مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

والمراد بحصّة السلطان هاهنا بحسب الظاهر : مطلق الخراج الذي وضعها السلطان على الأرض ، سواء كان بحصّة من حاصلها التي يسمّى في عرف الفقهاء بالمقاسمة أم بغيرها ، كما حكي عن غير واحد التصريح بذلك.

ففي الحدائق قال : لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في استثناء حصّة السلطان ، والمراد بها ما يجعله على الأرض الخراجيّة من الدراهم ، ويسمّى خراجا ، أو حصّة من الحاصل ، ويسمّى مقاسمة (١).

وفي المسالك قال : المراد بحصّة السلطان ما يأخذه على الأرض على وجه الخراج ، أو الأجرة ولو بالمقاسمة (٢).

وعن جامع المقاصد : المراد بحصة السلطان خراج الأرض أو قسمتها (٣).

وربّما يؤيّد ذلك ما عن بعض الأصحاب أنّه عبّر هاهنا بالخراج بدل الحصّة (٤).

وعن آخر : أنّه عبّر بهما ، فقال : بعد الخراج وحصّة السلطان (٥) ، إلى غير ذلك من كلماتهم المفصحة عن ذلك.

ولكن في التذكرة قال : لو ضرب الإمام على الأرض الخراج من غير حصّة ، فالأقرب وجوب الزكاة في الجميع ، لأنّه كالدين (٦). انتهى.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٢٣.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ٣٩٣.

(٣) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ١٠٤ ، وانظر : جامع المقاصد ٣ : ٢٢.

(٤) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ١٠٤ ، وانظر : جامع المقاصد ٣ : ٢٢.

(٥) كما في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ١٠٣ وجواهر الكلام ١٥ : ٢٢٥.

(٦) تذكرة الفقهاء ٥ : ١٥٦.

٣٦١

وفي الجواهر ، بعد نقل هذه العبارة عن التذكرة ، أورد عليها بقوله :وهو كما ترى محجوج بظاهر النصّ والفتوى ، ولا أقلّ من أن يكون الخراج كاجرة الأرض التي لا كلام عندهم في أنّها من المؤن (١). انتهى.

واستدلّ للمدّعى ـ مضافا إلى الإجماع المستفيض نقله ـ بصحيحة أبي بصير ومحمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ أنّهما قالا له : هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ فقال : «كلّ أرض دفعها إليك السلطان ، فما حرثته فيها فعليك فيما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه ، وليس على جميع ما أخرج الله منها العشر ، إنما عليك العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك» (٢).

وفي بعض النسخ : «فتاجرته» بدل «فما حرثته».

وخبر صفوان والبزنطي ، قالا : ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته ، فقال : «من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ممّا سقت السماء والأنهار ، ونصف العشر ممّا كان بالرشاء فيما عمّروه منها وما لم يعمّروه منها أخذه الإمام فقبله ممّن يعمّره ، وكان للمسلمين ، وعلى المتقبّلين في حصصهم العشر ونصف العشر ، وليس في أقلّ من خمسة أوساق شي‌ء من الزكاة ، وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بخيبر ، قبل سوادها وبياضها يعني أرضها ونخلها ، والناس يقولون :لا تصلح قبالة الأرض والنخل وقد قبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خيبر ، وعلى المتقبّلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٢٢٦.

(٢) الكافي ٣ : ٥١٣ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٣٦ / ٩٣ ، الإستبصار ٢ : ٢٥ / ٧٠ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب زكاة الغلات ، الحديث ١.

٣٦٢

حصصهم».

ثمّ قال : «إنّ أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر ، وأنّ أهل مكّة دخلها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عنوة ، وكانوا أسراء في يده فأعتقهم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء» (١).

وهاتان الروايتان صريحتان في إخراج الخراج قبل الزكاة.

ولكن قد يستشعر من ألفاظ الخبرين ، كقوله ـ عليه‌السلام ـ في الخبر الأوّل : «بعد مقاسمته لك» ووقوع التعبير في السؤال بلفظ «المزارعة» وفي الخبر الثاني : «العشر ونصف العشر في حصصهم» : كون المفروض فيهما وقوع القبالة بحصّة من حاصل الزرع والنخل ، وهذا ممّا يسمّى في عرف الفقهاء بالمقاسمة ، ولا شبهة في أنّ حصّة السلطان المأخوذة بعنوان المقاسمة لا تجب زكاتها على المتقبّل ، لأنّها كالحصّة من المزارعة التي يستحقّها مالك الأرض ، فلا تدخل ذلك (٢) في ملك المتقبّل ، كي يتوهّم وجوب زكاتها عليه.

وهذا بخلاف ما يأخذه السلطان بعنوان الخراج الذي هو لدى التحقيق عبارة عن اجرة الأرض المتعلّقة بذمّة المستأجر ، فيكون حاصل نمائها جميعه للمتقبّل ، وما يدفع منه إلى السلطان يقع بدلا عن حقّه لا عنه.

