مصباح الفقيه - ج ١٣

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٢٥

«المساكين» وحدها في كلام لا يراد منه إلّا ما يراد من إطلاق لفظ «الفقراء» كما صرّح به غير واحد ، وادّعوا الإجماع عليه.

ففي المسالك ، قال في شرح العبارة ما لفظه :واعلم أنّ الفقراء والمساكين متى ذكر أحدهما خاصّة دخل فيه الآخر بغير خلاف ، نص على ذلك جماعة منهم : الشيخ والعلّامة (١) ـ رحمهما‌الله ـ ، كما في آية الكفّارة (٢) المخصوصة بالمسكين ، فيدخل فيه الفقير.

وإنما الخلاف في ما لو جمعا ، كما في آية الزكاة (٣) لا غير.

والأصحّ : أنّهما حينئذ متغايران ، لنصّ أهل اللّغة.

وصحيحة أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «الفقير الذي لا يسأل الناس ، والمسكين أجهد منه» (٤).

ولا ثمرة مهمّة في تحقيق ذلك ، للاتّفاق على استحقاقهما من الزكاة حيث ذكرا ، ودخول أحدهما تحت الآخر حيث يذكر أحدهما ، وإنّما تظهر الفائدة نادرا في ما لو نذر أو وقف أو أوصى لأسوئهما حالا ، فإنّ الآخر لا يدخل فيه ، بخلاف العكس (٥). انتهى.

واستشكل غير واحد (٦) في ما ذكروه من أنّه متى ذكر أحدهما دخل فيه الآخر بغير خلاف بأنّ هذا بعد ثبوت التغاير بين اللفظين مشكل ،

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٤٦ ، منتهى المطلب ١ : ٥١٧ ، تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٣٨.

(٢) سورة المجادلة ٥٨ : ٤.

(٣) سورة التوبة ٩ : ٦٠.

(٤) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦ ، التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ٣.

(٥) مسالك الأفهام ١ : ٤٠٩.

(٦) كالسيد العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ٢ ، ١.

٤٨١

لأنّ إطلاق لفظ أحدهما ، وإرادة ما يعمّ الآخر مجاز لا يصار إليه إلّا مع القرينة ، ومع انتفائها يجب حمل اللفظ على حقيقته.

ومن هنا استشكل في كفارات القواعد ـ على ما حكي عنه (١) ـ في إجزاء إطعام الفقراء عن المساكين إذا لم نقل بأنّ الفقير أسوأ حالا من المسكين. وكذا في الوصيّة للمساكين.

واختار في محكي الإيضاح وجامع المقاصد عدم الدخول في الوصيّة (٢).

ولم يرجّح في وصيّة الدروس ـ على ما حكي عنه (٣) ـ شيئا.

والذي ينبغي أن يقال في حلّ هذا الإشكال ، هو ما تقدمت الإشارة إليه من أنّ إطلاق لفظ المسكين على الأسوإ حالا ، وكذا الفقير إن قلنا به ، ليس لأجل كون هذه الخصوصيّة مأخوذة في مفهوم لفظه ، بل هما وصفان كلّيان أخذ أحدهما من الفقر الذي هو بمعنى الحاجة ، والآخر من المسكنة التي هي بمعنى الذلة ، وهما وصفان متلازمان لذات الممكن من حيث هي.

قال الله تبارك وتعالى «يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (٤).

وقال تعالى «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» (٥).

ومن الواضح أنّه لم يقصد بالمساكين في الآية الذين يسألون الناس ،

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٩٨ ، وراجع : قواعد الأحكام ١ : ٢٩٤ و ٢ : ١٤٨.

(٢) كما في جواهر الكلام ١٥ : ٢٩٨ ، وراجع : إيضاح الفوائد ٢ : ٤٩٧ وجامع المقاصد ١٠ : ٧٨.

(٣) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٢٩٨ ، وراجع : الدروس ٢ : ٣٠٨.

(٤) سورة فاطر ٣٥ : ١٥.

(٥) سورة الكهف ١٨ : ٧٩.

٤٨٢

بل الأذلّاء ، فإطلاق «المسكين» في العرف على من يسأل ، بملاحظة ظهور وصف المسكنة والالتجاء إلى الغير فيه ، لا كونه بالخصوص موضوعا له هذه الكلمة ، فالفقير المتعفّف الذي يعدّ في العرف من الأعزّة والأشراف هو في نفسه مسكين وإن لم يظهر عليه أثره ، إذ الفقر في حدّ ذاته من أقوى أسباب المذلّة ، فكلّ من يحتاج في نفقته إلى الاستعانة بغيره هو في نفسه مسكين وإن انصرف عنه إطلاق لفظه في المحاورات العرفيّة ما لم يظهر عليه أثره.

