مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

يقع في مقامين :

الأوّل : في انقطاع حول الماليّة بذلك ، وهذا هو المشهور.

(وقيل) : لا ينقطع (بل تثبت زكاة المال مع تمام الحول دون) زكاة (التجارة) التي تسالموا على عدم اجتماعها مع الماليّة (لأنّ اختلاف العين لا يقدح في الوجوب مع تحقّق النصاب في الملك).

وهذا القول منقول عن الشيخ في مبسوطة (١) ، وقد تقدّم تحقيق الحال فيه لدى البحث عمّا يعتبر فيه الحول من الأجناس الزكويّة.

(و) قد عرفت في ما تقدّم أنّ (الأوّل أشبه) بأصول المذهب وقواعده.

وأمّا الثاني أي : انقطاع حول التجارة بالتبدّل ، كما استظهر من المتن ، فهو بحسب الظاهر خلاف المشهور ، بل قد سمعت عن غير واحد دعوى الإجماع على خلافه ، حتّى أنّ الشهيد والمحقّق الثانيين تكلّفا في توجيه عبارة المتن بما لا يخالف الإجماع.

قال فخر المحقّقين في محكي الإيضاح : لا خلاف بين الكلّ في بناء حول التجارة على حول الاولى ، وإنّما النزاع في بناء العينية ، فعند والدي المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وجماعة أنّه يستأنف حول العينيّة على الثانية ، وعند الشيخ أنّه يبنى حول العينيّة على الاولى ، فإذا تمّ للثانية ستّة أشهر أخذت العينيّة ، فعند الشيخ يتساوق الحولان من المبدأ فينتهيان معا ، فإذا اختلّ بعض شرائط إحدى الزكاتين قبل نهاية الحول ، تثبت الأخرى ،

__________________

(١) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ص ١٢٠ ـ ١٢١ ، وراجع : المبسوط ١ : ٢٢٣.

٤٦١

وإن تساوق الشرطان واستمرّت الأمور المعتبرة في كل واحد منهما إلى نهاية الحول ، قدّمت العينيّة ، لوجوبها وندبيّة تلك (١). انتهى.

ولكن في المدارك بعد أن استظهر من كلام الشيخ المفيد ـ رحمه‌الله ـ في المقنعة ، وابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ في الفقيه ، اعتبار بقاء السلعة حيث اقتصر في الحكم بزكاة التجارة على صورة بقاء العين ، فقالا : وكلّ متاع طلب من مالكه بربح أو برأس ماله فلم يبعه طلبا للفضل فيه ، فحال عليه الحول ، ففيه الزكاة بحساب قيمته سنّة مؤكّدة ، قال ما لفظه : وهو ظاهر اختيار المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في هذا الكتاب ، وبه قطع في المعتبر ، واستدلّ عليه بأنّه مال يثبت فيه الزكاة ، فيعتبر بقاؤه كغيره ، وبأنّه مع التبدّل تكون الثانية غير الاولى ، فلا تجب فيها الزكاة ، لأنّه لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول. وهو جيّد (٢). انتهى ما في المدارك.

وتبعه جلّ من تأخّر عنه في نسبة هذا القول إلى ظاهر الشيخين ، والمحقّق في الشرائع ، وصريحه في المعتبر ، وربّما مال جملة منهم أو قال بهذا القول ، كأصحاب المصابيح والحدائق والرياض على ما حكي عنهم (٣).

ولا يخفى على من لاحظ عبائر مثل المفيد والصدوق وشيخه من القدماء الذين كانت عادتهم التعبير في فتاويهم بمضامين الأخبار أنّه لا يصحّ استظهار اشتراط بقاء العين في زكاة التجارة من الاقتصار في الحكم بها على المورد الذي وردت فيها أخبار خاصّة ، فحال عبائرهم

__________________

(١) حكى عنه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ص ١٢٠ ، وراجع إيضاح الفوائد ١ : ١٨٧.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ١٧١ ، وراجع : المقنعة : ٢٤٧ ، والفقيه ٢ : ١١ ، والمعتبر ٢ : ٥٤٧.

(٣) حكى عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ص ١٢٠ ، وراجع : الحدائق الناضرة ١٢ : ١٤٧ ، ورياض المسائل ١ : ٢٧٥.

٤٦٢

حال الأخبار الواردة في المال الذي مكث عند صاحبه يطلب به الزيادة على رأس ماله الدالّة على ثبوت الزكاة فيه ، وستعرف عدم دلالة الأخبار على الاشتراط.

وأمّا ما نسبوه إلى صريح المعتبر ، فقد تصفّحت عبارة المعتبر في زكاة التجارة ، فلم أجد ما يدلّ على اعتبار بقاء عين السلعة في زكاة التجارة ، بل بعض كلماته المذكورة في فروعها كالصريح في خلافه.

نعم في عدة مواضع من كلماته ما يوهم ذلك ، ولكن المتأمّل فيها يراها أجنبيّة عن ذلك.