فلو قلنا بانصراف الخبرين بواسطة الألفاظ المزبورة إلى إرادة الحكم في صورة وقوع القبالة على سبيل المقاسمة ، أشكل الاستدلال بهما لعموم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥١٢ ـ ٥١٣ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٣٨ / ٩٦ ، الإستبصار ٢ : ٢٥ / ٧٣ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ١.

(٢) الظاهر : تلك. بدل ذلك.

٣٦٣

المدّعى من عدم وجوب الزكاة إلّا بعد إخراج حصّة السلطان بمعناها الشامل لكلا القسمين ، لما عرفت من الفرق بينهما فيما هو مناط الحكم ، فلا يصحّ مقايسة الخراج بالمقاسمة ، ولكن دعوى الانصراف قابلة للمنع ، فليتأمّل.

واستدلّ له أيضا بما عن الفقه الرضوي : «وليس في الحنطة والشعير شي‌ء إلى أن يبلغ خمسة أوسق ، والوسق ستّون صاعا ، والصاع أربعة أمداد ، والمدّ مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف ، فإذا بلغ ذلك وحصل بعد خراج السلطان ومئونة العمارة والقرية أخرج منه العشر إن كان سقي بماء المطر أو كان بعلا ، وإن كان سقي بالدلاء ففيه نصف العشر ، وفي التمر والزبيب مثل ما في الحنطة والشعير» (١).

وفي الحدائق ، بعد أن نقل هذه العبارة دليلا للقول باستثناء المئونة مطلقا ، قال : وبهذه العبارة عبّر الصدوق في الفقيه.

ومنه يظهر أنّ مستنده في الحكم المذكور إنّما هو هذا الكتاب (٢).

أقول : وحكي عن الهداية والمقنع والمقنعة أيضا التعبير بنحو ما في الفقيه ، من استثناء خراج السلطان ومئونة ألقيه (٣). فكأنّه أريد بـ «مئونة القرية» ما له دخل في تحصيل الغلّة ، أي مئونة الزرع الحاصل في القرية من حيث حصوله فيها ، فإنّ أرباب القرى يعاملون غالبا مع من يزرع في قريتهم معاملة السلطان مع رعاياه في وضع الخراج عليهم ،

__________________

(١) أورده صاحب الحدائق فيها ١٢ : ١٢٥ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا ـ عليه‌السلام ـ : ١٩٧.

(٢) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٢٥ ، وانظر : الفقيه ٢ : ١٨ ـ ١٩.

(٣) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٣ ، كتاب الزكاة ، ص ٩٨ ، وانظر : المقنع والهداية (ضمن الجوامع الفقهية) : ١٣ و ٥٤ ، والمقنعة : ٢٣٩.

٣٦٤

والمراد بـ «مئونة العمارة» بحسب الظاهر ما كان من قبيل كري (١) الأنهار ونحوه ممّا يجعل الأرض عامرة.

وكيف كان ، فالعبارة المزبورة كالنص في عدم وجوب الزكاة إلّا بعد خراج السلطان مطلقا وإن كان من جنس الدراهم ، ولو باعتبار اندراج هذا القسم منه في المئونة التي تدلّ هذه العبارة على استثنائها بالفحوى.

ولكن لم يثبت لدينا حجّية الرضوي ، فيشكل الاعتماد عليه.

اللهمّ إلّا أن يجعل الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة المحقّقة جابرة لضعف سنده ، وهو لا يخلو من الإشكال.

ولكن قد أشرنا في غير موضع إلى أنّه وإن لم يثبت عندنا كون الفقه الرضوي من الإمام ـ عليه‌السلام ـ ولكنّه لا مجال للارتياب في كونه ـ كفتاوي عليّ بن بابويه التي كانت مرجعا للشيعة عند إعواز النصوص ـ تعبيرا عن مضامين أخبار معتبرة لدى مصنّفه.

فوقوع هذه العبارة في عبارة الرضوي المعتضدة بورودها في الفقيه والهداية والمقنع والمقنعة التي من شأنها التعبير بمتون الأخبار ، خصوصا مع ما فيها من استثناء «مئونة القرية» التي يمتنع صدور مثله من مثل الصدوق لو لا متابعة النصّ ، يورث الجزم بوصول رواية بهذا المضمون إليهم معتبرة لديهم.

وكفى باستكشاف وجود مثل هذه الرواية من مثل هذه العبارة لإثبات مثل هذا الفرع الذي استفيض نقل الإجماع عليه معتضدا بالشهرة المحقّقة التي قد يدّعى كونها بنفسها كافية في الكشف عن وصول دليل معتبر إليهم ، مع اعتضاد ذلك كلّه بالمؤيّدات التي سنذكرها في استثناء

__________________

(١) كريت النهر : حفرته. الصحاح ٦ : ٢٤٧٢ ، القاموس المحيط ٤ : ٣٨٢.

