مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

أموال الأغنياء ، إذ الالتزام بحرمته تعبدا مع مخالفته للأصل ، وإطلاقات أدلّة الزكاة ، وعدم معروفيّة القول به من أحد ، لا يخلو من إشكال.

(ولو دفعها [إليه] (١) على أنّه فقير ، فبان غنيّا ، ارتجعت مع التمكّن) مع بقاء العين أو تلفها إن علم القابض بكونها زكاة ، لحرمتها على الغنيّ ، فيجب عليه ردّ عينها مع البقاء ، ومثلها أو قيمتها مع التلف ، كما هو مقتضى قاعدة اليد ، سواء علم بحكمه التكليفي ـ أي حرمة الزكاة عليه ـ أم جهله ، إذ لا أثر للجهل بالحكم الشرعي في رفع الضمان.

وإن كان جاهلا بكونها زكاة ، فإن كانت العين باقية ، ارتجعت أيضا ، كما في صورة العلم بكونها زكاة ، سواء صرفها إليه على وجه الصلة والعطيّة ، أو الصدقة المندوبة التي لا يشترط فيها الفقر ، أو أجمل وجهها ، أو بيّنه وصرّح بكونه زكاة ، ولكن خفي ذلك على القابض ، لعدم صيرورتها ملكا له في الواقع بعد أن كان الدافع ناويا بفعله الزكاة.

وإظهار خلاف وجهها الواقعي ككونها هبة أو صدقة ، يجعله معذورا في التصرّف وإتلافها ، لا في صيرورتها ملكا له في الواقع ، كي لا يجوز لمالكها الارتجاع ، ولذا لو اطّلع على ما في ضميره ، لم يحل له التصرّف.

فما عن المصنّف في المعتبر من القطع بعدم جواز ارتجاع العين ، معلّلا له بأن الظاهر كونها صدقة ، أي مندوبة (٢) ، وعن المنتهى أيضا ذلك ، معلّلا بأنّ الدفع محتمل للوجوب والتطوّع (٣) ، محلّ نظر ، إذا التعويل على

__________________

(١) زيادة من الشرائع.

(٢) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٤ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٦٩ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٢٧.

(٣) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٤ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٦٩ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٢٧.

٥٢١

الظاهر ـ فضلا عن الاحتمال ـ إنّما هو في مرحلة الظاهر ما لم يعلم بمخالفته للواقع ، والكلام إنّما هو في تكليف الدافع الذي صرف زكاته إلى من زعم أنّه فقير ، فبان غنيّا ، فكون فعله في الظاهر صدقة أو هبة غير موجب لصيرورة ما دفعه إليه بقصد الزكاة ملكا له في الواقع حتّى لا يجوز له الارتجاع بعد أن انكشف له فساد الدفع.

نعم قد يقال في ما لو دفعها إليه على وجه الصلة ، ثمّ ادّعى كونها زكاة ، وأنكره القابض بتقديم قول القابض إمّا لكونه مدّعيا للصحة ، أو لموافقته للظاهر ، وهذا على تقدير صحّته أجنبي عن المقام.

ويمكن أن يكون حكم المصنّف ـ رحمه‌الله ـ بعدم جواز الارتجاع بملاحظة تكليفه في مرحلة الظاهر بعد فرض كون خصمه ممتنعا عن الردّ آخذا بظاهر فعله ، فليتأمّل.

وإن كانت العين تالفة ، وكان الإيصال إليه على وجه المصلحة ونحوها ، لم يضمنها ، لكونه مغرورا بفعل الدافع ، فليس له تغريمه ، بخلاف ما لو لم يكن له وجه ظاهر ، بل كان محتملا للزكاة وغيره ، فترك الفحص عن حالها وأتلفها ، إذ المتّجه حينئذ الحكم بالضمان ، لانتفاء الغرور من قبل الدافع المانع عمّا تقتضيه قاعدة الإتلاف.

(وإن تعذّر) ارتجاعها (كانت ثابتة في ذمة الآخذ ، ولم يلزم الدافع ضمانها ، سواء كان الدافع المالك ، أو الإمام عليه‌السلام ، أو الساعي).

أمّا إن كان الدافع هو الإمام ـ عليه‌السلام ـ أو الساعي وشبهه من نائبه الخاص أو العام ، فممّا لا إشكال بل لا خلاف فيه على الظاهر المصرّح به في محكي المنتهى (١) ، لأنّ يده يد أمانة وإحسان ، فلا يتعقّبه

__________________

(١) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٥ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٥٢٧.

٥٢٢

ضمان ما لم يكن هناك تعدّ أو تفريط ، وقد رخّص شرعا في دفعها إلى من ثبت لديه فقره بطريق ظاهري ، وقد عمل على وفق تكليفه.

فإن كان ذلك الشخص فقيرا في الواقع ، فقد وصل الحق إلى مستحقّه ، وإلّا فقد صار مال الفقير لديه بأمر الشارع ، الذي هو أقوى من إذن المالك ، فهو المطالب به بالفعل ، دون من كان في يده سابقا ، وخرج منها بلا تعدّ وتفريط ، فلا مقتضي هاهنا لضمان الدافع بعد أن لم يكن يده يد ضمان ، ولم يصدر منه تعدّ أو تفريط.

