مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

يتب ، وعليه بعد قبضها وصيرورتها ملكا له الخروج عن عهدة ما عليه من الدين من أيّ وجه حصل ، كما هو واضح.

(ولو جهل في ما ذا أنفقه قيل) والقائل الشيخ في المحكي (١) عن نهايته : (يمنع) ونسب (٢) إلى الشهيد أيضا الميل إليه.

(وقيل : لا) يمنع ، وقد نسب (٣) هذا القول إلى الأكثر بل المشهور.

واستدلّ (٤) للأوّل بما في خبر محمّد بن سليمان ـ المتقدم (٥) ـ من قوله : قلت : فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم في طاعة الله أنفقه أو في معصيته ، فأجابه ـ عليه‌السلام ـ : «يسعى له في ماله فيردّه عليه وهو صاغر».

وأجيب (٦) عنه : بأنّ الرواية ضعيفة السند ، فلا يمكن التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل ، لأن الأصل في تصرّفات المسلم وقوعها على الوجه المشروع.

والأولى الجواب عنها : بمنع الدلالة كما نبّه عليه في الحدائق (٧) ، إذ لم يقع السؤال عن تكليف الدافع عند جهله بالحال من حيث الجواز وعدمه ، بل عمّا يستحقّه صاحب الدين ، فإنّه بعد أن سمع من الإمام ـ عليه‌السلام ـ أنّه لو كان أنفقه في معصية الله ، لا شي‌ء له على الإمام

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٦٠ ، وراجع : النهاية : ٣٠٦.

(٢) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٦٠ ، وراجع : اللمعة الدمشقية : ٥٢ ، والدروس ١ : ٢٤١.

(٣) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٦١.

(٤) كما في مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٥.

(٥) تقدم في ص ٥٥٨.

(٦) المجيب هو العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٥.

(٧) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٩٣.

٥٦١

تحيّر في حقّ صاحب الدين من أنّه هل عليه أن يجوز عن حقّه بعد أن علم أنّه ليس له غلّة ينتظر إدراكها ولا دين ينتظر محلّه ، ولا مال غائب ينتظر قدومه ، فسأل الإمام ـ عليه‌السلام ـ عن ذلك ، فأجابه : بأنّ على المديون السعي في ماله وردّه إليه وهو صاغر.

فما في كلام السائل من فرض عدم علمه بأنّ المديون في ماذا أنفقه للمبالغة في نفي صدور فعل من الدائن يناسب حرمانه عن ماله ، وكونه بريئا عن المعصية المصروف فيها المال.

وكيف كان فهذا السؤال أجنبي عن محلّ الكلام ، فلا يصحّ الاستشهاد به للمدّعى.

واستدلّ له أيضا بظهور الأخبار في اشتراط جواز الدفع من هذا السهم بكون الاستدانة في طاعة الله فما لم يحرز الشرط لم يجز الدفع ، لأصالة عدمه.

وفيه : أنّه وإن جعل شرط جواز الدفع من سهم الغارمين في خبر محمّد ابن سليمان وغيره كون الدين مصروفا في طاعة الله ، ولكن المراد بذلك بقرينة المقابلة وغيرها من القرائن الداخلية والخارجيّة أن لا يكون مصروفا في المعصية ، فيكون الصرف في المعصية لدى التحليل مانعا عن الاستحقاق.

ولذا وقع التعبير من هذا الشرط في خبر الحسين بن علوان المتقدّم (١) بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «إذا استدانوا في غير إسراف».

وفي خبر الكناني (٢) قيّد الدين بأن لم يكن في فساد ولا إسراف.

__________________

(١) تقدّم في ص ٥٥٧.

(٢) كذا ، والصحيح : خبر صباح بن سيابة ، وتقدم الخبر في ص ٥٥٨.

٥٦٢

وفي الخبر المروي عن تفسير عليّ بن إبراهيم (١) أيضا شهادة بذلك ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وربّما يؤيّده أيضا ما عن الكافي مرسلا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «الإمام يقضي عن المؤمنين سائر الديون ما خلا مهور النساء في غير إسراف» (٢).

وعنه أيضا ـ في الصحيح ـ عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ عن رجل عارف فاضل توفّي وترك دينا لم يكن بمفسد ولا مسرف ولا معروف بالمسألة هل يقضى عنه من الزكاة الألف والألفان؟ قال : «نعم» (٣) إلى غير ذلك من الروايات المشعرة به ، فلا ينبغي الارتياب في أنّ الشرط هو : عدم كونه مصروفا في المعصية ، وهو موافق للأصل والظاهر ، كما هو ظاهر.

(و) قد ظهر بما ذكر أنّ ما ذهب إليه المشهور من جواز الدفع إلى من لم يعلم في ماذا أنفقه (هو الأشبه).

