مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

يتحرّزون عن النجاسات بل الكفّار ، إلى غير ذلك من المقرّبات.

ويدفعها : الأخبار الصحيحة الصريحة التي لا مجال للمناقشة فيها ورفع اليد عنها بمجرّد هذه الاستبعادات ، بل وأضعاف أضعافها.

هذا ، مع أنّ الأوّل منها يرد عليه النقض : بحجر الاستنجاء ، والأرض التي تطهّر باطن النعل.

وحلّه بالمقايسة إلى القذارات الصورية التي ينفعل بغسلها الماء ويطهر المحلّ.

وأمّا الإجماع على أنّ النجس منجّس أو أنّه ليس بمطهّر فإنّما هو في ما إذا لم تكن النجاسة مكتسبة من الملاقاة حال التطهير ، وأمّا لو كانت مكتسبة عنها حين التطهير فلا إجماع ، بل الإجماع على خلافه.

وأمّا استبعاده الناشئ من تعاطي الصبيان والنساء والإماء أواني شربهم ، فإنّما يرتفع بالمقايسة إلى أواني أكلهم : المرق وغيره من المائعات المضافة التي تنفعل بملاقاة النجاسة بلا خلاف فيه على الظاهر.

ودعوى : أنّه لم تنقل واقعة في الطهارات ، يدفعها الأخبار المتقدّمة الكاشفة أغلبها عن كون الانفعال في الجملة مغروسا في أذهانهم.

وكيف كان ، فهذا القول ـ خصوصا بعد مخالفته لإجماع العلماء خلفا عن سلف ، إلّا من شذّ منهم ـ من الضعف بمكان لا ينبغي الالتفات اليه بمثل هذه الاعتبارات ، والله العالم.

وعن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في الاستبصار القول بعدم انفعال الماء القليل

٨١

بما لا يدركه الطرف من الدم (١).

وفي محكي المبسوط : ما لا يمكن التحرّز عنه ، مثل : رؤوس الإبر من الدم وغيره ، فإنّه معفوّ عنه ، لأنّه لا يمكن التحرّز عنه (٢). انتهى.

وفي استدلاله منع ظاهر.

وربما يعلّل في خصوص الدم : بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام في رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ، هل يصح الوضوء منه؟ فقال عليه‌السلام : «إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا يتوضّأ منه» (٣).

وفيه : أنّ ظاهر السؤال أنّه لم يعلم إلّا إصابة الإناء ، وحيث إنّ وصول شي‌ء من تلك القطع إلى الإناء لا ينفك غالبا عن إصابة الماء أيضا تحيّر السائل في حكمه ، وأجابه الإمام عليه‌السلام بنفي البأس ما لم يظهر شي‌ء من الدم في الماء ، وعلى تقدير كون كلمة «شي‌ء» منصوبة ـ كما عن بعض النسخ ـ فمعناه أيضا يؤول إلى ذلك ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ومعلوم أنّك لو سألت المجتهد عن مثل الفرض ، يجيبك بمثل جواب الإمام عليه‌السلام ، لانحصار طريق حصول القطع بإصابة الماء في مفروض السؤال بظهور أثر الدم في الماء ، لأنّ ما عداه من الأمارات ـ

__________________

(١) الحاكي عنه هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٧٤ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١ ، وراجع : الاستبصار ١ : ٢٣.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١ ، وراجع : المبسوط ١ : ٧.

(٣) الكافي ٣ : ٧٤ ـ ١٦ ، التهذيب ١ : ٤١٢ ـ ١٢٩٩ ، الإستبصار ١ : ٢٣ ـ ٥٧ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

٨٢

كإصابة الإناء أو تفرّق أجزاء الدم أو تموّج الماء ـ لا يورث إلّا الظنّ بالإصابة ، فلا يلتفت إليها.

وبما أشرنا إليه من أنّ إصابة الإناء أمارة ظنّية ـ في مثل الفرض ـ لإصابة الماء ، ظهر لك اندفاع ما قيل من أنّ عدم المناسبة بين إصابة الإناء والسؤال عن حكم الماء ـ خصوصا من مثل علي بن جعفر ـ قرينة على أنّ المراد إصابة الماء.

ثم لو سلّم ظهور الرواية في أنّ المراد إن لم يكن الدم الواقع في الماء شيئا يستبين فيه ، فنقول : إنّ هذا الظاهر لا ينطبق إلّا على مذهب العماني ، إذ لا ملازمة بين عدم استبانته في الماء وكونه ممّا لا يدركه الطرف قبل وقوعه في الماء ، إذ ربما يكون قبل وقوعه في الماء بيّنا ، وبوصوله إلى الماء يستهلك ، فيجب حمل الرواية على ما لا ينافي الأدلّة المتقدّمة ، والله العالم.

