نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ١

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٩١

وحشية كأنواع الغزال وتصاد ويوجد الأسد قليلا والذئب والضبع كثيرا في الجهات الشرقية غالبا والوعل في جنوبي السخنة شرقا بين أشجار البطم وقد يصاد والنمر والأريل في غربي جبل اللكام المعروف بكاور طاغ وفي جهة الزور غالبا والخنزير وحمار الوحش وبقر الوحش وتصاد. ويباع الخنزير للفرنج والنصارى وأوان صيده فصل الشتاء ويوجد في أكثر جهات الولاية الأرنب الأحمر وفي جبالها ابن آوى ويعرف بالجقال ، وهو اسمه التركي.

وفي جبال العلاء الفهد والنمر وحيوان دون الكلب سمين أغرّ يعرف عندنا بالغرير أو نباش القبور ويوجد حيوان السمّور الأسود الجيد الفروة. وفي أطراف حلب الهر الوحشي وحيوان ضارّ شبيه بالذئب يعرف عندنا بالشيب ويزعمون أنه متولد بين الكلب والذئب. وأظن أنه السمع المتولد بين الذئب والضبع.

ويوجد في مدينة حلب نوع من القنفذ الصغار يأوي البالوعات والأماكن القذرة وفي جبالها الدلادل الكبار المعروفة بالنيص الذي تضاهي واحدته الجدي ويصاد. ويوجد في أكثر سهول الولاية الخلد ويعرف بأبي عمايا والثعلب الأحمر والأملح وتعمل منه الفراء وكلب الماء الجيد الفروة في الفرات وشطوطه. ويوجد في صحرائها الظرباء ويعرف بأبي فسيّ والحرباء ويعرف بالبربختي. وفي خرابها وبساتينها الحردون وفي بيوتها السامّ أبرص. ويوجد عند جماعة من سكان محلة المشارقة بحلب أنواع القردة والدب الأملح يجلبون الأول من جهات اليمن والمغرب والثاني من جهات جبل اللكام ويعلمونها بعض اللعب ويسترزقون بها. ومنهم جماعة يعلمون الحمار والماعز بعض اللعب ويسترزقون بها. فهذا معظم الحيوانات ذوات الأربع.

وأما الحشرات فمنها الحية البيضاء والرقشاء وتوجد في جميع الولاية ويزعمون أنّها لا تلسع داخل سور حلب وإن لسعت لا تقتل. ويوجد في بساتين حلب وخربها نوع من الثعبان أسود وثاب ويعرف عندنا بالحنش ، ونوع من الحيّات رمادي اللون قصير غليظ ، لسعته تميت من وقتها ويعرف عندنا بالدرفيل. وفي جهات المطخ نوع من الحيات الحبشية اللون وتعرف هناك بالعرابيد وهي كثيرة جدا ، ولسعتها تميت لوقتها. ويوجد في البيوت العقرب والشبث والحريش ويعرف بأم أربع وأربعين ويقل وجودهما في البساتين والصحارى وتوجد الرثيلاء والعنكبوت في كل مكان. ومن الهوام الفار في البيوت وفي بعض بلدان حلب فأرة المسك. وتوجد الجرذان في المراحيض وفأر الأرض فيفسد الزروع

١٢١

وفي البيوت الخنفساء والجعلان والنمل الأسود والأحمر والذر والصرصر الصيّاح في الصيف والقرنبى وتعرف عندنا (بأم علي). والبقّ ويعرف بالفسفس. ويقال إنه دخل حلب مع عساكر إبراهيم باشا المصري. والنموس ويعرف عندنا بالبق والبرغش وهو الحرقص ويعرف بالشيخ ساكت. ويوجد البرغوث ويتسلطن في الربيع ، والقمل ويقوى بالبرد والطبوع قليلا والقراد وأنواع الذباب. ومنه نوع لسّاع ونوع آخر شبيه بالنحل يلسع الدواب فيخرج دمها ويكثر هذا النوع في العمق والمطخ وأنواع الزنابير وتتسلطن صيفا. ويوجد في الصيف الحباحب ويعرف عندنا بسراج الفعالة.

١٢٢

تجارة حلب

لا يخفى أن موقع حلب من أهم المواقع التجارية كما عرفت ذلك من الكلام على جغرافيتها. ولهذا كانت حلب بعد خراب قنّسرين هي المركز التجاري المتوسط بين الشرق والغرب ومنه تخرج القوافل إلى العراق المتصلة ببلاد فارس ثم بالهند ثم بالصين ثم باليابان وإلى الشام والحجاز واليمن وعمان والبحرين وإلى مصر وما وليها من أفريقية وغيرها من الممالك الغربية. ولعظم تجارتها في الزمن السابق كان يلقبها الفرنج بتدمر الجديدة وكنت تجد فيها أنفس بضائع هذه البلاد والممالك. ولم تزل حلب على هذه الثروة التجارية والدرجة المهمة إلى أن اكتشف البرتقاليّون سنة ١٤٩٧ م / ٩٠٣ ه‍ طريقا للهند من جهة رأس الرجاء وبسببه انصرفت الموارد التجارية عن حلب وتقهقر حالها ولكنها لم تفقد ثروتها بالكلية إنما بقي فيها من التجارة جانب عظيم لا يوجد مثله في كثير من الممالك غيرها. قال ابن الشحنة : ومن خصائص حلب نفاق ما يجلب إليها من البضائع كالحرير والصوف والبردي والقماش وأنواع الفرو من السمور والوشق والفنك والسنجاب والثعلب وسائر الوبر والبضائع الهندية وأجناس الرقيق فإنه قد يباع فيها في يوم واحد ويقبض ثمنه ما لو حضر إلى القاهرة التي هي أم البلاد لما بيع بعشرة أيام.