فما يستشعر من كلام شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ حيث إنّه بعد أن علّل الحكم ببعض الوجوه القابلة للمناقشة ، قال : والأجود الاعتماد على الإجماع من أنّه لولا الإجماع ، لكان محلا للتأمّل (١) ، لا يخلو من نظر ، فليتأمّل.

وأمّا إن كان الدافع هو المالك ففي إجزائه أقوال ، ثالثها : التفصيل بين ما إذا اجتهد فأعطى ، فلا ضمان ، وبين ما إذا أعطى اعتمادا على مجرّد دعوى الفقر ، أو أصالة عدم المال ، فيضمن ، ولا منافاة بين الضمان وكونه مأذونا في الدفع ، كما في سائر موارد تخلّف الطرق الظاهرية عن الواقع في الموضوعات الخارجيّة ، مثل ما لو كان عليه دين أزيد وهو لا يعرف شخصه ، فشهدت البيّنة بأنّ هذا أزيد ، فدفع إليه المال ، ثمّ انكشف الخلاف.

حجّة القول بالإجزاء مطلقا أنّه فعل المأمور به وهو الدفع إلى من يظهر منه الفقر ، إذ الاطّلاع على الباطن متعذّر ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء.

__________________

(١) كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٥٠٠.

٥٢٣

وفيه : أنّ المأمور به إنّما هو إيصال شي‌ء من ماله إلى الفقراء والمساكين ولم يحصل ، وتعذّر الاطّلاع على الباطن أوجب صحّة التعويل على هذا الظاهر ورضا الشارع به ، أي الرخصة في ترتيب أثر الواقع على هذا الظاهر ما لم ينكشف الخلاف ، كما هو الشأن في سائر الأمارات المنصوبة شرعا لتشخيص الموضوعات الخارجية ، كالبينة وإخبار صاحب اليد ، ونحوهما ، ولدي انكشاف مخالفتها للواقع يؤثّر الواقع أثره ، كما في المثال المتقدّم.

والفرق بين دفع الإمام والمالك حيث التزمنا في الأوّل بعدم الضمان دون الثاني ما تقدّمت الإشارة إليه : من أنّ حقّ الفقراء بصرفه إلى الإمام عليه‌السلام ، أو نائبه ، يتشخّص في ما صرف إليه لولايته عليهم ، فلو غصبه ثالث ، ينتقل ما يستحقّه الفقير بعينه عند ذلك الثالث ، فلو صدر من النائب تعدّ أو تفريط بحيث صارت يده عادية ، كما لو دفعه عمدا إلى غير المستحقّ ، وجب عليه ـ ما دام بقاء العين ـ أن يدفع عنها بدل الحيلولة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الدافع هو المالك ، فإنّ ما دفعه إلى الغني باسم الزكاة لم يخرج عن ملكه ، بل هو باق على ما كان عليه ، وقد كانت يده عليه يد مالكيّة ، فإن تمكّن من ارتجاعه ، لم يجب عليه ذلك ، بل يجوز له إخراج الفريضة من الباقي أصالة لا بدلا عمّا دفعه إلى الغني.

نعم ، لو قيل : إنه متى عيّن المالك زكاة ماله في عين بقصد صرفها إلى مستحقّه أو مطلقا ، تتعيّن زكاته في ما عينه ، فتبقى العين في يده أمانة حتّى يوصلها إلى مستحقّها ، اتّجه القول بنفي ضمان المالك أيضا ، كما هو مختار المصنّف وغيره ، لعين ما مرّ.

ولكنّ المبنى ضعيف ، لانتفاء ما يدلّ عليه ، كما سيأتي لذلك مزيد

٥٢٤

توضيح وتحقيق في مسألة ما لو عزلها فتلفت بلا تعدّ أو تفريط.

فالأقوى ما قوّاه في الجواهر (١) ، وشيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في مصنّفاته (٢) ـ وفاقا للمحكي عن المفيد ، وأبي الصلاح الحلبي (٣) ـ من القول بعدم الإجزاء مطلقا.

ويدلّ عليه أيضا مضافا إلى الأصل ، وعموم ما دلّ على أنّها بمنزلة الدين ، وأنّ الموضوع من الزكاة في غير موضعها بمنزلة العدم ، ومفهوم العلّة الواردة لوجوب إعادة المخالف زكاته بأنّه لم يضعها في موضعها ، خصوص مرسلة الحسين بن عثمان ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في رجل يعطي زكاة ماله رجلا ، وهو يرى أنّه معسر ، فوجده موسرا ، قال : «لا يجزئ عنه» (٤).

واستدلّ للقول بالتفصيل بين صورة الاجتهاد وعدمه ، المنسوب إلى جماعة (٥) ، بل في الجواهر لعلّه المشهور بين المتأخّرين (٦) : بأنّه أمين فيجب عليه الاستظهار.