٣٦٥

المئونة ، فلا ينبغي الاستشكال في استثناء خراج السلطان مطلقا ولو لم نقل به في سائر المؤن أيضا ، والله العالم.

ثمّ لا يخفى عليك أن ليس المراد بالسلطان خصوص السلطان العادل ، بل أعمّ منه ومن المخالفين الذين كانوا يدّعون الخلافة والولاية على المسلمين لا عن استحقاق ، كما هو الشأن بالنسبة إلى الموجودين حال صدور الأخبار.

وهل يعم سلاطين الشيعة الذين لا يدّعون الإمامة؟ الظاهر ذلك ، فإنّ المنساق من إطلاق السلطان إرادة مطلقه ، بل كلّ متغلّب مسئول على جباية الخراج والصدقات من غير التفات إلى مذهبه ، كما يؤيّد ذلك : ما جرى عليه سيرة المسلمين في عصر الرضا ـ عليه‌السلام ـ من المعاملة مع المأمون معاملة غيره ممّن قد مضى قبله من سلاطين الجور المدّعين للخلافة عن استحقاق.

ولو أخذ الجائر زائدا عن الخراج ظلما ، ففي المسالك قال : لا يستثنى الزائد إلّا أن يأخذه قهرا بحيث لا يتمكّن من منعه سرّا وجهرا ، فلا يضمن حصّة الفقراء (١).

أقول : ما ذكره من عدم استثناء الزائد لدى تمكّنه من عدم الدفع إليه ، وعدم ضمانه حصّة الفقراء لدى الأخذ منه قهرا ، ممّا لا ينبغي الاستشكال فيه.

ولكنّ الإشكال [في أنّه] (٢) لدى عدم قدرته على الامتناع هل يعتبر النصاب بعده ، كما في مقدار الخراج المعتاد أم قبله؟ كما لو غصب هذه

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٣٩٣.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

٣٦٦

الزيادة غاصب بعد بدوّ صلاحه.

والذي يقوي في النظر : الأوّل ، خصوصا إذا أخذت الزيادة من نفس الغلّة ، إذ المنساق من قوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنما العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته» (١) العموم ، خصوصا بعد الالتفات إلى أنّ التعدّي في حصّة الجائر غير عزيز.

وهل يلحق بحصّة السلطان ما يأخذه الجائر من الأراضي الغير الخراجية ، كالموات وأرض الصلح والأنفال؟ الظاهر ذلك ، لجريان السيرة من صدر الإسلام على المعاملة مع الجائر معاملة السلطان العادل في ترتيب أثر الخراج على ما يأخذه بهذا العنوان ولو من غير الأرض الخراجيّة.

ولو منعنا هذه السيرة أو صحتها ـ أي كشفها عن إمضاء المعصوم ـ فهو من المئونة التي سيأتي الكلام فيها ، وإن كان الغالب على الظنّ أنّ مراد الأصحاب بحصّة السلطان في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة ما يعمّه ، والله العالم.

وأمّا وجوب الزكاة فيما بقي في يده بعد إخراج الخراج إذا كان بالغا للنصاب ، فلا خلاف فيه بيننا ، بل عن جملة من الأصحاب ، منهم :المصنّف في المعتبر ، والعلّامة في التذكرة : دعوى الإجماع عليه (٢).

بل في الحدائق ، بعد أن ادّعى إجماع الأصحاب عليه ، قال : وهو المشهور بين الجمهور أيضا.

ثم قال : ولم ينقل الخلاف هنا إلّا عن أبي حنيفة ، فإنّه ذهب إلى

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥١٣ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٣٦ / ٩٣ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ١.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٢٣ ، وانظر : المعتبر ٢ : ٥٤٠ ، وتذكرة الفقهاء ٥ : ١٥٥ ، المسألة ٩٠.

٣٦٧

أنّه لا زكاة فيها بعد أخذ الخراج (١).

ويدلّ عليه صريحا مضافا إلى الإجماع ، صحيحة أبي بصير ومحمّد بن مسلم ، ورواية صفوان والبزنطي ، والرضوي المتقدّمات (٢).

ولكن قد ورد في عدّة روايات ما ينافي ذلك ، منها : صحيحة رفاعة ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الرجل له الضيعة فيؤدّي خراجها ، هل عليه فيها عشر؟ قال : «لا» (٣).

وروايته الأخرى عنه أيضا ، قال : سألته عن الرجل يرث الأرض أو يشتريها فيؤدّي خراجها إلى السلطان ، هل عليه العشر؟ قال : «لا» (٤).

ورواية أبي كهمش عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «من أخذ منه السلطان الخراج ، فلا زكاة عليه» (٥).

ورواية سهل اليسع ، أنّه حيث أنشأ «سهل‌آباد» سأل أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ عمّا يخرج منها ما عليه؟ فقال : «إن كان السلطان يأخذ خراجه فليس عليك شي‌ء ، وإن لم يأخذ السلطان منك شيئا فعليك إخراج عشر ما يكون فيها» (٦).

