهم الإمام وهو يؤدي عن الله ، والحجة وهو يؤدي عن الإمام ويحمل عليه ، وذو المصّة وهو يمصّ أي يأخذ العلم عن الحجة ، والأبواب وهم الدعاة فمنهم داع أكبر ليرفع درجات المؤمنين وداع مأذون يأخذ العهود على الطالبين من أهل الظاهر فيدخلهم في ذمة الإمام ويفتح لهم باب العلم والمعرفة ، والمكلب وهو الذي تقدم في الدين لكن لم يؤذن له في الدعوة بل في الاحتجاج على الناس والترغيب بالداعي ومؤمن يتبع الداعي وقد أخذ عليه العهد وآمن ودخل في ذمته وحزبه فمدار كل ذلك على سبعة وهو عدد السماوات والأرضين والسيارات وغير ذلك.

وأما أصل دعوتهم فكان على يد رجل يقال له ابن ديصان ثم انتشرت قليلا ببلاد فارس على يد عبد الله بن ميمون القداح وولده وتظاهروا بالعقائد الزائغة ثم أرسلوا رجلين مهدا لهم الدعوة في افريقية ثم أرسلوا إليها أبا عبد الله الشيعي فأقام دعوة عبيد الله المهدي فابتدأت من هناك الدولة العبيدية المعروفة أيضا بالفاطمية. ثم ظهر رئيس آخر بقرية قرمط فنشأت هناك دولة القرامطة ، ولما رسخ قدم الدولة العبيدية بافريقية أنشأ الحاكم بأمر الله مدرسة على نفقة الحكومة مباحة لكل إنسان وكان موضوعها التعليم بقلب الدولة العباسية بالمشرق ثم دراسة المقدمات الدينية التي أخذت من مبادئ عبد الله القداح المذكور.

إن لطالب الدخول في نحلتهم تسع مراتب يختبرون بها مبلغ علمه فلا يبيحون له بمنتهى تعاليمهم إلا بعد أن يبلغ الرتبة الثامنة ، وحينئذ يعرفونه بسمو جميع الأنبياء والرسل وتساويهم في المنزلة وأنه لا جنة ولا نار وأن جميع الأعمال الدينية باطل ليس عليها ثواب ولا عقاب لا عاجلا ولا آجلا. ثم يدخل في الرتبة التاسعة التي ينقاد بها لراعيه كالأعمى لقائده.

هذا ما كان من أمرهم في افريقية وأما ما كان منهم في المشرق فإنه بعد ظهور هذا المذهب سنة ٢٢٦ قام بدعوته في البحرين رجل يقال له حمدان قرمط وكان داعيته رجل يقال له ذكرويه بن مهرويه فأخذ يبث دعوته ويجمع الجموع حتى كثرت أتباعه ونشأت عنها دولة القرامطة التي اضطربت بها الدولة العباسية. ثم في سنة ٢٩٤ قتل ذكرويه المذكور فضعف أمرهم قليلا ولكن بقي مذهبهم منبثا في الأقطار يتناوله أهله ويدعون إليه ويكتمونه حتى فشت أذيتهم وقويت شوكتهم وصاروا يستبيحون الدماء ويفسدون في البلاد ولا سيما في

١٦٩

أيام بابك الخرّمي حين سموا بالبابكية والخرّمية مع اسم القرامطة وسادوا إلى أواخر القرن الرابع حتى تلاشى أمرهم على يد بني الأصفر بن تغلب فبقوا في ضعف حال إلى أن استقر الملك للعجم من الديلم والسلجوقية وعجز الخلفاء العباسيون عن تحصين إمامتهم وضبط خلافتهم انتشر الإسماعيلية في تلك العصور واستولوا على القلاع وصاروا يخطفون الناس من السابلة وعظم ضررهم في نواحي العراق وبلاد فارس وغيرها وصاروا كدولة من أقوى الدول في أيام السلطان ملك شاه السلجوقي ، وكان ذلك في أواسط القرن الخامس.

