مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

(وإذا كان الإمام ـ عليه‌السلام ـ مفقودا) كما في زمان التقيّة أو الغيبة (سقط نصيب الجهاد) إذ لا يشرع بلا إذنه (وصرف) سهم سبيل الله (في) سائر (المصالح).

أمّا على ما اخترناه من عموم سبيل الله للمصالح فواضح.

وأمّا على القول باختصاصه بالجهاد فينبغي سقوطه رأسا.

(و) لكن (قد يمكن وجوب الجهاد مع عدم) حضور (ه) أيضا ، كما إذا هجم الكفّار على المسلمين وخيف على بيضة الإسلام (فيكون النصيب باقيا مع وقوع ذلك التقدير).

(وكذا يسقط سهم السعادة) بناء على انحصارهم في من نصبهم الإمام (و) كذا (سهم المؤلّفة) بناء على اختصاصهم بالكفّار الذين يستمالون إلى الجهاد ، لا على التقدير الذي أشير إليه.

(ويقتصر بالزكاة على بقيّة الأصناف) أو المصالح التي لا تتوقّف شرعيّتها على إذن الإمام ، كما هو واضح.

(و) من جملة الأصناف (ابن السبيل ، وهو) على ما في المتن وغيره (المنقطع به) في سفره بذهاب نفقته ، أو نفادها ، أو تلف راحلته ، أو نحو ذلك ، بل هذا هو المنساق عرفا من إطلاقه عند الأمر بصرف الصدقات فيه.

ويدلّ عليه مضافا إلى ذلك ، ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن العالم عليه‌السلام ، قال : «وابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم ، فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات» (١).

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٤٩ ـ ٥٠ / ١٢٩ ، تفسير القمي ١ : ٢٩٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٧.

٥٨١

والمراد بكون السفر في طاعة الله على الظاهر ما يقابل سفر المعصية ، فيعمّ المباح أيضا ، نظير ما ورد في تفسير الغارمين من أن يكون دينهم في طاعة الله (١).

فما في الحدائق من الاستشكال في السفر المباح ، نظرا إلى ظهور الرواية في كونه طاعة ، مع اعترافه بمخالفته للمشهور ، بل عدم وجدانه القائل به عدا ما نقل عن ابن الجنيد من أنّه قيّد الدفع بالمسافرين في طاعة الله (٢) ، لعلّه في غير محله ، بل قد يغلب على الظنّ أنّ ابن الجنيد أيضا لم يقصد بهذا التقييد إلّا الاحتراز عن سفر المعصية.

وكيف كان ، فلا ينبغي الارتياب في عدم اعتبار هذا الشرط في مفهوم ابن السبيل ولا في حكمه ، أي : جواز صرف الصدقة فيه ، لمنافاته لما تقتضيه أدلة شرع الزكاة من كونها موضوعة لسدّ خلّة الفقراء ورفع حاجة المحتاجين ، بل لولا أنّه جعل ابن السبيل في الآية قسيما للفقراء ، لكنّا نلتزم باندراج المنقطعين في سفرهم في الفقراء وإن انصراف عنهم إطلاق اسم الفقير ، ضرورة أنّ مناط استحقاق الصدقات ـ على ما يستفاد من أدلّتها ـ هو الفقر والاحتياج ، لا كونه مندرجا في مسمّى اسم الفقير عرفا.

هذا ، مع أنّه لم يتحقّق الخلاف فيه من أحد ، فلا ينبغي الاستشكال فيه.

ثمّ إنّه قد نقل عن ابن الجنيد والشهيد في الدروس واللمعة القول :باندراج مريد السفر الذي ليس له نفقة السفر في ابن السبيل (٣).

__________________

(١) المصادر في الهامش (١) من ص ٥٨١.

(٢) الحدائق الناضرة ١٢ : ٢٠٣ ، وانظر لقول ابن الجنيد : مختلف الشيعة ٣ : ٨١ ، المسألة ٥٤.

(٣) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٣ ، وراجع : الدروس ١ : ٢٤٢ ، وأمّا قوله في اللمعة فلم نجده فيه. نعم ، القول المزبور موجود في الروضة البهية ٢ : ٥٠.

٥٨٢

وفيه منع صدق ابن السبيل عرفا على من لم يتلبّس بعد بالسفر.

نعم من لم يكن عنده مئونة السفر لو تكلّف وسافر ، اندرج بعد مسافرته في موضوع ابن السبيل الذي وضع له السهم من الزكاة ، إذ لا يشترط في صحة هذا الإطلاق حدوث الفقر والاحتياج بعد تلبّسه بالسفر ، بل ثبوته فيه ولو من حين تلبّسه بالسير.

وكيف كان ، فالقول بجواز الصرف من هذا السهم في مريد السفر الذي ليس له نفقته ضعيف.