ولكن هذا أي الانصراف العرفي في ما إذا لم يكن المقام مناسبا لإرادة الأعمّ ، كما في موارد الأمر بالتصدّق على المساكين حيث إنّ المناسبة مقتضية لأن يكون نفس الفقر والحاجة بنفسها هي الملحوظة بهذا التكليف ، لا خصوصيّة وصف المسكنة من حيث هو ، كي يكون عدم بروزه في مورد موجبا لانصراف إطلاق اللفظ عنه ، فمتى اجتمع الفقراء والمساكين في كلام واحد ، كما لو أمر المولى عبده بأن يفرّق هذا المال على الفقراء والمساكين ، لا يتبادر من لفظ المساكين إلّا إرادة أهل السؤال ونحوهم ممّن ظهر عليه آثار المذلّة ، بخلاف ما لو انفردت المساكين بالذكر ، بأن أمره بالتصدّق به على المساكين ، كما في آية الخمس (١) ونظائرها (٢) ، فإنّ المتبادر من إطلاق المسكين في مثل هذه الموارد ليس إلّا ما يتبادر من إطلاق الفقير ، ولذا لم يقع الخلاف في ذلك على ما اعترف به غير واحد ، عدا ما صدر من بعض من تقدمت الإشارة إليه من التردّد فيه.

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٤١.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٧٧ وسورة الإسراء ١٥ : ٢٦.

٤٨٣

ولكن مع ذلك كلّه ، لا ينبغي ترك الاحتياط في باب الوصيّة والكفّارات ونظائرها ممّا لا شاهد على إرادة مطلق الفقير من لفظ المسكين بالاقتصار على الأسوإ حالا من مطلقه ، والله العالم.

وكيف كان ، فلمّا لم يجب البسط على أصناف المستحقّين ـ كما ستعرف ـ لا يترتّب على تحقيق أنّ الفقراء والمساكين صنف واحد أو صنفان ، وأنّ أحدهما أسوأ حالا من الآخر ثمرة مهمة في هذا الباب.

وإنما المهم بيان الحدّ المسوّغ لتناول الزكاة في هذين الصنفين وهو عدم الغنى ، وهذا على إجماله ممّا لا خلاف فيه ، كما عن غير واحد التصريح به.

قال العلامة في التذكرة : قد وقع الإجماع على أنّ الغني لا يأخذ شيئا من الزكاة من نصيب الفقراء : للآية (١).

ولقوله ـ عليه‌السلام ـ : «لا تحلّ الصدقة لغني» (٢).

ولكن اختلفوا في الغنى المانع من الأخذ ، فللشيخ قولان ، أحدهما :حصول الكفاية حولا له ولعياله (٣) ، وبه قال الشافعي ومالك (٤) ، وهو الوجه عندي ـ إلى أن قال ـ والقول الثاني للشيخ : إنّ الضابط من يملك نصابا من الأثمان أو قيمته فاضلا عن مسكنه وخادمه (٥) ، وبه قال

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٦٠.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ / ١٦٣٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٣٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٢ / ٦٥٢ ، سنن النسائي ٥ : ٩٩ ، المستدرك للحاكم ١ : ٤٠٧ ، مسند أحمد ٢ : ١٦٤ و ١٩٢ و ٣٨٩ و ٥ : ٣٧٥.

(٣) الخلاف ٤ : ٢٣٨ ، المسألة ٢٤.

(٤) المجموع ٦ : ١٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣ ، المغني ٢ : ٥٢٢ و ٧ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

(٥) المبسوط ١ : ٢٧٥.

٤٨٤

أبو حنيفة (١) (٢). انتهى.

وحكي عن المفاتيح أنّه اختار قولا ثالثا حاكيا له عن الشيخ في المبسوط ، وهو أنّ الفقير من لم يقدر على كفايته وكفاية من يلزمه من عياله عادة على الدوام (٣).

والمعتمد هو القول الأوّل وهو : أن الفقير من يقصر ماله عن مئونة سنة له ولعياله ، كما هو المشهور بين المتأخّرين ، أو مطلقا على ما ادّعاه بعض ، بل ربّما نسب إلى عامّة أصحابنا (٤).

والمراد بماله أعمّ من المال المملوك له بالفعل أو بالقوّة ، فصاحب الحرفة والصنعة اللائقة بحاله الوافية بمئونته غني لم يجز له تناول الزكاة ، كما أنّ المراد بالمال الوافي بمئونته ، هو : المال الذي من شأنه الصرف في نفقته ، لا مثل أثاث بيته ، أو رأس مال تجارته المحتاج إليه في تكسّبه ، أو البستان والضيعة التي يتعيش بنمائها ، كما ستعرف.

أمّا جواز تناول الزكاة لمن لا يملك فعلا أو قوّة مئونة سنته فيدلّ عليه صحيحة أبي بصير ، قال : سمعت الصادق ـ عليه‌السلام ـ يقول : «يأخذ الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره» قلت : فإنّ صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة؟ قال : «زكاته صدقة على عياله ، ولا يأخذها إلا أن يكون إذا اعتمد على السبعمائة أنفدها في أقل من سنة فهذا يأخذها ، ولا تحلّ الزكاة لمن كان محترفا وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ

__________________

(١) المبسوط للسرخسي ٣ : ١٤ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١١٥ ، المغني ٢ : ٥٢٣ و ٧ : ٣١٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣.