وكان مقدّمهم الكبير إذ ذاك الحسن بن الصبّاح سافر إلى افريقية وتعلم في المدرسة المار ذكرها ورجع إلى المشرق فبث دعوته في حلب وبغداد وفارس فكثرت أتباعه في تلك الأقطار واستولى بالحيل والقوة على قلعة ألموت في ولاية جيلان من بلاد فارس وهي من أمنع القلاع وجعلها مركزا للدولة الإسماعيلية وتلقب بالسيد أو الرئيس أو شيخ الجيل وهو أعم ألقابه ولقب خلفائه وقويت شوكته جدا واستولى على هوى أتباعه حتى لو أنه أمر واحدا منهم بقتل نفسه لفعل. وكان يبلغ عددهم سبعين ألفا منهم الفداوية وهم الذين يستعملهم وهو والملوك في قتل أعدائهم غيلة فيأخذون على ذلك فدية أنفسهم على الاستماتة في مقاصد من يستعملهم ومن ذلك سموا بالفداوية.

وقد أنشأ ابن الصباح لمن أطاعه حدائق مستورة قد جمعت كل ما تلذ به النفوس من مأكول ومشروب ومنكوح يحمل إليها مطيعه وهو سكران بالحشيش فإذا صحا وجد نفسه في أجمل جنة متمتعا بأنواع لذاته وشهواته ثم يسقونه ذلك الشراب ويرجعون به إلى مجلس الرئيس ، فإذا زال تأثير الحشيشة عنه كان يعتقد أنه ذاق لذة النعيم الموعود به وهو الجنة على زعمهم. وكانت أفراد هذه الطائفة يكثرون من استعمال الحشيشة ولذا سموا بالحشاشين فأفسدها الصليبيون وقالوا أسّاسين. وقيل إن كلمة أساسين محرفة عن عسّاسين أطلقها الفرنج على الإسماعيلية لأنهم كانوا يعسّون البلدان في الليل.

أقول : قد تكلم صاحب دائرة المعارف على هذه الفرقة كلاما مسهبا فليراجعه من أراد الوقوف عليه.

وكانوا يسمون بالباطنية لقولهم بالإمام الباطن أي المستور. وقيل : لقولهم بباطن القرآن دون ظاهره. وقيل : لأنهم كانوا يبثون دعوتهم سرا. ويسمون أيضا بالقرامطة نسبة إلى

١٧٠

أول داعيتهم بالبحرين وهو حمدان قرمط ، وبالسبعية لقولهم بالأئمة السبعة ، والنطقاء السبعة كما علمت ، وبالملاحدة لإلحادهم وبالخرّمية لاخترامهم المحارم أو نسبة إلى بابك الخرّمي الخارج بأذربيجان ولذلك يقال لهم أيضا بابكية ، وبالنزارية نسبة إلى نزار بن المستضيء العبيدي.

وكان ابتداء ظهور هذه الطائفة من بلاد فارس سنة ٢٢٦ كما تقدم ثم أطلق عليهم الملوك في كل أقطار آسيا وجعلوا يقتلونهم حيثما وجدوا حتى أبادوهم وخلت الأرض منهم وذلك سنة ٦٥٠ وكان ملكهم ممتدا من سواحل البحر المتوسط إلى داخل تركستان وذلك من حدود خراسان إلى جبال سورية ومن بحر قزوين إلى الشواطىء الجنوبية من البحر المتوسط وكانت مدة ملكهم (١٥٠) سنة. على أنه لم يزل لهم بقايا حتى الآن في بلاد فارس وعلى سواحل نهر السند والكنك وفي غير ذلك من المحلات. ويبلغ عددهم في ناحية القدموس من جبل النصيرية وفي جبل السماق نحو ألفي نفس وهم الآن يتظاهرون بأفعال أهل السنة ويقيمون الفروض الإسلامية.

قلت : والناس في هذه النواحي لا يفرقون بينهم وبين طائفة النصيرية التي هي فرع من فروعهم.