وقال جاك سواري دي تروسلون في الصحيفة ال ١٠١٨ من الجزء الأول من قاموسه التجاري العام المطبوع سنة ١٧٢٣ م / ١١٣٦ ه‍ إن حلب لا تضاهيها بلدة بتجّارها الذين يقصدونها من أقطار الدنيا فإن خاناتها التي لا تقل عن أربعين خانا لا تزال غاصة بالهنود والفرس والترك والفرنج وغيرهم بحيث لا تقوم بكفايتهم. قال : ومن خصائصها التجارية وجود الحمام الذي يأتي تجارها بالأخبار من إسكندرونة بثلاث ساعات بسبب تربيته بحلب وحمله إلى اسكندرونة بأقفاص فإذا طرأ خبر علقت البطاقة في رقبة الطير وسرح فيطير إلى حلب طلبا لفراخه شأن كل حيوان يطلب أولاده ، على الأخص نوع الحمام الذي يمتاز بعض أجناسها بشفقته على بقيتها. قال : ولحلب خاصة ثانية في تجارتها وهي أن القادمين عليها من اسكندرونة لا يجوز لهم أن يحضروا إليها إلا ركوبا مع القافلة وسبب ذلك أن المركب حينما كان يصل إلى اسكندرونة كان يتوجه بعض من فيه إلى حلب مشيا

١٢٣

على الأقدام طلبا للتجارة فيسبق بقية رفقائه ويشتري البضائع من حلب قبلهم فتقل عليهم أو تغلو أثمانها إلى حين وصولهم وبسبب ذلك صارت أجرة الدابة ذهابا وإيابا ستة قروش فكانت جملة النفقات التي تلحق المسافر في ذهابه وإيابه وبقائه بحلب ثلاثين قرشا. اه. وذكر في معجم البلدان أن من عجائب حلب أن في قيسارية البزّ عشرين دكانا للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعا قدره عشرون ألف دينار ، مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن. اه.

وما زالت تجارة حلب جارية على هذا المنوال بعد اكتشاف رأس الرجاء حتى ظهرت سفن البخار التي قربت المسافات البحرية لسرعة سيرها وقلة خطرها. ثم لما مدت السكة الحديدية من الاسكندرية إلى السويس هبطت عدة درجات ولم يبق فيها من تجارتها سوى الربع تقريبا وذلك لأن طريق الهند قربت جدا وسهل نقل البضائع من المراكب إلى عجلات الحديد ثم تفرغ منها على فرضة (١) السويس التي هي على البحر الأحمر وتشحن بالمراكب المذكورة.

ولما فتحت قناة السويس المعروفة بالترعة واتصل بسببها البحر الأحمر بالبحر المتوسط هبطت تجارة حلب هبوطا فاحشا فلم يبق بها سوى عشر تجارتها السابقة. ثم مما زادها اضمحلالا وانحطاطا حتى بقيت دون العشر عما كانت عليه ، هو سير البواخر الصغار من البصرة إلى بغداد وابتذال البواخر الكبار التي تنقل السلع من كل جهة إلى كل جهة. ومع هذا كله فإن تجارة حلب لم تزل واسعة بالنسبة إلى كثير من الممالك العثمانية.

أما ما يدخل إلى حلب من غيرها من البضائع والسلع في هذه الأزمان فهو جميع بضائع أوروبا والهند والصين واليمن والحجاز والعراقين والروم والأناضول وأفريقية والسودان والحبش وغير ذلك من بقية الممالك. وأما ما يخرج منها إلى غيرها فكثير أيضا منه الحنطة وبقية الحبوب والحرير والصوف والقطن والكتان والقنّب والزيت والسمن والتين والزبيب والجوز واللوز والجلود والفستق والدبس والعسل ، وغالب أنواع الحيوان كالغنم والبقر والخيول وأنواع الأقمشة والمنسوجات الحريرية المعروفة بالجتارة التي تضاهي جتارة الهند ونوع منها منقوش بالحرير والقصب على أنواع وأشكال بديعة يعرف الآن بالدوناتو نسبة إلى أسرة دوناتو التي اشتهرت بهذه الصنعة أكثر من سواها ، وأنواع الغزلية المعروفة بالآلاجة

__________________

(١) الفرضة : محطّ السفن عند الشاطئ.

١٢٤

والشال الذي هو تقليد العجمي والبسط الكردية والخام البلدي ، والنعال الحلبية المشهورة بحسنها ورشاقتها وإتقانها وجلود الحيوانات كالمعز والغنم والبقر والجواميس وأنواع الأصبغة كالجهرة والعفص ، وأنواع العقاقير كالسحلب والأفيون والسقمونيا والخشخاش والشونيز والكسفرة والآنسون والسمسم والصابون والملح والعصفر والصنوبر والمناديل المطبوعة المعروفة بالبصمة والشريط الفضي المعروف بالتيل. وغير ذلك مما يطول شرحه.

وأما بيع الرقيق بحلب في هذه الأزمان فلم يسبق له أثر بعد اتّفاق الدول على منع بيع الرقيق ، وكان يباع في حلب السود والحبش والكرج والجركس.

والناس الآن يستأجرون في حلب وغيرها البنات النصيريات والمسلمات من الجبل الأعلى وجبال صهيون وما جاورها ، يستأجرون البنت البالغة من نفسها ، والقاصرة من وليها مدة ثلاثين سنة في الغالب بأجرة قدرها ما بين ألف قرش إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة قرش على حسب حسن صورتها وخدمتها بناء تقوم (١) بخدمة منزل مستأجرها في المدة المذكورة. ثم إن مقادير ما يدخل من البضائع وما يخرج منها غير ممكن تعيينه على وجه الحصر. وهاك بيانا في أثمان ما يدخل إلى ميناء اسكندرونة وأثمان ما يخرج منها تعرف منهما درجة تجارة حلب تقريبا حينما كانت اسكندرونة هي الميناء المختصة بولاية حلب : بيان قيمة الأموال الواردة إلى الميناء المذكورة في سنة ١٨٨٩ م / ١٣٠٧ ه‍ ملخصا من جدول كبير مفصل ظفرنا به من (أجنتة) السفن ، أي شركة السفن في اسكندرونة على اعتبار الليرة العثمانية (١٠٠) قرش وهو :

__________________

(١) في الجملة هنا اضطراب. وربما كان هناك نقص في الكلام.

١٢٥

الأموال الواردة التي بينا قيمتها هنا هي (مال الفاتورة) (أنواع الجوخ) (حرير) (أنواع الأقمشة الحريرية) (السكر) (قهوة البن) (رز) (صبغة القرمز) (مسكرات) (سختيان وكوسلة) (بهارات) (مأكولات) (ورق) (نحاس) (رصاص وتوتيا وفولاذ) (حديد وآلات حديد) (نيل) (بترول) (بلور وأواني خزفية) (منسوجات متنوعة) (صرر نقدية ومجوهرات).

وهذا بيان قيمة الأموال الصادرة من الميناء المذكورة ملخصا من الجدول المذكور وهو :

هذه الأموال هي غير الأموال الوطنية الصادرة من حلب عن طريق البر إلى بر الأناضول والجزيرة والعراقين وبقية سوريا وفلسطين والحجاز واليمن وغير الأموال المستهلكة في حلب وبرها الواردة برا من الجهات المذكورة مما يعجز القلم عن إحصائه.

