مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

وموثّقة زرارة (١) عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال في رجل ماله عنه غائب لا يقدر على أخذه ، قال : «فلا زكاة عليه حتى يخرج ، فإذا خرج زكّاه لعام واحد. وإن كان يدعه متعمّدا وهو يقدر على أخذه ، فعليه الزكاة لكلّ ما مرّ من السنين» (٢).

وخبر سدير الصيرفي ، قال : قلت لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : ما تقول في رجل كان له مال ، فانطلق به فدفنه في موضوع ، فلمّا حال عليه الحول ، ذهب ليخرجه من موضعه ، فاحتفر الموضع الذي ظنّ أنّ المال فيه مدفون فلم يصبه ، فمكث بعد ذلك ثلاث سنين ، ثمّ إنّه احتفر الموضع من جوانبه كلّه ، فوقع على المال بعينه ، كيف يزكّيه؟ قال : «يزكيه لسنة واحدة ، لأنّه كان غائبا عنه وإن كان احتسبه» (٣) (٤).

وموثّق إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا إبراهيم عن الرجل يكون له الولد فيغيب بعض ولده ، فلا يدري أين هو ، ومات الرجل ، كيف يصنع بميراث الغائب من أبيه؟ قال : «يعزل حتى يجي‌ء» قلت : فعلى ماله زكاة؟ قال : «لا ، حتى يجي‌ء» قلت : فإذا هو جاء يزكّيه؟ قال : «لا ، حتى يحول عليه الحول في يده» (٥).

وموثّقه الآخر عنه أيضا ، قال : سألته عن رجل ورث مالا والرجل

__________________

(١) في التهذيب ، بدل (زرارة) : عمّن رواه. وفي الاستبصار : عمّن روى.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١ / ٧٧ ، الإستبصار ٢ : ٢٨ / ٨١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٧.

(٣) جاء في هامش المطبوع : في بعض النسخ : بتقديم الباء الموحّدة على السين ، ولعلّ الأول أنسب. (منه قدس‌سره) وفي المصدر : احتبسه.

(٤) الكافي ٣ : ٥١٩ / ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

(٥) الكافي ٣ : ٥٢٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٢.

٦١

غائب ، هل عليه زكاة؟ قال : «لا ، حتى يقدم» قلت : أيزكّيه حين يقدم؟قال : «لا ، حتى يحول الحول وهو عنده» (١).

ويدلّ عليه أيضا خبر عبد الله بن سنان المتقدّم (٢) سابقا في زكاة مال المملوك المشتمل على تعليل نفيها عن السيّد بعدم الوصول إليه.

والمستفيضة الآتية الدالّة على أنّ كلّ ما لم يحل عليه الحول عند ربّه فلا شي‌ء عليه (٣).

أقول : أمّا دلالة الأخبار المزبورة على اعتبار هذا الشرط في الجملة ممّا لا خفاء فيه ، ولكنّ الإشكال يقع في مواضع :

الأول : في تشخيص مقدار التمكّن من التصرّف ، والذي يظهر بالتدبّر في كلمات الأصحاب في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة ـ بقرينة التفريعات الواقعة في كلماتهم ـ أنّ مرادهم بذكر هذا الشرط الاحتراز عن مثل المسروق والمجحود والمدفون والغائب ونحوها ، فلا يتوجّه عليهم الإشكال بأنه إن أريد التمكّن من جميع التصرّفات ، فلا ريب في انتقاض ذلك بما إذا لم يقدر على تصرّف خاصّ ، لأجل التزام شرعيّ ، كنذر عدم البيع ، أو قهر قاهر ، كإكراهه على عدم البيع بالخصوص ، بل ومثل التصرّف في زمان خيار البائع على القول بأنّه لا يمنع من الزكاة.

وإن أريد التمكّن من التصرّف في الجملة ، فأكثر ما مثّلوا به لغير

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٢٧ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٣٤ / ٨٩ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٥٤٢ / ٥ ، الفقيه ٢ : ١٩ / ٦٣ ، علل الشرائع : ٣٧٢ ، الباب ١٠٠ ، الحديث ١ ، وتقدّم أيضا في ص ٤١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٣٤ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٥ / ٥٨ و ٤١ / ١٠٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٢ ـ ٢٤ / ٦١ و ٦٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب زكاة الأنعام ، الحديث ١ ، وتأتي في ص ٦٨ ـ ٦٩.

٦٢

المتمكن منه يدخل ، فإنّ المغصوب يمكن نقله إلى الغاصب ، بل إلى غيره في الجملة ، وكذا الغائب والمرهون ، بل والموقوف.

قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ ، بعد أن ذكر الاستشكال المزبور :

والتحقيق أن يقال : إنّ المراد بالتمكّن من التصرّف في معاقد الإجماعات ، والذي يظهر اعتباره من النصوص ، هو كون المال بحيث يتمكّن صاحبه عقلا وشرعا من التصرّف فيه على وجه الإقباض والتسليم والدفع إلى الغير ، بحيث يكون من شأنه بعد حؤول الحول ، أن يكلّف بدفع حصّة منه إلى المستحقّين ، فإنّ قوله عليه‌السلام ـ في الصحيح ـ إلى إسحاق بن عمّار في المال الموروث الغائب أنّه لا يجب عليه حتى يحول عليه الحول في يده (١) أو وهو عنده (٢).

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «أيّما رجل كان له مال موضوع ، وحال عليه الحول ، فإنه يزكّيه» (٣).