وهذه الروايات بعد شذوذها وموافقتها للمحكي عن أبي حنيفة ، لا تصلح معارضة لما عرفت.

وفي الحدائق ، بعد أن ذكر رواية أبي كهمش ، قال : وحملها الشيخ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٢٧.

(٢) تقدّمت في صفحة ٣٦٢ و ٣٦٤.

(٣) التهذيب ١ : ٣٧ / ٩٤ ، الإستبصار ٢ : ٢٥ / ٧١.

(٤) الكافي ٣ : ٥٤٣ / ٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ٢.

(٥) التهذيب ٤ : ٣٧ / ٩٥ ، الإستبصار ٢ : ٢٥ / ٧٢ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ٣.

(٦) الكافي ٣ : ٥٤٣ / ٥ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ١.

٣٦٨

على الأرضين الخراجيّة ، فيفهم منه حينئذ القول بعدم وجوب الزكاة فيها ، كما هو المنقول عن أبي حنيفة.

ثم ذكر سائر الروايات المزبورة ، وقال : والمنقول عن الشيخ حمل هذه الأخبار على نفي الزكاة في الحصّة التي يأخذها السلطان بعنوان الخراج ، فيصير حاصل المعنى : أنّ العشر لا يثبت في غلّة الضيعة بكمالها (١).

أقول : وكأنّه لم يكن عند صاحب الحدائق وغيره ممّن فهم من كلام الشيخ موافقة أبي حنيفة من نفي الزكاة في الأرضين الخراجيّة ، كتاب التهذيب ، أو لم يلاحظوا منه إلّا ما جرى ذكره في كلام الشيخ توطئة للجواب عن الأخبار النافية للزكاة على من أخذ السلطان منه الخراج ببيان مورد هذه الأخبار.

فإنّه بعد أن استدلّ لما ذكره المفيد من أنّه لا زكاة على غلّة حتّى تبلغ حدّها ما يجب فيه الزكاة بعد الخرص والجذاذ وخروج مئونتها وخراج السلطان : بصحيحة أبي بصير ومحمّد بن مسلم ـ المتقدمة (٢) ـ التي وقع فيها التصريح بأنّ كلّ أرض دفعها إليك السلطان ليس على جميع ما أخرج الله منها العشر ، إنّما العشر فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك ، أجاب عن الأخبار المنافية له الدالّة بظاهرها على نفي الزكاة مطلقا بما ملخّصه :أنّ هذه الأخبار موردها الأرضون الخراجيّة ، والأرضون الخراجيّة لا تثبت الزكاة في جميع ما أخرج الله منها ، بل فيما يبقى له في يده ، فيكون قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا زكاة على من أخذ السلطان الخراج منه» يعني لا زكاة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٢ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٢) تقدمت في ص ٣٦٢.

٣٦٩

عليه لجميع ما أخرجته الأرض وإن كان يلزمه فيما يبقى في يده (١). انتهى ملخّصا.

وهو توجيه وجيه ، ولكن قد يأبى عنه بعض تلك الأخبار إن لم يكن جميعها ، ولكنّه ـ قدس‌سره ـ قد تصدّى لتوجيه ما لا يقبل هذا الحمل بوجه آخر ذكره جوابا عمّا في مرسلة ابن بكير من بعض الفقرات الغير القابل لهذا الحمل ، فقال ما لفظه :فأمّا ما رواه عليّ بن الحسن بن فضّال ، عن أخويه عن أبيهما ، عن عبد الله بن بكير ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال :«في زكاة الأرض إذا قبّلها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، أو الإمام بالنصف أو الثلث أو الربع فزكاتها عليه ، وليس على المتقبّل زكاة إلّا أن يشترط صاحب الأرض أنّ الزكاة على المتقبّل ، فإن اشتراط فإنّ الزكاة عليهم ، وليس على أهل الأرض اليوم زكاة إلّا على من كان في يده شي‌ء ممّا أقطعه الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ».

فليس هذا الخبر منافيا لما ذكرناه ، لأنّ المراد بقوله : «وليس على المتقبّل زكاة» أنّه ليس عليه زكاة جميع ما خرج من الأرض وإن كان يلزمه زكاة ما يحصل في يده بعد المقاسمة.

والذي يدلّ على ما قلناه الخبر الذي قدّمنا عن محمّد بن مسلم وأبي بصير عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال في حديثه : «وليس على جميع ما أخرج الله منها العشر ، وإنّما العشر عليك فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك» فكان هذا الخبر مفصّلا ، والخبر الأوّل مجملا ، والحكم

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٣٧ ذيل الحديث ٩٥.

٣٧٠

بالمفصّل على المجمل أولى من الحكم بالمجمل على المفصّل.

فأمّا ما تضمّن هذا الحديث من قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وليس على أهل الأرضين اليوم زكاة» فإنّه قد رخّص اليوم لمن وجبت عليه الزكاة وأخذ منه ذلك السلطان الجائر أن يحتسب به من الزكاة وإن كان الأفضل إخراجه ثانيا ، لأنّ ذلك ظلم ظلم به (١). انتهى.