وقد ظهر لك أنّ الأقوى ما عليه المشهور ، وهو انفعال الماء القليل بمطلق النجاسة قليلها وكثيرها.

وهل ينفعل الماء القليل مطلقا بمجرّد ملاقاة النجس ، أم يشترط ورود النجاسة على الماء ، فلو ورد الماء على النجس لا ينجس مطلقا ، أو بشرط استعمال الماء الوارد في التطهير ، أو أنّ المستعمل في التطهير لا ينفعل مطلقا واردا أم مورودا لو قلنا بجوازه؟ وجوه بل أقوال ، أشهرها بل

٨٣

عن المشهور (١) الأول ، خلافا لما نسب (٢) إلى السيّد والحلّي من عدم نجاسة الماء الوارد.

وعن جملة من الأصحاب : طهارة ما يستعمل في التطهير مطلقا ، أو خصوص الغسلة المطهّرة (٣).

واختار طهارته مطلقا بعض مشايخنا (٤) ـ قدس‌سره ـ ولكنه اعتبر في جوازه ورود الماء على النجس ، وسيأتي الكلام في تحقيقه في مبحث الغسالة إن شاء الله.

وأمّا القول المحكي عن السيّد والحلّي فلا يبعد دعوى مخالفته بإطلاقه للإجماع ، بل عن غير واحد من الأساطين دعوى الإجماع على خلافه في بعض جزئيات المسألة.

ومنشأ النسبة إليهما ما ذكره السيّد في الناصريات ، وقوّاه الحلّي بعد نقله.

قال ـ في محكي السرائر في باب إزالة النجاسات ـ : إن أصابه من الماء الذي يغسل به الإناء من الولوغ ، فإن كان من الغسلة الأولى ، وجب غسله ، وإن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة ، فلا يجب غسله. ثم ذكر

__________________

(١) راجع : مفتاح الكرامة ١ : ٩٠.

(٢) كما في مفتاح الكرامة ١ : ٩١ ، وراجع : المسائل الناصرية (ضمن الجوامع الفقهية) :١٢٥ ، المسألة ٣ ، والسرائر : ١ : ١٨١.

(٣) المبسوط ١ : ٣٦ ، الخلاف ١٧٩ ، المسألة ١٣٥ ، و ١٨١ ، المسألة ١٣٧ ، الوسيلة :٧٤ ، وراجع : مفتاح الكرامة ١ : ٩٠.

(٤) جواهر الكلام ١ : ١٣٣.

٨٤

الخلاف في ذلك ، ثم قال : وما اخترناه هو المذهب.

وقال السيّد المرتضى في الناصريات : قال الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء.

قال السيد المرتضى : وهذه المسألة لا أعرف فيها نصّا لأصحابنا ولا قولا صريحا.

والشافعي يفرّق بين ورود الماء عليها وورودها عليه ، فيعتبر القلّتين (١) في ورود النجاسة على الماء ولا يعتبرهما في ورود الماء على النجاسة ، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة.

والذي يقوي في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمّل فيه : صحّة ما ذهب إليه الشافعي.

والوجه فيه : أنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدّى ذلك إلى أنّ الثوب لا يطهر من النجاسة إلّا بإيراد كرّ من الماء عليه ، وذلك يشقّ ، فدلّ على أنّ الماء الوارد على النجاسة لا يعتبر فيه القلّة والكثرة ، كما تعتبر في ما يرد عليه النجاسة.

قال محمد بن إدريس : وما قوي في نفس السيد هو الصحيح المستمر على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب (٢). انتهى.

أقول : لا يبعد أن يكون مراد الحلّي طهارة ما يستعمل في التطهير

__________________

(١) القلّة : الحبّ العظيم. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٤ : ١٠٤.

(٢) السرائر ١ : ١٨٠ ـ ١٨١.

٨٥

بعد إزالة عين النجس ، ولذا فرّق بين الغسلة الاولى وما بعدها ، وإلّا فالقول بعدم انفعال الوارد مطلقا ـ كما هو ظاهر عنوان السيد ـ لا يجتمع مع القول بنجاسة الماء في الغسلة الاولى.

والاعتذار عنه : بأنّ النجاسة في الأولى لأجل امتزاجه بالتراب المتنجّس إنّما يقبل إذا التزم بنجاسة الماء الوارد في الفرض ، وهو ينافي الإطلاق.

ولعلّه استظهر من عبارة السيد : طهارة ما يستعمل في التطهير بعد إزالة العين لا مطلقا ، اقتصارا على ما يقتضيه دليله ، فقوّاه ونسبه إلى فتاوى الأصحاب وإن كان في النسبة أيضا ما ستعرف.