وقوله في حسنة زرارة في مال القرض : أنّ زكاته إذا كانت موضوعة عنده حولا على المقترض ونحو ذلك ، يدلّ على تعلّق الوجوب إذا حال الحول على المال في يده وعنده ، من غير مدخليّة شي‌ء في الوجوب ، ولا يكون ذلك إلّا إذا كان المال في تمام الحول بحيث يتمكّن من الإخراج ، لأنّ هذا التمكّن شرط في آخر الحول الذي هو أوّل وقت الوجوب قطعا ، فلو لم يكن معتبرا في تمامه ، لزم توقّف الوجوب ـ مضافا إلى كونه في يده تمام الحول ـ (إلى) (٤) شي‌ء آخر. والحاصل : أنّ الشارع جعل مجرّد حلول الحول على المال في يد المالك ـ بمعنى : أن يكون في يده

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادرهما في ص ٦١ ـ ٦٢.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادرهما في ص ٦١ ـ ٦٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٢٢ / ١٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

(٤) كذا في الطبع الحجري والنسخة الخطية والمصدر. والصحيح : على.

٦٣

تمام الحول ـ علّة مستقلة لوجوب الزكاة.

فإن كان المراد من كونه في يده هو ما ذكرنا من تسلّطه على التصرّف في العين بالدفع والإقباض ، ثبت المطلوب ، وهو اعتبار كونه كذلك تمام الحول.

وإن كان المراد منه ما دون ذلك ـ أعني : التسلط في الجملة ولو لم يكن مسلّطا على الدفع والإقباض ـ لزم توقّف الوجوب بعد حلول الحول على المال في يده (إلى) (١) شي‌ء آخر ، وهو كون المال بحيث يتمكّن من دفع بعضه إلى المستحقّ ، ويلزم منه عدم استقلال ما فرضناه مستقلا في العلّية (٢). انتهى.

أقول : أمّا دعوى أنّ مراد الأصحاب من التمكّن من التصرّف في معاقد إجماعاتهم هو هذا المعنى ، ففيه ما عرفت من أنّ مرادهم على ما يظهر من كلماتهم الاحتراز عن المال الخارج عن يده ، أو يد وكيله ، أو وليّه ، كالمسروق والمغصوب ونحوهما ممّا هو خارج عن تحت سلطنته واختياره.

وأمّا الأخبار ، فدلالتها على اعتبار التمكّن من التصرّف بهذا المعنى أيضا محلّ مناقشة ، فإنّها بظاهرها ليست مسوقة إلّا لبيان اشتراط تعلّق الزكاة بوصول المال إليه وبقائه تحت يده حتى يحول عليه الحول ، لا انحصار شرائط الزكاة به وكونه سببا تامّا لذلك ، ولذا لا تنافي بينها وبين ما دلّ على اعتبار سائر الشرائط ، كالبلوغ حدّ النصاب ، وكونه من أحد الأجناس التسعة الآتية ، وغير ذلك ممّا ستعرف.

__________________

(١) كذا في الطبع الحجري والنسخة الخطية والمصدر. والصحيح : على.

(٢) كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٤٧٤.

٦٤

سلّمنا ظهورها في السبيّة التامّة ، ولكن لا ينافي ذلك كونه ممنوعا عن التصرّف فيه بالدفع والإقباض لولا تعلّق الزكاة به ، إذ قد يكون جواز الدفع والإقباض مسببا عن إيجاب الزكاة عليه ، كما لو نذر أو حلف أن لا يخرج النصاب عن ملكه اختيارا إلى ما بعد حؤول الحول ، أو نذر ، أو أمره أبوه أن يجمع كل ما يفضل من ربحه في هذه السنة عن مئونته ، ولا يخرج عن ملكه حتّى يشتري به بستانا مثلا ، فإذا تعلّق بماله الزكاة أو الخمس ، ارتفع النهي الناشئ من قبل هذه العناوين الطارئة ، لأنّ النذر أو الحلف أو أمر الوالد إنما يجب الوفاء به ما لم يخالف حكما شرعيّا ، أو يزاحم حقا واجبا ، فلا يصلح مثل هذه العناوين الطارئة مخصصا لما دلّ على وجوب الزكاة فيما حال عليه الحول ، أو الخمس فيما فضل عن مئونته ، فليس تمكّنه من الدفع والإقباض قبل تعلّق الوجوب شرطا في تحقّقه.

نعم ، كونه حال تعلّق الوجوب متعلّقا لحقّ آخر مانع عن التصرّف ، كما في الرهن وغيره ، مانع عن تعلّق وجوب الزكاة به ، فيكون عدمه شرطا في تمامية السبب ، وهو أخصّ من المدعى.

هذا كلّه ، مع أنّ تمكّنه من القبض والإقباض حال تعلّق التكليف بالزكاة ، شرط في تحقّق الضمان بتأخير الدفع ، لا في تعلّق الوجوب ، إذ قد يكون ممنوعا عن الدفع والإقباض عقلا وشرطا حال تعلّق الوجوب ، ولا يكون ذلك مانعا عن تعلّق الزكاة ، كما في المال المشترك البالغ سهمه حدّ النصاب ، المتعذّر في حقّه عقلا أو شرعا عند حؤول الحول تسليمه إلى الفقير.

والحاصل : أنّ التمكّن من الدفع والإقباض حال تعلّق الوجوب ليس شرطا في الزكاة ، فضلا عن اعتباره في تمام الحول ، فليس هذا المعنى

٦٥

مرادا من النصّ والفتوى جزما.