منها : ما ذكره في مسألة ما لو بادل أحد النقدين بجنسه أو بالنقد الآخر الذي قد يغلب على الظنّ أنّه هو منشأ هذه النسبة ، إذ لم أجد في ذلك الباب ما يناسب العبائر التي نقلها عنه في المدارك عدا ما ذكره في هذه المسألة ، فقال ما لفظه :

قال الشيخ : لو بادل ذهبا بذهب أو فضّة بفضّة ، لم ينقطع الحول ، وينقطع لو بادل بغير جنسها ، لقولهم : الزكاة في الدنانير ، ولم يفرّقوا بين تبدّل الأعيان وبقائها ، فتحمل عليهما.

وقال الشافعي : يستأنف.

وقال أبو حنيفة : يبني في المبادلة بالأثمان جنسا كان أو جنسين ، ويستأنف في الماشية ولو اتّفق الجنس.

والأشبه عندي انقطاع الحول بالمبادلة ، لأنّه مال تجب الزكاة في عينه ، فيعتبر بقاؤه ، ولأنّ الثاني مال غير الأوّل ، فلا يجب فيه الزكاة ، لأنه لا زكاة في مال لم يحل عليه الحول.

وحجّة الشيخ ضعيفة ، لأنّ الزكاة وإن وجبت في الدراهم والدنانير ،

٤٦٣

فإنّها لا تجب مطلقا ، بل الحول معتبر فيها إجماعا (١). انتهى.

وأنت خبير بأنّ الكلام في هذه المسألة إنّما هو في زكاة العين ، والأقوال التي نقلها إنّما هي في هذه الزكاة لا في زكاة التجارة ، وذكرها في باب زكاة التجارة من باب المناسبة بلحاظ ما فيها من فرض المبادلة.

ومنها ما ذكره في مسألة أنّه لو باع مال التجارة البالغ قيمته النصاب في أثناء الحول بالنقد البالغ حدّ النصاب ، هل يبنى في زكاة الثمن على حول الأصل ، أو يستأنف للثمن حولا؟ فقال ما لفظه : إذا ملك سلعة للتجارة قيمتها نصاب فصاعدا ، ثم باعها في أثناء الحول ، قال : الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في الخلاف : استأنف حول الثمن عند من لا يوجب زكاة التجارة ، وبنى على قول من يوجب ـ وبه قال الشافعي ـ لأنّ الزكاة تجب في القيمة ، فكان مالا واحدا.

والوجه : الاستئناف على التقديرين ، لأنّ الحول معتبر في السلعة ، وإذا نضّ (٢) الثمن ، كان غيرا لها ، فلا يكون حول أحدهما حول الآخر.

ولأنّهما زكاتان متغايرتان ، فلم يكن حول إحداهما حول الأخرى ، كما لو كان الأصل ماشية (٣). انتهى.

وهذه العبارة وإن وقع فيها التعبير باعتبار الحول في السلعة ، ولكنّ الظاهر أنّه لم يقصد بالسلعة خصوص شخصها ، بل غرضه بيان أنّ من كان عنده سلعة مملوكة للتجارة ، فباعها بأحد النقدين ، لا يبني حول الثمن على حول السلعة ، لأنّهما مالان متغايران تتعلّق الزكاة في أحدهما بعينه ،

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٤٧ ، وراجع المبسوط ١ : ٢٢١.

(٢) المال الناض : إذا تحوّل عينا بعد أن كان متاعا. الصحاح ٣ : ١١٠٧.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٤٦ ـ ٥٤٧ ، وراجع : الخلاف ٢ : ٩٩ ، المسألة ١١٣.

٤٦٤

وفي الآخر بلحاظ ماليّته ، فيكون ثمن المتاع بمنزلة ما لو كان الثمن في الأصل مالا زكويّا آخر كالماشية ، فلاحظ.

وأما بعض كلماته التي هي كالصريح في عدم اعتبار بقاء عين السلعة في تمام الحول ، فهو مثل ما ذكره في مسألة ما لو كان عنده ما قيمته نصاب ، فزاد في أثناء الحول ، فإنّه بعد أن ذكر أنّه يجب عليه عند تمام الحول الزكاة في الأصل دون الزيادة ، ونسب الخلاف فيه إلى أبي حنيفة والشافعي وأحمد ، وأنّهم قالوا : يزكّى الجميع ، قال ما لفظه : وكذا لو باع السلعة بعد الحول بزيادة وهنا أولى. يعني بعدم انضمام الفائدة إلى الأصل في وجوب الزكاة واعتبار حول مستقلّ لها.

ثمّ قال : وكذا لو مضى عليها ـ أي على السلعة ـ نصف الحول وقيمتها نصاب ، ثمّ باعها بزيادة مائة ، لم تضمّ إلى الأصل ، فكان ما نضّ له حكم نفسه ، خلافا للشافعي (١). انتهى.