١٢٦

الحركة البحرية في ميناء اسكندرونة في السنة المذكورة

طرد

سفينة هوائية

سفينة بخارية

دولة السفينة

١٠٠٨

٠

٢

إيتاليا

٤٨٦٢

١٠

٠

إيتاليا

٤٢٤٠١

٠

٧٠

إنكلترة

٦٧٤

١

٠

إنكلترة

٨٨٧٣٣

٠

٦٥

فرانسه

٤٣٧٤٤

٠

٢٣

روسيا

٥٠٨٣٨

٠

٥١

الممالك العثمانية

٤٤٩٤

١٥٧

٠

الممالك العثمانية

٢٥٧٦

٠

٣

اليونان

٤٩٣٩

١٧

٠

اليونان

١٤٢٥

٠

٢

أوستريا

٠٨٣٠

١

٠

أوستريا

١٩٨٩

٠

٣

إسبانيا

٤٩٢٤٧

٠

٥٢

مصر

١٩٧٧٦٠

١٨٦

٢٨١

المجموع

خلاصة أخرى

هذه خلاصة استخلصناها من جدول كانت رسمته غرفة التجارة بحلب بعد سنة ١٣١٠ أثناء وجود المرحوم عبد الرحمن أفندي الكواكبي في رياستها. وقد قدمته إلى مطبعة الولاية لينشر في صحيفة الفرات فعربته من التركي ونشرته في القسم العربي حينما كنت موظفا بتحرير هذا القسم وقد اعتبر في هذا الجدول مقادير الأشياء في سنة معتدلة بين الخصب والجدب مع طرح كسور الأرقام واعتبار الكيل الاستانبولي والحقة القديمة. والخلاصة هي :

١٢٧

مقادير غلات ولاية حلب : من الحنطة (٧٢٠٠٠٠٠) والشعير (٣٠٠٠٠٠٠) والذرة البيضاء (٥٠٠٠٠٠) والجلبان (٤٠٠٠٠٠) والذرة الصفراء (٢٢٥٠٠٠) كيلة ومن القطن (٧٥٠٠٠٠) والقنب (٥٠٠٠٠٠) والسمسم (٣٥٠٠٠٠) والرز (٢٥٠٠٠٠) حقة : وبعد تسديد الاحتياجات المحلية من هذه المحاصيل يخرج منها إلى لواء الزور والعشائر العربية المتجولة في ضواحي الولاية وإلى بقية الجهات : من الحنطة (٦٠٠٠٠٠) والشعير (٥٠٠٠٠) والذرة (١٠٠٠٠٠) والسمسم (٦٠٠٠٠) كيلة. وتبلغ قيمة ذلك (١٣٨٠٠٠) ليرة. وأما ما يصدر من المحاصيل الزراعية إلى خارج الولاية فهو من القطن (٥٠٠٠٠٠) وشرانق الحرير (١٢٥٠٠٠) والزبيب (١٥٠٠٠٠) والتبغ (١٠٠٠٠٠) والقنب (١٥٠٠٠٠) والزيت والصابون (١٦٠٠٠٠٠) والفستق (١٧٥٠٠٠) والجوز (٤٢٠٠٠) والجهرة (٢٥٠٠٠) ومثلها العفص وورق السماق (٣٠٠٠٠) وحب الخروع (٨٠٠٠٠) والكثيرا (٧٠٠٠) والأصول الصباغية (١٠٠٠٠) وعرق السوس (٤٠٠٠٠٠٠) وقشر الرمان (٣٠٠٠٠٠) ومواد الوقود (٣٠٠٠٠٠٠) ولحاء شجر الأرز (٥٠٠٠٠٠) والخرق البالية (٢٤٥٠٠٠) حقة. وتبلغ قيمة هذه السلع (١٤٢٠٠٠) ليرة. ويخرج من الولاية من الدواب (١٥٠٠٠) بعير و (٥٠٠٠) رأس كبش غنم و (٤٠٠٠٠) خروف و (٢٥٠٠) فرس و (٢٠٠٠) عجل و (٥٠٠) جاموس. وتبلغ قيمتها (١٨٩٠٠٠) ليرة. هذه الدواب تنتج في ولاية حلب فقط. فأما الدواب التي تمر منها آتية إليها من جهات الموصل وأزروم والأناضول وبقية الجهات فتقدر بأكثر من مليون حيوان وهي تسافر من مواني حلب إلى بيروت ولبنان والبلاد الساحلية واسكندرية ومصر وبعض بلاد أوروبا. ثم إن الصادر من المواد الحيوانية من ولاية حلب هو من الصوف (١٨٠٠٠٠٠) والسمن (١٢٠٠٠٠٠) وزلال البيض ومحّه (١٨٠٠٠٠) والعسل (١٥٠٠٠) والشمع العسلي (١٠٠٠٠) وجلود الحملان (١٤٠٠٠٠) وجلود الغنم والمعز (٤٥٠٠٠) والعظام والقرون (٥٥٠٠٠٠) حقّة.

أما مصنوعات الولاية التي تصدر إلى خارجها فأشهرها المنسوجات الحريرية والقطنية والعباءات واللبابيد والعقادة والجوارب والمناديل والأصبغة والصابون والحلي والقصب والميس والمدبوغات والنعال وأواني النحاس الأصفر والأحمر والحصر وما شاكل ذلك مما

١٢٨

لم نقدر على إحصائه. ويقدر ربح ما يخرج من هذه المصنوعات بمبلغ لا تزيد جملته على (١٤٠٠٠٠) ليرة تقريبا. منها (٧٠٠٠٠) ليرة من حلب و (٢٥٠٠٠) ليرة من عينتاب و (٥٠٠٠) ليرة من أورفة وبيره جك و (١٢٠٠٠) ليرة من أنطاكية و (٨٠٠٠) ليرة من إدلب و (١٠٠٠٠) ليرة من مرعش و (١٠٠٠٠) ليرة من منسوجات الصوف التي تنسجها العشائر. ويربح أهل الولاية من نقل الصادرات الجاري إخراجها بواسطة دواب الولاية وعتاليها مبلغا قدره (١٥٠٠٠٠) ليرة ويقدر ربح تجار الولاية من الواردات والصادرات بمبلغ قدره (٣٠٠٠٠٠) ليرة على تقدير العمولة خمسة في المائة. ويقدر صافي الربح المتروك من المسافرين وعابري السبل وأصحاب الأشغال الواردين على الولاية من غيرها بمبلغ (٤٥٠٠٠٠) ليرة باعتبار أن عدد الواردين المذكورين يبلغ (١٥٠٠٠٠) شخص ومجموع هذه الأرباح (١٥٨٦٠٠٠) ليرة.