فالّذي ينبغي أن يقال : إنّ الذي يستفاد من هذه الأخبار ليس إلّا اعتبار كون المال في يده تمام الحول ـ أي : تحت تصرّفه ـ بحيث يكون بقاؤه عنده مستندا إلى اختياره ، فإنّ هذا هو المنساق إلى الذهن من مثل هذه الأخبار ولو بانضمام بعضها إلى بعض ، فلا يكفي مجرّد وصول المال إليه وبقائه عنده بقهر قاهر ، من غير أن يتحقّق له استيلاء عليه بإبقائه وإتلافه.

وأما كون تصرّفه بكل من الإبقاء والإتلاف سائغا له شرعا ، فهو أمر آخر ، لا يفهم اعتباره من هذه الأخبار.

وغاية ما يمكن الاستدلال به لذلك ما سبقت الإشارة إليه عند البحث عن اشتراط كون الملك تامّا ، من أنّ المنساق إلى الذهن من أدلة الزكاة إنما هو تعلّقها بالملك الطلق الذي يكون لمالكه التصرّف فيه ، والتسلّط على دفعه إلى الفقير ، أو صرفه في سائر مقاصده ، وهذا بالنسبة إلى حال تعلّق الوجوب واضح.

ولكنّ الاستدلال به لاعتبار كون المال كذلك في تمام الحول إنما يتمّ بانضمامه إلى ما يظهر من كلماتهم من التسالم على أنّ ما هو شرط لتعلّق الزكاة ، يعتبر استمراره في تمام الحول ، كما يشعر بذلك أدلّة اعتبار الحول ، حيث يستشعر منها إرادته في المال الذي من شأنه الصرف في مقاصده ، وأنّه إذا تركه حتّى حال عليه الحول فإنّه يزكيه.

ويؤيّده أيضا ما ورد في كيفية شرع الزكاة ، مثل ما في الصّحيح عن عبد الله بن سنان ، قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «لمّا نزلت آية (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) (١) وأنزلت في شهر

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠٣.

٦٦

رمضان ، فأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مناديه ، فنادى في الناس : إنّ الله تعالى فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ، ففرض عليهم من الذهب والفضّة ، وفرض عليهم الصدقة من الإبل والبقر والغنم ، ومن الحنطة والشعير ، والتمر ، والزبيب ، ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان ، وعفا عمّا سوى ذلك» قال : «ثمّ لم يتعرّض بشي‌ء من أموالهم حتّى حال عليه الحول من قابل ، فصاموا وأفطروا ، فأمر مناديه ، فنادى في المسلمين : أيّها المسلمون زكّوا أموالكم تقبل صلاتكم ، ثمّ وجّه عمّال الصدقة وعمّال الطسوق» (١) (٢).

ولكن هذا كله بعد تسليم أصل الانصراف المزبور ، والقدر المتيقّن منه الّذي يصحّ تسليمه ، إنما هو انصراف أدلّة الزكاة عن المال الّذي ليس لمالكه من حيث هو ، التصرّف فيه كيفما شاء وإخراجه عن ملكه بهبة أو بيع ونحوه ، لقصور سلطنته بالذات ، كما في الوقف ، أو بواسطة تعلّق حقّ الغير به ، كما في الرهن وشبهه ، لا مجرّد تعلّق حكم تكليفي بترك إخراجه عن ملكه أو صرفه في مصرف معين من غير أن يؤثّر ذلك شرعا أو عرفا نقصا في ملكيّته كما إذا منعه أبوه عن إخراج النصاب عن ملكه ، أو نذر بذلك أو حلف عليه ، فإنّ هذا النحو من المنع من التصرّف ليس موجبا لانصراف الأدلّة عنه جزما ، بل وكذا لو حلف على صرفه في مصرف معين لمصلحة نفسه مثلا ، فإنّ هذا أيضا غير موجب لنقص ملكيّته ولا لانصراف أدلّة الزكاة عنه ، فلا يصلح النذر وشبهه حينئذ ، مانعا عن تعلّق الزكاة به عند حصول شرائطه ، كما تقدمت

__________________

(١) الطسوق : جمع طسق. وهو ضريبة توضع على الخراج. القاموس المحيط ٣ : ٢٥٨ «طسق».

(٢) الكافي ٣ : ٤٩٧ / ٢ ، الفقيه ٢ : ٨ / ٢٦ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ١.

٦٧

الإشارة إليه.

وأمّا نذر الصدقة وشبهها ، فقد التزمنا بانقطاع الحول به ، ومانعيته عن الزكاة ، لكونه لأجل سببيّته للأمر بدفعه إلى الفقير على الإطلاق موجبا لنقص ملكيّته عرفا وشرعا ، كما تقدمت الإشارة إليه آنفا ، ولذا لم نلتزم بقاطعيّته للحول في ما لو كان مؤقّتا ولم يف به ، ولم نقل بوجوب قضائه ، فراجع.

فتلخّص ممّا ذكر : أنّ التمكّن من التصرّف الّذي يمكن إثبات شرطيّته لتعلّق الزكاة بالأدلّة المزبورة ، عبارة عن كون ما يتعلّق به الزكاة تحت يده حقيقة أو حكما ، أي : يكون مستوليا عليه بحيث يكون إبقاؤه تحت يده في الحول اختياريا له ، وأن لا يكون ممنوعا عن التصرّف فيه وإخراجه عن ملكه شرعا لنقص في ملكيّته إمّا بالذّات كما في الوقف ، أو لعارض كما في المرهون.