فإنّه لو كان الحول معتبرا في نفس السلعة ، لا يبقى موقع للتكلّم في ضمّ الزيادة إلى الأصل بعد فرض بيع المتاع قبل تمام حوله ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فليتأمّل.

فكيف كان ، فالحقّ ما هو المشهور من عدم اعتبار الحول في نفس السلعة ، بل في المال الذي يتّجر به باعتبار ماليته وإن تبدّلت أشخاصه ، لأنّ أخبار الباب قد دلّت على ثبوت الزكاة في المال الذي يتّجر به ويعمل به وفي ما يضطرب من الأموال ، كما عرفته لدى التكلّم في موضوع مال التجارة الذي تتعلّق الزكاة به ، ولا ريب أنّ ما يعمل به ليس المراد شخصه ، لأنّه يدفعه التاجر إلى صاحبه الذي يعامل معه ،

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٤٥.

٤٦٥

فالمراد الأعمّ منه ومن بدله ، فالزكاة في الحقيقة تتعلّق بالمال المتقلّب في التجارة ، ولا بشخص ما اشتراه للتجارة ، كما تقدم تحقيقه لدى التكلّم في موضوع مال التجارة الذي تتعلّق به الزكاة ، وما دلّ على اعتبار الحول ـ كخبري محمّد بن مسلم (١) المذكورين في محلّه ـ قد دلّ على اعتباره في المال الذي يعمل به للتجارة لا في خصوص ما يشتري به.

نعم ، قد ورد في بعض الروايات الواردة في المتاع الذي يمكث عند صاحبه : أنّه إن طلب برأس ماله أو بزيادة ففيه الزكاة ، وظاهر أنّ الاختصاص سيّما لأجل مورد السؤال لا يوجب تخصيص العمومات.

المسألة (الرابعة : إذا ظهر في مال المضاربة الربح ، كانت زكاة الأصل على ربّ المال لانفراده بملكه).

وهذا ممّا لا إشكال فيه (و) إنّما الإشكال في ما جزم به المصنّف ـ رحمه‌الله ـ بالنسبة إلى (زكاة الربح) من أنّها (بينهما) أي بين ربّ المال والساعي ، إذ لا دليل على وجوب زكاة التجارة على العامل في ما يستحقّه من الربح.

وأمّا على القول بأنه من قبيل اجرة المثل ، ولا يملكه إلّا بعد القسمة :فواضح.

وأمّا على القول بأنّه يملكه من حين الظهور ، فيصير الربح من حين ظهوره مشتركا بينهما فإن قلنا بأنّ كونه وقاية لرأس المال يمنعه عن التصرّف فيه كيف يشاء ، ويخرجه عن الطلقيّة كالعين المرهونة فكذلك.

وإن منعنا ذلك ، وقلنا بأنّه يجوز له القسمة مهما أراد ولو قبل

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٢٨ / ٢ و ٥ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٣.

و ٨ ، وتقدّما في ص ٤٤١.

٤٦٦

الإنضاض ، فهو ملك طلق له وإن لم يجز له بالفعل الاستقلال بالتصرّف فيه كغيره من الأموال المشتركة.

وكونه وقاية لرأس المال غير مناف لطلقيته بعد كون القسمة بالفعل جائزة له ، فهو بعد تسليم هذه المقدّمات وإن صدق عليه أنّه مال ملكه بالتجارة ، ولكنّه لا يصدق عليه أنّه مال ملك بعقد المعاوضة بقصد الاسترباح ، بل هو بنفسه ربح التجارة المتعلّقة بمال الغير وقد ملكه العامل بعقد المضاربة لا بعقد المعاوضة ، مثل ما ملكه الأجير بعقد الإجارة.

وإن شئت قلت : إنّ الربح من حيث هو ليس مندرجا في موضوع أدلّة زكاة التجارة ، إذ لا يصدق على حصة العامل أنّه مال اتّجر به أو عمل به أو غير ذلك من العناوين الواردة في الأخبار التي قد عرفتها في أوّل الباب.

وأمّا حصّة المالك فهي أيضا وإن كانت كذلك لو لوحظت بنفسها ، ولكنّك قد عرفت في ما سبق أنّ الأشبه عدم ملحوظيّة النماء مستقلا ، وتبعيّته للأصل في الحول وفي تعلّق الزكاة به ، وإلّا فهو بنفسه غير مندرج في عناوين أدلّتها ، وإنّما يندرج فيها بالنظر إلى كونه جزءا من الجملة التي دير رأس المال إليها ، ففي ما نحن فيه أيضا كذلك تتعلّق الزكاة بالجملة التي دار إليها رأس مال المالك.

وقضيّة ذلك أن (تضمّ حصة المالك إلى) رأس (ماله وتخرج منه الزكاة ، لأنّ رأس ماله نصاب) كما هو المفروض ، فيزكّي الجميع مع بلوغ الربح ـ ولو بضميمة ما في رأس المال من العفو ـ النصاب الثاني وإن لم يحل الحول على الربح بنفسه على ما حقّقناه في ما نحن فيه.