وقياس مريد السفر من وطنه على مريد الخروج من موضع الإقامة ـ حيث إنّه يجوز إعطاؤه من سهم ابن السبيل مع انقطاع سفره بإقامة العشرة ـ قياس مع الفارق ، فإنّ كون الإقامة أو البقاء ثلاثين يوما في مكان متردّدا قاطعة للسفر شرعا لا يوجب صيرورة محلّ الإقامة وطنه حقيقة حتّى يخرج بذلك المسافر الذي عزمه الرجوع إلى وطنه عند بقائه في بلد شهرا أو شهرين فما زاد عن موضوع ابن السبيل ، خصوصا إذا كان توقّفه في ذلك المكان مسبّبا عن نفاد زاده وراحلته ، وعدم تمكّنه من المسافرة عنه ، فإنّ هذا يؤكّد كونه ابن السبيل عرفا.

ومن هنا يظهر أيضا ضعف ما حكي (١) عن غير واحد من إلحاق موضوع الإقامة ببلده في عدم كونه ابن السبيل ما لم يسافر عنه ، إذ العرف أعدل شاهد بالفرق بينهما ، وأنّ إقامة العشرة فما زاد غير منافية لصدق اسم ابن السبيل ، بل ربما تكون مؤكدة له ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

__________________

(١) الحاكي هو : صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٧٢ والمحكي عن غير واحد : ظاهر المبسوط وصريح التذكرة وكذا ابن فهد الحلي في المحرّر.

٥٨٣

وكيف كان ، فالمدار في استحقاقه من هذا السهم احتياجه إليه في غربته (ولو كان غنيّا في بلده).

وعلى هذا التقدير هل يشترط عدم تمكّنه من الاستدانة أو بيع شي‌ء من أمواله مثلا ، كما صرّح به في الجواهر (١) ، أم يعتبر عجزه عن التصرّف في أمواله ببيع ونحوه دون الاستدانة ، كما قوّاه في المدارك (٢) ، أم لا يعتبر العجز عن شي‌ء منهما؟ كما حكاه في المسالك عن المعتبر ، ونفى عنه البعد.

فقال في المسالك : وهل يشترط عجزه عن الاستدانة على ما في بلده أو عن بيع شي‌ء من ماله فيه ونحوه؟ الظاهر ذلك ، ليتحقّق العجز ، ولم يعتبره المصنّف في المعتبر ، وليس ببعيد ، عملا بإطلاق النصّ (٣).

والذي ينبغي أن يقال : إنّه إن كانت الاستدانة أو التصرّف في أمواله بالبيع ونحوه أمرا ميسورا له كأغلب التجّار المعروفين في البلاد النائية ، فمثل هذا الشخص لا يعدّ من أرباب الحاجة إلى الصدقة ، بل ولا ابن سبيل في العرف ، وبحكمه القوي السويّ المتمكّن من الاكتساب في الطريق بما يناسب حاله وشأنه.

وأمّا لو كانت الاستدانة أو البيع ونحوه أمرا حرجيّا بحيث لا يتحمله إلّا عن إلجاء واضطرار ، فلا تكون القدرة عليهما مانعة عن الاستحقاق ، إذ لا يؤثّر مثل هذه القدرة في خروجه عن حدّ الفقر عرفا.

(وكذا الضيف) إذا كان في سفر ، وكان محتاجا إلى الضيافة ، فيجوز أن يطعمه من هذا السهم.

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٣.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٦.

(٣) مسالك الأفهام ١ : ٤٢٠ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٧٨.

٥٨٤

وتخصيصه بالذكر مع أنّه من أفراد ابن السبيل الذي يشترط فيه الفقر والحاجة ، لوقوع التعرّض له في كلمات الأصحاب ، ونسبته في كلماتهم إلى رواية.

والأصل فيه ما عن المفيد في المقنعة ، قال : وابن السبيل وهم المنقطع بهم في الأسفار ، وقد جاءت رواية أنّهم الأضياف ، يراد به من أضيف لحاجة إلى ذلك وإن كان له في موضوع آخر غنى ويسار ، وذلك راجع إلى ما قدّمناه (١).

ولكن أطلق غير واحد منهم لفظ «الضيف» (٢) وقيّده بعضهم بالحاجة دون السفر (٣) ، وكيف كان فلا دليل على دخول الضيف من حيث هو في ابن السبيل.

والرواية المزبورة مع ما فيها من الإرسال ، مجهولة المتن ، فلعلّ في متنها ما يشهد بإرادة المنقطع في السفر المحتاج إلى الضيافة ، كما فهمه المفيد ـ رحمه‌الله ـ فهي على تقدير حجّيتها أيضا لا تثبت أزيد من ذلك ، والله العالم.

(ولا بدّ أن يكون سفرهما مباحا ، فلو كان معصية لم يعط).

في المدارك قال : لا خلاف بين العلماء في عدم جواز الدفع إلى المسافر من سهم ابن السبيل إذا كان سفره معصية ، لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان (٤). انتهى.

ويدلّ عليه مرسلة عليّ بن إبراهيم ـ المتقدمة (٥) ـ بالتقريب المتقدّم.

__________________

(١) المقنعة : ٢٤١ وحكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٧٤.

(٢) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٤.

(٣) كما في عبارة المقنعة المتقدّمة آنفا.

(٤) مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٦.

(٥) تقدّمت في ص ٥٨١.