ومنذور الصدقة الّذي صار بواسطة أمر الشارع بدفعه إلى الفقير بحكم غير المملوك في عدم تناول أدلّة الزكاة له.

وأما مجرّد المنع عن التصرّف في وقت خاصّ ـ مثلا ـ الذي لا ينافي تمامية الملك عرفا ، كالأمثلة المزبورة ، فلا دليل على مانعيّته عن الزكاة ، والله العالم.

الثاني : مقتضى ظاهر جل الروايات المتقدّمة الواردة في المال الغائب والمدفون ، بل كلها ، وكذا خبر ابن سنان المشتمل على تعليل نفي زكاة مال العبد على سيّده بعدم وصوله إليه (١) ، وصحيحة الفضلاء : «وكلّ ما

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٢ / ٥ ، الفقيه ٢ : ١٩ / ٦٣ ، علل الشرائع : ٣٧٢ ، الباب ١٠٠ ، الحديث ١ ، وتقدم أيضا في ص ٤١.

٦٨

لم يحل عليه الحول عند ربه فلا شي‌ء عليه» (١) وغير ذلك من الروايات الدالّة على اعتبار حؤول الحول عنده إناطة وجوب الزكاة بوصول المال إليه واستيلائه عليه بالفعل ـ أي : كونه بالفعل في يده وتحت تصرّفه ـ فلا يكفي مجرّد تمكّنه من ذلك.

ولكن قد يقال بوجوب رفع اليد عن هذا الظاهر ، بجعل ما في هذه الأخبار من التعبير بالوصول إليه ، وكونه في يده وعنده ، كناية عن قوّة التسلّط والتمكّن من التصرّف ، أو جعل التمكّن من إثبات اليد بمنزلة كونه في يده بالفعل ، بشهادة قوله ـ عليه‌السلام ـ في موثّقة زرارة المتقدّمة : «وإن كان يدعه متعمّدا ، أو هو يقدر على أخذه ، فعليه الزكاة لكلّ ما مرّ من السنين» (٢).

وعن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال في الدين يكون للرجل على الرجل : «إذا كان غير ممنوع ، يأخذه متى شاء ، بلا خصومة ولا مدافعة ، فهو كسائر ما في يده من ماله يزكيه ، وإن كان الّذي عليه يدافعه ولا يصل إليه إلّا بخصومة ، فزكاته على من في يده ، وكذلك مال الغائب وكذلك مهر المرأة على زوجها» (٣).

وفيه عدم صلاحية هذين الخبرين لصرف تلك الروايات عن ظاهرها من اعتبار السلطنة الفعليّة.

أمّا الموثّقة ، فصدرها كغيرها من الأخبار ظاهر في عدم كفاية مجرّد

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٤ / ١ ، التهذيب ٤ : ٢٥ / ٥٨ و ٤١ / ١٠٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٢ ـ ٢٤ / ٦١ و ٦٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب زكاة الأنعام ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١ / ٧٧ ، الإستبصار ٢ : ٢٨ / ٨١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٧ ، وتقدّمت في ص ٦١ ، الهامش رقم ٢.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ٢٥١ بتفاوت يسير.

٦٩

صيرورته قادرا على إخراجه في وجوب الزكاة ، بل يعتبر فيه فعليّة الإخراج ، وربّما يستشعر من هذه العبارة ورودها في مثل المال المدفون الّذي نسي موضعه ، أو الدين وشبهه ، ممّا يصلح أن يطلق عليه عند استيفائه لفظ (الإخراج) فليتأمّل.

وكيف كان ، فلا ظهور لما في ذيلها من قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وإن كان يدعه متعمّدا وهو يقدر على أخذه ..» إلى آخره ، فيما ينافي ذلك.

أمّا إن كان المراد به الدين ـ كما حمله عليه بعض في ظاهر كلامه (١) فهو أجنبي عمّا نحن فيه ، وسيأتي الكلام فيه.

وإن كان المراد به العين ، فكذلك ، لأنّه بمنزلة التصريح بمفهوم القيد المذكور في الصدر ، فمحصّل مفاده : أنّه إن كان المال الغائب لم يكن خارجا عن تحت اختياره ، بل كان بحيث مهما أراد أن يأخذه أخذه ، كالمال المستودع ، والمذخور تحت الأرض ، وغير ذلك من الموارد التي لم تؤثّر غيبته في الخروج عن تحت سلطنته الفعلية عرفا ، وهذا النحو من الغيبة غير مانع عن تعلّق الزكاة جزما ، وإنّما الكلام في الغيبة الموجبة لقطع سلطنته ، والخروج عن تحت تصرّفه بالفعل عرفا ، كما في ميراث الغائب والمسروق والمغصوب ونحوها ممّا هو خارج بالفعل عن تحت تصرّفه ، ولكنّه قادر على إثبات اليد عليه باستنقاذه من الغاصب ، أو الحضور في بلده والاستيلاء على أمواله التي ورثها من قريبه في حال غيبته ، والروايات المزبورة دلّت بظاهرها على عدم تعلّق الزكاة بهذه الأموال ، وعدم دخولها في الحول حتى يصل إليها ، ولا ينافي ذلك تعلّقها بالقسم الأوّل الذي لم ينقطع عنه سلطنته بغيبته.

__________________

(١) هو صاحب الحدائق فيها ١٢ : ٣٤.

٧٠

وبهذا يظهر الجواب عن خبر الدعائم أيضا ، إذ المنساق منه ليس إلّا إرادة هذا النحو من الغيبة ، هذا ، مع ما فيه من ضعف السند.