أما ميزانية الواردات فهي : الواردات الداخلية إلى ولاية حلب بواسطة اسكندرونة يختص منها بالولايات الداخلية عشرون في المائة وباعتبار ما يقابل الواردات الحاصلة من هذه الولايات تبلغ واردات الولاية (١٤٤٠٠٠٠) ليرة فلدى مقابلة الواردات بالصادرات تزيد الثانية على الأولى مبلغا قدره (١٤٦٠٠٠) ليرة مع الإدخالات النقدية وهو مبلغ لا يوازي الإرساليات النقدية الصادرة إلى خارج الولاية. فيظهر من هذا أن الثروة المالية في الولاية آخذة بالتقدم العظيم وإن كانت الإرساليات النقدية العمومية ناقصة وثروة الولاية العمومية مديونة من جهة النقد فقط. أما نمو خلق الولاية فمواليدها تزيد على وفياتها سنويا أربعة في المائة من أهل الولاية وواحدا في المائة من المهاجرين.

مساحة ولاية حلب

قال : ومساحة ولاية حلب هي (٧٨٦٠٠) ميل مربع (كيلو متر) أي (٨٦٤٦٠٠٠٠) دونم عتيق ، من ذلك (٣٤٦٠٠) ميل مربع جبال وغابات وبحيرات وسباخ غير قابلة للزراعة و (٤٤٠٠٠) ميل مربع سهول وجبال قابلة للزراعة. لكن المستخدم منها الآن للزراعة الدورية السنوية (٤٢٠٠٠٠٠) دونم و (٥٠٠٠٠) دونم منابت أشجار وكروم وزيتون وتوت وغير ذلك فالمجموع (٤٧٠٠٠٠٠) دونم فيتحصل

١٢٩

من ذلك أن زراعة الولاية الآن تشغل عشر أراضيها القابلة للزراعة. وهذا المقدار من الزراعة يقوم بمعاش مليون من الناس تقريبا وهم القاطنون في ولاية حلب مع مائتين وخمسين ألف حيوان أهلي يقدم له العلف. وقيمة ما يستهلك في ذلك باعتبار أسعار الصادرات مقدر بمبلغ (٣٥٠٠٠٠٠) ليرة ويبقى فضلة لأجل الصادرات ما قيمته (٢٨٠٠٠٠) ليرة. وإذا تحسنت زراعة الولاية كزراعة أضنه ومعمورة العزيز وبذلت العناية في زرع المحاصيل الخفيفة الجرم الغالية الثمن كالقطن والسمسم والقلب والكتّان والرز والمواد السكرية والعطارية والعنب والتين والزيتون والفستق والجوز والتوت تبلغ الصادرات الزراعية (٤٠٦٠٠٠٠) ليرة بدل (٢٨٠٠٠٠) ليرة المتقدم ذكرها. وإذا حصلت الولاية على خط حديدي يوصل الساحل بنهر الفرات تتقدم زراعة الأموال الفقيرة كالحنطة والشعير والذرة والعنب فتصير ضعف ما هي عليه الآن فتبلغ قيمة صادراتها (٦١٨٠٠٠) ليرة بدل أن تكون (١١٨٠٠٠) ليرة وحينئذ تبلغ قيمة الصادرات الزراعية (٨٦٧٨٠٠٠) ليرة. أما فائدة الأراضي المعطلة عن الزراعة فهي :

أولا : المواد الحيوانية الحاصلة من (٢٢٠٠٠٠٠) من الغنم والمعز ومن (٢٠٠٠٠٠) من الإبل السوائم و (٢٥٠٠٠٠) رأس بقر ، ومن بقية الحيوانات الأهلية فيصرف من ذلك على الاحتياجات المحلية ما قيمته (٧٥٠٠٠٠) ليرة ويحصل صادرات قيمتها (٢٦٦٠٠٠).

ثانيا : النباتات الطبيعة التي هي عرق السوس والعفص ونحوهما مما لا يقبل الترقي وتقدر قيمته بمبلغ قدره (٢٤٠٠٠) ليرة ومجموع هذه الصادرات (٢٩٠٠٠٠) ليرة. على أن هذه الأراضي المعطلة من جهة أخرى لا تكاد تكفي العدد المتقدم ذكره من الحيوانات مع أن (١٥٠٠٠٠٠) رأس غنم تعيش مدة أربعة أشهر من كل سنة في المراعي الشتائية الخارجة عن الولاية وذلك لأنه يصيب كل غنمة أربعة عشر دونما من المراعي الطبيعية وهي لا يكفيها إلا بالجهد. وهذا هو السبب الداعي لذبح (١٨٠٠٠٠) خروف في الولاية في كل سنة وبيعها بضعف قيمة جلودها فإن المراعي تضيق عن تربيتها. فلو ربّي نصف هذه الكمية من الحيوانات بعلف يزرع سقيا أو يزرع لكل غنمة أربع دونمات بعلا لزاد النماء والربح من هذه الحيوانات ضعفا ونصف ضعف على الحاصل منها الآن وحينئذ تبلغ قيمة الصادرات منها (١٨١١٠٠٠) ليرة بدل أن تكون (٢٩٠٠٠) ليرة.

١٣٠

التجارة في حلب منذ ثلاثين سنة

التجارة في حلب آخذة بالتقدم والرقي منذ ثلاثين سنة وأكثر ولذا زاد عدد التجار زيادة عظيمة بحيث بلغ ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه قبل هذه المدة. وكان معظم هذه الزيادة في أيام الحرب العالمية المنقضية فإن أرباح التجارة التي كانت في غضونها جرت العدد الكبير من ذوي الصنائع اليدوية من صنائعهم إلى الاسترزاق بالتجارة فنجحوا وربحوا أرباحا طائلة ونشأ من بينهم أصحاب ثروات تستحق الذكر بعد أن كان أحدهم لا يملك من المال غير القدر الذي يسد به رمقه. ولزيادة عدد متعاطي التجارة وتضخم الثروة العامة غلت قيمة المنازل والحوانيت وأجورهما فارتفعتا إلى أربعة أضعاف ما كانتا عليه رغما عن العدد الكبير الذي تجدد إيجاده من هذين النوعين.