أقول : يدلّ على جواز احتساب ما يأخذ الجائر من الزكاة أخبار كثيرة سيأتي التعرّض لنقل بعضها إن شاء الله ، ولكنّ المراد بتلك الأخبار بحسب الظاهر ما يأخذه بعنوان الزكاة لا مطلقا ، فيشكل توجيه هذه الأخبار بالحمل على احتساب ما يأخذه الجائر من الزكاة ، فإنّ هذه الأخبار إ في إرادة نفي الزكاة على من أخذ منه الجائر الخراج بعنوان كونه خراجا لا صدقة.

نعم ، يحتمل قويّا أن يكون نفي الزكاة عليه بملاحظة أنّ الظاهر من حال السلطان الذي يقبّل الأرض على النصف أو الثلث مثلا : إرادة المعاملة مع الزارع على أن يدفع إليه هذا المقدار عن جميع ما يستحقّه من الزرع الحاصل في هذه الأرض أعمّ من الخراج والزكاة ، فيكون تقبيله بهذا المقدار في قوّة الاشتراط بأن تكون زكاته عليه ، أي : يكون العشر أيضا داخلا في جملة ما يأخذه ، إلّا أن يصرّح بخلافه بأن يشترط زكاته على المتقبّل ، كما يومئ إلى ذلك الموثّقة المزبورة.

وكيف كان ، فلو لم تكن الأخبار المزبورة جارية مجرى التقيّة ، لكان ما ذكرناه في توجيهها من أوجه المحامل ، إن قلنا بصحّة احتساب ما يأخذه الجائر من الزكاة ، كما هو الأظهر ، وسيأتي تحقيقه في المسألة

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٣٨ ـ ٣٩ ، والحديث رقم ٩٧.

٣٧١

الاولى من مسائل القسم الرابع إن شاء الله.

(و) كما لا تجب الزكاة إلّا بعد إخراج حصّة السلطان ، كذا لا تجب إلّا بعد إخراج (المؤن كلّها على الأظهر) لدى المصنّف وغيره (١) ، بل المشهور ، كما ادّعاه غير واحد (٢) ، بل في مفتاح الكرامة ، بعد أن نقل القول به عن كثير من كتب القدماء والمتأخّرين ، وعن جملة منها نسبته إلى المشهور ، قال : بل لو ادّعى مدّعى الإجماع ، لكان في محلّه ، كما هو ظاهر الغنية أو صريحها (٣). انتهى.

خلافا للمحكي عن الشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط وابن سعيد في جامعه (٤).

فقال ـ فيما حكي عن خلافه (٥) ـ : كلّ مئونة تلحق الغلّات إلى وقت إخراج الزكاة على ربّ المال ، وبه قال جميع الفقهاء إلّا عطاء ، فإنّه قال : المئونة على ربّ المال والمساكين بالحصّة.

دليلنا : قوله ـ عليه‌السلام ـ : «فيما سقت السماء .. العشر أو نصف العشر» فلو ألزمناه المئونة لبقي أقلّ من العشر أو نصف العشر. انتهى.

وعن موضع من مبسوطة أنّه قال : كلّ مئونة تلحق الغلات إلى وقت إخراج الزكاة على ربّ المال دون المساكين (٦).

__________________

(١) كالشيخ الطوسي في النهاية : ١٧٨ ، والحلّي في السرائر ١ : ٤٣٤ و ٤٤٨ ، والعلّامة في القواعد ١ : ٥٥ والتحرير ١ : ٦٣.

(٢) كصاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٢٨ ، وصاحب الحدائق فيها ١٢ : ١٢٩.

(٣) مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ص ٩٨ ـ ٩٩.

(٤) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٥) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ٩٩ ، وانظر : الخلاف ٢ : ٦٧ ، المسألة ٧٨.

(٦) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ٩٩ ، وانظر : المبسوط ١ : ٢١٧.

٣٧٢

ولكن حكي عن نهايته وموضع آخر من مبسوطة التصريح بموافقة المشهور (١).

وعن جامع ابن سعيد أنّه قال : والمئونة على ربّ المال دون المساكين إجماعا إلّا من عطاء (٢). انتهى.

وفي مفتاح الكرامة ، بعد نقل عبارة الخلاف وما ادّعاه من الإجماع ، قال ما لفظه : ولم يدّع بذلك إجماع الأصحاب كما نقلوا عنه ، وأراد بجميع الفقهاء فقهاء العامّة ، ولم يرد فقهاءنا ، كما هو المعروف من طريقته لمن مارس كلامه فيه ، وكيف يدّعي إجماع أصحابنا والفقيه والهداية والمقنعة وجمل العلم نصب عينيه! بل قد سمعت كلامه في النهاية والمبسوط في موضع منه ، وقد شرح في التهذيب عبارة المقنعة ، ومنه يظهر وهن إجماع جامع الشرائع (٣). انتهى.