إن قلت : مقتضى إطلاق قوله : «وإن كان يدعه متعمّدا وهو يقدر على أخذه» عدم الفرق في المال الغائب الذي يقدر على أخذه بين كونه مسبوقا بالعجز ، كما هو محلّ الكلام ، وعدمه.

قلت : قد أشرنا إلى أنّ هذه القضيّة بمنزلة التصريح بمفهوم القيد المذكور في الصدر ، فيكون محصّل مفاده : أنّ ذلك الموضوع المفروض موضوعا للصدر لو لم يكن له هذا الوصف ـ أي : عدم القدرة ـ بل كان قادرا على أخذه ولكنّه لم يفعل متعمّدا ، فعليه زكاته ، فالمال الذي لم يكن قادرا على أخذه ثمّ قدر عليه ، خارج عمّا هو المفروض موضوعا لهذه القضية ، كما يفصح عن ذلك ، مضافا إلى موافقته لقاعدة أخذ المفاهيم :إيجاب الزكاة عليه لكل ما مرّ من السنين ، إذ لو لم يكن المفروض موضوعا في هذه القضيّة ، متصفا بالقدرة على أخذه من حين غيبته ، لم يكن يثبت له هذا الحكم على الإطلاق ، كما لا يخفى.

إن قلت : سلّمنا خروج ما كان مسبوقا بالعجز عمّا هو المفروض موضوعا لهذه القضية ، ولكن يفهم حكمه منها بتنقيح المناط ، حيث يستفاد منه إناطة الحكم بالقدرة على الأخذ ، وهي حاصلة في الفرض ، وكونها مسبوقة بالعجز غير قادح في ذلك.

قلت : بل المناط ـ على ما يستفاد من الأخبار المتقدمة ـ هي السلطنة الفعلية ، وهي غير منقطعة عرفا فيما هو المفروض موضوعا في القضيّة المزبورة ، وأمّا المال المنقطع عنه ـ بسرقة ونحوها ـ فلا تعود سلطنته الفعلية عليه عرفا ، إلّا بإثبات يده عليه بالفعل ، ولا يكفي فيه مجرّد قدرته عليه ، فلا يقاس هذا بذاك ، فضلا عن أن يفهم حكمه منه بتنقيح المناط.

٧١

ثمّ لو سلم ظهور هذه الموثّق في كفاية القدرة على إثبات اليد ، وعدم اعتبار كونه بالفعل تحت يده ، فنقول : إنّ رفع اليد عن هذا الظاهر بحمله على الدين أو الوديعة وشبههما أهون من رفع اليد عن ظواهر تلك الأخبار ، خصوصا خبر ابن سنان المشتمل على التعليل : بأنّه لم يصل إلى سيّده (١) ، حيث إنّ الغالب في مورده : كون سيّده قادرا على الأخذ منه ، فليتأمّل.

الثالث : مقتضى صريح عبارة المصنّف في المتن ، وظاهر غيره في فتاواهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة اعتبار التمكّن من التصرّف في الأجناس كلها.

ولكن في المدارك قال ـ في شرح عبارة المصنّف الآتية : (فلا زكاة في المغصوب) ـ ما لفظه : إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في المغصوب بين كونه ممّا يعتبر فيه الحول كالأنعام ، أو لا يعتبر فيه ذلك كالغلّات ، وبهذا التعميم حكم الشارح ـ قدس‌سره ـ فقال : إنّ الغصب إذا استوعب مدة شرط الوجوب ، وهو نموّه في الملك بأن لم يرجع إلى مالكه حتى بدا الصلاح ، لم يجب.

وهو مشكل جدّا ، لعدم وضوح مأخذه ، إذ غاية ما يستفاد من الروايات المتقدمة أنّ المغصوب إذا كان ممّا يعتبر فيه الحول وعاد إلى ملكه ، يكون كالمملوك ابتداء ، فيجري في الحول من حين عوده ، ولا دلالة لها على حكم ما لا يعتبر فيه الحول بوجه.

ولو قيل بوجوب الزكاة في الغلّات متى تمكّن المالك من التصرّف في النصاب لم يكن بعيدا (٢). انتهى.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٢ / ٥ ، الفقيه ٢ : ١٩ / ٦٣ ، الوسائل الباب ٤ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٤.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٣٤ ، وانظر : مسالك الأفهام ١ : ٣٦١.

٧٢

وأجاب شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ عن دعوى عدم كونه شرطا في الغلّات ، نظرا إلى اختصاص أدلّته بما يعتبر فيه الحول من الأجناس :بأنّه خلاف فتاوى الأصحاب ، بل خلاف ظاهر ما يستفاد من الأخبار بعد التأمّل ، فإنّ قوله ـ عليه‌السلام ـ في رواية سدير ، المسؤول فيها عن المال الذي فقد بعد حلول الحول ، ووجده صاحبه بعد سنين : «أنّه يزكّيه لسنة واحدة ـ يعني السنة الأولى قبل الفقدان ـ لأنّه كان غائبا عنه» (١) ، يدلّ بمقتضى التعليل على أنّ كل مال غائب لا يجب عليه الزكاة ، والمراد من الغائب ما يعمّ المفقود ، فيدلّ على أنّ الزكاة لا تتعلّق بعين المال المفقود ، ولا شكّ في عدم القول بالفصل بينه وبين مطلق غير المتمكن منه ، كالمغصوب والمجحود ونحوهما ، فيدلّ الخبر على أنّ الزكاة لا تتعلّق بالعين التي لا يتمكّن مالكه من التصرّف فيها ، كما إذا فرضنا الزرع حال انعقاد حبّته أو تسميته حنطة أو شعيرا مغصوبا ، فالزكاة لا تتعلّق بعينها بمقتضى الرواية المنضمّة إلى عدم القول بالفصل ، فإذا لم يتعلّق به حينئذ زكاة ، فلا تتعلّق به بعد ذلك ، لأنّ الزكاة إنّما تتعلّق بالغلّات بمجرد صدق الاسم ، أو بمجرّد انعقاد الحبّ في ملك المكلّف ، كما يدلّ عليه جميع ما دلّ على بيان وقت الوجوب.