وفحوى أو إطلاق الحسن أو الصحيح ، عن عبيد بن زرارة ، قال :قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : رجل عارف أدّى الزكاة إلى غير أهلها زمانا ، هل عليه أن يؤدّيها ثانية إلى أهلها إذا علمهم؟ قال : «نعم» قال :

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٣٢.

(٢) كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٥٠٠.

(٣) حكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٥ ، وراجع : المقنعة : ٢٥٩ ، والكافي في الفقه : ١٧٣.

(٤) الكافي ٣ : ٥٤٥ / ١ ، التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣٢ و ١٠٢ / ٢٨٩ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٥.

(٥) نسبه إليهم صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٣١.

(٦) جواهر الكلام ١٥ : ٣٣١.

٥٢٥

قلت : فإن لم يعرف لها أهلا فلم يؤدّها ، أو لم يعلم أنّها عليه ، فعلم بعد ذلك؟ قال : «يؤدّيها إلى أهلها لما مضى» قال : قلت : فإن لم يعلم أهلها ، فدفعها إلى من ليس هو لها بأهل ، وقد كان طلب واجتهد ، ثمّ علم بعد ذلك سوء ما صنع؟ قال : «ليس عليه أن يؤدّيها مرّة أخرى» (١).

وعن الشيخ في التهذيب ، أنّه قال : وعن زرارة مثله ، غير أنّه قال :إن اجتهد فقد برئ ، وإن قصّر في الاجتهاد والطلب فلا (٢).

وأورد عليه في المدارك بما لفظه : ويتوجّه على الأوّل أنّه إن أريد بالاجتهاد القدر المسوّغ لجواز الدفع ولو بسؤال الفقير ، فلا ريب في اعتباره ، إلّا أنّ مثل ذلك لا يسمّى اجتهادا ، ومع ذلك فيرجع هذا التفصيل بهذا الاعتبار إلى ما أطلقه الشيخ في المبسوط من انتفاء الضمان مطلقا.

وإن أريد به البحث عن حال المستحقّ زيادة على ذلك ، كما هو المتبادر من لفظ «الاجتهاد» فهو غير واجب إجماعا على ما نقله جماعة.

وعلى الروايتين أنّ موردهما خلاف محلّ النزاع ، لكنّهما تدلّان بالفحوى على انتفاء الضمان مع الاجتهاد في محل النزاع ، وأمّا الضمان مع انتفاء الاجتهاد فلا دلالة لهما عليه في المتنازع بوجه (٣). انتهى.

وهو جيّد ، عدا أنّ ما اعترف به من دلالة الروايتين على انتفاء الضمان مع الاجتهاد في محلّ النزاع ، لا يخلو من نظر ، لأنّ المراد بغير الأهل بحسب الظاهر الغير العارف ، فالروايتان بظاهرهما تدلّان على أنّ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٦ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٢ / ٢٩٠ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١.

(٢) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٦ ، وراجع : التهذيب ٤ : ١٠٣ / ٢٩١.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٦ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٦١.

٥٢٦

من دفع زكاته إلى غير العارف عند عدم وجدان العارف مع الطلب والاجتهاد لا بدونه أجزأه ذلك ، ولا إعادة عليه.

فإن جوّزنا العمل بهذا الظاهر ـ كما سيأتي التكلّم فيه ـ فهي مسألة أخرى لا ربط لها بصورة الخطأ في تشخيص المستحقّ الذي هو محلّ الكلام كما لا يخفى.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله : فإن لم يعلم أهلها الشبهة الموضوعيّة ، أي : لم يعرف أهلها ، فدفعها إلى من ليس لها بأهل اشتباها ، بزعم كونه أهلا ، فيتناول على هذا بإطلاقه محلّ النزاع لو لم نقل بانصرافه بشهادة السياق إلى إرادة الاشتباه من حيث كونه عارفا ، الذي كان إحرازه في تلك الأعصار محتاجا إلى الفحص والاجتهاد ، لا من حيث الفقر الذي تسمع دعواه من مدّعيه ، فيتحقّق حينئذ المعارضة بينه وبين مرسلة الحسين في مادّة اجتماعهما ، وهو الاشتباه في الأهلية من حيث الفقر مع الاجتهاد.

ولا يخفى عليك أنّ شمول المرسلة لهذا المورد أوضح من شمول الحسنة له بعد تسليم أصله ، والغضّ عمّا أشير إليه.

وعلى تقدير التكافؤ يجب الرجوع إلى الأصول والقواعد القاضية بعدم تحقّق الفراغ عن عهدة التكليف بالزكاة إلّا بوضعها في موضعها ، فالقول بعدم الإجزاء مطلقا ولو مع الاجتهاد هو الأشبه.

(وكذا) الكلام في ما (لو بان أنّ المدفوع إليه كافر أو فاسق) بناء على اشتراط العدالة فيه (أو ممّن تجب عليه نفقته ، أو هاشميّ ، وكان الدافع من غير قبيله) لاتّحاد الجميع في ما تقدم من الأدلّة ، كما اعترف به في الجواهر (١).

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٣٢.