الدروز

هم طائفة منتشرة في لبنان وحوران ووادي تيم الأعلى والأسفل وبلاد صفد ومرجعيون ودمشق وبعض ضواحي ولاية حلب. ويبلغ عددهم سبعمائة ألف نفس تقريبا وهم يتكلمون بالعربية وينسبهم الناس إلى أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الدرزي مع أنهم يكرهونه لقوله بما ينافي اعتقادهم ويقولون إنهم ينسبون في الأصل إلى طيروز إحدى بلاد فارس.

أما مساكنهم من ولاية حلب فهي بضع قرى في الجبل الأعلى المعروف بجبل السماق من أعمال قضاء حارم وهي قرية بنابل وقلب لوزة وبشندلاية وجدعين وعبريتا وككو ووحله وكفر مالس وتل تيته. جميع سكان هذه القرى من طائفة الدروز ومنهم جماعة يسكنون مع المسلمين في قرية كفر كيله وبشندلنتة ودير سلونة وعددهم في هذه القرى على وجه التقريب لا يزيد على خمسمائة نفس ما بين ذكر وأنثى ، وهم أهل جدّ وكد

١٧١

واقتصاد بالمعيشة ومعرفة بالزراعة وسياسة المواشي إلا أنهم متأخرون في الفنون والمعارف ضعفاء النفوذ في تلك الناحية. وهم يسمون حلب تل الخمر ويكرهون أهلها لإيقاعهم بالإسماعيلية حينما قدموا عليها أول مرة ويزعمون أنه سيأتي زمان تجف فيه جميع آبار الدنيا سوى بئر أسد الله المعروف بجب الزلة قرب العقبة في مدينة حلب.

والمشهور عنهم محبة الضيف وإطعام الطعام وحفظ اللسان وأحسن ما يرى منهم التزام الحرمة والوقار والأدب لا سيما مع ساداتهم وأشرافهم حتى إنهم جرت عادتهم على أن أحدهم إذا نزل عنده ضيف أن يقدم له كل واحد من أهل حيه صحنا من طعام عشائه وآخر من طعام غدائه على حسب حاله ، فيضع صاحب المنزل هذه الصحون للضيف واحدا بعد واحد مراعيا في وضعها شرف صاحبها ، فيقدم منها صحن الأشرف فالأشرف غير ملتفت إلى فقره أو غناه ولا إلى ما في الصحن من خسة الطعام ونفاسته.

وهم يقسمون إلى رؤساء في الدين ويسمونهم عقّالا أو أجاويد ، وإلى عامة ويسمونهم جهّالا. وإن العقّال تتفاوت مراتبهم علما وعملا وربما كان في جملتهم بعض النساء ولا يقبل انتظام الجاهل في سلك العقّال إلا بعد الإلحاح في الطلب وتحقق عقّل القرية أنه جدير بذلك. وأرفع العقّال مرتبة أقدرهم على فهم أسفارهم المعتبرة. ويجتمعون في كل ليلة جمعة في خلواتهم لاستماع كتبهم الدينية ويطيل أحدهم جلوسه للاستماع على حسب مرتبته في العلم. ومجالسهم هذه يصونونها عن الجهال إلا في عيد ويشترط أن يكون العاقل وقورا متأنيا عفيفا طاهر اللسان متقشفا في المأكل والملبس متحاشيا عن التدخين وتعاطي المسكرات ، وأكل المال الحرام الذي هو عندهم كل مال أخذ بالظلم أو التحيل أو الكذب. ومن أحكام شريعتهم تحريم تعدد الزوجات وعدم جواز ردّ المطلقة لعصمة نكاح مطلّقها. ومن خصائصهم المنفردين بها بين بقية الأمم شدة خضوعهم وانقيادهم إلى رؤساء دينهم وأمراء قومهم.

أما وظيفة العقّل عندهم فهي خدمة الدين والقيام بإدارة أمور أوقاف المعابد والندوات فإنهم لهم معابد يجتمعون فيها للصلاة كل ليلة جمعة ، كما أن لهم ندوات يجتمعون فيها للمفاوضة في الدين وإدارة شؤون الأوقاف ، ولهم خانقاهات معدة لإقامة المتصوفة منهم يتناولون من ريع وقوفها كفاف معيشتهم. وكانت طائفة الدروز تنقسم في الأصل إلى فئتين قيسية ويمانية ثم صارت تقسم إلى جانبلاطية ويزبكية.