ودعوى دلالة العمومات على وجوب الزكاة في الغلّات ، خرج صورة عدم التمكن من الإخراج ، فاسدة جدّا ، إذ تلك العمومات ليست إلّا ما دلّ على تعلّق الزكاة في الأجناس الأربعة ، فإذا فرض عدم تعلّقها بها حتى تحقّق عنوان هذه الأجناس في الخارج ، فلا مقتضي لثبوتها فيها بعد ذلك ، ألا ترى أنّه لو دخلت في ملك المكلّف بعد ذلك ، أو حدث

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥١٩ / ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

٧٣

شرط لم يكن قبل ذلك ، انتفت الزكاة إجماعا ، ولا يجوز التمسك في وجوبها بعموم ما دل على وجوبها في هذه الأجناس ، فعلم من ذلك أنّ لتعلّق الزكاة بعين الغلّات وقتا مخصوصا ، لو لم تتعلّق فيه بها لم تتعلّق بعد ذلك (١). انتهى.

ويمكن الاستدلال له أيضا بسائر الروايات المتقدّمة الواردة في المال الغائب ، إذ المنساق من قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا صدقة على الدين ولا على المال الغائب عنك ، حتى يقع في يديك» (٢) نفي تعلّق الزكاة بالمال الغائب ـ كالدين ـ حتّى يستولي عليه ويدخل تحت تصرّفه ، فإنّ هذا هو المراد بالوقوع في اليد لا حقيقته.

وانصراف المال الغائب عن ثمر الزرع والنخل إن كان فبدوي يرتفع بعد التفات الذهن إلى المناسبة بين الحكم وموضوعه ، وكون الحكم معلّقا على الوصف المناسب المشعر بالعلّية.

وتوهّم عدم التنافي بينه وبين تعلّق الزكاة بثمرة النخل والزرع بعد وصولها إليه ، مدفوع بما نبّه عليه شيخنا المرتضى ـ قدس‌سره ـ في عبارته المتقدّمة ، من أنّه إذا لم يكن المال حال تعلّق الزكاة بالمال واجدا لشرائطها ، لم يكن مقتضيا لتعلّقها به بعده.

وليس المقصود بهذه الرواية بيان الحكم التكليفي المحض ـ أي وجوب دفعها إلى الفقير ـ كي لا ينافيه تعلّق الزكاة به قبل وصوله إليه ، وإلّا لقيّده ببقائه عنده بعد وصوله حتى يحول عليه الحول فيما يعتبر ذلك فيه ، بل المقصود به بيان عدم كون المال الغائب ـ كالدين ـ متعلّقا لهذا الحقّ

__________________

(١) كتاب الزكاة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٤٧٥.

(٢) التهذيب ٤ : ٣١ / ٧٨ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٦.

٧٤

ما دام غائبا ، كما هو ظاهر.

وكذا ما ورد في ميراث الغائب ، إذ المقصود بالسؤال في قوله : كيف يصنع بميراث الغائب؟ مطلق ما ورثه من أبيه ، فقوله ـ عليه‌السلام ـ في جوابه : «يعزل حتّى يجي‌ء» (١) عامّ لمطلق ما ملكه بالإرث ، زكويّا كان أم غير زكويّ. ولمّا حكم الإمام ـ عليه‌السلام ـ بأنّه يعزل ميراثه حتى يجي‌ء ، احتمل السائل تعلّق الزكاة بماله ، فسأله (٢) عن ذلك ، فأجابه الإمام ـ عليه‌السلام ـ بقوله : «لا ، حتى يجي‌ء».

وهذا الكلام بظاهره كلام تامّ واف ببيان ما هو المقصود ببيانه من هذا الجواب ، بحيث لو لم يلحقه سؤال آخر ، لكان الإمام ـ عليه‌السلام ـ يقتصر عليه ، ولم يكن فيه قصور في إفادة مرامه ، وهو بيان عدم تعلّق الزكاة بحصّته المعزولة له حتى يجي‌ء ، وهذا الجواب بإطلاقه شامل لجميع ما ملكه بالإرث ممّا من شأنه أن يتعلّق به الزكاة ، سواء كان ممّا يعتبر فيه الحول أم لم يكن.

ولا يصلح أن يكون ما ذكره ـ عليه‌السلام ـ جوابا عن سؤاله الأخير من قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا ، حتى يحول عليه الحول» قرينة على صرف هذا الكلام عن ظاهره من الإطلاق ، كما أنه لا يصلح أن يكون قرينة على أنّ المراد بقوله ـ عليه‌السلام ـ في صدر الخبر : «يعزل حتى يجي‌ء» خصوص هذا القسم من المال ، إذ المقصود بهذا الجواب بيان عدم تنجّز التكليف بالزكاة بمجرّد مجيئه ، بل لا بدّ فيه بعد ذلك من تحقّق شرطها وهو حؤول الحول في الغائب ، فتخصيصه بالذكر على الظاهر من باب التمثيل ، لنكتة

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٢٤ / ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٢.