٥٨٥

وأمّا الاستدلال عليه بما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان ـ كما في المدارك (١) وغيره (٢) ـ فإنّما يتّجه لو قلنا باختصاص المنع في السفر إلى غاية محرّمة بما لو دفعه إليه في ذهابه ، لا في إيابه الذي بنفسه ليس بحرام ، مع أنّ مقتضى إطلاق النصّ وفتاوى الأصحاب : عدم جواز الدفع في الإياب أيضا إذا عد عرفا من تتمّة سفره الذي قصد به الغاية المحرّمة ، مع أنّه ليس فيه إعانة على الإثم والعدوان.

اللهمّ إلّا أن يقال : بأنّ فيه أيضا تشييدا للظالم ، وتقريرا له على ظلمه وفسقه ، وهو مناف لما بني عليه شرع الزكاة من كونها عونا للفقراء والمساكين دون الظلمة وقطّاع الطريق ونظرائهم ممّن يسعون في الأرض للفساد ، فلا ينصرف إليهم إطلاقات أدلتها ، وهو لا يخلو من وجه ، فليتأمّل.

وكيف كان ، فلو استقلّ رجوعه بالملاحظة عرفا ، كما لو ارتدع عن قصده في أثناء الطريق ، فرجع أو ندم على عمله وتاب ، جاز الدفع إليه حينئذ ، لعدم كونه بالعفل متلبّسا بسفر المعصية عرفا ، ولا يشترط التلبّس بالضرب ، فلو تاب ورجع عن قصد المعصية إلى الطاعة ، جاز الدفع إليه ولو لم يضرب في الأرض بعد توبته ، إذ المدارك في صدق كونه ابن سبيل على كونه نائيا عن أهله وماله ، محتاجا في الوصول إليهما إلى مئونة ، سواء كان بالفعل متلبّسا بقطع المسافة أم لم يكن ، كما هو واضح.

(ويدفع إليه) من الزكاة إذا كان غنيا في بلده (قدر الكفاية) اللائقة بحاله (إلى بلده) بعد قضاء الوطر من سفره ، أو يصل إلى مكان

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٦.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٦.

٥٨٦

يمكنه فيه الاعتياض ونحوه ممّا يغنيه عن تناول الصدقات.

(ولو فضل منه شي‌ء) ولو بالتضييق على نفسه كما نصّ عليه في الجواهر (١) (أعاده) وفاقا للأكثر ، بل المشهور على ما ادّعاه في الجواهر (٢) ، لأنّ الصدقة لا تحلّ لغني وقد أبيحت لابن السبيل الذي هو غنيّ في بلده ، لمكان حاجته الفعلية العارضة له في أثناء الطريق ، وهي لا تقتضي إباحتها له إلّا بمقدار حاجته في وقت احتياجه ، فلو دفع إليه أزيد من مقدار حاجته أو بمقدار حاجته ، ولكنّه لم يصرفه في حاجته حتّى وصل إلى بلده ، فقد صار إلى حال لا تحلّ الصدقة له ، فعليه إيصال ما بقي عنده من الصدقة إلى مستحقها.

(وقيل : لا) يعيد ، وقد حكي هذا القول عن الشيخ في الخلاف (٣) بناء منه على أنّه يملكه بالقبض ، فما يفضل منه بعد الوصول إلى بلده ليس إلّا كما يفضل في يد الفقير من مال الصدقة بعد صيرورته غنيّا.

وفيه : أنّ ما يستحقّه الفقير لا يتقدّر بقدر ، فما يصل إليه من الزكاة يملكه بقبضه ملكا مستقرّا.

وأمّا ابن السبيل الذي هو غنيّ في بلده لا يستحقّ من الزكاة إلّا نفقته إلى أن يصل إلى بلده ، فما يدفع إليه ملكيّته مراعاة بصرفه في وقت فقره وحاجته الفعلية ، أي : قبل استيلائه على أمواله ، فلو فضل منه شي‌ء ، عاد على ما هو عليه من كونه صدقة من غير فرق في ذلك بين النقدين وغيرهما ، كما صرّح به في المسالك (٤).

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٦.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٦.

(٣) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٦ ، وراجع : الخلاف ٤ : ٢٣٥ ، المسألة ١٨.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ٤٢٠ ـ ٤٢١.

٥٨٧

وفي الجواهر بعد أن نقل عن المسالك أنّه قال : لا فرق ، أي : في وجوب الردّ بين النقدين والدابة والمتاع ، قال ما لفظه : وكأنّه أشار إلى ما عن نهاية الفاضل من أنّه لا يستردّ منه الدابة ، لأنّه ملكها بالإعطاء ، بل عن بعض الحواشي إلحاق الثياب والآلات بها.

ولعلّ ذلك ، لأنّ المزكّي يملّك المستحقّ عين ما دفعه إليه ، والمنافع تابعة ، والواجب على المستحقّ ردّ ما زاد من العين ، ولا زيادة في هذه الأشياء إلّا في المنافع ، ولا أثر لها مع ملكية تمام العين.

اللهمّ إلّا أن يلتزم انفساخ ملكه من العين بمجرّد الاستغناء ، لأنّ ملكه متزلزل ، فهو كالزيادة التي تجدّد الاستغناء عنها (١). انتهى.

وقد أشرنا إلى أنّه على تقدير كونه غنيا في بلده ليس للمزكّي أن يملّكه إلّا متزلزلا حيث إنّه لا يستحقّه إلّا كذلك ، فما ذكره في ذيل كلامه من الالتزام بانفساخ ملكه ممّا لا بدّ منه.