كما يؤيّده أيضا ، بل يشهد له الأخبار الواردة في جواز قضاء ديون أبيه أو غيره من المؤمنين الأموات أو الأحياء من الزكاة (٤) ، من غير تقييد بالعلم بكونها في طاعة أو عدم كونها في معصية ، مع قضاء العادة بالجهل بمصرف ديون الغير في الغالب ، خصوصا الديون المتخلّفة عن الميّت ، فلو

__________________

(١) تقدّم في ص ٥٥٧.

(٢) الكافي ٥ : ٩٤ / ٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الدين والقرض ، الحديث ٤. وليس فيهما جملة : في غير إسراف.

(٣) الكافي ٣ : ٥٤٩ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢.

(٤) راجع : الكافي ٣ : ٥٥٣ / ٢ و ٣ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١ و ٢.

٥٦٣

كان العلم بحالها شرطا في جواز الصرف ، لم يجز الرخصة في قضائها من الزكاة على الإطلاق ، كما لا يخفى على المتأمل.

تنبيه

في المدارك نقل عن العلامة ـ رحمه‌الله ـ أنّه ذكر في التذكرة والمنتهى أنّ الغارمين قسمان.

أحدهما : المديون لمصلحة نفسه ، وحكمه ما سبق.

والثاني : المديون لإصلاح ذات البين بين شخصين أو قبيلتين بسبب تشاجر بينهما إمّا لقتيل لم يظهر قاتله ، أو إتلاف مال كذلك ، وحكم بجواز الدفع إلى من هذا شأنه مع الغني أو الفقر ، ولم ينقل في ذلك خلافا.

واستدلّ عليه : بعموم الآية الشريفة (١) ، السالم من المخصّص.

وبما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : «لا تحلّ الصدقة لغني إلّا لخمس» وذكر رجلا تحمّل حمالة (٢) (٣).

وبأنّ تحمله وضمانه إنّما يقبل إذا كان غنيّا ، فأخذه في الحقيقة إنّما هو لحاجتنا (٤) إليه ، فلم يعتبر فيه الفقر كالمؤلّفة.

وجوّز الشهيد في البيان صرف الزكاة في إصلاح ذات البين ابتداء.

وهو حسن إلّا أنّه يكون من سهم سبيل الله لا من سهم الغارمين (٥).

__________________

(١) التوبة ٩ : ٦٠.

(٢) حمالة ـ بالفتح ـ : ما يحتمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة. النهاية لابن الأثير ١ : ٤٤٢.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ٥٩٠ / ١٨٤١ ، سنن أبي داود ٢ : ١١٩ / ١٦٣٥ ، سنن البيهقي ٧ : ١٥ ، وفيها :أو غارم. وفي النهاية لابن الأثير ١ : ٤٤٢ : لا تحل المسألة إلّا لثلاثة .. رجل تحمّل حمالة.

(٤) كذا ، والصحيح : لحاجته. أو : لحاجة.

(٥) مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٤ ، وراجع تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٥٩ ، المسألة ١٧٣ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٢١ ، والبيان : ١٩٨.

٥٦٤

انتهى.

وربما نسب القول بجواز الصرف من سهم الغارمين إلى من تحمّل دية لإصلاح ذات البين وإن كان غنيّا إذا لم يؤدّها من ماله ، سواء استدان فأدّاها أم لم يؤدّها بعد. إلى الشيخ ومن تأخّر عنه (١).

أقول : أمّا جواز صرفها ابتداء في إصلاح ذات البين من سهم سبيل الله بناء على شموله لمطلق القربات ، فممّا لا إشكال فيه.

وأمّا من سهم الغارمين فهو بحسب الظاهر ممّا لا وجه له ، لانتفاء موضوعه ، إذ لا غرم هاهنا في الفرض.

وأمّا جواز صرفها إلى الغني الذي تحمّل دية أو مالا تالفا لإصلاح ذات البين ففي غاية الإشكال.

اللهمّ إلّا أن يكون تولّيه لهذا الفعل بقصد استيفاء المال من وجوه الصدقات ، وقلنا بأنّ له الولاية على ذلك من باب الحسبة كما ليس بالبعيد ، فيجوز حينئذ استيفاؤه من سهم سبيل الله ، بناء على شموله لمطلق القربات.

وأمّا لو كان غرضه من أوّل الأمر الأداء من ماله تبرّعا فالتزم بذلك فلم يؤدّها بعد ، أو استدان فأدّاها ، أشكل إدراجه في الأصناف المستحقين للزكاة.

والاستدلال له بعموم الآية الشريفة ـ بعد تسليم صدق الغارم عرفا ولغة على مطلق المديون وإن كان غنيّا متمكّنا من أداء دينه لا خصوص من علاه الدين ، أي صار غالبا عليه ـ مدفوع بما تقدّمت الإشارة إليه من أنّ المتعيّن صرف إطلاقه ـ لو لم نقل بانصرافه في حدّ ذاته لأجل

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٥١.

٥٦٥

المناسبات المغروسة في الذهن ـ إلى المحتاجين في أداء دينهم إلى تناول الصدقات.