وأمّا حصّة الساعي فلا يصحّ أن يتعلّق بها الزكاة بهذه الملاحظة ، لأنّ

٤٦٧

شرط تعلّق الزكاة بذلك المال في تقلّباته التي حال عليها الحول بقاؤه على ملك مالكه ، فلو خرج بعض ما دار إليه قبل حؤول الحول عليه عن ملك مالك الأصل ، فقد صار رأس مال المالك عند حؤول الحول مقصورا على ما اجتمع له من حصّته من الربح منضمّة إلى الأصل ، وأمّا ما ملكه الغير في أثناء الحول من أصل هذا المال أو من ربحه ، لم تجب زكاته على مالك الأصل ، لخروجه عن ملكه قبل حؤول الحول عليه ، ولا على ذلك الغير إلّا أن يجتمع فيه بنفسه حال كونه مملوكا له شرائط تعلّق الزكاة به ، ولا يكفي في ذلك مجرّد كونه منفعة حاصلة له بالتجارة في مال الغير ، كما لا يخفى على المتأمّل.

(و) قد ظهر بما أشرنا إليه ـ من استقلال حصة العامل بالملاحظة وعدم صحّة جعلها تابعة لرأس المال في تعلّق الزكاة بها ـ أنّا لو سلمنا ثبوت الزكاة فيها ، فلا بدّ من فرض اعتبارها من حيث هي جامعة للشرائط ، فـ (لا تستحبّ في حصّة الساعي الزكاة إلّا أن) يحول عليها الحول و (تكون) هي بنفسها (نصابا) كما هو واضح.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ القول بثبوت الزكاة في حصّة العامل مبنيّ على القول بصحة عقد المضاربة وشرعيّتها ، وأنّ العامل يملك الحصّة من حين ظهور الربح.

وأمّا على القول بأنّها معاملة فاسدة ، لجهالة العوض ، وإنّما هي مجرّد وعد لا يجب الوفاء به ، فلا يستحقّ العامل شيئا من هذا المال ولا من ربحه ، بل اجرة مثل عمله على المالك ، كما حكي القول به عن بعض.

فزكاتها على ربّ المال كما صرّح به الشيخ (١) وغيره.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٢٣.

٤٦٨

وأمّا إن قلنا بصحّتها ولكن لا يملك العامل الحصّة إلّا بعد الإنضاض أو القسمة ، فحال الحول قبله ، فالمتّجه أيضا عدم تعلّق الزكاة بها لا على العامل ، لانتفاء الملكية فضلا عن غيرها من الشرائط ، ولا على ربّ المال ، لعدم الطلقيّة ، كما هو واضح.

وكيف كان ، فالأشبه بناء على صحّة عقد المضاربة كما هو الأصحّ :عدم ثبوت الزكاة في حصّة العامل لا على العامل ولا على ربّ المال ، سواء قلنا بأن العامل يملكها من حين ظهور الربح أو بعد الإنضاض أو القسمة.

(و) على تقدير القول بالثبوت (هل) يجوز للعامل أن (يخرج) الزكاة (قبل أن ينضّ المال) ويتحوّل عينا ويقسّم مع المالك أو يفسخ؟ (قيل : لا) يجوز (لأنّه وقاية لرأس المال) وهذا القول منقول عن جملة من القدماء والمتأخّرين.

(وقيل : نعم ، لأنّ استحقاق الفقراء له ، أخرجه عن كونه وقاية ، و) قد ادعى المصنّف ـ رحمه‌الله ـ أنّ هذا (هو أشبه) بالقواعد.

وهو لا يخلو من نظر ، لأنّ خروجه عن كونه وقاية مناف لما تقتضيه المضاربة ، فإنّ مقتضاها كون ملكيّة العامل للحصّة مراعاة بعدم ورود خسارة على رأس المال قبل إتمام العمل ، وهذا معنى كونه وقاية لرأس المال ، فكيف يصحّ أن يملك الفقير في ملكه أزيد ممّا يملكه نفسه! مع أنّ ملكيّة الفقير للزكاة متفرّعة على ملكيّته ، فأدلّة الزكاة ـ على تقدير تسليم شمولها له ـ لا تقتضي إلّا استحقاق الفقير جزءا ممّا يملكه العامل على النهج الذي يملكه ، فإذا كان ملك العامل بمقتضى أصل جعله ملكيّة متزلزلة لا يؤثّر تعلّق حقّ الفقير به انقلابه عمّا هو عليه ، فيكون حقّ الفقير أيضا مراعى بسلامة رأس المال عن أن يطرأ عليه نقصان قبل

٤٦٩

الإنضاض ، كما لا يخفى على المتأمل.

المسألة (الخامسة : الدين لا يمنع من زكاة) مال (التجارة ، ولو لم يكن للمالك وفاء إلّا منه) بلا خلاف فيه على الظاهر ولا إشكال ، بل عن التذكرة وظاهر الخلاف الإجماع عليه (١).