٥٢٧

لكن عن ظاهر بعض متأخّر المتأخّرين إطباق الأصحاب هنا على عدم الضمان (١) ، فإن تمّ الإجماع فهو ، وإلّا فالقول بالضمان مطلقا عند انكشاف عدم وصول الحقّ إلى مستحقّيه سواء كان لأجل تخلّف وصف الفقر ، أو غير ذلك من الأوصاف المعتبرة فيه ، من الإيمان وغيره ، هو الأشبه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ المنساق من الأمر بصرف الزكاة إلى أهل الولاية أو العدالة ، بل وكذا إلى الفقراء والمساكين ، أو غير ذلك من المتّصفين بأوصاف لا طريق للمكلّف إلى العلم بواقعها إرادة الموصوفين بها في الظاهر ، لا على أن يكون للموصوفين بها موضوعيّة لهذا بحيث يجوز الصرف إليهم ولو مع العلم بمخالفة الظاهر للواقع ، بل من باب الطريقية لواقعة ، كما تقدّمت الإشارة إليه في أوائل المبحث.

ولكن انحصار الطريق فيه لدى العرف والعقلاء ، وتعذّر التكليف بالمتّصفين بها في الواقع لا من هذا الطريق ، أوجب صرف أدلّة التكاليف إلى إرادة الموصفين بها في الظاهر ، ولذا ينسبق من الأمر بإحضار الفقراء أو المؤمنين أو العدول أو بني هاشم مثلا ، أو الأمر بإكرامهم ، أو صرف ثلث ماله فيهم ـ في باب الوصايا والنذور ـ إرادة من كان في الظاهر مندرجا تحت هذه العناوين بالطرق الظاهريّة المقرّرة لدى العرف والعقلاء في تشخيص مثل هذه العناوين ، ومقتضاه حصول الإجزاء في الواقع بموافقة ما أدّى إليه الطرق الظاهريّة التي يعوّل عليها عرفا وشرعا في تشخيصهم.

ولا ينافي ذلك ما تقرّر في محلّه من أنّ الأمر الظاهري لا يقتضي

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٣٢.

٥٢٨

الاجتزاء بموافقته عن الواقع لدى التخلّف عنه ، بل المعذوريّة في امتثال الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، لأنّ هذا في ما إذا كان هناك أمر واقعيّ وراء هذا الذي تحقّقت إطاعته ، والمفروض هاهنا أنّ المنساق من الأمر الواقعي ـ المتعلّق بمثل هذه العناوين التي لا طريق إلى إحرازها إلّا بالطرق الظاهريّة ـ إنّما هو إرادة الخروج عن عهدته بهذا الوجه ، أي المتبادر من الأمر ـ بدفع الزكاة الى أهل الإيمان والخمس إلى بني هاشم ـ التكليف بإيصالهما إلى الموصوفين بهذين العنوانين في الظاهر أصاب أم أخطأ ، وقد أتى بما كلّف به ، فيكون مجزئا ، إلّا أن يدلّ دليل تعبّدي على خلافه.

ولا ينافي ذلك الالتزام بوجوب ارتجاع العين مع الإمكان ، لأنّ ذلك بحكم العقل بعد الالتفات إلى تخلّف الطريق عن الواقع ، وكونه قادرا على تداركه بارتجاع الحقّ وإيصاله إلى مستحقّه.

والإنصاف أنّ الدعوى المزبورة لا تخلو من وجاهة ، ولكن مقتضاها التفصيل في أوصاف المستحقّ بين ما كان من قبيل الإيمان والعدالة ، وغير ذلك من الأمور الخفيّة التي يتعذّر الاطّلاع على واقعها غالبا إلّا بمقتضى الظاهر ، وبين ما كان من قبيل الاشتراط بالحريّة ، وعدم كونه ممّن تجب نفقته عليه ، وغير ذلك ممّا لا مانع عن تعلّق التكليف بواقعة كجلّ الموضوعات الخارجيّة التي أنيط بها أحكام واقعيّة.

اللهمّ إلّا أن يتحقّق الإجماع على عدم الفرق ، كما يظهر من كلماتهم التسالم على الإجزاء في الجميع ، عدا أنّهم استثنوا من ذلك ما لو دفعها إليه بزعم كونه حرّا فبان أنّه عبده ، معلّلا ذلك بعدم تحقّق الإخراج عن الملك المعتبر في إعطاء الزكاة وهو لا يخلو من مناقشة ، ولكن الحكم موافق للأصل.

٥٢٩

ثمّ إنّ مقتضى ما قرّرناه الالتزام في المسألة الأولى أيضا ـ أي في ما لو بان أنّ المدفوع إليه غنيّ ـ بعدم الضمان ، لولا النصّ الخاصّ الدالّ عليه ، وهي مرسلة الحسين المتقدمة (١).

ولكن بعد البناء على مخالفة الضمان لقاعدة الإجزاء ، يشكل إثباته بمثل هذه المرسلة القابلة للصرف إلى صورة الاعتماد على الظنّ الناشئ من الحدس والتخمين الغير المستند إلى دعوى مدّعيه أو بيّنة وشبهها ، كما ربما يستشعر ذلك من سوق السؤال ، فالقول بنفي الضمان في غير مثل الفرض في تلك المسألة أيضا لعله أشبه ، والله العالم.