ولذا لم يقع الخلاف فيه في ما إذا كان الدين لمصلحة نفسه وكونه لمصلحة عامّة إن كان فارقا فمن حيث كونه مصروفا في القربات لا من حيث كونه غارما.

وأمّا الرواية المزبورة فهي غير ثابتة من طرقنا ، والذي ورد من طرقنا أنّه «لا تحلّ الصدقة لغني ولا لمحترف سوي» (١) من غير استثناء ، فلاحظ.

(ولو كان للمالك دين على الفقير ، جاز أن يقاصّه) به من الزكاة ، وهو ممّا لا خلاف فيه ، كما اعترف به في الحدائق (٢) وغيره (٣).

ويدلّ عليه : مضافا إلى القواعد العامّة ، أخبار خاصّة :

منها : ما رواه الكليني ـ في الصحيح ـ عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن الأوّل ـ عليه‌السلام ، عن دين لي على قوم قد طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة ، هل لي أن أدعه وأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال : «نعم» (٤).

وعن عقبة بن خالد ، قال : دخلت أنا والمعلّى وعثمان بن عمران على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلمّا رآنا قال : «مرحبا بكم ، وجوه تحبّنا ونحبها ، جعلكم الله معنا في الدنيا والآخرة» فقال له عثمان : جعلت فداك ، فقال له أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «نعم مه» قال : إني رجل

__________________

(١) معاني الأخبار : ٢٦٢ (باب معنى ما روي أنّ الصدقة لا تحلّ لغني ..) الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٨ بتفاوت فيهما.

(٢) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٩٥.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٦ ، جواهر الكلام ١٥ : ٣٦٣.

(٤) الكافي ٣ : ٥٥٨ / ١ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

٥٦٦

موسر ، فقال له : «بارك الله لك في يسارك» قال : ويجي‌ء الرجل فيسألني الشي‌ء وليس هو إبان (١) زكاتي ، فقال له أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ :«القرض عندنا بثمانية عشر ، والصدقة بعشر ، وماذا عليك إذا كنت كما تقول موسرا أعطيته ، فإذا كان إبّان زكاتك احتسبت بها من الزكاة ، يا عثمان لا تردّه فإنّ رده عند الله عظيم» (٢) الحديث.

وفي الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن الرجل يكون له الدين على رجل فقير يريد أن يعطيه من الزكاة ، فقال :«إن كان الفقير عنده وفاء بما كان عليه من دين من عرض من دار أو متاع من متاع البيت ، أو يعالج عملا يتقلّب فيها بوجهه ، فهو يرجو أن يأخذ منه ماله عنده من دينه ، فلا بأس أن يقاصّه بما أراد أن يعطيه من الزكاة أو يحتسب بها ، فإن لم يكن عند الفقير وفاء ولا يرجو أن يأخذ منه شيئا فليعطه من زكاته ، ولا يقاصّه بشي‌ء من الزكاة» (٣).

وما في هذه الرواية من التفصيل كالأمر بالإعطاء من زكاته لخصوص هذا الشخص الذي بلغ فقره إلى حدّ اليأس من قدرته على الأداء ، محمول على الاستحباب.

والمراد بمقاصته به من الزكاة ـ على ما فسّره في المدارك (٤) وغيره (٥) ـ هو : احتسابه عليه من الزكاة الواجبة عليه.

وعن الشهيدين (٦) تفسير المقاصّة باحتسابها على الفقير ، أي : عدّها

__________________

(١) إبّان الشي‌ء : وقته وأوانه. الصحاح ٥ : ٢٠٦٦.

(٢) الكافي ٤ : ٣٤ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٤٩ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥٨ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٣.

(٤) مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٥.

(٥) جواهر الكلام ١٥ : ٣٦٣ ، والحدائق الناضرة ١٢ : ١٩٦.

(٦) كذا ، ويحتمل أن تكون العبارة هكذا : وعن ثاني الشهيدين ، كما حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٥ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ١٩٦ ، وراجع : مسالك الأفهام ١ : ٤١٧.

٥٦٧

ملكه ثمّ أخذها مقاصّة من دينه. وهذا المعنى أوفق بظاهر اللفظ وإن استبعده بعضهم (١).

وكيف كان فلا بأس بها بكلا المعنيين ، كما يومئ إليه قوله ـ عليه‌السلام ـ في الخبر الأخير (٢) : «فلا بأس أن يقاصّه بما أراد أن يعطيه من الزكاة أو يحتسب بها».

(وكذا لو كان الغارم ميّتا ، جاز أن يقضي عنه وأن يقاصّ) به من الزكاة بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل في المدارك قال : اتّفق علماؤنا وأكثر العامّة على أنّه يجوز للمزكّي قضاء الدين عن الغارم من الزكاة بأن يدفعه إلى مستحقّه ، ومقاصّته بما عليه من الزكاة (٣).