١٧٢

ويحكون في أصل طائفتهم حكاية طويلة خلاصتها أن أصلهم من آل تنوخ نزحوا حين خروج بني إسرائيل من مصر فتفرقوا إلى اليمن والعراق والشام وكانت منهم ملوك العرب الذين أولهم يعرب بن قحطان وملوك الحيرة وغيرهم من رؤساء العرب ، وأن فريقا منهم رحل إلى معرة حلب وصاهر النعمان أمير المعرة وكان اسمهم في ذلك الحين أمراء بني هاشم التنوخي وبني الأمير فوارس وبني عبد الله وبني مطوّع وبني خالد وأنهم حين ظهور الإسلام كانوا نصارى ثم لما جاءت الصحابة لفتح البلاد الشامية ظاهروهم ونصروهم حمية لهم إذ كانوا مثلهم عربا ثم أسلموا ثم صاروا من حزب الحاكم بأمر الله وتقربوا منه ثم قتلوا عامله عليهم الدرزي لمخالفته اعتقادهم وأنهم بعد ذلك نالوا حظوة عند جميع ملوك الإسلام حتى ملوك آل عثمان.

وخلاصة الكلام في نحلتهم أنهم يؤمنون بوجود الباري تعالى ونبوة أنبيائه العظام الذين منهم المسيح عليه السلام إلا أنهم يعتقدون أن الآلهية حلت في ناسوت الحاكم بأمر الله وأن المشروعات الإسلامية كالصوم والصلاة مفروضة عليهم تقية لا تدينا وهم يقرون بالحشر والنشر ومجازاة النفوس على أعمالها من قبيل ناسوت الحاكم ، ويؤمنون بالقرآن العظيم والتوراة والإنجيل إلا أنهم يفسرون معانيها على مقاصدهم. والمشهور عنهم في الكتب الإسلامية أنهم كانوا في الأصل اسماعيلية ثم جاءهم حمزة بن علي الداعي إلى الحاكم بأمر الله فزين لهم الاعتقاد بربوبية الحاكم ووضع لهم دينا من عنده يخالف دين الإسماعيلية بكثير من المسائل فحملهم على اتباعه فأجابوه وانشقوا عن الإسماعيلية. وفسر البعض منهم قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) بهذا الانشقاق. ولحمزة هذا كتب ورسائل دينية محفوظة في مكتبات أوروبا تكلم عليها صاحب دائرة المعارف العربية بإسهاب فراجعها إذا شئت. وقد وقعت إلي قطعة من بعض كتبهم المخطوطة لخصت منها هذه النبذة وهي :

على كل درزي أن يعرف أربعا وخمسين فريضة عشرة منها مقامات ربانية وهي العلي والبارّ وأبو زكريا والعلي الأعلى والمعلّ القائم والمنصور والمعزّ والعزيز والحاكم. وكلهم آله واحد ظهر بهيئة واسم ونطق وفعل. فالهيئة الصورة كصورتنا والاسم الحاكم والنطق المجالس والسجلات والفعل المعجزات. ومنها عشرة هي الفروض التوحيدية وهي معرفة الباري وتنزيهه ومعرفة الإمام وتمييزه ومعرفة الحدود بأسمائها ومراتبها وألقابها وصدق اللسان وحفظ الاخوان وترك ما كنتم عليه من عبادة العدم والبهتان والبراءة من الأبالسة والطغيان وتوحيد

١٧٣

الحاكم في كل آن والرضا بفعله كيفما كان والتسليم لأمره في السر والإعلان.

ومنها عشرة هي مواجب دينية وهي قولهم كلهم في نفاسهم وأعراسهم وجنائزهم على السنة التي رسمت لهم وأجيبوا دعواهم واقضوا حاجاتهم واقبلوا معذرتهم وعادوا من ضامهم وبرّوا ضعفاءهم وانصروهم ولا تخذلوهم.