(و) من الأصناف المستحقين للزكاة (العاملون) عليها بنصّ الكتاب (وهم عمّال الصدقات) أي الساعون في تحصيلها وتحصينها بأخذ وكتابة وحساب وحفظ ونحو ذلك ، المنصوبون من قبل الإمام.

(و) قد صرّح المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وغيره بأنه (يجب أن يستكمل فيهم أربع صفات : التكليف والإيمان ، والعدالة والفقه ، و) لكن (لو اقتصر) في الأخير (على ما يحتاج إليه منه جاز).

في المدارك قال : لا ريب في اعتبار استجماع العامل لهذه الصفات ، لأنّ العمالة تتضمّن الاستئمان على مال الغير ، ولا أمانة لغير العدل.

ولقول أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في الخبر المتقدم ـ يعني صحيحة معاوية ـ الطويلة ـ الواردة في آداب المصدّق ، المنقولة عن الكافي (٢) ـ : «فإذا قبضته فلا توكّل به ، إلّا ناصحا شفيقا أمينا حفيظا».

__________________

(١) تقدمت في ص ٥٢٥.

(٢) الناقل هو العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، وراجع : الكافي ٣ : ٥٣٦ / ١ ، والوسائل ، الباب ١٤ من أبواب زكاة الأنعام ، الحديث ١.

٥٣٠

وإنّما يعتبر الفقه في من يتولاه ما يفتقر إليه ، والمراد منه معرفته بما يفتقر إليه من قدر الواجب وصفته ومصرفه ، ويختلف ذلك باختلاف حال العامل بالنسبة إلى ما يتولاه من الأعمال.

ويظهر من المصنّف في المعتبر الميل إلى عدم اعتبار الفقه في العامل ، والاكتفاء فيه بسؤال العلماء ، واستحسنه في البيان ، ولا بأس به (١). انتهى.

أقول : قد يظهر من كلماتهم التسالم على اعتبار هذه الشرائط ، فإن تمّ الإجماع عليه كما ادّعي في ما عدا الأخير منها ، فهو ، وإلّا فالأظهر إناطته بنظر الوالي ، فإن كان الإمام الأصل ، فهو أعرف بتكليفه ، ولا مجال لنا في البحث عن ذلك.

وإن كان غيره كالفقيه في زمان الغيبة إذا رأى صبيّا أو فاسقا بصيرا بالأمور ، حاذقا بأمر السياسة والرئاسة ، وجزم بكونه ناصحا شفيقا أمينا حفيظا وإن كان فاسقا غير متحرز عن جملة من المعاصي الغير المتعلّقة بعمله ، فلا مانع عن نصبه لجباية الصدقات وضبطها وكتابتها وغير ذلك ممّا يتعلق بذلك إذا رأي المصلحة في ذلك.

(و) يعتبر في العامل الذي يستحقّ من الزكاة إذا لم تكن الزكاة من الهاشميّين : (أن لا يكون هاشميّا) لأنّ زكاة غير الهاشميّين محرمة على بني هاشم ، كما يدلّ عليه : مضافا إلى العمومات التي ستعرفها في محلّها ، خصوص صحيحة العيص بن القاسم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ أناسا من بني هاشم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي ، وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٢١١ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٧١ ، والبيان : ١٩٤.

٥٣١

جعله الله عزوجل للعاملين عليها ، فنحن أولى به ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : يا بني عبد المطّلب إنّ الصدقة لا تحلّ لي ولا لكم ، ولكن قد وعدت الشفاعة» (١).

وعن الشيخ في المبسوط : أنّه حكى عن قوم جواز كون العامل هاشميّا ، لأنّه يأخذها على وجه الأجرة كسائر الإجارات (٢).

وهو ضعيف محجوج بما عرفت ، مع أنّ ما ذكره من أنّ ما يأخذه العامل يأخذه من باب الأجرة ممنوع ، بل من باب أنّ الله تعالى جعل للعاملين عليها سهما من الصدقة باعتبار عمله ، فعلمه شرط في صيرورته مستحقّا لهذا السهم ، نظير استحقاق المقاتلين سهامهم من الغنيمة ، وهي ليست بأجرة ، بل حقّا ناشئا من عملهم متعلّقا بالمال الذي حصل بأيديهم من فعلهم.

هذا ، مضافا إلى شذوذ هذا القول ، بل لم يعرف كون قائله منّا ، بل عن العلّامة في المختلف أنّه قال : والظاهر أنّ القوم الذي نقل الشيخ عنهم من الجمهور ، إذ لا أعرف قولا لعلمائنا في ذلك (٣).

(وفي اعتبار الحريّة تردّد).

في المدارك قال : اختلف الأصحاب في اعتبار هذا الشرط ، فذهب الشيخ إلى اعتباره.

واستدلّ له في المعتبر بأنّ العامل يستحقّ نصيبا من الزكاة ، والعبد لا يملّك ومولاه لم يعمل.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٨ / ١ ، التهذيب ٤ : ٥٨ / ١٥٤ ، الوسائل ، الباب ٢٩ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٢) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢١٢ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٤٨.