وكذا القول في زكاة المال غير التجارة ، لأنّها تتعلّق بالعين ، ولكنّ العين التي هي متعلّق الزكاة في التجارة إنّما هي بلحاظ ماليّتها ، كما عرفت.

وكيف كان ، فلا منافاة بينه وبين اشتغال ذمّة المالك بأضعاف أضعافه من الدين من غير فرق في ذلك بين كونه حقّ الفقير المتعلّق بالمال وجوبيّا كزكاة المال ، أو استحبابيّا كزكاة التجارة ، إذ لا معارضة بينهما.

قال العلّامة في محكي المنتهى : الدين لا يمنع الزكاة سواء كان للمالك مال سوى النصاب أو لم يكن ، وسواء استوعب الدين النصاب أو لم يستوعبه ، وسواء كان أموال الزكاة ظاهرة كالنعم والحرث ، أو باطن كالذهب والفضّة ، وعليه علماؤنا أجمع (٢). انتهى.

نعم بناء على تعلّق زكاة التجارة أو مطلقها بذمّة المالك ، وكونها كسائر الديون الواجبة عليه ، قد تتحقّق المزاحمة في صورة قصور المال عن الوفاء بالجميع لدى موت المالك أو بعجزه عن التصرّف في ماله وتقسيمه على الغرماء ، فيكون مستحقّ الزكاة حينئذ كأحدهم في المحاصّة ، كما أنّ

__________________

(١) حكاه العاملي في مفتاح الكرامة ج ٣ كتاب الزكاة ، ص ١٢٥ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٦ ، المسألة ١٧ ، و ٢٢٨ فرع «ه». والخلاف ٢ : ١٠٨ ، المسألة ١٢٥.

(٢) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ١٨٣ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٥٠٦.

٤٧٠

المتّجه على هذا التقدير سقوط زكاة التجارة المستحبّة ، لعدم صلاحيّتها لمزاحمة الحقوق الواجبة المتعلّقة بالمال ، ولكن المبنى فاسد ، كما عرفته في محله.

ويدلّ أيضا على عدم مانعيّة الدين عن الزكاة مطلقا مضافا إلى ما عرفت ، إطلاق النصوص المتقدمة الدالّة على أنّ زكاة القرض على المستقرض.

ويدلّ عليه أيضا في خصوص زكاة المال ما عن الكليني ـ في الصحيح ـ عن زرارة عن أبي جعفر ، وعن ضريس عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّهما قالا : «أيّما رجل كان له مال موضوع حتّى يحول عليه الحول فإنّه يزكّيه ، وإن كان عليه من الدين مثله وأكثر منه فليزكّ ما في يده» (١).

ولكن الأولى بل الأفضل لمن قصر ماله عن وفاء ديونه ترك زكاة التجارة ، وصرف جميع ما يملك ممّا زاد عن نفقته في تفريغ ذمّته عن الحقوق الواجبة عليه ، كما أومأ إليه الشهيد ـ في ما حكي عن بيانه ـ حيث قال : والدين لا يمنع من زكاة التجارة ـ كما مرّ في العينيّة ـ وإن لم يمكن الوفاء من غيره ، لأنّها وإن تعلّقت بالقيمة فالأعيان مرادة ـ إلى أن قال ـ نعم يمكن أن يقال : لا يتأكّد إخراج زكاة التجارة للمديون ، لأنه نقل يضرّ بالفرض.

وفي الجعفريّات عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «من كان له مال وعليه مال فليحسب ماله وما عليه ، فإن كان له فضل مائتي درهم فليعط خمسة» وهذا نصّ في منع الدين الزكاة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٢٢ / ١٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

٤٧١

والشيخ في الخلاف ما تمسّك على عدم منع الدين إلّا بإطلاق الأخبار الموجبة للزكاة (١). انتهى كلامه ـ رحمه‌الله.

وكأنّ غرضه من الاستشهاد بالرواية ، الاستدلال لنفي تأكّد الاستحباب في خصوص محلّ الكلام ، أي زكاة التجارة ، كما لعلّه هو المنساق من ألفاظها ، لا مانعيّة الدين عن الزكاة مطلقا حتّى في زكاة المال ، كما فهمه في المدارك ، وأورد عليه بعد نقل كلامه بما لفظه : ونحن قد بيّنا وجود النصّ الدالّ على ذلك صريحا ـ يعني خبر زرارة وضريس المتقدم (٢) ـ ثمّ قال : وما نقله عن الجعفريّات مجهول الإسناد ، مع إعراض الأصحاب عنه ، وإطباقهم على ترك العمل به (٣). انتهى.

وقد أشرنا إلى أنّ خبر الجعفريّات بحسب الظاهر وارد في مال التجارة لا خصوص النقد الموضوع الّذي حال عليه الحول ، كما هو مورد خبر زرارة وضريس ، فلا معارضة بينهما.