وكيف كان ، فالتفصيل بين النقدين وغيرهما ممّا لا وجه له ، فليتأمّل.

(القسم الثاني : في أوصاف المستحقّين (٢)) للزكاة ، وهي أمور : (الأوّل : الإيمان) يعني الإسلام مع الولاية للأئمة الاثني عشر ـ عليهم‌السلام ـ (فلا يعطى الكافر (٣)) بجميع أقسامه ، بل (ولا معتقدا (٤) لغير الحقّ) من سائر فرق المسلمين بلا خلاف فيه على

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣٧٧ ، وراجع : مسالك الأفهام ١ : ٤٢٠ ، ونهاية الاحكام ٢ : ٤١٩.

(٢) في شرائع الإسلام ١ : ١٦٣ ، وهامش النسخة الخطية والحجرية : المستحق.

(٣) في الشرائع : كافرا.

(٤) في النسخة الخطية والحجرية : معتقد. والصحيح ما أثبتناه من الشرائع.

٥٨٨

الظاهر بيننا.

والنصوص الدالّة عليه فوق حدّ الإحصاء ، مثل ما عن الكليني وابن بابويه ـ في الصحيح ـ عن زرارة وبكير والفضيل ومحمّد بن مسلم وبريد ابن معاوية العجلي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، أنّهما قالا في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء : الحروريّة والمرجئة والعثمانية والقدريّة ، ثمّ يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه يعيد كلّ صلاة صلاها أو صوم أو زكاة أو حجّ ، أو ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك؟

قال : «ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة لا بدّ أن يؤدّيها ، لأنّه وضع الزكاة في غير موضعها ، وإنّما موضوعها أهل الولاية» (١).

وصحيحة بريد بن معاوية العجلي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل حجّ وهو لا يعرف هذا الأمر ـ إلى أن قال ـ وقال : «كلّ عمل عمله وهو في حال نصبه وضلاله ، ثمّ منّ الله عليه وعرّفه الولاية ، فإنّه يؤجر عليه إلّا الزكاة ، فإنّه يعيدها ، لأنّه وضعها في غير موضعها» (٢).

وخبر إبراهيم الأوسي عن الرضا عليه‌السلام ، قال : «سمعت أبي يقول : كنت عند أبي يوما فأتاه رجل ، فقال : إنّي رجل من أهل الري ولي زكاة ، فإلى من أدفعها؟ فقال : إلينا ، فقال : الصدقة عليكم حرام (٣) ، فقال : بلى إذا دفعتها إلى شيعتنا فقد دفعتها إلينا ، فقال : إنّي لا أعرف لهذا أحدا ، فقال : فانتظر بها سنة ، قال : فإن لم أصب لها

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٥ / ١ ، علل الشرائع : ٣٧٣ / ١ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ٥ : ٩ / ٢٣ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٣) في المصدر : الصدقة محرّمة عليكم.

٥٨٩

أحدا؟ قال : انتظر بها سنتين حتّى بلغ أربع سنين ، ثمّ قال له : إن لم تصب لها أحدا فصرّها صررا واطرحها في البحر ، فإنّ الله عزوجل حرّم أموالنا وأموال شيعتنا على عدوّنا» (١) إلى غير ذلك من الروايات التي لا حاجة إلى استقصائها.

ثمّ إنّ مقتضى ظاهر النصوص والفتاوى كون الإيمان شرطا في الاستحقاق ، لا الكفر مانعا عن الدفع ، كي يجوز البناء على عدمه لدى الشكّ ، تعويلا على أصالة عدم حدوث ما يوجبه ، فلا يجوز الدفع إلى مجهول الحال ما لم يكن هناك أصل أو طريق شرعيّ لإثباته ، كادّعائه أو اعترافه بالأمور المعتبرة في الإيمان ، أو غير ذلك من الطرق المعتبرة شرعا.

وهل يثبت بكونه في بلد المؤمنين أو أرض يكون الغالب فيها أهل الإيمان كالإسلام؟ فيه تردّد ، بل منع ، لانتفاء ما يدل على اعتبار الغلبة هاهنا. وتنظيره على الإسلام قياس لا نقول به.

وقضيّة إطلاق المتن وغيره : اشتراط الإيمان في جميع أصناف المستحقين.

وفي المدارك قال في شرح العبارة بعد أن استدلّ له بجملة من الأخبار ، ما لفظه : ويجب أن يستثنى من ذلك المؤلّفة وبعض أفراد سبيل الله ، وإنّما أطلق العبارة اعتمادا على الظهور (٢).

وفي المسالك ، قال : إنّما يشترط الإيمان في بعض الأصناف لا جميعهم ، فإنّ المؤلّفة وبعض أفراد سبيل الله لا يعتبر فيهما ذلك (٣).

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٥٢ ـ ٥٣ / ١٣٩ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٨.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٨.

(٣) مسالك الأفهام ١ : ٤٢١.

٥٩٠

انتهى.