(٣) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢١٢ ، وراجع : المختلف ٣ : ٩٢ ، المسألة ٦٥.

٥٣٢

ثمّ أجاب عنه بأنّ عمل العبد كعمل المولى.

وقوّى العلّامة في المختلف عدم اعتبار هذا الشرط ، لحصول الغرض بعمله ، ولأنّ العمالة نوع إجارة ، والعبد صالح لذلك مع إذن سيّده.

ويظهر من المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر الميل إليه ، ولا بأس به (١). انتهى.

وهو جيّد ، خصوصا على ما نفيا البعد عنه من جواز ملك العبد إذا كان بإذن سيّده ، اللهمّ إلّا أن يتمسّك لعدم جواز صرف سهم (الْعامِلِينَ عَلَيْها) إليه بإطلاق قوله ـ عليه‌السلام ـ في حديث إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «ولا يعطى العبد من الزكاة شيئا» (٢).

ويمكن الخدشة فيه بأن المنساق منه الإعطاء مجّانا من حيث الفقر كما يومئ إليه قوله ـ عليه‌السلام ـ في خبر عبد الله بن سنان الواردة في المملوك : «ولو احتاج لم يعط من الزكاة شيئا» (٣) فليتأمّل.

(والإمام مخيّر بين أن يقرّر لهم جعالة مقدّرة أو اجرة عن مدة مقدرة) وبين أن لا يجعل لهم شيئا من ذلك فيعطيهم ما يراه ، ولعلّ الأخير أولى ، كما يدلّ عليه ما عن الكليني ـ في الحسن ـ عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت له : ما يعطى للمصدّق؟ قال : «ما يرى الإمام ولا يقدّر له شي‌ء» (٤).

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٤٨ ، والمعتبر ٢ : ٥٧١ ، ومختلف الشيعة ٣ : ٩٩ ، المسألة ٧٥.

(٢) الفقيه ٣ : ١٤٦ / ٦٤٤ ، التهذيب ٨ : ٢٢٥ / ٨٠٨ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ٦.

(٣) الكافي ٣ : ٥٤٢ / ١ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦٣ / ١٣ ، الوسائل ، الباب ٢٣ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣.

٥٣٣

ويحتمل أن يكون المراد بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ولا يقدّر له شي‌ء» أنّه لم يجعل له في الشرع حدّ مضبوط ، والله العالم.

(و) الثالث من الأصناف أو الرابع : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ).

وقد اختلفت الكلمات في شرح (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) وأنّ التأليف الموجب لاستحقاق هذا السهم هل هو مخصوص بالكفّار ، أم شامل للمسلمين أيضا؟

ففي المتن قال : (وهم الكفّار الذين يستمالون إلى الجهاد ، ولا نعرف مؤلّفة غيرهم).

وعن الشيخ في المبسوط نحوه بأدنى اختلاف في التعبير ، قال في ما حكي (١) عنه : (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) عندنا هم الكفّار الذين يستمالون بشي‌ء من مال الصدقات إلى الإسلام ، ويتألّفون ليستعان بهم على قتال أهل الشرك ، ولا نعرف لأصحابنا مؤلّفة أهل الإسلام.

وقد حكي عن كثير من الأصحاب ، بل ربّما نسب إلى المشهور تفسيره بالذين يستمالون من الكفّار استعانة منهم على قتال أهل الحرب (٢).

وحكي عن المفيد ـ رحمه‌الله ـ أنّه قال : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ضربان : مسلمون ومشركون (٣).

وربّما استظهر من كلام ابن الجنيد اختصاص التأليف بالمنافقين ، حيث قال ـ على ما حكي (٤) عنه ـ : (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) من أظهر الدين

__________________

(١) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢١٤ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٤٩.

(٢) الحاكي والناسب هو : البحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ١٧٥.

(٣) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢١٤ ، والمحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ٥٧٣.

(٤) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢١٤ ، والعلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ٣ : ٧٧ ، المسألة ٤٩.

٥٣٤

بلسانه ، وأعان المسلمين وإمامهم بيده ، وكان معهم إلّا قلبه.

واختار في الحدائق اختصاصه بمن ظاهره الإسلام (١) ، استنادا إلى ما يتراءى من الأخبار الواردة في هذا الباب ، فقد عقد في الكافي لذلك بابا ، فقال : باب المؤلّفة قلوبهم (٢) ، وأورد فيها جملة من الأخبار.

منها : ما رواه ـ في الصحيح أو الحسن ـ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن قول الله عزوجل «وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» (٣) قال : «هم قوم وحّدوا الله عزوجل ، وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله ، وشهدوا أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم في ذلك شكّاك في بعض ما جاء به محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأمر الله نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أن يتألّفهم بالمال والعطاء ، لكي يحسن إسلامهم ، ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقرّوا به ، فإنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم حنين تألّف رؤساء العرب من قريش ومضر ، منهم أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري ، وأشباههم من الناس ، فغضبت الأنصار ، واجتمعت إلى سعد بن عبادة ، فانطلق بهم إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالجعرانة (٤) ، فقال : يا رسول الله أتأذن لي في الكلام؟ فقال : نعم ، فقال : إن كان هذا الأمر في هذه الأموال التي قسّمت بين قومك شيئا أنزل الله ، رضينا ، وإن كان غير ذلك لم نرض».