وما في خبر الجعفريّات من الأمر بإعطاء خمسة التي هي زكاة المائتين ، محمول على تأكّد الاستحباب ، فيفهم منه أنّه لا تأكّد بالنسبة إلى ما يساوي الدين ، وقد أشرنا إلى أنّ هذا ممّا يشهد به العقل والنقل ، فلا داعي لطرح الرواية وإن كانت ضعيفة بعد صحّة مضمونها وكون موردها قابلا للمسامحة ، فليتأمّل.

(ثمّ يلحق بهذا الفصل مسألتان)

(الاولى : العقار المتّخذ للنماء تستحبّ الزكاة في حاصله).

__________________

(١) كما في المدارك ٥ : ١٨٤ ، والجواهر ١٥ : ٢٩٠ ، وراجع : البيان : ١٩١ ـ ١٩٢ ، والأشعثيات : ٥٤ ، والخلاف ٢ : ١٠٩ ، المسألة ١٢٥.

(٢) تقدم في ص ٤٧١.

(٣) مدارك الأحكام ٥ : ١٨٤.

٤٧٢

في المسالك : العقار المتّخذ للنماء كالدكان والخان والحمام يلحق بالتجارة غير أنّ مال التجارة معدّ للانتقال والتبدّل وإن لم يتبدّل ، وهذا قارّ.

وفي إلحاقه به في اعتبار الحول والنصاب قولان ، وعدم اشتراطهما متوجّه ، وهو خيرة العلّامة ـ رحمه‌الله ـ في التذكرة (١).

وفي المدارك قال : العقار لغة الأرض. والمراد به هنا ما يعمّ البساتين والخانات والحمامات ونحو ذلك على ما صرّح به الأصحاب ، واستحباب الزكاة في حاصلها مقطوع به في كلامهم ، ولم أقف له على مستند ، وقد ذكره العلّامة في التذكرة والمنتهى مجرّدا عن الدليل. ثمّ قال في التذكرة : ولا يشترط فيه الحول ولا النصاب ، للعموم.

واستقرب الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في البيان اعتبارهما ، ولا بأس به اقتصارا في ما خالف الأصل على موضع الوفاق إن تمّ (٢). انتهى ما في المدارك.

واستوجه في الجواهر تعلّق الزكاة به بإدراجه في مال التجارة ، فقال ما لفظه :قد يقوى في الذهن أنّه من مال التجارة بمعنى التكسّب عرفا ، إذ هي أعمّ من التكسّب بنقل العين واستنمائها ، فإن الاسترباح له طريقان عرفا : أحدهما بنقل الأعيان ، والثاني باستنمائها مع بقائها ، ولذا تعلّق فيه الخمس كغيره من أفراد الاسترباح ، ومن ذلك يتّجه اعتبار الشرائط

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٣٣ ، المسألة ١٦١.

(٢) مدارك الأحكام ٥ : ١٨٥ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٣٣ ، المسألة ١٦١ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥١٠ ، والبيان : ١٩٢.

٤٧٣

السابقة فيه (١). انتهى.

وفيه : أنّه إن أراد جعل نفس العقار المتّخذة للنماء مندرجة في موضوع مال التجارة بملاحظة أنّها مال ملك بعقد معاوضة بقصد الاكتساب فله وجه ، ولكن مقتضاه تعلّق الزكاة بعينها ، لأنّها هي المال الذي اتّجر به ، وهذا ممّا لم يقل أحد بتعلّق الزكاة به.

وأمّا حاصلها الذي هو محلّ الكلام فلا مناسبة بينه وبين مال التجارة أصلا ، فضلا عن استفادة تعلّق الزكاة به من الروايات الواردة في المال المستعمل في التجارة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا العموم الذي استدلّ به العلّامة في عبارته المتقدّمة (٢) فلم نعرفه ، فلعلّ مراده ما كان من قبيل ما دلّ على أنّ للفقراء حقّا في أموال الأغنياء ، وأنّ الله تعالى شرّك بينهم في الأموال ، كما احتمله بعض.

وفيه ما لا يخفى.

ويمكن أن يكون المقصود به عموم قوله ـ عليه‌السلام ـ ، في خبر شعيب : «كلّ شي‌ء جرّ عليك المال فزكّه ، وكلّ شي‌ء ورثته أو وهب لك فاستقبل به» (٣) بناء على أن يكون «المال» بالرفع ، حيث إنّ ظاهره حينئذ ثبوت الزكاة في مطلق الأرباح المكتسبة بالأموال ، خصوصا إذا كانت الأموال في الأصل متّخذة بقصد الاسترباح ، كما في العقار المتّخذ للنماء ، فإنّه من أظهر مصاديق هذا العموم.

وفيه : ما عرفته في ما سبق من عدم خلوّ هذه الرواية عن التشابه ،

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٢٩١.

(٢) في ص ٤٧٣.

(٣) الكافي : ٣ : ٥٣٠ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٣.