ومنها عشرون إمامية منها خمسة روحانية أولها علة العلل. ثانيها السابق الحقيقي. ثالثها الأمر. رابعها ذو معة. خامسها الإرادة. وخمس منها طبائع جوهرية وهي حرارة العقل. وقوة النور ، وسكون التواضع ، وبرودة الحلم ، ولينة الهيولة. وخمس منها خصائص نورانية وهي (الحمد لمن أبدعني من نوره وأيدني بروح قدسه وخصّني بعلمه وفوض إلى أمره وأطلعني على مكنون سره) (هذه العبارة من كلام حمزة في حق نفسه). وخمس منها منازل كلية وهي حد الجسمانيين وحد الجرمانيين وحد الروحانيين وحد النفسانيين وحد النورانيين.

ولهم فرائض يقولون إنها مذكورة في ميثاق ولي الزمان وهي ست وعشرون فريضة يجب حفظها على كل قوي وضعيف ، منها ستة شروط أنه قد تبرأ ، وأنه لا يعرف وأنه لا يشرك وأنه قد سلم وأنه قد رضي وأنه متى رجع كان بريا وجواز الأمر بأربعة : كونه صحيح العفل وصحيح الجسم وحرا وبالغا ورضي بجميع أحكامه بأربعة عجز ومعجز وظهور واستتار واحترام الإفادة من جميع الحدود بستة ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة فأما الثلاثة التي في الدنيا : تعليمهم وهدايتهم وارشادهم وأما ثلاث الآخرة رضاهم وشفاعتهم وثوابهم واستحقاق العقوبة من البارّ العلي بستة ثلاث في الدنيا وهي احتجاب الرب عنهم وانقطاع فيض الحدود عليهم وعمى قلب وقلة معيشة في دينه ودنياه وثلاث في الآخرة وهي اليأس الكلي من رضاء الله وضاء حدوده والحسرة التي لا تفارقه طرفة عين وعدم مشاهدته الجلالة بلذة وغبطة لأن مشاهدته لذة اللذات وأقصى غاية الغايات للنفوس الزاكيات.

نبذة أخرى مهمة عندهم ننقلها بحروفها

مراتب الحدود : العقل الكلي النفس الكلية سفير القدرة الجناح الأيمن الجناح الأيسر. أسماؤهم روحاني السابق تالي الجد الفتح الخيال ، درجاتهم الإرادة المشيئة الكلمة السابق

١٧٤

التالي. منازلهم الإمام الحجة الداعي المأذون المكاسر. ألقابهم قائم الزمان المجتبى الرضى المصطفى المقتنى. صفاتهم هادي المستجيبين صفوة المستجيبين فخر الموحدين نظام المستجيبين لسان المؤمنين. كناهم : أبو الفضل أبو إبراهيم أبو عبد الله أبو الخير أبو الحسن.أنسابهم : ابن علي ابن أحمد ابن محمد ابن حامد ابن وهب القرشي ابن عبد الوهاب السامري ابن أحمد الطائي السموقي. أشباههم : الشمس البدر النجم السراج البها. أمثالهم : نور نار شمع قطن حسكة. وهذه النبذة تسمى عندهم بالعدة السعيدة.

نبذة أخرى استنبطها علماء الدروز من الكتب الستة المنسوبة إلى حمزة ابن علي وإسماعيل أبي إبراهيم وبهاء الدين والحاكم يكفرون من اعتقدها ويكون مرتدا عندهم وقد نقلتها بحروفها وهي :

نبت الحكمة عن اثنتين وسبعين خصلة تخرج عن دين التوحيد.