قال زرارة : وسمعت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ يقول : «فقال رسول الله

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٧٧.

(٢) الكافي ٢ : ٤١٠.

(٣) التوبة ٩ : ٦٠.

(٤) الجعرانة : موضوع بين مكّة والطائف على سبعة أميال من مكة. مجمع البحرين ٣ : ٢٤٧.

٥٣٥

ـ صلّى ، الله عليه وآله ـ : يا معشر الأنصار أكلّكم على قول سيّدكم سعد؟فقالوا : سيّدنا الله ورسوله ، ثم قالوا في الثالثة : نحن على مثل قوله ورأيه».

قال زرارة : وسمعت أبا جعفر يقول : «فحط الله نورهم ، وفرض للمؤلّفة قلوبهم سهما في القرآن» (١).

وما رواه أيضا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام. قال : «(الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم وحّدوا الله وجعلوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم ، إنّ محمّدا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يتألّفهم ويعرفهم كيما يعرفوا ويعلّمهم» (٢).

وعنه أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «(الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم» (٣).

وما رواه عن موسى بن بكير (٤) عن رجل قال : قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «ما كانت (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قطّ أكثر منهم اليوم ، وهم قوم وحّدوا الله تعالى ، وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قلوبهم ، وما جاء به ، فتألّفهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتألّفهم المؤمنون بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكيما يعرفوا» (٥).

وعن علي بن إبراهيم في تفسيره نقلا عن العالم في (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ، قال : «هم قوم وحّدوا الله ، وخلعوا عبادة من دون الله ، ولم تدخل المعرفة قلوبهم أنّ محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان رسول الله ـ صلّى

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤١١ / ٢.

(٢) الكافي ٢ : ٤١٠ / ١.

(٣) الكافي ٢ : ٤١١ / ٣.

(٤) في المصدر : موسى بن بكر.

(٥) الكافي ٢ : ٤١٢ / ٥.

٥٣٦

الله عليه وآله ـ يتألّفهم ، ويعلّمهم ويعرّفهم كيما يعرفوا ، فجعل لهم نصيبا في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا» (١).

في الحدائق بعد نقل الأخبار المزبورة قال : وهذه الأخبار ـ كما تراها ـ ظاهرة في أنّ (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم مسلمون قد أقرّوا بالإسلام ودخلوا فيه ، لكنّه لم يستقر في قلوبهم ولم يثبت ثبوتا راسخا ، فأمر الله تعالى نبيّه بتألّفهم بالمال ، لكي تقوى عزائمهم ، وتشتدّ قلوبهم على البقاء على هذا الدين ، فالتأليف إنّما هو لأجل البقاء على الدين والثبات عليه ، لا لما زعموه من الجهاد كفّارا كانوا أو مسلمين ، وأنّهم يتألّفون بهذا السهم للجهاد (٢). انتهى.

أقول : الذي يظهر بالتدبّر في الآثار والأخبار ، وكلمات الأصحاب أنّ (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) الذين جعل لهم نصيبا من الصدقات أعمّ من الجميع ، بل يتناول أيضا الكفّار الذين يقصد بتأليف قلوبهم دخولهم في الإسلام ، ولكن لا يترتّب على تحقيق ذلك ثمرة مهمّة بعد ما تقرّر من أنّه يجوز للوالي أن يصرف من الزكاة إلى مثل هذه الوجوه التي فيها تشييد الدين ، وأنّه لا يجب التوزيع والبسط على الأصناف ، غاية ما في الباب : أنّه لو لم يكن الكافر الذي يتألّف قلبه إلى الإسلام أو إلى الجهاد مندرجا في موضوع (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) الذين جعل لهم هذا السهم ـ كما زعمه صاحب الحدائق ـ اندرج ما يصرف إليه بهذا الوجه في سهم سبيل الله ، كما ستعرف.

وكذا البحث عن سقوط هذا السهم بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٤٩ / ١٢٩ ، وراجع تفسير القمي ١ : ٢٩٨.

(٢) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٧٧.

٥٣٧

بناء على اختصاصه بالكفّار الذين يستمالون إلى الجهاد ، كما لا يخفى.

(و) من جملة مصارف الزكاة الصرف (في الرقاب).

وتغيير الأسلوب بإقحام كلمة «في» باعتبار أنّ هذا الصنف لا يستحقّون ملك الزكاة بل الصرف في فكاك رقابهم.

(وهم) عند المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وغيره (١) ، بل لعلّه الأشهر أو المشهور (ثلاثة : المكاتبون ، والعبيد الذين تحت الشدّة ، والعبد يشترى ويعتق وإن لم يكن في شدّة ، لكن بشرط عدم المستحقّ).

في المدارك قال : أمّا جواز الدفع من هذا السهم إلى المكاتبين والعبيد إذا كانوا في ضرّ وشدّة فهو قول علمائنا وأكثر العامّة ، لظاهر قوله تعالى : «وَفِي الرِّقابِ» (٢) والمراد إزالة رقّها فيتناول الجميع.