ومما يعد من أسباب غلاء قيم المنازل والحوانيت وأجورها وجود العدد العظيم من مهاجرة الأرمن وغيرهم اللاجئين إلى حلب من الممالك التركية ، فإن عددهم في حلب لا يقل عن الستين ألف نسمة وهو عدد لا يسعه فراغ المباني في حلب إلا بالمزاحمة والتغالي بالأجور.

وترى من جهة أخرى غلاء أجور ذوي الأعمال اليدوية كالنجّار والمعمار والحجار ، فقد ارتفعت أجرة أحدهم ثمانين في المائة ومنهم من زادت على هذا القدر وسبب ذلك انحياز العدد الكبير منهم إلى تعاطي التجارة والإضراب عن أعمالهم كما أسلفناه. على أن وجود العدد الكثير من عملة المهاجرين قد خفض قليلا من غلواء الوطنيين ولو لا ذلك لكانت تصعد أجرة أحدهم إلى مائة في المائة (١).

تجارة حلب في الحالة الحاضرة

منذ سنة ١٣٤١ بدأ دولاب التجارة والأعمال يدور ببطء إلى أن كانت هذه السنة وهي سنة ١٣٤٢ أدركه الكلال فكاد يقف عن دورانه بتاتا ولذا أخذت الثروة العامة في حلب بالانحطاط وقد ضرب الكساد أطنابه في حلب وأصبح التاجر والعامل يتشكيان من وقوف الحال وكثرة الخسار ويتألمان من غلاء أجور الحوانيت والمنازل.

__________________

(١) رسمت في الأصل : مأة في المأة» فصححناها كما ترى.

١٣١

لهذا البحران أسباب عديدة منها إغلاق الأناضول أبوابه في وجه تجارة البضائع المعدودة من الكماليات. ومنها غلاء أجور النقل بالسكة الحديدية فإن بعض البضائع قد تساوي أجرة نقلها قيمتها. ومنها تلاعب الصيارفة والمحتكرين بالأوراق النقية والنقود الذهبية. إلى غير ذلك من الأسباب التي يطول شرحها. حول الله الحال إلى أحسن حال.

المعارف في حلب

لم تلبث حلب بعد الفتح غير قليل من الزمن حتى نشأ فيها الجم الغفير من العلماء والمحدّثين الذين يقصدهم طلاب العلم من البلاد القاصية. ففي كنوز الذهب ما خلاصته أن حلب بلدة العلماء والمحدثين والنحاة وقد دخلها العلماء قديما وسمعوا بها. فمنهم سليمان ابن أحمد الطبراني أبو القاسم ، قدم حلب سنة ٢٧٨ وسمع بها أحمد بن الخليل الحلبي وأحمد ابن المسيب وعبد الله بن إسحاق الصفري. ومنهم شيخ الإسلام أبو داود سمع فيها مؤمل الرملي وابن بويه الربيع بن نافع. ومنهم سعيد بن عثمان بن السكن سمع بحلب عبد الرحمن ابن عبد الله وجماعة. ولو أخذنا في تعداد محدثيها لطال علينا. وقال قبل ذلك ببضعة أسطر : ودخلها أحمد بن حنبل وخلف بن سالم. اه.

وكان العالم يقرئ الطلبة في المساجد والبيوت لأنه لا يوجد فيها مدارس في تلك الأيام وقد وجد في حلب أيام سيف الدولة فحول من العلماء الأغراب والحلبيين والشعراء المبرزين لأنه كان شديد الميل إلى العلم والأدب وافر العطايا والإكرام لذويهما. يضاف إلى ذلك تحسين موقع حلب من البلاد بسبب اتساع الفتوحات في جهتها الشمالية مع كثرة خيراتها ورخص أسعارها. ولهذه المحسنات العظيمة صارت منتجع جهابذة العلم والأدب وإليها ينسابون من كل فج وحدب فاجتمع فيها زمن سيف الدولة عدة أفراد من أساطين الشعراء وجهابذة العلماء كالمتنبي وكشاجم وابن خالويه وأبي علي الفارسي وكثير ممن هو في طبقتهم كما ستراه مسطورا في باب تراجم الأخيار إن شاء الله تعالى.

ومن تلك الأيام كان ابتداء شهرتها بالعلم ، فلما جاءت دولة بني مرداس واقتدت بالدولة الحمدانية من جهة التفاتها إلى العلم وأهله زاد إليها تردد العلماء من الأقطار وعلا شأنها وارتفع بالعلم منارها ، وصار البعض من أهلها يشتغلون بالعلوم العربية والحديث

١٣٢

والفقه وليس فيها مدرسة بل كانوا يقرءون علومهم في المساجد والبيوت كما قلنا واستمروا هكذا إلى سنة ٥١٦ وفيها بني بباطن حلب المدرسة الزجاجية أنشأها بدر الدين أبو الربيع سليمان بن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب. وهي أول مدرسة بنيت فيها ثم بني بعدها بضع مدارس إلى أن كانت سنة ٥٩١ وفيها ولي قضاءها أبو المحاسن يوسف بن رافع المعروف بابن شداد وكان من فحول العلماء وكانت حلب في ذلك التاريخ قليلة المدارس فاعتنى أبو المحاسن في ترتيب أمورها كما حكى عنه ذلك في وفيات الأعيان ، وجمع إليها الفقهاء وعمر فيها المدارس الكثيرة. ومن ذلك الوقت أخذت تنفرد بالشهرة وتتقدم بالعلوم والفنون وقصدها العلماء والطلبة من الشرق والغرب وجعلوها محط رحالهم.

قال شمس الدين بن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة يعيش بن علي : (ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة ٦٢٦ وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة بالعلم والعلماء والمشتغلين). فناهيك شاهدا على تفردها بالعلم في تلك الأعصار ما أخبر به هذا الرجل الموثوق بفضله. وحسبك دليلا على علو شأنها وبلوغها من العلوم مرتبة لم يبلغها غيرها في الأعصار المذكورة أن الطلبة كانت تقصدها من أقاصي البلاد الشمالية فضلا عمّن كان يقصدها من المغرب والهند وفارس.