وكيف كان فهذا القول أضعف من قول العماني ، إذ لا مستند له عدا ما خطر في نفس السيد عاجلا قبل التأمّل ، أي : الملازمة بين طهارة الثوب وعدم انفعال الماء الوارد.

وفيه ـ مع ابتناء كفايته لعموم المدّعى على بعض الدعاوي الغير المسلّمة ـ ما سيجي‌ء في مبحث الغسالة.

وقد استدلّ له أيضا : بقاعدة الطهارة ، بعد دعوى أنّه ليس لنا عموم يثبت انفعال الماء مطلقا حتى يعمّ مثل الفرض ، لأنّ أغلب أدلّته أخبار خاصة موردها صورة وقوع النجاسة على الماء (١) ، وما كان من قبيل قوله عليه‌السلام :«إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء» (٢) فلا يستفاد منه إلّا انفعال الماء

__________________

(١) راجع : الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في صفحة ٦٤ ، الهامش (١).

٨٦

القليل في الجملة ، والقدر المسلّم منه غير مثل الفرض.

وفيه : أنّ منع عموم المفهوم لا يجدي لهذا القول ، كما أنّ عمومه لا يضرّه ، لما أشرنا في صدر العنوان أنّ خلاف السيد ـ رحمه‌الله ـ ليس في انفعال الماء القليل وعدمه حتى يضرّه العموم ، لأنّ انفعال كلّ فرد من أفراد الماء القليل بوقوع النجاسة فيه مسلّم عند السيد ، وعموم المفهوم على تقدير تسليمه لا يقتضي أزيد من ذلك ، لأنّ كون الماء واردا أم مورودا من أحوال الفرد لا من أفراد العام ، فالمضرّ بحال السيد إنّما هو ما لو كان في شي‌ء من الأدلّة ما يقتضي بإطلاقه ـ ولو بالنسبة إلى فرد ـ انفعاله في صورة وروده على النجس.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الإنصاف أنّه لا إجمال ولا إهمال في شي‌ء من الأدلّة ، لأنّ كيفية الانفعال موكولة إلى ما هو المغروس في أذهان المتشرّعة إمّا لوصولها إليهم من صاحب الشرع ، أو لمعروفيتها لديهم بتشبيه النجاسات بالقذارات الصورية المقتضية لتنفّر الطباع عمّا يلاقيها.

وكيف كان فالواسطة في انفعال الأجسام القابلة للانفعال ، جامدا كان أم مائعا ، ماء أو غير ماء ـ على ما هو المغروس في أذهان أهل الشرع ـ ليست إلّا وصول النجس إليه وملاقاته برطوبة مسرية من دون أن يكون لكيفيّة الملاقاة ـ ككون النجس واردا أم مورودا ، أو كون الملاقاة بمباشرة السطح الأعلى من النجس أو الأسفل ، إلى غير ذلك من الكيفيّات ـ دخل في الحكم.

ألا ترى لو قيل للمقلّد ، بعد ـ : سؤاله عن أنّه وقع على ثوبه قطرة بول ـ

٨٧

لا تصلّ فيه ، لا يتوقّف في حكم الثوب الملطخ بالبول بوقوعه عليه.

وكذا لو قيل له إجمالا : إنّ الماء القليل أو المائع المضاف ينجّسه العذرة أو غيرها من النجاسات ، لا يتأمّل في نجاسة ماء رأى فيه النّجس ، لجهله بكون الماء واردا أم مورودا.

هذا ، مع أنّ في الأدلّة ما يستفاد منه عدم الفرق بين الورودين وكونه مغروسا في الأذهان ، كرواية عمر بن حنظلة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتى يذهب عاديته وسكره؟ فقال عليه‌السلام : «لا والله ، ولا قطرة قطرت في حبّ إلّا أهريق ذلك الحبّ» (١).

فإنّ المراد من الجواب المبالغة في أمر المسكر ، وأنّ قطرة منه تفسد الحبّ من الماء ، فلو كان حكم الماء الوارد على القطرة مخالفا لحكم القطرة الواردة على الماء ، لم يكن للجواب وقع كما لا يخفى.

وهل يتوهّم من سمع من الإمام عليه‌السلام : «أنّ ما يبلّ الميل ينجس حبّا من الماء» (٢) اختصاص الحكم بصورة وقوعه على الحبّ ، وعدم نجاسة ماء أريق في حبّ ملطّخ بالنبيذ مع بقاء مقدار معتدّ به منه في الحبّ؟

فدعوى إهمال الأدلّة من هذه الجهة فاسدة جدّا ، ولذا لم يتشبّث السيّد الذي هو الأصل في تأسيس هذا القول بإهمال الأدلّة ، وإنّما اعتمد

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٠ ـ ١٥ ، التهذيب ٩ : ١١٢ ـ ٤٨٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٦ ، وفيها : «تقطر» بدل «قطرت».