ويدل [عليه] (٤) ما عن الكليني ـ في الصحيح ـ عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، عن رجل عالم فاضل توفّي وترك عليه دينا لم يكن بمفسد ولا مسرف ولا معروف بالمسألة هل يقضى عنه من الزكاة ألف وألفان؟ قال : «نعم» (٥).

وعن يونس بن عمّار قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام ، يقول :«قرض المؤمن غنيمة وتعجيل أجر ، إن أيسر قضاك ، وإن مات قبل ذلك احتسب به من الزكاة» (٦).

__________________

(١) وهو : العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٥.

(٢) وهو خبر سماعة.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٧.

(٤) أثبتناها من المدارك.

(٥) الكافي ٣ : ٥٤٩ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٤٦ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٦) الكافي ٣ : ٥٥٨ / ١ ، الوسائل ، الباب ٤٩ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

٥٦٨

وفي الحسن أو الصحيح عن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : رجل حلّت عليه الزكاة ومات أبوه وعليه دين أيؤدّي زكاته في دين أبيه وللابن مال كثير؟ فقال : «إن كان أورثه مالا ثمّ ظهر عليه دين لم يعلم به يومئذ فيقضيه عنه ، قضاء عنه من جميع الميراث ، ولم يقضه من زكاته ، وإن لم يكن أورثه مالا لم يكن أحد أحقّ بزكاته من دين أبيه ، فإذا أدّاها في دين أبيه على هذا الحال أجزأت عنه» (١).

في المدارك بعد نقل هذه الروايات ، قال : ويستفاد من هذه الرواية اعتبار قصور التركة عن الدين كالحي.

وبه صرّح ابن الجنيد والشيخ في المبسوط.

وقال في المختلف : لا يعتبر ذلك ، لعموم الأمر باحتساب الدين على الميّت من الزكاة. ولأنّه بموته انتقلت التركة إلى ورثته ، فصار في الحقيقة عاجزا.

ويرد على الأوّل : أنّ العموم مخصوص بحسنة زرارة ، فإنّها صريحة في اعتبار هذا الشرط.

وعلى الثاني : أنّ انتقال التركة إلى الوارث إنّما يتحقّق بعد الدين والوصيّة كما هو منطوق الآية (٢) الشريفة.

واستثنى الشارح ـ قدس‌سره ـ من ذلك ما لو تعذّر استيفاء الدين من التركة إمّا لعدم إمكان إثباته ، أو لغير ذلك ، فجوّز الاحتساب عليه حينئذ وإن كان غنيّا ، وللنظر فيه مجال (٣). انتهى.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥٣ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٢) النساء ٤ : ١٢.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٢٢٨ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٢٩ ، ومختلف الشيعة : ٣ : ٨٨ ، المسألة ٦١ ، والمسالك ١ : ٤١٨.

٥٦٩

أقول : لا يستفاد من الحسنة إلّا أنّه ليس للوارث صرف زكاته في دين أبيه إذا كان لمورثه تركة يمكن قضاء دينه منها ، سواء ظهر الدين قبل تقسيم التركة أم بعده ، بل يجب عليه إخراج الدين من أصل التركة ، لتقدمه على الإرث.

وهذا ممّا لا شبهة فيه ، فإنّ صرف الوارث زكاته في دين أبيه في مثل الفرض مرجعه إلى صرفها في مصلحة نفسه حيث يكون موجبا لصيرورة التركة ملكا طلقا له من دون أن يترتّب عليه فائدة للميّت أو لغرمائه ، إذ لا يتفاوت الحال بالنسبة إليهما بين أن يؤدّي الدين من التركة أو من غيرها.

هذا ، مع أنّ الحاجة إلى الزكاة في قضاء الدين شرط في الغارمين ، والأدلّة الدالّة على جواز قضاء دين الميّت من الزكاة لم تدلّ عليه حتّى في مثل الفرض ، كي يكون مثل هذه الرواية مخصّصة لها ، ضرورة قصورها عن شمول ما لو ترك الميّت ما يفي بدينه ، ولم يكن هناك مانع شرعي أو عرفي عن صرف تركته في دينه ، كما لا يخفى على من لاحظها.

نعم لو تعذّر استيفاء الدين من تركته ـ كما لو امتنع الوارث من أدائه ، أو غصبها ثالث ، أو لم يتمكّن الدائن من إثباته ، أو غير ذلك من الموانع ـ قد يقال : بجواز قضائه من الزكاة لحاجته إليها ، كما تقدّم (١) نقله من المسالك.

ولكنّه بالنسبة إلى من كان موسرا قبل موته لا يخلو من إشكال ، فإنّ ما دلّ على جواز صرف الزكاة في قضاء دين الغارمين كالآية الشريفة ونظائرها منصرف إلى الأحياء ، وما دلّ عليه في الأموات كالأخبار

__________________

(١) تقدم نقله آنفا عن المدارك.

٥٧٠

المزبورة لا تدل عليه في الموسر.