وكأنّهما أرادا من بعض أفراد سبيل الله مثل الغازي الذي يصحّ استثناؤه من عبارة المتن ، لا المصالح التي يتعلّق الصرف فيها بالجهات لا بالأشخاص ، كبناء المساجد والقناطر ، إذ لا معنى لاشتراط الإيمان في ذلك ، كي يكون قابلا للاستثناء.

وربّما ألحق بعض (١) مطلق سبيل الله بالمؤلّفة ، فلم يشترط الإيمان فيه أصلا.

والذي يقتضيه التحقيق هو أنّه لا شبهة في خروج (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) عن المستحقين الذين يشترط فيهم الإيمان ، وقد صرّح المصنّف في تفسير (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) بأنّهم هم الكفّار الذين يستمالون إلى الجهاد (٢).

فمراده بالمستحقّين هاهنا من عداهم ممّن يستحقّ صرفها إليه لرفع حاجته وسدّ خلّته.

وكذا الروايات الدالّة على اشتراط الإيمان لا تدلّ إلّا على اشتراطه في من يستحقّها لحاجة.

والحصر الوارد فيها من أنّ موضعها أهل الولاية إضافي لم يقصد به الاحتراز عن المؤلّفة والعاملين وغيرهم ممّن يصرف إليهم لا من هذا الوجه ، بل المقصود بها على ما يتبادر منها بيان انحصار من يستحقّ صرف الزكاة في قضاء حوائجه بالمؤمنين في مقابل أرباب الحاجة من سائر الفرق.

وما دلّ على وجوب إعادة المخالف زكاته على الإطلاق ، معلّلا : بأنّه

__________________

(١) وهو صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٨٠.

(٢) شرائع الإسلام ١ : ١٦١.

٥٩١

وضعها في غير موضعها فهو جابر مجرى الغالب من صرفها إلى فقرائهم ، أو دفعها إلى عامل الصدقات المنصوب من قبل الجائر ، فكما لا يعمّ هذا الحكم بمقتضى هذه العلّة ما لو صرفها إلى فقراء المؤمنين ، فكذلك بالنسبة إلى ما لو صرفها إلى سائر المصالح التي هي من مصارف الزكاة ممّا لا يعقل اتّصافه بالإيمان.

وملخّص الكلام ، أنّ المنساق من الأخبار المانعة عن صرف الزكاة إلى غير أهل الولاية هو النهي عن صرفها في سدّ خلّة غير الموالي مطلقا ، سواء كان من سهم الفقراء أو المساكين أو الغارمين أو في الرقاب وابن السبيل أو في سبيل الله إذا جعل السبيل نفس إعانته من حيث احتياجه بملاحظة أنّ لكلّ كبد حرّى أجرا (١).

وأمّا المؤلّفة فلا ريب في عدم اعتبار الإسلام فيهم ، فضلا عن الإيمان ، لأنّ إعطاءهم ليس من باب الإعانة وسدّ الخلّة ، ولذا لا يعتبر فيهم الفقر أيضا.

وأمّا من سهم العاملين فلا يجوز أيضا بناء على اشتراط العدالة فيهم ، كما ادّعي عليه الإجماع ، وإلّا فالظاهر أنّه لا بأس بإعطائه ، فإنّ إعطاءهم ليس من باب الإعانة وسدّ الخلّة ، بل بإزاء العمل الذي يعود نفعه إلى أهل الصدقات ، فهو في الحقيقة صرف في مصالح المستحقين لا في العاملين من حيث أنفسهم ، فهو نظير ما لو دفع إلى المخالف ، لا من باب الإعانة وسد الخلّة ، بل لقيامه بمصلحة من المصالح كالغزو وحفظ الطرق وسدّ الثغور ، ونحوها ، فهذا ممّا لا شبهة في جوازه وخروجه

__________________

(١) مقتطف من الحديث المروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، راجع : عوالي اللآلي ١ : ٩٥ / ٣ ، و ٢ : ٢٦٠ / ١٥ ، و ٣ : ١٢١ / ٣٢.

٥٩٢

عن منصرف الأخبار الناهية عن صرفها إلى غير الموالين ، كما لا يخفى على المتأمّل.

(ومع عدم المؤمن (١)) وتعذّر صرفه في مصرف آخر ممّا يجوز صرف الزكاة فيه كبناء مسجد أو قنطرة ونحوهما تحفظ إلى حال التمكّن منه ولا تعطى المخالف ، فضلا عمّن عداهم من الكفّار على المشهور ، بل في الجواهر : بلا خلاف أجده (٢) ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، لإطلاق الروايات الحاصرة موضعها في أهل الولاية ، والناهية عن صرفها إلى من عداهم ، وخصوص خبر الأوسي المتقدّم (٣) ، الذي ورد فيه الأمر بالانتظار إلى أربع سنين ، وإلقائه في البحر إن لم يصب لها أحدا يعني من الشيعة.

ولعلّ ما في ذيله من الأمر بإلقائها في البحر ـ على تقدير أن لا يصيب لها أحدا من الشيعة في تلك المدة الذي هو مجرّد فرض لا يكاد يتفق حصوله في الخارج ـ للتنبيه على أنّ إلقاءها في البحر وإتلافها لدى تعذّر إيصالها إلى الشيعة أولى من إيصالها إلى المخالفين الذين حرمها الله عليهم على سبيل الكناية.