٤٧٤

مع أنّه لم ينقل القول بهذا العموم عن أحد ، فالأولى الاعتراف بعدم العثور على مستند لهذا الحكم عدا أنّه معروف بين الأصحاب ، ولعلّ هذا كاف في إثبات مثله من باب المسامحة.

وقضيّة إطلاق كلماتهم كصريح جملة منهم عدم اعتبار الحول والنصاب فيه ، وهو أنسب بما تقتضيه قاعدة المسامحة ، وأوفق بظاهر الرواية المزبورة لو سلمنا دلالتها عليه.

وعلى القول باعتبار النصاب والحول اختصّ مورد الاستحباب بما إذا كان الحاصل عرضا غير زكوي كما نبه عليه في المدارك (١).

(و) أمّا (لو) كان نقدا و (بلغ نصابا) أو زكاة آخر كذلك كأربعين شاة سائمة (وحال عليه الحول) فقد (وجبت الزكاة) وامتنع أن يوصف معه بالاستحباب.

وحيث لم يثبت لدينا استحباب هذه الزكاة إلّا بقاعدة المسامحة ، فإن لم نعتبر الحول فيها ـ كما هو الأشبه ، ـ فأخرج زكاة الحاصل المفروض كونه زكويّا بالغا حد النصاب ، ثمّ حال الحول عليه ، أشكل الاجتزاء به عن الزكاة الواجبة ، فإنّ شمول ما دلّ على أنّه «لا يزكّى مال من وجهين في عام» (٢) لمثل المقام ـ الّذي لم يثبت شرعيّتها من ذلك الوجه إلّا بقاعدة المسامحة ـ محلّ نظر ، فليتأمّل.

(ولا تستحبّ) الزكاة (في المساكن ، ولا في الثياب والآلات والأمتعة المتّخذة للقنية) بلا نقل خلاف فيه ، بل عن التذكرة دعوى

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ١٨٥.

(٢) الكافي ٣ : ٥٢٠ / ٦ ، التهذيب ٤ : ٣٣ / ٨٥ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، الحديث ١.

٤٧٥

الإجماع عليه (١) ، للأصل.

المسألة (الثانية : الخيل إذا كانت إناثا سائمة وحال عليها الحول ففي العتاق) جمع عتيق ، وهو على ما في الجواهر وغيره : الذي أبواه عربيّان كريمان (٢) (عن كلّ فرس) منها في كلّ عام (ديناران ، وفي البراذين) جمع برذون ـ وهو بكسر الباء ـ خلافه (عن كلّ فرس دينار استحبابا) بلا نقل خلاف فيه ، بل في التذكرة : وقد أجمع علماؤنا على استحباب الزكاة في الخيل بشروط ثلاثة : السوم والأنوثة والحول (٣).

والأصل فيه ما رواه الكليني والشيخ ـ في الصحيح أو الحسن ـ عن محمّد بن مسلم وزرارة عنهما ـ عليهما‌السلام ـ جميعا قالا : «وضع أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ على الخيل العتاق الراعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين ، وجعل على البراذين دينارا» (٤).

ويدلّ أيضا على اشتراط السوم والحول مضافا إلى استفادتهما من الصحيحة المزبورة ، وكذا على اشتراط الأنوثة صحيحة زرارة الأخرى ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : هل في البغال شي‌ء؟ فقال : «لا» فقلت : فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال : «لأنّ البغال لا تلقح ، والخيل الإناث ينتجن ، وليس على الخيل الذكور شي‌ء» قال :قلت : فما في الحمير؟ قال : «ليس فيها شي‌ء» قال : قلت : هل على الفرس

__________________

(١) حكاه العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ١٨٥ ، وصاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٩٢ ، وراجع :تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٣٣ ، المسألة ١٦١.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٢٩٢ ، مدارك أحكام ٥ : ١٨٦ ، مسالك الأفهام ١ : ٤٠٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٣٢ ، المسألة ١٥٩.

(٤) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٣ ، الإستبصار ٢ : ١٢ / ٣٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ١.

٤٧٦

أو البعير يكون للرجل يركبهما شي‌ء؟ فقال : «لا ، ليس على ما يعلف شي‌ء ، إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها عامها الذي يقتنيها فيه الرجل» (١).

ويدلّ على نفي الوجوب مضافا إلى الإجماع الذي ادّعاه العلّامة وغيره ، الأصل ، إذ الصحيح المزبور قاصر عن إفادة الوجوب بحسب أصل الشرع ، فلا يكاد يفهم منه أزيد من الرجحان المجامع للاستحباب.

ولو سلّم ظهوره في الوجوب ، صرفه عن ذلك شهادة الإجماع والنصّ الوارد في أنّه «ليس في شي‌ء من الحيوان زكاة غير هذه الأصناف الثلاثة : الإبل والبقر والغنم» (٢) ، إلى غير ذلك من الأخبار الحاصرة للزكاة في الأجناس التسعة التي عرفتها في صدر الكتاب.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٤ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٣.