(٢) تذكرة الفقهاء ٥ : ٢٣٨ ـ ٢٤٠ ، المسألة ١٦٣.

(٣) حكاه صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٠٧ ، وراجع : مفاتيح الشرائع ١ : ٢٠٤ ، والمبسوط ١ : ٢٥٦.

(٤) الناسب هو : صاحب الجواهر فيها ١٥ : ٣٠٤.

٤٨٥

الزكاة» (١).

وصحيحة علي بن إسماعيل الدغشي ، المرويّة عن العلل ، قال : سألت أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ عن السائل وعنده قوت يوم أيحلّ له أن يسأل؟ وإن اعطي شيئا من قبل أن يسأل يحلّ له أن يقبله؟ قال :«يأخذ وعنده قوت شهر ما يكفيه لسنته من الزكاة لأنّها إنّما هي من سنة إلى سنة» هكذا رواها في الوسائل عن العلل (٢).

ولكن في نسخة العلل المطبوعة الموجودة عندنا نحوه ، إلّا أنّ فيها قال :«يأخذه وعنده قوت شهر وما يكفيه لستّة أشهر من الزكاة».

وفي البحار رواها نقلا عن العلل نحوه (٣).

وكيف كان ، فظاهرها أنّ العلّة في جواز أخذ مقدار كفاية السنة أنّه لو منع من ذلك ، لبقي محتاجا في بعض السنة ، ومقتضاه جواز الأخذ لمن يقصر ماله عن مئونة السنة مطلقا ولو بمقدار شهر فما دون.

ويدلّ عليه أيضا فحوى ما سيجي‌ء من الروايات الدالّة على جواز الأخذ لمن له رأس مال لا يحصل منه ما يفي بمئونته.

ومفهوم رواية يونس بن عمّار ، قال : سمعت الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، يقول : «تحرم الزكاة على من عنده قوت السنة ، وتجب الفطرة على من عنده قوت السنة» (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٠ / ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١. وجملة «أن يأخذ الزكاة» لم ترد في المصدر وإنّما هي من الوسائل.

(٢) الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٧ ، وراجع : علل الشرائع :٣٧١ ـ ٣٧٢ ، الباب ٩٧.

(٣) بحار الأنوار ٩٦ : ٦٥ / ٢٩.

(٤) المقنعة : ٢٤٨ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١٠ ، وأيضا الباب ٢ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ١١.

٤٨٦

والمناقشة فيه بعدم الاعتداد بمفهوم الوصف ، مدفوعة : بوروده بظاهره في مقام التحديد المناسب لإرادة الانتفاء عند الانتفاء كما لا يخفى.

والمنساق من لفظ «القوت» في مثل هذه الموارد إرادة مطلق المئونة ، لا خصوص القوت ، ولعلّ في بعض الأخبار الآتية إشارة إليه ، مع أنه لم ينقل القول بالتفصيل بين القوت وغيره عن أحد.

وأمّا عدم جواز تناولها لمن ملك مئونة سنته وإن لم يملك أزيد من ذلك فيدل عليه منطوق رواية يونس المتقدمة (١) ، ومفهوم التعليل الوارد في صحيحة علي بن إسماعيل المتقدمة (٢).

مضافا إلى أنّ من كان بالفعل مالكا لمقدار من المال الصالح للصرف في نفقته واف بمئونة سنة له ولعياله لا يعدّ في العرف فقيرا ، بل لولا دلالة النصوص والفتاوى على اندراج من يقصر ماله عن مئونة سنته ، لأشكل الجزم بذلك بالنسبة إلى من كان بالفعل مالكا لمقدار معتد به من المال واف بمئونة ستّة أشهر أو سبعة مثلا وإن كان لمئونة السنة من حيث هي نوع اعتبار وملحوظيّة لدى العرف ، بحيث يرون الشخص محتاجا إلى تحصيلها ، كما يرونه محتاجا إلى مئونة يومه وليله ، أو مئونة سفره الذي يتلبّس به من حين تلبّسه به ، خصوصا بالنسبة إلى الأقوات التي من شأنها الادّخار من سنة إلى سنة.

ولكن يشكل الاعتماد على مثل هذه الملاحظات والاعتبارات على وجه يورث الجزم بجواز صرف المال ـ الذي جعله الله للفقراء والمساكين ـ إلى من كان بالفعل مالكا لمقدار معتدّ به من المال واف بمئونته عدّة

__________________

(١) تقدمت في ص ٤٨٦.

(٢) تقدّمت في ص ٤٨٦.

٤٨٧

أشهر ، فإنّه من أخفى مصاديق الفقير الذي لا يبعد دعوى انصراف إطلاق اسمه عنه لولا دلالة النصوص والفتاوى على عمومه.