وكيف كان فهذه الرواية صريحة في عدم جواز صرفها إلى المخالفين حتّى مع اليأس عن التمكّن من إيصالها إلى الشيعة.

وقد حكى في الحدائق عن بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين أنّه نقل قولا بجواز إعطاء المستضعف عند عدم المؤمن (٤) ، من غير تصريح بقائله ،

__________________

(١) في الشرائع : المؤمنين.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٣٨١.

(٣) تقدم في ص ٥٨٩ ـ ٥٩٠.

(٤) الحدائق الناضرة ١٢ : ٢٠٥.

٥٩٣

كما في زكاة الفطر لدى المصنّف (١) وغيره ممّن سيأتي الإشارة إليه.

واستدلّ له : بخبر يعقوب بن شعيب الحدّاد عن العبد الصالح عليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل منا يكون في أرض منقطعة كيف يصنع بزكاة ماله؟ قال : «يضعها في إخوانه وأهل ولايته» فقلت : فإن لم يحضره منهم فيها أحد؟ قال : «يبعث بها إليهم» قلت : فإن لم يجد من يحملها إليهم؟ قال : «يدفعها إلى من لا ينصب» قلت : فغيرهم؟ قال : «ما لغيرهم إلّا الحجر» (٢).

وأجاب المصنّف ـ رحمه‌الله ـ عن هذه الرواية في محكي (٣) المعتبر :بضعف السند. والعلّامة في محكي (٤) المنتهى بالشذوذ.

أقول : فيشكل حينئذ رفع اليد بواسطتها عن ظواهر النصوص الدالّة بظاهرها على اختصاصها بأهل الولاية ، وإلّا فلو أغمض عن ذلك ، لأمكن تقييد سائر الأخبار بالحمل على ما لا ينافي هذه الرواية ، خصوصا خبر الأوسي بواسطة ما فيه من التعليل ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ونسب (٥) إلى الشيخ وأتباعه القول بأنّه (يجوز صرف الفطرة خاصّة) مع عدم المؤمن (إلى المستضعفين (٦)) من المخالفين ، كما هو مختار المصنّف في الكتاب ، لموثق الفضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام ،

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٦٣.

(٢) التهذيب ٤ : ٤٦ / ١٢١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٧ ، وراجع : الحدائق الناضرة ١٢ : ٢٠٦.

(٣) الحاكي عنهما : البحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ٢٠٦ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٨٠ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٢٣.

(٤) الحاكي عنهما : البحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ٢٠٦ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٨٠ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥٢٣.

(٥) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٨١ ، والناسب هو : العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٩ ، وراجع : التهذيب ٤ : ٨٨ ، والنهاية : ١٩٢ ، والمبسوط ١ : ٢٤٢.

(٦) في الشرائع : المستضعف.

٥٩٤

قال : «كان جدّي يعطي فطرته الضعفاء ومن لا يجد ومن لا يتولى» قال :وقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام (١) ـ : «هي لأهلها إلّا أن لا تجدهم ، فإن لم تجدهم فلمن لا ينصب ، ولا تنقل من أرض إلى أرض» وقال : «الإمام أعلم يضعها حيث يشاء ، ويصنع فيها ما يرى» (٢).

وصحيحة علي بن يقطين أنّه سأل أبا الحسن الأوّل ـ عليه‌السلام ـ عن زكاة الفطر أيصلح أن تعطى الجيران والظؤورة (٣) ممّن لا يعرف ولا ينصب؟ فقال : «لا بأس بذلك إذا كان محتاجا» (٤).

وخبر مالك الجهني ، قال : سألت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن زكاة الفطر ، فقال : «تعطيها المسلمين ، فإن لم تجد مسلما فمستضعفا وأعط ذا قرابتك منها إن شئت» (٥).

وخبر علي بن بلال ، قال : كتبت إليه هل يجوز أن يكون الرجل في بلدة ورجل آخر من إخوانه في بلدة اخرى محتاج أن يوجّه له فطرة أم لا؟ فكتب : «تقسّم الفطرة على من حضر ، ولا يوجّه ذلك إلى بلدة اخرى وإن لم يجد موافقا» (٦).

وموثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام ، قال : سألته عن

__________________

(١) في هامش النسخة الخطبة : قال : وقال أبوه ـ عليه‌السلام. خ ل.

(٢) التهذيب ٤ : ٨٨ ـ ٨٩ / ٢٦٠ ، الإستبصار ٢ : ٥١ / ١٧٣ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٣.

(٣) الظؤرة ، جمع ظئر ، وهي المرضعة. مجمع البحرين ٣ : ٣٨٦.

(٤) الفقيه ٢ : ١١٨ / ٥٠٧ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٦.

(٥) الكافي ٤ : ١٧٣ / ١ ، التهذيب ٤ : ٨٧ / ٢٥٥ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ١.

(٦) التهذيب ٤ : ٨٨ / ٢٥٨ ، الإستبصار ٢ : ٥١ / ١٧١ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٤.

٥٩٥

صدقة الفطر أعطيها غير أهل ولايتي من فقراء جيراني؟ قال : «نعم الجيران أحقّ بها لمكان الشهرة» (١).