حكى ياقوت في معجم البلدان في باب الباء قال : وجدت بمدينة حلب طائفة كثيرة يقال لهم الباشقردية شقر الوجوه والشعور جدا يتفقهون على مذهب أبي حنيفة فسألت رجلا منهم استعقلته عن بلادهم وحالهم فقال : أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة أمة من الفرنج يقال لهم الهنكر ونحن مسلمون ، رعيّة لملكهم ، متوطنون في طرف بلادهم في نحو ثلاثين قرية كل واحدة منها تكاد تكون بليدة إلا أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سورا خوفا من أن نعصى عليه ، ونحن في وسط النصرانية فشمالينا بلاد الصقالبة وقبلينا بلاد البابا وفي غربينا الأندلس وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها ولساننا لسان الفرنج وزيّنا زيّهم ونخدم معهم في الجندية ونغزو معهم كل طائفة غير الإسلام. قال : فسألته عن سبب إسلامهم مع كونهم في وسط البلاد النصرانية. فقال : سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون أنه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من

١٣٣

بلاد البلغار وسكنوا بيننا وتلطفوا في تعريفنا وما نحن عليه فأسلمنا جميعا ، ونحن نقدم هذه البلاد ونتفقه فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها منا اه.

أقول : الباشقردية هم من أجناس الترك وكلمة باشقرد محرفة عن كلمة بوزقير كما أفاده صاحب كتاب تلفيق الأخبار. وزعم أيضا أن الهنكر هم أيضا من جملة أجناس الترك يقال لهم الهون اه. قلت : الهنكر هم الذين يطلق الآن على اقليمهم كلمة هنكاريا.

هذا وإن مدينة حلب لم تزل تبنى فيها المدارس حتى بلغت نحو ثلاثمائة مدرسة عدا المساجد ودور الحديث وغيرها من الأماكن التي كانت تتفجر من خلالها ينابيع العلوم من منطوق ومفهوم.

مصيبة مدينة حلب بحادثة تيمور لنك وغيرها

ما زالت حلب على تلك الثروة العلمية حتى دهمتها حادثة تيمور لنك فصدمتها صدمة كادت تذهب بكيانها فخربت مدارسها وأبادت علماءها لأنهم أصبحوا ما بين قتيل وأسير ومشرد عن وطنه. ثم بعد مضي نحو من قرن على هذه الحادثة الكارثة بينما كانت حلب تستجمع قواها وتحاول أن تسترد شيئا من ثروتها العلمية إذ دهمها سوء أحوال الحكام وتغاضيهم عن مناقشة المتولّين الحساب ، والضرب على أيديهم القابضة على الأوقاف التي يتصرفون بها وبغلّتها كما شاؤوا وشاء لهم الهوى. وبسبب ذلك تقلص ظل العلم من حلب وعادت مدارسها القديمة إلى ما كانت عليه من الخراب.

المدارس العلمية الإسلامية المجددة في حلب

ثم إن بعض محبي العلم أنشؤوا في حلب عدة مدارس كانت هي السبب الأقوى لاتصال سلسلة العلم والعلماء في مدينة حلب. فقد أدركنا تلك المدارس مفتوحة الأبواب للعلماء والمتعلمين معمورة الحجر بالمجاورين وهي (المدرسة العثمانية) و (الشعبانية) و (القرناصية). وهذه الثلاث تعد في مقدمة المدارس. وبعدها المدرسة (السيافية) و (الإسماعيلية) و (المنصورية) و (البهائية).

على أن المجاورة في جميع هذه المدارس كانت قليلة الجدوى لأن المجاور في إحداها لم

١٣٤

يكن لمدة مجاورته حدّ وكان يتقاضى من غلة وقف مدرسته راتبا شهريا زهيدا لا يسدّ له عوزا ولا يغني عن كفافه فتيلا وليس عليه رقيب ولا مسيطر وربما جاور مدة حياته ولم يحصل من العلم على طائل. ولذا لم ندرك مدة حياتنا نابغة من مجاوريها نبغ بالعلوم والفنون سوى نفر قليلين لم يحملهم على الانقطاع إلى العلم حامل سوى نفوس شريفة أدركت فضيلة العلم فتخلّت للاشتغال به عن كل لذة وقنعت لأجله من المعاش باليسير.

فترت الهمم في طلب العلم لأن ثمراته الدنيوية أصبحت قاصرة عن النهوض بالعالم إلى مستوى ينال فيه عيشة راضية. على أن قليلا من الناس كانوا يقبلون على طلب العلم ليتخلصوا بالامتحان من القرعة العسكرية لأن قانونها العثماني كان يستثني الطالب من القرعة إذا أدى امتحان سنته فلما كانت أيام دولة السلطان عبد الحميد خان الثاني العثماني أصدر أمره بأن يكتفى ممن يدعي طلب العلم بمجرد كونه مجاورا في مدرسة ما فيستثنى من القرعة دون أن يؤدي امتحانا فزاد هذا الأمر همة الطلبة تثبيطا وأعطاهم من غائلة الجهل أمانا وضمانا لأن الراغب في طلب العلم للتملص من القرعة صار غير محتاج إلى العلم بل حسبه أن يكون اسمه مسجلا في سجل المجاورين المحسوبين على حجرة المدرسة التي قد يكون سجل على حسابها بضعة أشخاص كل واحد منهم يباشر عمله وتجارته دون أن يصرف لحظة واحدة من وقته في طلب العلم إذ لا يحوجه في سبيل التملص من القرعة سوى تصديق مدرّس المدرسة على أنه مجاور في مدرسته فيفلت من شرك القرعة بلا امتحان ولا أقل سؤال ويبقى جاهلا بل قد يكون أميا صارفا من نقد عمره نحو ثلاثين سنة باسم طالب علم وهو عنه بمعزل.

هذا الاستثناء كاد يمحو معاهد العلم من حلب ويطمس آثاره وذلك أن البقية الصالحة من الرّغبة في العلم التي حفظت نفسها مدة طويلة فرارا من القرعة قد زالت حينئذ بتمامها ولم يبق لها من لزوم.