ودعوى أنّ من لم يكن له حرفة أو ممرّ معيشة واف بمئونته عادة على سبيل الاستمرار لا يعدّ في العرف غنيّا وإن كان بالفعل مالكا لما يفي بمئونة سنة أو سنتين ، بل يرونه محتاجا إلى تحصيل مال كذلك ، وعنده قصور يده عنه يرونه فقيرا ، مدفوعة بعدم كون الاحتياج إلى تحصيل مثل هذا المال مصحّحا لإطلاق اسم الفقير عليه على الإطلاق ، بل هو بالفعل غنيّ لدى العرف حال كونه واجدا لمئونة سنته ، فالقول بأنّ الفقير : من لم يقدر على كفايته وكفاية من يلزمه من عياله عادة على الدوام ـ كما هو المحكي عن الشيخ في مبسوطة وصريح المحكي عن المفاتيح ـ ضعيف.

وأمّا القول بأنّ الفقير من لم يملك نصابا من الأثمان أو قيمته فقد استدلّ له بالنبوي العامي : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : «إنّك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أنّ الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم» (١) ، إذ ليس لخصوصيّة النصاب ولا لجامعيّته لشرائط الزكاة ـ كحؤول الحول عليه إن كان ممّا يعتبر فيه الحول ـ مدخليّة في تسمية بالفعل غنيّا ، فيكشف ذلك عن أنّ من كان مالكا لهذا المقدار من المال فاضلا عن مسكنه وخادمه ـ الذي يحتاج إليه في تعيّشه مثلا من أيّ جنس يكون ـ هو غني وإن لم يجب عليه الزكاة بالفعل ، لاختلال شي‌ء

__________________

(١) سنن الدارمي ١ : ٣٧٩.

٤٨٨

من شرائطها ، أو عدم كون المال زكويّا ، أو كون المالك صغيرا.

واستدلّ له أيضا بالتنافي بين وجوب دفع الزكاة عليه وجواز أخذها له.

وفيه : منع التنافي بين الأمرين.

وأمّا الخبر المزبور فهو جار مجرى الغالب ، وإلّا فقد عرفت في محلّه أنّ الدين لا يمنع من وجوب الزكاة ، فقد يكون مالك النصاب مشغول الذمة بثمنه أو أضعاف أضعافه من الدين ، مع كونه بالفعل محتاجا إلى نفقة أكثر من قيمة النصاب ، كما إذا ملك زرعا أو ثمرة نخل بالغة حدّ النصاب قبل بدوّ صلاحها ، بثمن (١) في ذمّته ، مع كونه بالفعل محتاجا إلى مسكن ولباس وطعام لا يفي بحاجته الفعليّة أضعاف قيمة ذلك النصاب.

وهذا ممّا لا شبهة في فقره وعدم كونه من أغنيائهم لا عرفا ولا شرعا.

مع أنّ الرواية عامية فلا تعويل عليها.

وعلى تقدير تسليم سندها وتماميّة دلالتها ، فلا يتفاوت الحال بين كون النصاب من الأثمان أو غيرها.

مع أنّ القائل بالقول المزبور على ما نقله العلّامة في عبارته المتقدمة ، قيّده بالأوّل ، فلا تصلح الرواية حينئذ مستندة له ، كما أنّه لا يصح أن يستند إلى قول الصادق ـ عليه‌السلام ـ في صحيحة زرارة : «لا تحلّ لمن كانت عنده أربعون درهما يحول عليها الحول أن يأخذها ، وإن أخذها أخذها حراما» (٢) فإنّ أربعين درهما بنفسه ليس نصابا يجب فيه الزكاة ،

__________________

(١) الجار والمجرور يتعلّق بـ «ملك».

(٢) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣١ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٥.

٤٨٩

فالظاهر كونه كناية عن الغني ، أي : عنده أربعون درهما غير محتاج إليها وقد حال عليها الحول ، كقوله ـ عليه‌السلام ـ في ذيل خبر أبي بصير : «لا تحلّ الزكاة لمن كان محترفا وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة» (١).

وكيف كان ، فلا مجال للارتياب في عدم كون مالكيّة مقدار النصاب موجبا لخروج مالكه عن مصداق الفقير على الإطلاق ، ولا لاندراجه في مسمّى الغني كذلك ، كما يدلّ عليه مضافا إلى شهادة العرف به ، النصوص المعتبرة ـ التي تقدم بعضها ـ المصرّحة باستحقاق صاحب السبعمائة أو الثلاثمائة للزكاة عند قصور ما ملكه عن مئونة سنته ، فالقول المزبور ـ مع شذوذه ـ في غاية الضعف ، والله العالم.

تنبيه قد ناقش جملة من متأخّري المتأخّرين ـ كصاحبي المدارك والحدائق ـ في ما ذكره المشهور في تحديد الفقر المسوّغ لتناول الزكاة ، من أن الفقير من قصر ماله عن مئونة سنته.

ففي المدارك ، بعد أن نقل عن ابن إدريس أنّه عرّف الغني بمن ملك من الأموال ما يكون قدر الكفاية لمئونة سنته ، قال : وإلى هذا القول ذهب المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وعامّة المتأخّرين ، وحكاه في المعتبر عن الشيخ في باب قسم الصدقات.

لكن لا يخفى أنّ هذا الإطلاق مناف لما صرّح به الأصحاب كالشيخ والمصنّف في النافع ، والعلّامة ، وغيرهم من جواز تناول الزكاة لمن كان

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٠ / ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١.