وحكي (٢) عن الشيخ المفيد والسيد المرتضى وابن الجنيد وابن إدريس وجمع من الأصحاب : المنع مطلقا ، بل ربّما نسب (٣) هذا القول إلى المشهور ، بل عن الانتصار والغنية : دعوى الإجماع عليه (٤) ، أخذا بإطلاق الأخبار الناهية عن دفعها إلى غير المؤمن.

وإطلاق صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري عن الرضا عليه‌السلام ، قال : سألته عن الزكاة هل توضع فيمن لا يعرف؟ قال :«لا ، ولا زكاة الفطر» (٥).

وخبر الفضل بن شاذان ، المروي عن العيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ أنّه كتب إلى المأمون : «وزكاة الفطر فريضة ـ إلى أن قال ـ ولا يجوز دفعها إلّا إلى أهل الولاية» (٦).

وحكي عن المصنّف في المعتبر أنّه بعد نقل أخبار الطرفين قال :والرواية المانعة أشبه بالمذهب ، لما قرّرته الإمامية من تضليل مخالفيها في الاعتقاد ، وذلك يمنع الاستحقاق (٧). انتهى.

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٤ / ١٩ ، علل الشرائع : ٣٩١ / ١ ، التهذيب ٤ : ٨٨ / ٢٥٩ ، الإستبصار ٢ : ٥١ / ١٧٢ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٢.

(٢) الحاكي عنهم هو : العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٣٩ ، وراجع : المقنعة : ٢٥٢ ، والانتصار : ٨٢ ، والسرائر ١ : ٤٧١ ، ولقول ابن الجنيد : مختلف الشيعة : ٣ : ١٧٧ ، المسألة ١٣٨.

(٣) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٨٢ ، وراجع : الانتصار : ٨٢ ، والغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٦.

(٤) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٣٨٢ ، وراجع : الانتصار : ٨٢ ، والغنية (الجوامع الفقهية) : ٥٠٦.

(٥) الكافي ٣ : ٥٤٧ / ٦ ، التهذيب ٤ : ٥٢ / ١٣٧ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١.

(٦) عيون أخبار الرضا ٢ : ١٢٣ / ١ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ٥.

(٧) الحاكي هو : البحراني في الحدائق الناضرة ١٢ : ٣١٦ ، وراجع : المعتبر ٢ : ٥٨٠.

٥٩٦

وفيه : أنّ مانعيّته عن الاستحقاق ليس أمرا عقليّا ، بل حكم شرعيّ مستفاد من الأخبار الحاصرة للمستحقّ بأهل الولاية ، والناهية عن دفعها إلى غيرهم ، وهي غير آبية عن الحمل على ما لا ينافي هذه الأخبار ، كما تقدمت الإشارة إليه آنفا ، فمقتضى القاعدة الجمع بينها بتقييد المطلقات بحال وجود المؤمن.

ولكن قد يشكل ذلك بما في بعض هذه الأخبار من أمارات التقيّة.

أمّا موثّقة إسحاق : فظاهرها ـ على ما يقتضيه إطلاق الجواب من غير استفصال ، وما فيها من التعليل المناسب للعموم ـ إرادته على الإطلاق من اشتراطه بعدم المؤمن ولا بعدم النصب ، فهي واردة مورد التقيّة ، كما يفصح عن ذلك : التعليل بمكان الشهرة ، إذ المراد به ـ على الظاهر ـ بيان أنّ الأمر بإعطاء غير الموالي من جيرانه لأجل التقيّة والتحرّز عن أن يشتهر بينهم كونه رافضيّا.

ومن هنا قد يغلب على الظن أنّ الأمر بقسمته الفطرة على من حضر ، وعدم نقلها إلى بلد آخر وإن لم يجد موافقا ، من غير تقييد الدفع إلى غير الموافق بعدم النصب ولا بعدم المؤمن ، لم يكن إلّا للعلّة المذكورة في الموثّقة ، أي : مراعاة التقيّة.

وكذلك الكلام في صحيحة عليّ بن يقطين ، فإنّ ظاهرها إرادة الإطلاق.

وليس تقييده بصورة تعذّر الإيصال إلى المؤمن ، التي هي فرض نادر ، جمعا بينها وبين غيرها من الأدلّة ، بأهون من إبقائها على ظاهرها من إرادة الإطلاق رعاية للتقيّة المناسبة لحال السائل ، بل هذا أولى.

وأمّا خبر مالك فلا يمكن الالتزام بظاهره ، اللهمّ إلّا أن يحمل على إرادة خصوص المؤمن من المسلم ، وهو غير عزيز في الأخبار.

٥٩٧

وكيف كان فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه للقول بالجواز هي : موثّقة الفضيل.

والاعتماد على خصوص هذه الموثّقة في مقابل العمومات والإطلاقات الكثيرة المعتضدة بنقل الشهرة والإجماع مشكل ، ولكن رفع اليد عن النصّ الخاصّ بمثل هذه الإطلاقات القابلة للصرف لو لم نقل بانصرافها بنفسها إلى صورة وجود المؤمن أشكل ، فما ذهب إليه المصنّف ـ رحمه‌الله ـ من القول بالجواز أشبه.