قال في المعتبر : وإنّما شرطنا الشدّة والضرّ ، لما رواه الأصحاب عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، في الرجل يجتمع عنده الزكاة يشتري بها نسمة يعتقها ، فقال : «إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم» ثم قال :«إلّا أن يكون عبدا مسلما في ضرورة يشتريه ويعتقه».

وهذه الرواية أوردها الشيخ ـ في الصحيح ـ عن عمرو بن أبي نصر عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ (٣) انتهى ما في المدارك.

أقول : الظاهر أنّ روايتها عن عمرو بن أبي نصر اشتباه نشأ من تحريف النسّاخ ، كما نبّه عليه في الحدائق حيث ذكر أنّ هذه الرواية رواها الشيخ في التهذيب عن الكافي عن عمرو بن أبي نصر ، مع أنّ

__________________

(١) كيحيى بن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع : ١٤٤ ، والعلامة الحلّي في نهاية الاحكام ٢ : ٣٨٨ ، والشهيد في البيان : ١٩٥ ، والبحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ١٨١.

(٢) التوبة ٩ : ٦٠.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ٢١٦ و ٢١٧ وراجع : المعتبر ٢ : ٥٧٤.

٥٣٨

الموجود في الكافي عن عمرو عن أبي بصير ، وقد اغترّ صاحب المدارك بنقل صاحب التهذيب لها بهذه الكيفيّة ، فنظمها في الصحيح (١).

أقول : أمّا متن الرواية ، ففي الكافي : أحمد بن محمّد عن علي بن الحكم عن عمرو عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يجتمع عنده من الزكاة الخمسمائة والستمائة يشتري بها نسمة ويعتقها ، فقال : «إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم» ثمّ مكث مليّا ، ثم قال :«إلّا أن يكون عبدا مسلما في ضرورة فيشتريه ويعتقه» (٢).

ويظهر من الوسائل (٣) أنّ الشيخ في التهذيب رواها عن الكافي هكذا.

وكيف كان فقضيّة الجمع بين هذه الرواية وبين الآية الشريفة وغيرها من الروايات التي دلّت بظاهرها على جواز صرف الزكاة في فكّ الرقاب تقييد الرقاب بالإسلام والضرورة التي عبّر عنها الأصحاب بكونها تحت الشدة.

إن قلت : إنّ هذه الرواية بمقتضى التعليل الوارد فيها إنّما تقتضي المنع عن صرف الجميع في فكّ رقبة واحدة ، فلا تدلّ على المنع عن صرف سهم الرقاب فيه من غير اشتراطه بالضرورة مع توزيع الباقي على مستحقيه ، بل مشعرة بخلافه.

قلت : ستعرف أنّ الأصناف المذكورين في الآية مصارف للزكاة ، لا أنّ لكلّ صنف منهم سهما مخصوصا به ، وإلّا لم يكن صيرورة بعض

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٨٢.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٧ / ٢.

(٣) راجع : الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب المستحقين للزكاة ، ذيل الحديث ٢.

٥٣٩

من صنف في شدّة مسوّغا لصرف الحقّ المخصوص بمن عداه فيه ، فليتأمّل.

وأمّا جواز شراء العبد من الزكاة وعتقه وإن لم يكن في شدّة بشرط عدم المستحقّ ، فقال في محكي المعتبر أيضا : أنّ عليه فقهاء الأصحاب (١).

ويدلّ عليه ما عن الكليني والشيخ ـ في الموثّق ـ عن عبيد بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم ، فلم يجد موضعا يدفع ذلك إليه ، فنظر إلى مملوك يباع في من يريده (٢) فاشتراه بتلك الألف الدرهم التي أخرجها من زكاته فأعتقه ، هل يجوز ذلك؟ قال : «نعم لا بأس بذلك» قلت : فإنّه لما أن أعتق فصار حرّا ، اتّجر واحترف فأصاب مالا ثمّ مات وليس له وارث ، فمن يرثه إذا لم يكن له وارث؟ قال : «يرثه الفقراء المؤمنون الذين يستحقّون الزكاة ، لأنّه إنّما اشتري بمالهم» (٣).

هذا ، مع أنه لا منافاة بينه وبين الرواية السابقة الدالّة على اشتراط الضرورة فيه ، لأنّها إنما دلّت عليه مع وجود المستحقّ لا مطلقا ، فيتّجه حينئذ الاستدلال له أيضا بالإطلاقات المقتصر في تقييدها على صورة وجود المستحقّ.

وأمّا جواز صرفها في المكاتب ، فالظاهر عدم الخلاف فيه في الجملة ، بل ربّما ادّعي استفاضة نقل الإجماع عليه (٤).

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢١٧ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٧٥.

(٢) في التهذيب : يزيد.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥٧ / ٣ ، التهذيب ٤ : ١٠٠ / ٢٨١ ، الوسائل ، الباب ٤٣ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

(٤) كما في كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري ٥٠١.

٥٤٠