أمّا الخبر الأوّل والأخير فواضح حيث إنّهما لا يدلّان على الجواز إلّا في من قصرت تركته عن دينه.

والرواية الثانية أيضا لم تدلّ عليه في الموسر.

نعم مقتضى إطلاق قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وإن مات قبل ذلك احتسب من الزكاة» (١) شموله لما إذا مات قبل ذلك ، وخلّف دارا ونحوها من المستثنيات الوافية بدينه ، ولكن قد أشرنا إلى انصرافه عن صورة (استيفاء دينه من تركته) (٢).

وكيف كان ، فصورة كونه موسرا حال حياته ومات مديونا خارج عن موضوع هذه الرواية ، سواء تمكّن من استيفاء دينه من تركته بعد موته أو تعذّر.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه يستفاد من هذه الأخبار أنّه لا فرق في الغارم الذي جعل في الآية الشريفة مصرفا للزكاة بين كونه حيّا أو ميّتا ، ومناط الجواز في الجميع : الحاجة إلى قضاء دينه من الزكاة ، سواء لم يكن له مال أصلا أو كان ولكن تعذّر صرفه في دينه كالمغصوب ، والله العالم.

(وكذا لو كان الدين على من تجب نفقته جاز أن يقضى عنه حيّا وميّتا وأن يقاصّ) بلا خلاف فيه على الظاهر ولا إشكال.

ويدلّ عليه مضافا إلى العمومات ، خصوص حسنة زرارة المتقدمة (٣).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥٨ / ١ ، الوسائل ، الباب ٤٩ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٢) ورد بدل ما بين القوسين في الطبع الحجري : وفاء تركته بدينه. ظ.

(٣) تقدّمت في ص ٥٦٩.

٥٧١

وموثّقة إسحاق بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن رجل على أبيه دين ، ولابنه مئونة أيعطي أباه من زكاته يقضي دينه؟قال : «نعم ، ومن أحق من أبيه؟» (١).

ولا ينافي ذلك الروايات الدالّة على عدم جواز إعطاء الزكاة لأبيه وامّه وغيرهما ممّن وجبت نفقته عليه ، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا : الأب والام والولد والمملوك والزوجة ، وذلك أنّهم عياله لازمون له» (٢) لأنّ المراد إعطاؤهم من حيث الفقر والحاجة إلى النفقة ، كما يدلّ عليه قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وذلك» إلى آخره ، فإنّ قضاء الدين لا يلزمه اتّفاقا كما ادّعاه في الجواهر (٣).

(ولو صرف الغارم ما دفع إليه من سهم الغارمين) بأن عيّنه المالك لهذا المصرف (في غير القضاء ، ارتجع على الأشبه) لأنّ للمالك الولاية على صرفه في الأصناف ، وقد عيّنه للصرف في قضاء دينه ولم يفعل ، ولم يجعل ملكا طلقا له ، كي يجوز له التصرّف فيه كيفما يشاء.

وحكي (٤) عن الشيخ في مبسوطة وجمله القول بأنّه لا يرتجع ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥٣ / ١ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٢ / ٥ ، التهذيب ٤ : ٥٦ / ١٥٠ ، الإستبصار ٢ : ٣٣ / ١٠١ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٣) جواهر الكلام ١٥ : ٣٦٧.

(٤) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٦٧ ، ومدارك الأحكام ٥ : ٢٢٩ ، والحاكي عن الشيخ في مبسوطة وجمله ، المحقّق في المعتبر ٢ : ٥٧٦ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٥١ ، وأمّا قوله في الجمل فلم نعثر عليه.

٥٧٢

لحصول الملك بقبضه.

وفيه : ما عرفت من منع صيرورته ملكا طلقا له بعد أن لم يرخّصه المالك إلّا في التصرّف فيه على جهة خاصّة.

(ولو ادّعى أنّ عليه دينا ، قبل قوله إذا صدّقه الغريم) فإنّه لو لم يقبل قوله ولو مع تصديق الغريم ، لأدّى ذلك إلى حرمان جلّ أهل الاستحقاق من هذا السهم ، وهو مناف لما يقتضي شرعيته ، فهذا ممّا لا ينبغي الاستشكال فيه.

(وكذا) يقبل قوله (لو تجرّدت دعواه عن التصديق والإنكار ، وقيل : لا يقبل).

في المدارك قال : يحتمل أن يكون المراد به عدم القبول بدون البيّنة أو اليمين ، ولم أقف على مصرّح بذلك من الأصحاب.

نعم حكى العلّامة في التذكرة عن الشافعي أنّه قال : لا يقبل دعوى الغرم إلّا بالبيّنة ، لأنّه مدّع ، ولا يخلو من قوّة (١). انتهى. وهو جيّد.

وقياس مدّعي الغرم على مدّعي الفقر قياس مع الفارق ، إذ الفقر ممّا لا يعرف غالبا إلّا من قبله ، وهذا بخلاف الغرم ، إذا الغالب علم الغريم به وتيسّر إقامة البيّنة عليه.