وكيف كان ، ففي المسألة قولان :

أحدهما : استثناء المؤن كلّها ، وهو المشهور.

والآخر : عدمه ، وهو المنقول عن الشيخ في الخلاف وابن سعيد في الجامع ، كما سمعت.

وعن جماعة من المتأخّرين ، منهم الشهيد الثاني في فوائد القواعد ، وسبطه في المدارك ، ونجله في شرح الاستبصار ، وصاحب الذخيرة :موافقتهما (٤).

__________________

(١) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ٩٨ ، وانظر : النهاية : ١٧٨ ، والمبسوط ١ : ٢١٤.

(٢) حكاه صاحب المدارك فيها ٥ : ١٤٢ ، وانظر : الجامع للشرائع : ١٣٤.

(٣) مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ٩٩.

(٤) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الزكاة ص ٤٩٠ ، وانظر : مدارك الأحكام ٥ : ١٤٢ ، وذخيرة المعاد : ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

٣٧٣

وقال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : وهذا القول لا يخلو من قوّة ، ولكنّه في ذيل كلامه نفى البعد عمّا ذهب إليه المشهور (١).

احتجّ القائلون بعدم الاستثناء بأخبار العشر ونصف العشر.

ففي المدارك ، بعد أن اختار هذا القول ، قال : لنا قوله ـ عليه‌السلام ـ في عدّة أخبار صحيحة : «ما كان منه يسقى بالرشاء والدوالي والنواضح ففيه نصف العشر ، وما سقت السماء أو السيح أو كان بعلا ففيه العشر تامّا» (٢).

ولفظ «ما» من صيغ العموم ، فليتناول ما قابل المئونة وغيره.

وأظهر من ذلك دلالة ما رواه الشيخ ـ في الحسن ـ عن أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، أنّهما قالا له : هذه الأرض التي يزارع أهلها ، ما ترى فيها؟ فقال : «كلّ أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك فيما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه ، وليس على جميع ما أخرج الله منها العشر ، إنّما العشر عليك فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك» (٣).

وهذه الرواية كالصريحة في عدم استثناء شي‌ء ممّا يخرج من الأرض سوى المقاسمة ، إذ المقام مقام البيان ، واستثناء ما عسى أن يتوهّم اندراجه في العموم (٤). انتهى.

__________________

(١) كتاب الزكاة ، ص ٤٩٠.

(٢) التهذيب ٤ : ١٣ / ٣٤ ، الإستبصار ٢ : ١٤ / ٤٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ٤ : ٣٦ ـ ٣٧ / ٩٣ ، الإستبصار ٢ : ٢٥ / ٧٠ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ١.

(٤) مدارك الأحكام ٥ : ١٤٢ ـ ١٤٣.

٣٧٤

وأجيب عن الأخبار الواردة في العشر ونصف العشر : بكونها مسوقة لبيان مقدار الصدقة الواجبة في الغلات دون شرائط وجوبها ، فهي نظير قوله ـ عليه‌السلام ـ : «في كلّ أربعين شاة شاة ، وفي كلّ ثلاثين بقرة تبيع حولي ، وفي أربعين بقرة مسنّة» (١).

وفيه : أنّ هذا إن سلّم فبالنسبة إلى الروايات التي لم يقع فيها التعرّض لاعتبار النصاب ، كما في كثير منها.

وأمّا بعض تلك الأخبار ممّا وقع فيه التصريح ببيان موضوع الحكم واعتبار بلوغ النصاب فيه ، من مثل قوله في صحيحة زرارة : «ما أنبتت الأرض من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ما بلغ خمسة أوسق ففيه العشر ، وما كان منه يسقى بالرشاء والدوالي والنواضح ففيه نصف العشر» (٢).

فإنكار ظهوره في سببيّة بلوغ النصاب لثبوت العشر ونصف العشر فيما أنبتته الأرض الذي هو اسم لجميعه لا للزائد عن مئونته ، مجازفة.

وأمّا حسنة أبي بصير ومحمّد بن مسلم ، أو صحيحتهما ، فربّما استدل بعض بها لمذهب المشهور ، إمّا بدعوى أنّ المنساق من قوله : «فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته» (٣) إرادة ما يستفيده من عمله بعد إندار مئونته ، خصوصا على تقدير أن يكون متن الرواية بلفظ «فتاجرته» بدل «فما

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٤ و ٥٣٥ (باب صدقة البقر) الحديث ١ و (باب صدقة الغنم) الحديث ١ ، التهذيب ٤ : ٢٤ و ٢٥ / ٥٧ و ٥٨ ، الوسائل ، الباب ٤ و ٦ من أبواب زكاة الأنعام ، الحديث ١ منهما.

(٢) التهذيب ٤ : ١٣ / ٣٤ ، الإستبصار ٢ : ١٤ / ٤٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٥١٢ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٣٨ / ٩٦ ، الإستبصار ٢ : ٢٥ / ٧٣ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ١.