وهي من يعتقد أن الحاكم ما هو الإله وأنه بشر أو أن له زوجة أو أبا أو أما أو أنه لا يعلم الغيب أو أنه ظالم أو عاجز أو غائب أو أن ألوهيته انتقلت إلى علي الظاهر أو أنه يحس أو يدرك أو يلحقه شيء من الصفات أو أن الناسوت غير اللاهوت أو أن له روحا أو نفسا أو أن الإمام ما هو الرسول الحقيقي أو أنه لا يعلم الغيب أو أنه ما هو معصوم أو أنه ما هو صاحب الكشف والقيامة والثواب والعقاب وأن الحدود الأربعة ما هم الوسائط أو أنهم ما هم معصومون أو أنهم ما هم شهداء على أعمال العباد أو أن الخمسة أرواح مجردة أو أن المائة والتسع والخمسين ما هم تبعهم أو لا يعرف يميز بعضهم عن بعض أو أن الرب فوق السماء أو في الأرض بشر أو أن ألوهيته حلّت في صنم أو غيره أو أن الناطق ما هو إبليس أو الأساس ما هو زوجته أو الأربعة والعشرين ما هم من أحرف الكذب أو أن الدنيا ما مضت أو أن في الشرائع حقيقة أو أن في أهلها أحد مذموم أو أن دور القيامة ما بدا أو أن ليس هناك قيامة أو لا ثواب أو لا عقاب أو لا رب أو أن النفس ما تنتقل من كثيف إلى كثيف أو أن مقرها ليس في القلب أو أنها تفارق الجسم طرفة عين أو أن النجوم ، أو شيء من الجسمانيات ، له فيها تأثيرا ويحكم عليها ثم إهمال الحكمة المفيد ثم إهمال الإخوان ثم محبة أحد من أهل الشر ثم نصيحته ثم استحلاله ثم تبجيله ثم الشفقة عليه ثم مناصرته بحال من الأحوال ثم الإحسان إليه ثم مرافقته ومسارته ومخالطته والركون إليه ثم بغض أحد من أهل الخير أو غشه أو سماجته أو التبهلل بواجبه أو محله أو القساوة عليه

١٧٥

ثم إهمال مناصرته ومعاونته ومعاضدته ومساعدته في جميع أحواله أو الإساءة إليه أو مفارقته أو مباعدته أو سوء الظن به وقلة الوثوق به أو يقال عليه ما ليس فيه أو نقص الكلام وتحريفه وتبديله الذي هو النفاق والشرك بعينه أو المفاتحة بالحكمة مع غير أهلها الذي هو الزنى الحقيقي والفساد الكلي أو زواج الزوجة بغير رضاها ثم السعي والشّور والحضور في الخطبة ثم العرس والطلبة ثم المقاهرة لها على نفسها بعد الزواج ثم الرغبة في الدنيا والميل إلى زينتها وزخرفها والانهماك بشهواتها ثم العجب ثم الكبر ثم انكشاف العورة وقلة الحياء أو زواج الموحد لغير موحدة والموحدة لغير الموحد اه.

أقول : هذه النبذة والتي قبلها ظفرت لهما بشرح للشيخ علي هلال الدرزي لم يزدهما جلاء عما هما عليه من ظلمة المقاصد وغرابة التركيب ولذا لم أنقل منه شيئا. ومن أراد الوقوف على نحلة هذه الطائفة فليراجع كتاب دائرة المعارف الكبرى للأستاذ البستاني في حرف الحاء ، وكتاب (النقط والدوائر) المطبوع في مطبعة شمرسو في كرخهاين من مدن نوساصيا السفلى سنة ١٩٠٢ م / ١٣١٩ ه‍ وهو كتاب حافل مستوفى في بابه مذيل بعدة رسائل يندر وجودها في غيره.

الحزب الماسوني في حلب

ابتداء وجود هذا الحزب في حلب غير معلوم على وجه التحقيق وأخبرني من أثق به أنه رأى في حلب سنة ١٨٤٨ م / ١٢٦٥ ه‍ ختما مكتوبا عليه (هذا ختم جمعية الماسون في حلب). فالظاهر أنهم كانوا موجودين فيها قبلا خفية ولم يثبت وجودهم فيها علنا إلا في سنة ١٨٨٥ م / ١٣٠٣ ه‍ فقد وفد عليها في هذه السنة مقدّم منهم ونزل في محلة العزيزية ودعا إليه بعض الناس علنا فتبعه عدد عظيم من شبان الملل الثلاث وصاروا يجتمعون عند بعضهم تارة جهرا وتارة سرا. على أن عددهم لم يزل آخذا بالازدياد يوما فيوما.