(٢) في النسخة الخطية زيادة : السائل.

٧٥

الغلبة ، لا لإرادته بالخصوص.

وكيف كان ، فهذا الجواب لا يصلح أن يكون قرينة لصرف ما وقع عنه السؤال في القضيّة الولي أو الثانية ، عن ظاهرهما من الإطلاق ، كما لا يخفى على المتأمّل.

هذا كلّه ، مع أنّ المسألة بحسب الظاهر ممّا لا خلاف فيه ، فالتشكيك فيه لعلّه في غير محلّه.

ولكنّك عرفت فيما سبق أنّ التمكّن من التصرّف المعتبر في تحقّق أصل التكليف بالزكاة ـ أي : تعلّقها بالمال ـ عبارة عن كون النصاب تحت يده ، غير محجوب عنه ، ولا ممنوع عن التصرّف فيه ولو لمانع شرعيّ ، حسب ما مرّ الكلام فيه مفصّلا.

(و) أمّا (إمكان) صرفها إلى مستحقّها الذي به يحصل القدرة على (أداء الواجب) فهو (معتبر في الضمان لا في الوجوب) فضلا عن كونه شرطا في تعلّق الزكاة بالمال ، الذي هو حكم وضعي سببي لا يدور تحقّقه مدار صحّة التكليف ، فمتى ملك النصاب ، وحال عليه الحول وهو في يده ، تعلّقت الزكاة بماله ، ووجب صرفها إلى مستحقّيها مهما قدر عليه ، فإمكان الأداء من المقدّمات الوجودية للواجب ، لا من شرائط الوجوب.

وأمّا القدرة على الامتثال التي هي شرط عقلي لصحّة الطلب ، فهي عبارة عن كون المكلف ممّن يتمكّن في شي‌ء من أزمنة مطلوبية الفعل من إيجاده ، لا كونه بالفعل قادرا عليه ، فالقدرة العقليّة المعتبرة في صحة التكليف بالزكاة عبارة عن كون المكلف ممّن يقدر على أن يصرفها إلى مستحقّها فيما يستقبل ولو بعد سنين ، فمتى تنجّز في حقّه هذا التكليف ، بأن تحقّق سببه ، وجب عليه تحصيل القدرة على الأداء ولو بحفظ المال

٧٦

إلى أن يتمكّن منه فيما يستقبل ، وحيث إنّه ليس تكليفا محضا ، بل حق مالي ، يبقى المال عند عدم تمكنه من الإيصال إلى المستحقّ في يده ، كالأمانة لا يضمنه إلّا بتعد أو تفريط ، فلو تمكن من أداء الزكاة بعد أن وجبت عليه ، فقصّر فيه ولم يؤدّ حتى تلفت ، ضمنها ، بخلاف ما لو لم يتمكّن من ذلك حتى تلفت جميعها أو بعضها بلا تفريط ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله.

(و) كيف كان ، فقد ظهر ممّا قدّمنا أنّه (لا تجب الزكاة في المال المغصوب) لا على غاصبه ، لعدم كونه ملكا له ، ولا على المغصوب منه ، لعدم كونه في يده ، بلا خلاف في شي‌ء منهما على الظاهر ، من غير فرق بين كون المال ممّا يعتبر فيه الحول كالنقدين والأنعام ، وبين كونه ممّا لا يعتبر فيه ذلك كالغلّات.

وما في المدارك من الاستشكال في الأخير (١) ، في غير محله كما عرفت.

وقد عرفت أيضا أنّ الأظهر عدم العبرة بتمكنه من استنقاذ المال من الغاصب وإثبات اليد عليه ، بل المدار على كونه بالفعل تحت تصرّفه.

فما عن غير واحد (٢) من أنّ الزكاة إنّما تسقط في المغصوب ونحوه إذا لم يمكن تخليصه ولو بدفع بعضه ، فتجب حينئذ فيما زاد على الفداء ، ضعيف.

(و) كذا (لا) تجب الزكاة في المال (الغائب) الخارج عن تحت سلطنته واختياره (إذا لم يكن في يد وكيله أو وليّه) بلا خلاف

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٣٤.

(٢) كالسيد العاملي في المدارك ٥ : ٣٤.

٧٧

فيه على الظاهر ، للنصوص المستفيضة المتقدمة.

وإنما ذكر الولي ليندرج في هذا الحكم مال الطفل والمجنون إن قلنا بثبوت الزكاة فيه وجوبا أو استحبابا ، كما نبّه عليه في المدارك.

ثم قال ما لفظه : ولا يعتبر في وجوب الزكاة في الغائب كونه بيد الوكيل ، كما قد يوهمه ظاهر العبارة ، بل إنّما تسقط الزكاة فيه إذا لم يكن مالكه متمكّنا منه ، كما يقتضيه ظاهر التفريع ، ودلّت عليه الأخبار المتقدّمة ، وصرّح به جماعة ، منهم : المصنّف في المنافع ، حيث قال : فلا تجب في المال الغائب إذا لم يكن صاحبه متمكّنا منه.

ونحوه قال في المعتبر ، فإنّه قال بعد أن اشترط التمكن من التصرّف : فلا تجب في المغصوب ، ولا في المال الضائع ، ولا في الموروث عن غائب ، حتى يصل إلى المالك أو وكيله ، ولا فيما يسقط في البحر حتى يعود إلى مالكه ، فيستقبل به الحول.