٤٩٠

له مال يتعيّش به ، أو ضيعة يستغلها إذا كان بحيث يعجز عن استنماء الكفاية ، إذ مقتضاه أنّ من كان كذلك كان فقيرا وإن كان بحيث لو أنفق رأس المال المملوك له ، لكفاه طول سنته.

ثمّ قال : والمعتمد أنّ من كان له مال يتّجر به أو ضيعة يستغلّها ، فإن كفاه الربح أو الغلّة له ولعياله ، لم يجز له أخذ الزكاة ، وإن لم يكفه ، جاز له ذلك ، ولا يكلّف الإنفاق من رأس المال ، ولا من ثمن الضيعة ، ومن لم يكن له ذلك ، اعتبر فيه قصور أمواله عن مئونة السنة له ولعياله (١). انتهى.

أقول : قد أشرنا آنفا إلى أنّ المراد بالمال الوافي بمئونته هو ـ المال الذي لا يتوقّف تعيّشه في العرف والعادة على حفظ هذا المال ، والتعيّش بنمائه ، وإلّا فهو بمنزلة الآلة لحرفته وصنعته التي هي ممرّ معيشته.

ويشهد لإرادتهم هذا المعنى تصريحهم بجواز تناول الزكاة لمن كان له مال يتعيّش بنمائه ، أو ضيعة يستغلّها إذا لم يكن نماؤها بقدر الكفاية.

وكيف كان ، فهذا هو المشهور على ما نسب (٢) إليهم.

ويدلّ عليه مضافا إلى عدم كفاية وجود مثل هذا المال المتوقّف عليه نظم معاشه ما لم يكن ربحه وافيا بمئونته في خروجه عن مسمّى الفقير عرفا ، جملة من الأخبار :

منها : صحيحة معاوية بن وهب ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الرجل يكون له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وله

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ١٩٣ ـ ١٩٤ ، وراجع : السرائر ١ : ٤٦٢ ، والمعتبر ٢ : ٥٦٦ ، والمبسوط ١ : ٢٥٦ ، والنهاية ١٨٧ ، والمختصر النافع : ٥٨ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥١٨ ، وتحرير الأحكام ١ : ٦٨ ، وقواعد الأحكام ١ : ٥٧.

(٢) الناسب هو صاحب المدارك فيها ٥ : ١٩٦.

٤٩١

عيال ، وهو يحترف فلا يصيب نفقته فيها أيكبّ فيأكلها ولا يأخذ الزكاة ، أو يأخذ الزكاة؟ قال : «لا ، بل ينظر إلى فضلها فيقوت بها نفسه ومن وسعه ذلك من عياله ، ويأخذ البقيّة من الزكاة ويتصرّف بهذه لا ينفقها» (١).

ورواية هارون بن حمزة ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ :يروون عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال : «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سويّ» فقال : «لا يصلح لغني» قال : فقلت له : الرجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعة وله عيال ، فإن أقبل عليها أكلها عياله ، ولم يكتفوا بربحها ، قال : «فلينظر ما يستفضل منها فيأكله هو ومن وسعه ذلك ، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله» (٢).

ويمكن الخدشة في دلالة هذين الخبرين ، خصوصا الأخير منهما بإمكان أن يكون المراد بهما أخذ الزكاة لنفس الأشخاص الذين لم يسعهم ذلك إن كانوا بأنفسهم فقراء لا لنفسه ، وصرفه في نفقتهم كي ينافيه كونه غنيّا ، فليتأمّل.

وموثّقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال : «نعم إلّا أن تكون داره دار غلّة فيخرج له من غلّتها ما يكفيه وعياله ، فإن لم تكن الغلّة تكفيه لنفسه وعياله في طعامهم وكسوتهم وحاجتهم من غير إسراف ، فقد حلّت له الزكاة ، وإن كانت غلّتها تكفيهم فلا» (٣).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦١ / ٦ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣٠ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٤.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٠ / ٤ ، التهذيب ٤ : ١٠٧ ـ ١٠٨ / ٣٠٨ ، الفقيه ٢ : ١٧ / ٥٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ١.

٤٩٢

وخبر أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن رجل له ثمانمائة درهم وهو رجل خفّاف وله عيال كثير ، إله أن يأخذ من الزكاة؟ «فقال : يا أبا محمّد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟» قال : قلت : نعم ، قال : «كم يفضل؟» قال : لا أدري ، قال : «إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة ، وإن كان أقلّ من نصف القوت أخذ الزكاة» قال : قلت : فعليه في ماله زكاة تلزمه؟قال : «بلى» قال : قلت : كيف يصنع؟ قال : «يوسّع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم ، ويبقى منها شيئا يناوله غيرهم ، وما أخذ من الزكاة فضّه على عياله حتّى يلحقهم بالناس» (١).

ولعلّ اعتبار زيادة نصف القوت بملاحظة بعض المخارج الغير المعلومة الاتفاقية الطارئة في أثناء الحول ، أو التوسعة على عياله حتّى يلحقهم بالناس ، كما يومئ إليه ذيل الحديث ، أو بملاحظة مثل اللباس ونحوه ممّا لا يدخل في مسمّى القوت إلّا على سبيل التوسّع.