وقد ظهر بما ذكرناه في توجيه موثّقة إسحاق وغيرها ممّا دلّ بظاهره على جواز دفع الفطرة إلى المخالف من غير اشتراطه بعدم المؤمن ولا بعدم النصب من كونها واردة مورد التقيّة ، أنّ الأظهر جواز دفع الفطرة إلى فقراء المخالفين في مقام التقيّة والاجتزاء به.

وهل زكاة الماليّة أيضا كذلك ، أم تجب إعادتها إذا دفعها إلى المخالف تقيّة؟ وجهان ، أوجههما ، الأوّل ، ولكن بشرط عدم المندوحة ولو بإخفاء المال وتأخير الدفع إلى زمان التمكّن من الإيصال إلى المستحقّ ، كما سيأتي تحقيقه لدى البحث عن حصول البراءة بالدفع إلى العامل المنصوب من قبل الجائر ، والله العالم.

(وتعطى الزكاة أطفال المؤمنين دون غيرهم) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه (١).

ويدل عليه أخبار مستفيضة :

منها : رواية أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : الرجل

__________________

(١) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٨٣ ، وممّن ادّعى الإجماع العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٤٠.

٥٩٨

يموت ويترك العيال أيعطون من الزكاة؟ قال : «نعم حتّى ينشأوا ويبلغوا ويسألوا من أين كانوا يعيشون إذا قطع ذلك عنهم» فقلت : إنّهم لا يعرفون ، فقال : «يحفظ فيهم ميّتهم ويحبّب إليهم دين أبيهم فلا يلبثون أن يهتمّوا بدين أبيهم ، وإذا بلغوا وعدلوا إلى غيركم فلا تعطوهم» (١).

ورواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ذرّية الرجل المسلم إذا مات يعطون من الزكاة والفطرة كما كان يعطى أبوهم حتّى يبلغوا ، فإذا بلغوا وعرفوا ما كان أبوهم يعرف أعطوا ، وإن نصبوا لم يعطوا» (٢).

ورواية عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : قلت لأبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ : رجل مسلم مملوك ومولاه رجل مسلم وله مال يزكّيه ، وللمملوك ولد حرّ صغير أيجزئ مولاه أن يعطي ابن عبده من الزكاة؟قال : «لا بأس» (٣).

وخبر يونس بن يعقوب ، المروي عن قرب الإسناد ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : قلت له : عيال المسلمين أعطيهم من الزكاة ، فأشتري لهم منها ثيابا وطعاما ، وأرى أنّ ذلك خير لهم ، قال : فقال : «لا بأس» (٤).

وقضيّة إطلاق النصّ والفتوى جواز الدفع إلى أطفال المؤمنين ولو مع فسق آبائهم ، كما هو صريح جملة منهم (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٨ (باب أنّه يعطى عيال المؤمن من الزكاة ..) الحديث ١ ، التهذيب ٤ : ١٠٢ / ٢٨٧ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ٥٤٩ / ٣ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٣ / ١٤ ، الوسائل ، الباب ٤٥ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

(٤) قرب الإسناد : ٤٩ / ١٥٩ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب زكاة الذهب والفضّة ، الحديث ٤.

(٥) كابن إدريس في السرائر ١ : ٤٦٠ ، والعاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٤١.

٥٩٩

ولاشتراط العدالة في المستحقّ إن سلّمناه ففي المحلّ القابل ، لا في الأطفال ، وتبعيّة الأطفال لآبائهم في ذلك ممّا لا دليل عليه ، فما عن بعض (١) من بناء المسألة على شرطيّة العدالة ومانعيّة الفسق ، ليس على ما ينبغي.

نعم قد يستشعر من رواية أبي خديجة ، بل وكذا من قوله ـ عليه‌السلام ـ في رواية أبي بصير : «يحفظ فيهم ميّتهم» تبعيّة الأطفال لآبائهم في الاستحقاق ، ولكن لا ينبغي الاعتناء بمثل هذا الإشعار في تقييد الإطلاقات ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ المنساق من أولاد الرجل المسلم وذرّيتّه : من يلتحق به بنسب صحيح ، فولد الزنا خارج عن مورد هذا الحكم ، والطفل المتولّد بين المؤمن والمخالف يتبع أباه ، فإن كان أبوه مؤمنا وامّه مخالفة ، جاز إعطاؤه ، لصدق أولاد المؤمن عليه عرفا وشرعا دون العكس.

والمتولّد بين الكافر والمسلم إذا كان أبوه مسلما ، يتبعه بلا إشكال ، وأمّا إن كان أبوه كافرا وامّه مسلمة ، فهل يتبع امّه في هذا الحكم أيضا كسائر أحكامه؟ وجهان : من خروجه عن مورد الروايات الدالّة على جواز إعطاء أطفال المؤمنين ، ومن إمكان دعوى كفاية العمومات بعد اندراجه في موضوع الفقير عرفا ، ولحوقه بأمّه في الإسلام شرعا ، فليتأمل.

تنبيه قال شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ : هل يجوز للمالك صرف الزكاة

__________________

(١) وهو : الشهيد الثاني في مسالك الأفهام ١ : ٤٢٢. والحاكي عنه ، العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢٤١.

٦٠٠