(و) من هنا يظهر أنّ القول بعدم القبول لدى تجرّده عن تصديق الغريم لا (الأوّل أشبه) بالقواعد.

(و) من جملة المصارف : (في سبيل الله).

(وهو) على ما عن المقنعة والنهاية ، والمراسم وغيرها : (الجهاد خاصّة) (٢).

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٠ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٨٢ ، المسألة ١٩٦.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٦٨ ، وراجع : المقنعة : ٢٤١ ، والنهاية : ١٨٤ ، والمراسم : ١٣٣ ، وكتاب إشارة السبق (ضمن الجوامع الفقهية) : ١٢٥.

٥٧٣

(وقيل : يدخل فيه المصالح ، كبناء القناطر والحجّ ومساعدة الزائرين ، وبناء المساجد) وغير ذلك من سبل الخير.

وقد نسب هذا القول إلى الأكثر بل المشهور بل إلى عامّة المتأخّرين (١) ، بل عن الخلاف والغنية الإجماع [عليه] (٢) (٣).

(وهو الأشبه) بعموم لفظ الكتاب والروايات الواردة في هذا الباب ، مثل ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن العالم عليه‌السلام ، قال : «وفي سبيل الله قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما ينفقون ، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجّون به ، أو في جميع سبل الخير ، فعلى الإمام ـ عليه‌السلام ـ أن يعطيهم من مال الصدقات حتّى يقووا على الحجّ والجهاد» (٤).

وصحيحة عليّ بن يقطين المرويّة عن الفقيه ، أنّه قال لأبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ : يكون عندي المال من الزكاة أفأحجّ به موالي وأقاربي؟قال : «نعم» (٥).

وصحيحة محمّد بن مسلم ، المرويّة عن الكافي (٦).

__________________

(١) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٦٨.

(٢) ما بين المعقوفين لم يرد في النسخة الخطية ، وأثبتناه لأجل السياق ، كما ورد في الطبع الحجري.

(٣) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٦٨ ، وراجع : الخلاف ٤ : ٢٣٦ ، المسألة ٢١ ، والغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٥٠٦.

(٤) التهذيب ٤ : ٤٩ / ١٢٩ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩ ، والوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٧.

(٥) الفقهية ٢ : ١٩ / ٦١ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٦) الكافي ٣ : ٥٥٦ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٣.

٥٧٤

وعن مستطرفات السرائر ، نقلا من نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن جميل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الصورة أيحجّه الرجل من الزكاة؟ قال : «نعم» (١).

ويدلّ عليه أيضا خبر الحسين بن عمر ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ رجلا أوصى إليّ بشي‌ء في سبيل الله ، فقال لي : «اصرفه في الحجّ فإنّي لا أعلم شيئا في سبيل الله أفضل من الحجّ» (٢).

وخبر الحسن بن راشد ، قال : سألت أبا الحسن العسكري ـ عليه‌السلام ـ بالمدينة عن رجل أوصى بمال في سبيل الله ، فقال : «سبيل الله شيعتنا» (٣).

فالمراد بمثل هذه الرواية بحسب الظاهر بيان أفضل مصاديق السبيل وأوضحه ، لا انحصار سبيل الله في ما يصرف إلى الشيعة ، وإلّا لعارضه غيره من الأخبار ، كما لا يخفى.

وربّما نسب تفسير سبيل الله بخصوص الجهاد إلى مذهب العامة (٤).

وفي بعض الأخبار إيماء إليه ، مثل خبر يونس بن يعقوب ، المرويّ عن الكافي ، قال : إنّ رجلا كان بهمدان ذكر أنّ أباه مات وكان لا يعرف هذا الأمر ، فأوصى بوصيّة عند الموت وأوصى أن يعطى شي‌ء في سبيل الله ، فسأل عنه أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ «كيف يفعل به؟»

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٦٠ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٤.

(٢) الكافي ٧ : ١٥ / ٥ ، الفقيه ٤ : ١٥٣ / ٥٣١ ، الوسائل الباب ٣٣ من كتاب الوصايا ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٧ : ١٥ / ٢ ، الفقيه ٤ : ١٥٣ / ٥٣٠ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من كتاب الوصايا ، الحديث ١.

(٤) كما في الحدائق الناضرة ١٢ : ٢٠٠ ، وجواهر الكلام ١٥ : ٣٦٩.

٥٧٥

فأخبرناه أنّه كان لا يعرف هذا الأمر ، فقال : «لو أنّ رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيهما ، إنّ الله عزوجل يقول «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» (١) فانظر من يخرج إلى هذا الوجه ـ يعني بعض الثغور ـ فابعثوا به إليه» (٢) إذ المتّبع في باب الوصيّة هو عرف الموصى وقصده.

مع إمكان أن يكون تخصيص هذا الوجه بالذكر ، لكونه أحد المصاديق أو أفضلها ، لا لتعيّنه بالخصوص ولو عند الموصى.