والزكاة التي أثبتها في ماله هي زكاة التجارة المستحبّة التي لا محذور في الأمر بصرفها في التوسعة على عياله ، وإيصال شي‌ء منه إلى غيرهم.

وخبر إسماعيل بن عبد العزيز عن أبيه ، قال : دخلت أنا وأبو بصير على أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ فقال له أبو بصير : إنّ لنا صديقا وهو رجل صدوق يدين الله بما ندين به ، فقال : «من هذا يا أبا محمّد الذي تزكّيه؟» فقال : العبّاس بن الوليد بن صبيح ، فقال : «رحم الله الوليد بن صبيح ، ماله يا أبا محمد؟» قال : جعلت فداك له دار تسوي أربعة آلاف درهم ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٠ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٨ / ٥٨ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٤.

٤٩٣

وله جارية ، وله غلام يستقي على الجمل كل يوم ما بين الدرهمين إلى الأربعة سوى علف الجمل ، وله عيال إله أن يأخذ من الزكاة؟ قال :«نعم» قال : وله هذه العروض؟ فقال : «يا أبا محمد فتأمرني أن آمره ببيع داره وهي عزّه ومسقط رأسه ، أو ببيع خادمه الذي يقيه الحرّ والبرد ، ويصون وجهه ووجه عياله ، أو آمره أن يبيع غلامه وجمله وهو معيشته وقوته؟ بل يأخذ الزكاة فهي له حلال ، ولا يبيع داره ولا غلامه ولا جمله» (١).

وسوق هذه الأخبار مع ما فيها من ترك الاستفصال يجعلها إ في عدم الفرق بين ما لو كانت قيمة الضيعة أو بضاعته التي يتّجر بها لو أكبّ عليها وصرفها في نفقته ، كانت وافية بمئونته وعدمه.

فما في صحيحة أبي بصير ـ المتقدمة (٢) ـ من تقييد جواز الأخذ لصاحب السبعمائة بما إذا كان لو اعتمد عليها أنفدها في أقلّ من سنة ، إنّما هو لغير المحترف الذي يستعملها في حرفته التي هي ممر معيشته بشهادة الروايات المزبورة لو لم نقل بانصرافه في حدّ ذاته إليه.

ثمّ إنّ المدار في استثناء رأس المال ممّا يحصل به الكفاية ـ كما صرّح به بعض (٣) ـ على الاستنماء الفعلي ، أي : استعماله بالفعل في تجارته ، كما هو مساق الروايات ، لا مجرّد شأنيّته لذلك وإن لم يعمل به بالفعل ، فإنّ هذا بمجرّده لا يجعله كدار سكناه مستثنى عمّا يحصل به الكفاية.

كما أنّ المدار على كونه محتاجا في مئونته إلى الاكتساب بهذا المال

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٢ / ١٠ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣.

(٢) تقدمت في ص ٤٨٥.

(٣) راجع : جواهر الكلام ١٥ : ٣١١.

٤٩٤

بحيث لولاه ، لاختلّ نظم معاشه ، وهكذا في الضيعة ونحوها ممّا التزمنا باستثنائه.

ولا يتفاوت الحال في جواز تناول الزكاة عند قصور حاصل الضيعة أو ربح التجارة عن مئونته في كلّ سنة أو حصوله في بعض السنين من باب الاتّفاق ، فإنه في السنة التي ينقص فيها ربحه يجوز له أن يتناول من الزكاة بمقدار الكفاية ، ولا يبيع ضيعته أو يتصرّف في رأس ماله إلّا أن يكون فيه زيادة عن المقدار الذي يتوقّف عليه تكسّبه ، والله العالم.

(ومن يقدر على اكتساب ما يموّن نفسه وعياله) على وجه يليق بحاله (لا تحلّ له) الزكاة (لأنّه كالغني ، وكذا ذو الصنعة) اللائقة بحاله التي تقوم بكفايته كالصياغة والحياكة والخياطة ونحوها.

وأمّا القدرة على الكسب والصنعة الغير اللائقين بحاله فليست مانعة عن تناولها جزما ، فلا يكلّف الرفيع ببيع الحطب والحرث ، والكنس وخدمة من دونه في الشرف ، وأشباه ذلك ممّا فيه مذلّة في العرف والعادة ، فإنّ ذلك أصعب من بيع خادمه وداره ، الذي قد سمعت في خبر إسماعيل ـ المتقدم (١) ـ التصريح بعدم لزومه ، مع ما فيه من الحرج المنفي بأدلّتها.

ومنه يعلم عدم مانعيّة القدرة على الحرف والصنائع الشاقة التي لا تتحمّل في العادة وإن لم تكن منافية لشأنه.

مضافا إلى أنّ القدرة على مثل هذه الأمور لا تجعله كالغني ، وإلّا فقلما يوجد فقير في العالم.