النهضة العلمية في حلب

ولما انقضى ذلك العصر الحميدي وتقلبت الأيام والليالي وآلت مديرية أوقاف حلب إلى عهدة السيد يحيى الكيالي نظر إلى حالة المدارس والمجاورين وانحطاطهما بعين التبصر والاهتمام وأحب أن يبقي له ذكرا جميلا وأجرا جزيلا فألّف تحت رئاسة السيد الفاضل

١٣٥

الشيخ عبد الحميد الكيالي مفتي حلب لجنة من رجال العلم والفضل للبحث في حالة المدارس والمجاورين ومداواة أمراضهما ، وأن ترسم اللجنة (١) برنامجا لإصلاح كل من المدرسة الخسروية التي كانت محتجبة في زوايا الإهمال والنسيان رغما عن عظمة بنائها وسعة أرجائها والمدرسة العثمانية والشعبانية والقرناصية والإسماعيلية ، على أن يكون سير مجاوري هذه المدارس على منهاج البرنامج الذي ترسمه اللجنة المشار إليها. وبعد التفكير مليا رسمت اللجنة البرنامج المذكور فجعلت فيه مدة المجاورة اثنتي عشرة سنة على عدد أصناف المجاورين وعينت لكل صنف منهم في العلوم الدينية والآلية كتبا تليق به وخصصت لكل مجاور راتبا شهريا على قدر صنفه يتقاضاه من غلة وقف مدرسته وفرضت عليه أداء امتحان خاصّ في غضون السنة وعامّ في نهايتها ، وعينت لكل صنف من يقوم بتعليمه وتدريسه من المعلمين الذين فرضت لكل واحد منهم راتبا شهريا يناسب درجته. وأقامت لكل مدرسة مديرا يراقب المجاورين ويحدو بهم إلى الطريقة المثلى والمنهج القويم. إلى غير ذلك من الأمور المستحسنة التي تتكفل بحفظ نظام المدرسة وانتظام أحوار مجاوريها. وبذلك عاش ميت الأمل بالنهضة العلمية في حلب التي يقوم بها مائة وخمسون طالبا يشملهم هذا البرنامج وتجري عليهم أحكامه.

هذا وإن علامات النهضة العلمية أخذت تبدو في أحوال هؤلاء المجاورين وتدل على اجتهادهم وانصبابهم على الاشتغال بالعلوم والفنون ، مما يحمل على اليقين بأنه بعد بضع سنوات لا بد وأن يظهر في عدد كبير من أولئك الطلبة نبغاء لما يتلألأ في نواصيهم من نور النّباهة والذكاء والجد في الطلب. حقق الله ذلك.

المكاتب الأهلية في حلب

المكاتب الأهلية في حلب كثيرة توجد في كل محلة ، منها ما هو مختص بالذكور ومنها ما هو مختص بالإناث وهي تعلم القرآن العظيم وبعضها يعلم معه الخط ومبادئ الحساب ومعلموها رجال ونساء وهي تأخذ على التعليم أجرة زهيدة تعرف بالخميسية ، لأن الولد

__________________

(١) ألّفت هذه اللجنة سنة ١٣٤٠ ه‍ / ١٩٢١ م ودعيت آنئذ «لجنة المجمع العلمي» ، انظر إعلام النبلاء للطباخ ٣ / ١٦١ ط. دار القلم العربي «ع. م».

١٣٦

يقدمها إلى معلمه في يوم الخميس. وبعض هذه المكاتب وقف يدخلها الولد مجانا لأن أستاذها يأخذ عنها راتبا شهريا من جهة الوقف.

المدارس الإسلامية الأهلية الحديثة الطرز في حلب

يوجد في حلب من هذا النوع أربع مدارس ابتدائية ، ثلاث منها مختصة بالذكور وهي المدرسة الفاروقية والشرقية وقد أسستا في أواخر أيام الحكومة العثمانية والأولى أقدم من الثانية والمدرسة الثالثة المدرسة الإسلامية العربية أسست بعد انقضاء الحرب العامة. وكلها تتلقى فيها مبادئ العلوم القديمة والحديثة حسب أصول التعليم الحديثة وهي على أتم ما يكون من النجاح وفي كل واحدة منها مزية لا توجد في الأخرى وتأخذ من التلميذ أجرة معلومة. والمدرسة الرابعة مختصة بالإناث وتسمى مكتب الصنائع النسائية وهي على جانب عظيم من النجاح تتقاضى من التلميذة أجرة معلومة وكان تأسيسها بعد انقضاء الحرب العامة. هذه المدارس الأربع تضم إليها ٧٠٠ تلميد وتلميذة.

للمسيحيين والموسويين عدة مدارس حديثة الطرز تكلمنا على كل مدرسة منها أثناء الكلام على كنيسة الطائفة في باب الآثار.

المدارس والمكاتب الأميرية في حلب

في حدود سنة ١٢٧٨ فتحت الحكومة في المدرسة المنصورية مكتبا دعي مكتب الرشدية وكانت نفقاته من الجهة الأميرية وهو أول مكتب أميري فتح في مدينة حلب. وكانت تعلم فيه اللغة التركية والفارسية ومبادئ العلوم الدينية. وقد أقبل عليه الناس إقبالا زائدا وانتفع منه شبان كثيرون من جهة إتقان اللغة التركية.

ثم في حدود ١٣٠٠ فتحت الحكومة أيضا غرفة في دار الحكومة سمتها دائرة المعارف ألفت فيها لجنة باسم لجنة المعارف تحت رياسة المرحوم (الحاج عطاء الله أفندي ابن الحاج عبد الرحمن أفندي المدرس) جعلت وظيفة هذه اللجنة البحث عن الأوقاف المندرسة أي الأوقاف التي ليس لها كتاب وقف معمول به على أن تنتزعه من يد المتغلب عليه ويصرف ريعه في نفقات مدارس ومكاتب تفتح جديدا باسم مكاتب المعارف. فاستولت هذه اللجنة

١٣٧

على عدة أوقاف من هذا النوع وفتحت عدة مكاتب استفاد الناس منها فائدة حسنة. ثم في سنة ١٣٠٣ قدم على حلب (كمال بك ابن الحاج موسى) مديرا لمعارف حلب وهو أول مدير للمعارف في حلب من غير أهلها ففتح عدة مكاتب في محلات مختلفة من حلب وأوجد للمعارف صندوقا خاصا بها تجمع فيه غلات الأوقاف المندرسة وتصرف على المكاتب وبقية نفقات الدائرة وأنشأت هذه المديرية عدة أملاك خاصة بها واتسع نطاق المعارف في حلب اتساعا ما عليه من مزيد مستمرا ذلك إلى أيام حدوث الحرب العامة فأغلق في أثنائها عدة مكاتب واختل نظام المعارف. وبعد انقضاء الحرب المذكورة قررت الحكومة استدخال واردات المعارف إلى صندوق المال وابطال صندوق المعارف وأن يكون دفع نفقات المكاتب وغيرها من جهة صندوق المال. وخصص في سنة ١٣٤٢ لدائرة المعارف مبلغ من المال يتراوح قدره بين ٢٥ و ٣٠ ألف ذهب عثماني ليصرف على مكاتب المعارف وبقية شؤونها.