٣٧٥

حرثته» كما في بعض النسخ ، فإنّه لا يقال عرفا : قد حصل في يده من زراعته أو تجارته أو صناعته كذا وكذا من الحنطة أو غيرها ، إلّا على الفائدة التي استفادها من عمله.

وفيه : أنّ هذا في غير مثل المقام الذي قيّده بما بعد مقاسمته ، فإنّه إذا قيل لأحد الشريكين في زراعة : [في] (١) الذي حصل في يده ممّا أخرجه الله من الأرض بعد مقاسمته مع الآخر كذا ، لا يتبادر منه إلّا جميع حصّته من الزراعة لا الباقي له بعد إندار مئونته ، كما لا يخفى.

وأضعف من ذلك دعوى أنّ المقاسمة في العادة إنّما تقع بعد إخراج المئونة من الوسط ، ضرورة أنّ المئونة غالبا تحصل قبل حصول الثمرة من مال الزارع أو في ذمّته.

ودعوى كون العادة جارية بإخراجها من الحاصل قبل مقاسمته ، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها ، بل لو ادّعى مدعى جري العادة على عكسه ، لكان أولى بالقبول ، حيث إنّ الغالب كون المنصوبين لمباشرة القسمة واستيفاء حصّة السلطان [على رأي سلطانهم] (٢) وسلطانهم على رأي الفقهاء الذين لا يقولون باستثناء المئونة.

والحاصل : أنّه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه الدعاوي الحدسيّة ، الحاصلة من الطرفين ، العارية عن البيّنة.

وربّما يستدلّ له أيضا برواية عليّ بن شجاع النيشابوريّ ، أنّه سأل أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كرّ ممّا يزكى ، فأخذ منه العشر عشرة أكرار ، وذهب منه بسب عمارة

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) على الظاهر. كما ورد في الطبع الحجري.

٣٧٦

الضيعة ثلاثون كرّا ، وبقي في يده ستّون ، ما الذي يجب لك من ذلك؟وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي‌ء؟ فوقّع لي «منه الخمس ممّا يفضل من مئونته» (١).

فإنّها صريحة في أخذ العشر من جميع ما حصل من الأرض ، وأنّ المئونة خرجت بعد ذلك ، وهو وإن كان في كلام السائل إلّا أنّ الإمام ـ عليه‌السلام ـ قرّره على ذلك ولم ينكره ، وتقريره حجّة.

وفيه : أنّ الظاهر كون لفظ «أخذ» بالبناء للمجهول ، وكون الآخذ هو عامل السلطان الذي قد أشرنا إلى أنّ بناءهم بحسب الظاهر لم يكن على استثناء المئونة ، فليس ترك تعرّض الإمام ـ عليه‌السلام ـ لبيان حاله كاشفا عن مشروعيّة فعله وصحّة عمله.

وممّا يؤيّد كونه بالبناء للمجهول ، وكونه من فعل العامل ـ مضافا إلى انسباقه في حدّ ذاته من سوق الكلام ـ سؤاله ثانيا عن أنّه هل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي‌ء؟ فإنّه مشعر بعدم جزمه بكون ما أخذ منه حيث لم يكن واصلا لأصحابه موجبا لبراءة ذمّته ، كما لا يخفى على المتأمّل.

واستدلّ له أيضا بوضع الشارع العشر فيما سقته السماء ، أو سقي سيحا ، ونصف العشر فيما سقي بالدوالي ونحوها مما فيه مئونة زائدة ، بدعوى : أنّ هذا يكشف عن كون المئونة ملحوظة لدى الشارع في أصل شرع الزكاة ، وأنّ سقوط النصف عمّا سقي بالدوالي بلحاظ مئونته.

ولذا طرّد في محكي الفقيه والوسيلة والمنتهى والدروس ، نصف العشر

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٦ / ٣٩ ، الإستبصار ٢ : ١٧ / ٤٨ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ٢.

٣٧٧

إلى كلّ ما فيه مئونة زائدة (١).

فلو بني على احتساب المئونة مطلقا ، لم يكن في ذلك فرق بين الأمرين ، بل كيف يحتسب مئونة السقي الموجبة لإسقاط نصف العشر من جملة المئونة ويخرج نصف العشر بعد إخراجها!؟ وحيث إنّ هذا أمر مستبعد ، احتمل في محكي البيان إسقاط مئونة السقي فيما فيه نصف العشر ، واحتساب ما عداها من المؤن (٢).

وفيه : إنّه لا إحاطة للعقول بمناطات الأحكام التعبّديّة ، فمن الجائز أن يكون سقوط النصف عمّا سقي بالدوالي وشبهها بملاحظة ما فيه من زيادة التعب وقلّة الثمر نوعا ، وإلّا فالمئونة المالية ممّا لا ضابطة لها ، فكثيرا ما يتوقّف تحصيل الماء وتعمير الأرض فيما سقي سيحا بالنسبة إلى الأماكن البعيدة عن الماء ، خصوصا في السنين المجدبة ، على صرف مال أكثر بمراتب ممّا يحتاج إليه السقي بالدوالي في الأماكن القريبة من الشطوط ونحوها.