بل في الجواهر استشكل في كون القدرة على الكسب اللائق بحاله ،

__________________

(١) تقدم في ص ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

٤٩٥

الوافي بمئونته ـ ما لم يكن بالفعل مشغولا بحرفته وكسبه ـ مانعا عن جواز تناول الزكاة ، بل قوّى عدمه ، نظرا إلى عدم خروجه بذلك عرفا عن حدّ الفقير الذي وضع له الزكاة (١).

بل عن الخلاف أنّه حكى عن بعض أصحابنا جواز الدفع للمكتسب من غير اشتراطه بقصور كسبه (٢).

واستدلّ له في محكي المختلف (٣) بأنّه غير مالك للنصاب ولا لقدر الكفاية ، فجاز له الأخذ من الصدقة كالفقير.

ثمّ أجاب عنه بالفرق ، فإنّ الفقير محتاج إليها بخلاف صورة النزاع.

أقول : وربما يؤيّد القول المزبور قوله ـ عليه‌السلام ـ في صحيحة أبي بصير ، المتقدمة (٤) : «ولا تحلّ الزكاة لمن كان محترفا وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة» فإنّه مشعر بحلّيّته (٥) للمحترف الذي لا يملك النصاب وإن كان كسبه وافيا بمئونته.

ولكنّه لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذا الإشعار في مقابل ما ستعرف ، خصوصا بعد الالتفات إلى أنّ من كان له حرفة تفي بمئونته ، لائقة بحاله على سبيل الاستمرار لا يعدّ في العرف فقيرا ، بل هو لدى العرف أغنى من غير المحترف المالك المئونة سنة أو سنتين من غير أن يكون له ممرّ معيشة على الدوام.

وقد ورد التصريح بحرمة الزكاة على صاحب الخمسين إذا كان له

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢) حكاه صاحب المدارك فيها ٥ : ١٩٧ ، وراجع : الخلاف ٤ : ٢٣٠ ، المسألة ١١ ، والمختلف :٣ : ٩٦ ، المسألة ٦٩.

(٣) حكاه صاحب المدارك فيها ٥ : ١٩٧ ، وراجع : الخلاف ٤ : ٢٣٠ ، المسألة ١١ ، والمختلف :٣ : ٩٦ ، المسألة ٦٩.

(٤) تقدّمت في ص ٤٩٠.

(٥) الأنسب : بحليّتها.

٤٩٦

حرفة كافية بمئونته في موثّقة سماعة عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلامة ـ قال :«قد تحلّ الزكاة لصاحب السبعمائة وتحرم على صاحب الخمسين درهما» فقلت له : وكيف يكون هذا؟ قال : «إذا كان صاحب السبعمائة له عيال كثير ، فلو قسمها بينهم لم تكفه ، فليعفّ عنها نفسه وليأخذ لعياله ، وأمّا صاحب الخمسين فإنّه يحرم عليه إذا كان وحده وهو محترف يعمل بها وهو يصيب منها ما يكفيه إن شاء الله» (١).

وكذا في الموثّق عن محمّد بن مسلم وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «تحلّ الزكاة لمن له سبعمائة درهم إذا لم يكن له حرفة ويخرج زكاتها منها ويشتري منها بالبعض قوتا لعياله ، ويعطي البقيّة لأصحابه ، ولا تحل الزكاة لمن له خمسون درهما وله حرفة يقوت بها عياله» (٢).

ومن المعلوم أنّ الخمسين درهما ليس نصابا يجب فيه الزكاة ، فهذا القول مع شذوذه ، بل عدم معروفيّة قائله ، في غاية الضعف.

وأمّا القول بكفاية مجرّد القدرة على صنعة أو كسب لائق بحاله ، كما هو مقتضى ظاهر المتن وغيره ، بل المشهور ـ على ما نسب إليهم (٣) ـ فمستنده صحيحة زرارة أو حسنته ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ، قال :سمعته يقول : «إنّ الصدقة لا تحلّ لمحترف ، ولا لذي مرّة سوي قوي فتنزّهوا عنها» (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦١ / ٩ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢.

(٢) علل الشرائع : ٣٧٠ ، الباب ٩٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٦.

(٣) الناسب هو : العاملي في مدارك الأحكام ٥ : ١٩٦.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦٠ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٢.

٤٩٧

وخبر أبي البختري المروي عن قرب الإسناد عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام ، أنّه كان يقول : «لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سوي» (١).

وعن الصدوق في معاني الأخبار بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لا تحلّ الصدقة لغنيّ ، ولا لذي مرّة سويّ ، ولا لمحترف ولا لقويّ» قلنا : ما معنى هذا؟قال : «لا يحلّ له أن يأخذها وهو يقدر على أن يكفّ نفسه عنها» (٢).

ولكن بعد أن روى هذه الرواية ، قال : وفي حديث آخر عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «قد قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ :إنّ الصدقة لا تحل لغنيّ ، ولم يقل : ولا لذي مرّة سويّ» (٣).

وعنه في الفقيه قال : وقيل للصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الناس يروون عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال : «إنّ الصدقة لا تحلّ لغنيّ ولا لذي مرّة سويّ» فقال : «قد قال لغنيّ ، ولم يقل لذي مرّة سويّ» (٤).