يقول بعض غلاتهم إن حزبهم هذا مما أسسه سليمان بن داود. والمعتدلون منهم ينكرون ذلك ويقولون إن تأسيس ابتداء حزبهم كان في حدود القرن الخامس عشر.

١٧٦

طائفة كيز وكيز

قال دارفيو في تذكرته : يوجد في زماننا طائفة من الأرمن يسكنون عينتاب يقال لهم كيز وكيز أي نصف ونصف ، سموا بذلك لأن ديانتهم مركبة من الإسلامية والمسيحية فهم يقرءون القرآن العظيم ويعلمونه أولادهم ويعلقونه عليهم كالتمائم ويدخلون المساجد ويصلون فيها مع الجماعة ويفعلون غير ذلك من الأمور التي تدل على إسلاميتهم. كما أنهم يعمّدون أولادهم ويحترمون الصليب ويحتفلون بالمواسم المسيحية ويعترفون عن جرائمهم ويفعلون غير ذلك من الأمور التي تدل على نصرانيتهم.

قلت : عهدنا أنه كان قبل الحرب العامة يوجد بعض أسر من هذه الطائفة في مدينة عينتاب وقرية الجبن في قضاء قلعة الروم. أما بعد الحرب المذكورة فلا ندري ما فعل الله بهذه الأسر اه. الكلام على الملل والنحل.

نبذة من حقوق الجوار

للجوار حقوق خاصة هي غير حقوق الإسلام وغير حقوق القرابة فقد جاء بالحث على الإحسان للجار مسلما كان أم غير مسلم قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) وقال عليه السلام : أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما. وقال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيوّرثه. وقال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره. وقال : لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه. وقال : وقال : أول الخصمين يوم القيامة جاران. وقال : إذا أنت رميت كلب جارك فقد آذيته.

وروى الزهري أن رجلا أتى النبي عليه السلام فجعل يشكو جاره فأمر النبي أن ينادى على باب المسجد : ألا إن أربعين جارا. قال الزهري : أربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأومأ إلى الجهات الأربع. وجملة حق الجار ما بينه عليه السلام بقوله : أتدرون ما حق الجار؟ إن استعان بك أعنته وإن استنصرك نصرته وان استقرضك أقرضته وإن افتقر عدت عليه ، وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير هنأته

١٧٧

وإن أصابته مصيبة عزّيته ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذه وإن اشتريت فاكهة فأهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ولا تؤذه بقتار قدرك (١) إلا أن تغرف له منها. ثم قال : أتدرون ما حق الجار؟ والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحمه الله. هكذا رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه السلام.

قال مجاهد : كنت عند عبد الله بن عمر وغلام له يسلخ شاة فقال : يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي حتى قال ذلك مرارا فقال له : كم تقول هذا. فقال : إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشيت أنه سيورثه. وقال هشام كان الحسن لا يرى بأسا أن تطعم الجار الكتابي من أضحيتك. وقال أبو ذر رضي الله عنه : أوصاني خليلي عليه السلام وقال إذا طبخت قدرا فأكثر ماءها ثم انظر بعض أهل بيت في جيرانك فاغرف لهم منها. وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله إن لي جارين أحدهما مقبل عليّ ببابه والآخر ناء ببابه عني وربما كان الذي عندي لا يسعهما فأيهما أعظم حقا فقال : المقبل عليك ببابه. وقال عبد الله : قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت قال إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت. وقال عليه السلام من أراد الله به خيرا عسّله. قيل : وما عسّله؟ قال يحبّبه إلى جيرانه.

وعن أبي هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يأخذ مني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن. فقلت : أنا يا رسول الله. فأخذ بيدي فعقد خمسا فقال : اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب. وعنه عليه السلام أنه قال : إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قيل : وما بوائقه؟ قال : غشه وظلمه ولا يكسب مالا من حرام فينفق

__________________

(١) قتار القدر : الدخان الذي ينبعث من القدر ويحمل رائحة الطبيخ.