وإلحاق هذه الموارد بما سقي بالدلاء في إسقاط النصف بإزاء المئونة ـ كما حكي عن الفقيه وغيره ـ قياس مستنبط العلّة ، مع وجود الفارق ، إذ ليس للمؤن الاتّفاقيّة للزرع الذي يسقى سيحا حد معروف ، بل يختلف غاية الاختلاف ، فلا يصحّ مقايستها بما يسقى بالدوالي.

والحاصل : أنّ المتّبع في مثل المقام ظواهر الأدلّة التعبديّة ، فإن قلنا بدلالتها على ثبوت العشر ونصف العشر في جميع ما أنبتته الأرض فهو ،

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الزكاة ، ص ٤٩٠ ، وانظر : الوسيلة : ١٢٧ ، ومنتهى المطلب ١ : ٤٩٨ ، والدروس ١ : ٢٣٧ ، ولم نجده في الفقيه.

(٢) حكاه صاحب المدارك فيها ٥ : ١٤٨ ، وصاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٣٧ ، وانظر : البيان : ١٨٠.

٣٧٨

وإلّا فمقتضى الأصل براءة الذمة عن الزائد على المتيقّن.

واستدلّ للقول باستثناء المئونة بالأصل بعد الخدشة في أدلّة النافين بما تقدمت الإشارة إليه ، مع ما فيه.

وبقوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (١) فإنّ عفو المال على ما عن الصحاح ما يفضل عن النفقة (٢). وفي كلمات بعض : ما يفضل عن مئونة السنة ، وكيف كان فما يقابل المئونة لا يسمى عفوا جزما.

وبأنّ النصاب مشترك بين المالك والفقراء ، فلا يختصّ أحدهم بالخسارة عليه كغيره من الأموال المشتركة ، ومخالفته ، لغيره من الأموال المشتركة في غالب أحكامه لدليل ، لا تقتضي رفع اليد عمّا تقتضيه قاعدة الشركة فيما لا دليل عليه.

وبأنّ الزكاة في الغلات تجب في النماء والفائدة ، وهو لا يتناول المئونة. وبقوله ـ عليه‌السلام ـ في صحيحة محمّد بن مسلم أو حسنته بابن هاشم : «ويترك للحارس العذق والعذقان والثلاثة لحفظه إيّاه» (٣).

ودعوى أخصّيته من المدعى ، مدفوعة بعموم التعليل ، مع أنّه لا قائل بالفرق بين مئونة الحارس وغيره.

وبما عن الفقه الرضوي ، فعن بعض نسخه : «بعد خراج السلطان ، ومئونة العمارة والقرية».

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٩٩.

(٢) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٢٨ ، وانظر : الصحاح ٦ : ٢٤٣٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٥ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٦ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب زكاة الغلّات ، الحديث ٤.

٣٧٩

وعن بعض آخر : «بعد خراج السلطان ومئونة القرية» (١) وقد أشرنا آنفا إلى أنّ المراد بمئونة القرية ما له دخل في الزرع ، لا مئونتها من حيث هي.

وفي الجميع نظر.

أمّا الأصل فمقطوع بما عرفت من ظهور الأدلّة في سببيّة بلوغ النصاب لثبوت العشر ونصف العشر في جميع ما أنبتته الأرض.

وأمّا الآية فمفادها بعد تسليم المقدّمات المزبورة : استثناء مئونة المالك ، لا الزرع ، كما هو المطلوب.

ودعوى استفادة استثناء مئونة الزرع من ذلك أيضا إمّا لكونها داخلة في مئونته أو بالأولويّة ، مدفوعة :

أوّلا : بأنّ العمل بالفحوى أو الأولويّة فرع جواز العمل بأصلها ، وهو غير جائز ، إذ لم ينقل عن أحد القول باختصاص الزكاة بفاضل المئونة.

وثانيا : أنّه إذا زاد العشر أو نصف العشر عن نفقته ، فأخذ الساعي مجموع الزائد ، فقد أخذ العفو من ماله ، فلا منافاة حينئذ بينه وبين احتساب المئونة إذا فضل بمقدار حقّ الفقير.

وأمّا ما قيل : من أنّ النصاب مشترك بين المالك والفقراء ، فلا يختصّ أحدهم بالخسارة ، ففيه : بعد الغضّ عمّا عرف من عدم كونه شركة حقيقيّة ، أنّه إن تمّ ، فهو بالنسبة إلى المؤن المتأخّرة عن تعلّق حقّ الفقراء به.

__________________

(١) أورده صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٢٩ ، وانظر : الفقه المنسوب للإمام الرضا ـ عليه‌السلام ـ : ١٩٧.

٣٨٠