مكاتب المعارف في مدينة حلب

مكاتب المعارف في محلات مختلفة من مدينة حلب تحت أسماء مختلفة تقسم إلى مكاتب ذكور ومكاتب إناث. عدد القسم الأول اثنا عشر مكتبا تضم إليها نحو ١٥٥٠ تلميذا وعدد معلميها ٦٤ معلما وعدد مكاتب القسم الثاني أي مكاتب الإناث أربعة تضم إليها نحو ٧٠٠ تلميذة. من المكاتب نوع ثالث يدعى مكاتب الحضانة تربى فيها الأطفال ذكورا وإناثا على أن تكون أعمارهم دون السادسة وهي خمسة مكاتب تضم إليها نحوا من ٤٠٠ طفل. جملة معلمات مكاتب الإناث ومكاتب الحضانة ٢٧ معلمة.

هذه المكاتب لم يدخل في عددها المكتب السلطاني الذي سنتكلم عليه في باب الآثار في الكلام على المحلة الجميلية.

مكاتب المعارف في الأقضية التابعة دولة حلب

هي مكتب للذكور وآخر للإناث في كل من مدينة الباب وادلب وريحا والمعرة والجسر وحارم وتادف ومنبج. ومكتب للذكور في كل من بزاعة وقباسين ومعرّ تمصرين وسرمين

١٣٨

وبنّش والبارة وبو قلقل وخان شيخون ونبّل ودركوش وتلّ ارفاد ومارع وسلقين وأرمناز وسرمدا وترمانين وقورقانيا وميدانكي وعنادان والأثارب ودارة عزّة وجبرين وتل عران والسفيرة وبنان وخناصرة وجرابلس. ورشدية للذكور في إدلب.

هذه المكاتب تضم إليها نحوا من ٢٥٠٠ تلميذ ما بين ذكر وأنثى. والمكاتب التي في لواء دير الزور هي : مدرسة رشدية ومكتب ابتدائي للذكور وآخر للإناث في مدينة الدير (١). ومكتب ذكور في كل من الرقة وميادين وبوكمال. هذه المكاتب تضم إليها نحوا من ٧٠٠ تلميذ وعدد معلميها ١٨ شخصا ما بين ذكر وأنثى.

مكتب الصنائع في حلب

في سنة ١٣١٩ أسس في مدينة حلب مكتب للصنائع تكلمنا عليه في حوادث هذه السنة من باب الأخبار. وهو الآن مقتصر على صنعة الحدادة والنجارة ويضم إليه نحوا من ١٠٠ تلميذ يدخلونه مجانا ويقدم لهم الطعام والكسوة والمفارش للنوم وغيرها من اللوازم والنفقة عليه من جهة المالية. وقد بدأت طلائع النجاح والرقي تشرف عليه.

المكتبات في حلب

معلوم أن النهضة العلمية في مدينة حلب بدأت في أيام سيف الدولة الحمداني ومن ذلك الوقت أخذت تكثر الكتب والأسفار العلمية في حلب على قدر الحاجة إليها إلى أن كانت دولة نور الدين محمود بن زنكي ازدادت النهضة العلمية فازداد عدد الكتب في حلب إلى أن جاءت دولة السلطان صلاح الدين الأيوبي. ثم خلفه أولاده وأحفاده وأقرباؤه ومماليكه فاقتدوا به فكثرت المدارس في حلب وتمت تلك النهضة العظمى في العلوم والفنون حتى أصبحت حلب تعد في معارفها من أمهات الممالك الإسلامية.

__________________

(١) أول مدرسة تجهيزية في دير الزور ـ على غرار تجهيز حلب ـ شيدت سنة ١٣٤٢ ه‍ / ١٩٢٣ م انظر «إعلام النبلاء» للطباخ ٣ / ٣٦٤ ط. دار القلم العربي «ع. م».

١٣٩

ولع الحلبيين باقتناء الكتب

إن ولع الحلبيين باقتناء الكتب كان ولم يزل غريزة فيهم. فقد أدركنا الكثيرين من علما حلب وأغنيائها وهو شديد العناية باقتناء الكتب المخطوطة النادرة حتى إنهم كانوا يتسابقون إلى اقتنائها ويبذلون الأموال الطائلة في استنساخها.

أدركنا منهم من استكتب كتاب «رد المحتار حاشية الدرّ المختار» في الفقه الحنفي فصرف على استنساخه نحوا من مائة ذهب عثماني. ومنهم من استكتب كتاب تاج العروس لمرتضى الدين الزبيدي شرح قاموس الفيروزبادي فصرف عليه نحوا من مائتي ذهب عثماني. إلى غير ذلك من الكتب الكبيرة التي كانت أغنياء الحلبيين يتسابقون إلى اقتنائها.

حرفة نسخ الكتب وحسن الخط في حلب

كان نسخ الكتب في حلب حرفة ناجحة يسترزق بها عدد كبير من الخطاطين الماهرين وكان لهم عند العلماء والوجهاء منزلة مقبولة. وكان أكثر طلاب العلوم الفقراء المجاورين في المدارس الإسلامية يستعينون على طلب العلم بالاسترزاق من نسخ الكتب والمصاحف. ولشرف هذه الحرفة كان الناس يقبلون على تعليم الكتابة ويجتهدون بتحسين الخط. ولذا اشتهر أهل حلب بحسن الخط كما اشتهروا بفن الموسيقى وحسن الصوت. وكان الناس في الشهباء يعتبرون حسن الخط مزية كبيرة وبابا عظيما من أبواب الغنى حتى اشتهر بين الحلبيين قولهم الجاري مجرى المثل عندهم : (حسن الخط سوار من ذهب). والحلبيون بعد الجيل الثالث برعوا بالخط العربي وتفننوا في تنويعه على أشكال مختلفة وضروب شتى. يدلك على ذلك ما تراه من الخطوط المنقوشة في الألواح الحجرية التي تطرز بها المباني العظيمة والأضرحة الضخمة كطراز عمارة ضيفة خاتون في محلة الفردوس وأضرحة بعض العظماء في مقبرة الخليل ومناطق منارة الجامع الكبير ، وغير ذلك من الكتابات المنقوشة على الحجارة المرصوفة في المباني التي يراد منها بيان التاريخ واسم صاحب البناء أو يراد منها حكمة أو موعظة. فإنك تجد كتابة بعضها مخطوطة بقلم نسخي وبعضها الآخر بقلم فارسي ومنها ما هو من نوع الكتابة المعروفة بالكوفية أو ما هو من النوع المعروف بالريحاني أو المشجّر أو المزهّر أو بالديواني أو ما هو شبيه بالأحرف السريانية إلى غير ذلك من أنواع الخطوط العربية التي قلما تجد لها نظيرا في غير الشهباء.

١٤٠