وقال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في النهاية : ولا زكاة على مال غائب إلا إذا كان صاحبه متمكّنا منه أي وقت شاء ، فإذا كان متمكنا منه لزمته الزكاة. ونحوه قال في الخلاف.

وبالجملة فعبارات الأصحاب ناطقة بوجوب الزكاة في المال الغائب إذا كان صاحبه متمكنا (١). انتهى ما في المدارك. وهو جيّد.

فالمدار حينئذ على كونه تمام الحول تحت سلطنة المالك واختياره حقيقة أو حكما ، كما لو دفن ماله في مكان وسافر إلى بلد بعيد ، فإنّه بعد أن بعد من بلده مسافة شهر أو شهرين مثلا ، لا يتمكّن من التصرّف

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٣٤ ـ ٣٥ ، وانظر : المختصر النافع : ٥٣ ، والمعتبر ٢ : ٤٩٠ ، والنهاية : ١٧٥ ، والخلاف ٢ : ٣١ ، المسألة ٣٠.

٧٨

فيه بالفعل ، ولكن كونه كذلك مستند إلى اختياره ، فلا يخرج المال بذلك عن كونه تحت تصرفه واختياره ، فهو بحكم ما لو كان بالفعل عنده وفي يده.

وكذا ما لو كان عند وكيله ، ولكن هذا فيما إذا كان وكيلا عنه في إبقاء المال عنده ، كما في الودعي ، أو على الإطلاق ، بحيث يكون مختارا من قبل المالك في أن يتصرّف في المال أو يتركه حتى يحول عليه الحول.

وأمّا إذا كان وكيلا عنه في صرفه إلى مصرف خاص ، كما لو وكله في قبض أمواله وصرفه إلى غرمائه أو في بناء مسجد مثلا ، ثم سافر إلى أن انقطع يده عن الوكيل ، ولم يتمكّن الوكيل من صرفه إلى ذلك المصرف ، فبقي المال عنده قهرا حتى حال عليه الحول ، فيشكل حينئذ تعلّق الزكاة به ، فإنّ هذا النحو من البقاء عند الوكيل الغائب ليس بمنزلة المال الذي وصل إليه وبقي عنده وفي يده حتى حال عليه الحول لا حقيقة ولا حكما ، خصوصا فيما لو اطّلع المالك على حاله وأراد صرفه إلى مصرف آخر ولم يتمكّن عنه لغيبته ، فالقول بعدم تعلّق الزكاة به حينئذ لا يخلو من قوة ، كما ربّما يؤيّده بل يشهد له : النصوص الآتية الواردة في مال تركه لنفقة عياله ، الدالّة على أنّه إن كان حاضرا فعليه زكاته ، وإن كان غائبا فلا زكاة عليه (١).

(و) كذا (لا) تجب الزكاة في (الرهن على الأشبه) لتعلّق حقّ الغير به الموجب لنقص ملكيّته ، وعدم جواز التصرّف فيه ، وقد عرفت في صدر المبحث أنّ هذا النحو من النقص مانع عن تعلّق الزكاة ، خلافا لما

__________________

(١) انظر على سبيل المثال : الكافي ٣ : ٥٤٤ / ١ ـ ٣ ، الفقيه ٢ : ١٥ / ٤٣ ، والتهذيب ٤ : ٩٩ / ٢٧٩ و ٢٨٠ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب زكاة الذهب والفضّة.

٧٩

عن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في موضع من المبسوط من أنّه قال : لو رهن النصاب قبل الحول ، فحال الحول وهو رهن ، وجبت الزكاة ، فإن كان موسرا ، كلّف إخراج الزكاة ، وإن كان معسرا ، فقد تعلّق بالمال حقّ الفقراء يؤخذ منه ، لأنّ حقّ المرتهن في الذمّة (١).

ولكن حكي عن موضع آخر منه موافقة المشهور ، فقال : لو استقرض ألفا ورهن ألفا ، لزمه زكاة الألف القرض دون الرهن ، لعدم التمكّن من التصرّف في الرهن (٢).

وعنه في الخلاف ، قال : لو كان له ألف واستقرض ألفا غيرها ، ورهن هذه عند المقرض ، فإنه يلزمه زكاة الألف التي في يده إذا حال الحول ، دون الألف التي هي رهن.

ثم استدلّ بأنّ المال الغائب الذي لا يتمكّن منه مالكه لا يلزمه زكاته ، والرهن لا يتمكّن منه.

ثم قال : ولو قلنا : إنّه يلزم المستقرض زكاة الألفين ، كان قويّا ، لأنّ الألف القرض لا خلاف بين الطائفة أنّه يلزمه زكاتها ، والألف المرهونة هو قادر على التصرّف فيها ، بأن يفكّ رهنها ، والمال الغائب إذا كان متمكّنا منه يلزمه زكاته بلا خلاف (٣). انتهى.

وحكي عن ظاهر الشهيدين وجملة ممّن تأخر عنهما القول بتعلّق الزكاة بالرهن إذا تمكّن من فكّه ، كما هو مورد كلام الشيخ ، معلّلا

__________________

(١) حكاه السيد العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٣٥ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢٠٨.

(٢) حكاه أيضا السيد العاملي في المدارك ٥ : ٣٥ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢٢٥ و ٢٢٦.

(٣) حكاه السيد العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٣٥ ـ ٣٦ ، وانظر : الخلاف ٢ : ١١٠ ـ ١١١ ، المسألة ١٢٩.

٨٠