وكيف كان ، فلم نقف على ما يصلح مستندا لتفسيره بخصوص الجهاد.

ودعوى أنّ المتبادر منه خصوص الجهاد ، غير مسموعة ، فالقول بانحصاره فيه ضعيف ، بل هو عام لكلّ فعل يكون وسيلة إلى رضوان الله وثوابه ، أي : جميع سبل الخير ، كما وقع التصريح به في ما روي عن العالم في تفسيره (٣).

ولكن في المدارك بعد أن اختار ما قوّيناه من عمومه لكلّ ما فيه وسيلة إلى الثواب ، قال : واعلم أنّ العلّامة قال في التذكرة ـ بعد أن ذكر أنّه يدخل في سهم سبيل الله معونة الزوّار والحجيج ـ : وهل تشترط حاجتهم؟ إشكال ينشأ من اعتبار الحاجة ، كغيره من أهل السهمان ، ومن اندراج إعانة الغني تحت سبيل الخير.

وجزم الشارح باعتبار الحاجة ، بل باعتبار الفقر ، فقال : ويجب تقييد

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨١.

(٢) الكافي ٧ : ١٤ / ٤ ، الوسائل ، الباب ٣٣ من كتاب الوصايا ، الحديث ٤.

(٣) التهذيب ٤ : ٤٩ ـ ٥٠ / ١٢٩ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٧.

٥٧٦

المصالح بما لا يكون فيه معونة لغنيّ مطلق بحيث لا يدخل في شي‌ء من الأصناف الباقية ، فيشترط في الحاجّ والزائر الفقر أو كونه ابن سبيل أو ضيفا ، والفرق بينهما حينئذ وبين الفقير : أنّ الفقير لا يعطى الزكاة ليحجّ بها من جهة كونه فقيرا ، ويعطى لكونه في سبيل الله.

وهو مشكل ، لأنّ فيه تخصيصا لعموم الأدلّة من غير دليل.

والمعتمد : جواز صرف هذا السهم في كلّ قربة لا يتمكّن فاعلها من الإتيان بها بدونه ، وإنّما صرنا إلى هذا التقييد ، لأنّ الزكاة إنّما شرّعت بحسب الظاهر لدفع الحاجة ، فلا تدفع مع الاستغناء عنها ، ومع ذلك فاعتباره محلّ تردّد (١). انتهى ما في المدارك.

أقول : وممّا يؤيّد أيضا اعتبار الحاجة في من يصرف إليه هذا السهم : مضافا إلى الأدلّة الدالة على أنّ الزكاة في الأصل موضوعة لرفع حاجة المحتاجين ، وسدّ خلّتهم ، وأنّ الله تعالى شرّك بين الأغنياء والفقراء في أموالهم ، فليس لهم أن يصرفوها في غير شركائهم ، عموم قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لا تحلّ الصدقة لغنيّ» (٢) وقد أشرنا مرارا إلى أنّ المراد بالغني في مثل هذه الرواية هو غير المحتاج ، لا ما يقابل الفقير الذي لا يملك قوت سنته.

وخصوص مرسلة علي بن إبراهيم المتقدمة (٣) الواردة في تفسير الآية ، فإنّها تدلّ على اعتبار الحاجة في من يخرج إلى الجهاد أو يريد الحجّ.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٨٢ ، المسألة ١٩٧ ، ومسالك الأفهام ١ : ٤٢٠.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ ، ١٦٣٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٣٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٢ / ٦٥٢ ، سنن النسائي ٥ : ٩٩ ، المستدرك للحاكم ١ : ٤٠٧ ، مسند أحمد ٢ : ١٦٤ و ١٩٢ و ٣٨٩ و ٥ : ٣٧٥.

(٣) تقدّمت في ص ٥٧٤.

٥٧٧

ولكن مع ذلك ، الالتزام بهذا التقييد لا يخلو من إشكال ، بعد أن جعل في سبيل الله في الكتاب العزيز بنفسه مصرفا مستقلا للصدقات في مقابل الفقراء والمساكين.

وأمّا قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لا تحلّ الصدقة لغني» فالمنساق منه نفي حلّيتها له على حسب حلّيتها للفقير بأن يتناولها ويصرفها في مقاصده كيف يشاء ، فلا ينافيه جواز دفعها إلى الغني ليصرفها إلى جهة معيّنة من وجوه البرّ ، فليتأمّل.

وأمّا الرواية الواردة في تفسيره ، فمع الغضّ عن سندها ، يمكن الخدشة في دلالتها بأن الظاهر أنّ مئونة الجهاد والحجّ المذكورتين من باب التمثيل بالفرد الواضح ، وإلّا فقد وقع في ذيل الرواية عطف جميع سبل الخير عليهما من غير تقييده بشي‌ء ، مع أنّ اعتبار العجز في المجاهد ممّا لم ينقل الالتزام به عن أحد.