١٧٨

منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيّئ بالسيّئ ولكن يمحو السيّئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث. وقال عليه السلام : من آذى جاره فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن حارب جاره فقد حاربني ومن حاربني فقد حارب الله عز وجل. وقال عليه السلام لأصحابه : ما تقولون في الزّنى قالوا حرام حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال عليه السلام لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. قال : فما تقولون في السرقة قالوا حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة قال : لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره. إلى غير ذلك من الأخبار والأحاديث الحاثة على الإحسان للجار وتكريمه ومؤاساته والرفق به مسلما كان أم غير مسلم.

قال حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء ما خلاصته : إنه ليس حق الجوار كف الأذى عنه فقط بل احتمال الأذى منه. فإن الجار أيضا قد كف أذاه عنك فليس في ذلك قضاء حقّ الجوار ، ولا يكفي احتمال الأذى أيضا بل لا بد من الرفق وإسداء المعروف إذ يقال إن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيام فيقول : يا رب سل هذا لم منعني معروفه وسدّ بابه دوني. وبلغ ابن المقفع أن جارا له يبيع داره في دين ركبه ، وكان ابن المقفع يجلس في ظل داره فقال : ما قمت إذا بحرمة ظل داره إن باعها معدما. فدفع إليه ثمن الدار وقال لا تبعها. وشكا بعضهم كثرة الفار في داره فقيل له لو اقتنيت هرا فقال : أخشى أن يسمع الفار صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون أحببت لهم ما لا أحب لنفسي.

وحكي عن سهل التّستري أنه كان له جار مجوسيّ انفتح من خلائه محل لدار سهل يتساقط منه القذر ، فأقام سهل مدة ينحّي ليلا ما يجمع منه في بيته نهارا فلما مرض سهل أحضر جاره المجوسي وأخبره واعتذر بأنه خشي من ورثته أنهم لا يحملون ذلك فيخاصموه ، فعجب المجوسي من صبره على هذا الإيذاء العظيم ثم قال له : تعاملني بذلك منذ هذا الزمان الطويل وأنا مقيم على كفري؟ مدّ يدك لأسلم. فمد يده فأسلم. ثم مات سهل رحمه الله. فتأمل نتيجة صبره.

١٧٩

معاملة أهل الذمة بالبر والقسط

في القرآن العظيم (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) المعنى أن الله تعالى قد رخص لكم أن تكرموا هؤلاء وتحسنوا إليهم قولا وفعلا وتقضوا إليهم بالعدل والقسط. إن الله يحب المقسطين أي العادلين ومعلوم أن البرّ اسم جامع لكل الطاعات وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى ولا يخفى أن الذين يقاتلون المسلمين ويخرجونهم من ديارهم هم أهل الحرب فأما أهل الذمة فليسوا كذلك بل هم من جملة المقصودين بالبر في هذه الآية فللمسلم أن يعاملهم بكل خير ومعروف يطلق عليه اسم البر.

التصدق على الذمّي

وأما التصديق على فقراء أهل الذمة فقد ورد فيه في القرآن العظيم : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) قال في تفسير الخازن : قيل سبب نزول هذه الآية إن أناسا من المسلمين كان لهم قرابات وأصهار في اليهود وكانوا ينفعونهم وينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا أبوا أن ينفعوهم وأرادوا بذلك أن يسلموا. وقيل كانوا يتصدقون على فقراء أهل المدينة فلما كثر المسلمون نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة إلى الدخول في الإسلام لحرصه على ذلك فأعلمه الله بهذه الآية إنه إنما بعث بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه فأما كونهم مهتدين فليس ذلك إليه. ومعنى الآية : لا يجب عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى وإنما ذلك لله وما تنفقونه من مال فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم وإن إنفاقكم المال على المشركين لا تقصدون به غير رضاء الله فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة الرحم وسد خلة مضطر. قال بعض العلماء : لو أنفقت على شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك.

وقد استدل الأئمة من هذه الآية على إباحة صرف صدقة التطوع إلى فقراء المسلمين

١٨٠