واستظهر في الجواهر من إنكار أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال ذلك : جواز تناولها لذي القوة» (٥).

وفيه : بعد تسليم هذا الظهور والغضّ عن معارضته بما قبله ، أنّه لا وثوق بهذا الحديث المرسل ، بل الغالب على الظنّ ـ كما اعترف به في الجواهر (٦) ـ كونه إشارة إلى صحيحة معاوية بن وهب ، قال : قلت لأبي

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٥٥ / ٥٧٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقّين للزكاة ، الحديث ١١.

(٢) معاني الأخبار : ٢٦٢ / ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٨.

(٣) معاني الأخبار : ٢٦٢ / ٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٩.

(٤) الفقيه ٣ : ١٠٩ / ٤٥٨ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٥.

(٥) جواهر الكلام ١٥ : ٣١٤.

(٦) جواهر الكلام ١٥ : ٣١٣.

٤٩٨

عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : يروون عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «أنّ الصدقة لا تحلّ لغنيّ ولا لذي مرّة سويّ» فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «لا تصلح لغني» (١).

أو رواية هارون بن حمزة المتقدّمة (٢) في المسألة السابقة التي هي نحوها.

مع أنّه لا دلالة لهذه العبارة على نفي صدور ذلك الكلام من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هي إشارة إلى إناطة الحكم بحصول الغنى ، وأنه لم يقصد بـ «ذي مرّة سويّ» معنى مغاير لذلك ، بل هو جار مجرى الغالب من كونه قادرا على أن يكفّ نفسه عنها ، الذي هو معنى الغنيّ وإن انصرف عنه إطلاق لفظه لدى عدم كونه بالفعل ذا مال فكأنّه أريد بالجواب شرح ما روي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لدى التحليل ، كما في رواية زرارة ـ الثانية ـ من تفسير مجموع الفقرات المرويّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأنّه لا يحلّ له أن يأخذ الزكاة وهو يقدر على أن يكفّ نفسه عنها ، فيستفاد من هذه الرواية ، بل وكذا من صحيحة معاوية ، ورواية هارون بن حمزة : أنّ المراد بالمحترف والقوي وذي مرّة ـ الواردة في سائر الأخبار النافية لحلّ الصدقة لهم ـ ليس مطلقها ، بل من يقدر على أن يموّن نفسه وعياله ، مضافا إلى شهادة غيرها من القرائن بذلك ، فيتمّ الاستدلال بها للمشهور.

ولكن قد يشكل ذلك : بأنّ مجرّد القدرة على ذلك ما لم يتلبّس بحرفة أو كسب لائق بحاله واف بمئونته لا يجعله غنيّا ، بل لا يخرجه عرفا عن

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٢ / ١٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب المستحقين للزكاة ، الحديث ٣.

(٢) تقدمت في ص ٤٩٢.

٤٩٩

موضوع الفقير ، فيشكل الالتزام بعدم جواز تناوله للزكاة مع احتياجه إليها بالفعل واندراجه في زمرة الفقراء عرفا ولغة ، لإباء أدلّة شرع الزكاة للفقراء عن الصرف عن مثله.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ هذا إنّما هو بالنظر إلى حال احتياجه وعدم قدرته على أن يكفّ نفسه عنها ، ولا كلام في جواز تناوله منها.

وإنّما الكلام في إباحتها له حال قدرته على تحصيل مقدار حاجته بكسبه ، وهو في هذا الحال بحكم الغني في العرف ، ولا يعدّ فقيرا.

ولكن جعل شيخنا المرتضى محلّ الإشكال حال عجزه عن الاكتساب ، فقال ما لفظه : ولو ترك المحترف الحرفة ، فاحتاج في زمان لا يقدر عليها ، كما لو ترك العمل نهارا ، فاحتاج ليلا ، وكما لو ترك البناء عمل البناء في الصيف ، فاحتاج في الشتاء مع عدم حصول ذلك العمل له فيه إشكال من صدق الفقير عليه ، وأنّه لا يقدر في الحال على ما يكفّ به نفسه عن الزكاة ، فتعمّه أدلّة جواز الأخذ. ومن صدق المحترف وذي المرّة السويّ عليه ، فتشمله أدلّة المنع ، وهو الأقوى ، لعدم معلوميّة صدق الفقير عليه ، وإلّا لصدق على المحبوس الغنيّ ، ولم يجعل ابن السبيل قسيما للفقير في الكتاب والسنّة. نعم لا بأس بالصرف إليه من سهم سبيل الله.

لكنّ الإنصاف أنّه لو لم ينعقد الإجماع على الخلاف قوي القول بجواز الدفع إلى كلّ محتاج في آن حاجته وإن كان عرض له في زمان يسير ولو بسوء اختياره (١). انتهى.

أقول : قد ظهر لك ـ في ما مرّ ـ أنّه لا عبرة بصدق المحترف وذي المرّة

__________________

(١) كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري : ٤٩٦.

٥٠٠