(و) قد صرّح المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وغيره ، بل ادعى غير واحد الاتّفاق على أنّ (الغازي) يعطى من هذا السهم (وإن كان غنيّا قدر كفايته على حسب حاله) أي شرفا وضعة وقرب المسافة وبعدها ، وغير ذلك ، بل في المدارك : هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب (١).

وربّما علّلوه مضافا إلى عموم الآية (٢) ، بالنبويّ : «لا تحل الصدقة لغني إلّا لثلاثة ـ وعدّ منها ـ الغازي» (٣).

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٢.

(٢) التوبة ٩ : ٦٠.

(٣) أورده المحقّق في المعتبر ٢ : ٥٧٨.

٥٧٨

ولكن يحتمل قويّا أن يكون المراد بالغني في المتن وغيره ما يقابل الفقير الذي هو أحد الأصناف ، أي كونه مالكا لقوت سنته ، فلا ينافيه اعتبار الحاجة إلى نفقة الحجّ والجهاد في جواز الصرف من الزكاة ، كما ربّما يومئ إليه تقديره بقدر كفايته على حسب حاله ، فإنّ هذا إنّما يناسب اعتبار احتياجه إلى ما يصرف إليه ، وإلّا لكان الأولى مراعاة حاله من حيث القوّة والشوكة ، وكونه فارسا أو راجلا أو غير ذلك ممّا له دخل في أمر الجهاد ، فالإنصاف أنّ الالتزام بجواز صرفه إلى ما كان معونة لغني وإن كان أوفق بما يقتضيه إطلاق سبيل الله ، ولكنّه في غاية الإشكال.

ولكن لا يخفى عليك أنّ صرف الزكاة في معونة الزوّار والحجيج والغزاة يتصور على أنحاء :

أحدها : أن يكون ما يصرفه إليهم بمنزلة الأجرة على عملهم ، كما لو لم يكن لمن يباشر العمل بنفسه داع إلى فعل الحجّ أو الجهاد ونحوه ، ولكن رأى المتولّي للصرف المصلحة في إيجاد هذه الأفعال من باب تشييد الدين أو تعظيم الشعائر أو غير ذلك من المصالح ، فبعثهم على الفعل بجعل الأجرة لهم أو بذل النفقة عليهم من الصدقات على أن يعملوا هذا العمل.

الثاني : أن يصرفه في من يريد بنفسه الحجّ والجهاد ، فيعينه ببذل الزاد والراحلة والسلاح ونحوها.

الثالث : ما يصرفه في التسبيلات العامّة من مثل المضايف والسقايات الواقعة في الطرق التي يأكل ويشرب منها عامّة المستطرقين.

أمّا القسم الأوّل والثالث : فلا ينبغي الاستشكال في عدم اشتراط الفقر والحاجة في من يتناوله ، فإنّ مصرف الزكاة في هذين القسمين في

٥٧٩

الحقيقة هي نفس تلك المصالح التي صرف الزكاة فيها ، لا خصوص الأشخاص الذين وصل إليهم شي‌ء منها.

وأمّا القسم الثاني الذي هو في الحقيقة صرف إلى من يعمل الخيرات لا في نفس عمل الخير وإن كان هذا الصرف أيضا باعتبار كونه إعانة على البرّ والتقوى يعدّ من السبيل ، فهذا هو الذي وقع فيه الإشكال على تقدير عدم كون المصروف إليه محتاجا إلى تناوله ، والاحتياط فيه ممّا لا ينبغي تركه ، بل لا يبعد الالتزام بشمول «لا تحلّ الصدقة لغني» لمثله ، والله العالم.

(و) كيف كان فلا خلاف ـ على ما اعترف به في الجواهر (١) ـ في أنّه (إذا غزا ، لم يرتجع) ما بقي (منه) عنده ، بل عن التذكرة أنّه موضوع وفاق بين العلماء (٢) ، لأنّ المتولّي للصرف إمّا أن يدفعه إليه على أن يعمل هذا الفعل ، فيكون بمنزلة الأجرة على عمله ، فلا مقتضي حينئذ لرده بعد أن عمل العمل الذي شرط عليه ، وإمّا أن يدفعه إليه على أن تكون نفقته في سفره ، والعادة قاضية بأنّ من يقصد إعانة الحجيج والزوّار ببذل الزاد والمصرف لا يقيّد إعطاءه بالصرف في نفقته بحيث لو زاد منه شي‌ء ، لردّه إليه.

نعم لو دفعه إليه بهذا القيد ، وجب عليه ردّ الزائد حيث إنّ من له الولاية على الصرف لم يرخّصه في الصرف إلّا مقيّدا بهذا القيد.

(وإن لم يغز ، استعيد) لأنّه إنّما دفعه إليه باعتبار كونه غازيا ، فما لم يندرج في الموضوع الذي قصده لا يستحقّه.

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٧١.

(٢) الحاكي هو : صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٧١ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٨٥ ، المسألة ٢٠٢.

٥٨٠