(٢) راجع : التهذيب ٤ : ٤١ / ١٠٤ ، والاستبصار ٢ : ٢٤ / ٦٦ ، والوسائل ، الباب ١٧ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٤.

٤٧٧

(النظر الثالث) ممّا يتعلّق بزكاة المال (فيمن تصرف إليه ، ووقت التسليم ، والنية)

(القول : فيمن تصرف إليه) (ويحصره أقسام) :

(القسم الأوّل : أصناف المستحقين للزكاة) في الواقع (سبعة) وإن كان المتراءى من الآية الشريفة (١) ، وبعض الروايات الواردة عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، المفسّرة لها ، وكذا من كلمات الأصحاب المصرّحين بعدد الأصناف أنّها ثمانية أصناف : (الفقراء والمساكين وهم الذين تقصر أموالهم عن مئونة سنتهم) ولو بانتفاء أصل المال بأن لم يكن لهم مال أصلا ، فإنّ هذا من أوضح مصاديق العنوانين.

ولكن الأظهر الأشهر ، بل المشهور نصّا وفتوى أنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير ، لا بمعنى أنّ بين مفهوميهما المبائنة بحيث يصير كل منهما صنفا مغايرا للآخر ، بل الفقر ـ الذي هو في الأصل بمعنى الحاجة ، ويطلق عرفا في الحاجة الخاصّة ، أي الاحتياج إلى المال الذي يصرفه في نفقته ـ قد

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٦٠.

٤٧٨

يشتدّ إلى أن يوقعه في مذلّة السؤال وشبهه فيقال له : المسكين ، من المسكنة بمعنى الذلّة ، ولا يطلق في العرف على كلّ ذليل من أي وجه يكون ، لفظ «المسكين» بل على الذليل الذي أصابه الذلّ من فقره ، فالمسكين أخصّ موردا في العرف من الفقير ، إذ لا يقال على الفقير المتعفّف الذي يحسبه الجاهل من تعفّفه وتعزّزه غنيّا منه ، لفظ (١) :«المسكين» وكذا على الفقير الذي يتكفّل غيره نفقته بعزّ ، كأولاد الأغنياء وحواشي الملوك والسلاطين وأتباعهم الذين لا مال لهم من أنفسهم أصلا ، فضلا عن أن يكفي بمؤونتهم.

ويؤيّد ما ذكرناه من كون المسكين أسوأ حالا من مطلق الفقير مضافا إلى ما عرفت ، ما عن جماعة من القدماء وجمهور المتأخرين من التصريح به (٢).

ويدلّ عليه أيضا صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ أنه سأله عن الفقير والمسكين ، فقال : «الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين :الذي هو أجهد منه ، الذي يسأل» (٣).

وخبر أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : قول الله عزوجل «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ» (٤) قال : «الفقير الذي لا يسأل الناس والمسكين أجهد منه ، والبائس أجهدهم» (٥).

__________________

(١) الظاهر زيادة كلمة «لفظ».

(٢) كما في كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٤٩٥.

(٣) الكافي ٣ : ٥٠٢ / ١٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٢.

(٤) سورة التوبة ٩ : ٦٠.

(٥) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦ ، التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٣.

٤٧٩

ولا يخفى عليك أنّ المقصود بمثل هذه الأخبار ، وكذا في كلمات الأصحاب المصرّحين بأنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير ، بيان المائز بين اللفظين بأخصّيّة المسكين من الفقير ، الموجبة لإرادة مورد الافتراق من الأخير لدى اجتماعه مع الأوّل في اللفظ ، ولذا قالوا : إذا اجتمعا افترقا ، وإلّا فمن الواضح عدم صحّة سلب اسم الفقير عمّن لا يملك شيئا أصلا ، والتجأ إلى تحمّل ذلّ السؤال.

وكيف كان ، فقد حكي عن جماعة القول بالعكس (١) ، وأنّ الفقير أسوأ حالا من المسكين ، مستدلّين على ذلك بما لا ينهض حجّة ، خصوصا في مقابل ما عرفت.

ثمّ إنّ الظاهر المصرّح به في كلام غير واحد عدم ترتّب ثمرة مهمّة على هذا الخلاف ، كما سنوضّحه إن شاء الله.

(وقيل) : الفقراء والمساكين (من يقصر ماله عن أحد النصب الزكويّة).

وهو ضعيف كما ستعرف.

(ثمّ من الناس من جعل اللفظين) أي : «الفقراء» و «المساكين» (بمعنى واحد) أي متساويين في الصدق ، وإلّا فلا ينبغي الارتياب في عدم كونهما مترادفين ، كما يوهمه بعض عبائرهم.

(ومنهم من فرّق بينهما في الآية) ونظائرها ممّا اجتمع فيه الكلمتان.

ففي العبارة إشارة إلى أنّه لا خلاف بينهم في تساويهما في الصدق لدى انفراد كلّ منهما عن الآخر في اللفظ ، بمعنى أنه مهما أطلق لفظ

__________________

(١) كما في كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٤٩٥.

٤٨٠