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في صفحة ٧٩ ، الهامش (٥).

٨٨

على الدليل المخصّص ، وإنّما نشأ توهّم من توهّم الإهمال لأجل الشبهات المغروسة في ذهنه ، ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشبهات لا يوجب التشكيك في المحكمات العرفية.

وممّا يؤيّد المطلوب : النهي عن غسالة الحمام ، المجتمعة من غسالة الجنب والناصب وغيرهما ، مع أنّ الغالب فيها ورود الماء على النجس.

وكذا يؤيّده بل يدلّ عليه ما في رواية الأحول عن الصادق عليه‌السلام ، بعد أن نفى البأس عن ماء الاستنجاء ، قال عليه‌السلام : «أوتدري لم صار البول لا بأس به؟» قلت : لا والله ، فقال عليه‌السلام : «إنّ الماء أكثر من القذر» (١) فإنّ سؤاله وجوابه يدلّان على أنّ القاعدة الأوّلية المغروسة في أذهانهم كانت مقتضية لنجاسة ماء الاستنجاء ، مع كونه واردا على النجس ، إلى غير ذلك من الشواهد والمؤيّدات التي تورث القطع بأنّ المناط في انفعال الماء القليل كغيره من المائعات ليس إلّا ملاقاة النجس ، فعلى النافي إقامة البرهان على التخصيص ، كما أنّ من يدّعي طهارة الغسالة عليه إثباتها بالدليل ، وأنّى لهم بذلك.

نعم ، قد تخصّصت هذه القاعدة نصّا وإجماعا بماء الاستنجاء ، كما سيتّضح لك في محلّه إن شاء الله.

وقيل : قد تخصّصت أيضا إجماعا بالنسبة إلى الماء العالي الذي

__________________

(١) علل الشرائع : ٢٨٧ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ١٣ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢.

٨٩

لاقى جزؤه السافل للنجس حال جريانه.

أقول : أمّا عدم سراية النجاسة إلى العالي فممّا لا شبهة فيه ، وأمّا كونه تخصيصا لهذه القاعدة ففيه تأمّل ، بل منع ، إذ لا يستفاد من الأدلّة المتقدّمة إلّا كون وصول النجس إلى الماء ـ كغيره من الأجسام الطاهرة ـ سببا لنجاسة الماء في الجملة ، أمّا كونه مقتضيا لنجاسة مجموع أجزائه ، أو بعضها ، أو خصوص الجزء الملاقي للنجس ـ كما في الأجسام الجامدة ـ فلا يكاد يستفاد من شي‌ء من هذه الأخبار بالنظر إلى مدلولها اللفظي من حيث هو ، إذ لا فرق من حيث اللفظ بين قولك : الثوب يتنجّس بالبول ، والماء يتنجّس بالبول ، إلّا أنّ بينهما فرقا في ما يتفاهم منهما عرفا ، حيث إنّ كلّ جزء من أجزاء الثوب لجموده موضوع واحد عرفا ، حيث العرف ، وأمّا الجسم المائع فمجموع أجزائه موضوع واحد عرفا ، فلا يلاحظ كلّ جزء جزء بحياله معروضا للانفعال ، وقد أشرنا في ما سبق إلى أنّ كيفية الانفعال أمرها موكول إلى ما هو المغروس في أذهان عرف المتشرّعة ، إذ ليس لنا في الأدلّة الشرعية ما كان مسوقا لبيان كيفية التنجيس ، فلا بدّ من أن يرجع في تشخيص الموضوع إلى ما يفهمه العرف من الخطاب.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ أهل العرف لا يتعقّلون سراية النجاسة إلى العالي ، ولا يفهمونها من الخطابات الشرعية ، فكما لو جرى الماء العالي على شي‌ء من القذرات الصورية التي يتنفّر طباعهم عن ملاقيها لا يستقذرون هذا الماء العالي ، فكذلك لا يحتملون سراية النجاسة اليه ،

٩٠

ولعلّه لذا ذكر في محكي الروض : أنّ سراية النجاسة إلى العالي غير معقولة (١) ، ضرورة أنّ ثبوتها تعبّدا معقول ، إلّا أنّ العرف لا يتعقّلونها ولا يفهمون نجاسة العالي من حكم الشارع بأنّ الماء ينجس بملاقاة النجس ، فاتّضح لك أنّ الحكم بنجاسة ما عدا الجزء الملاقي يتوقّف على شهادة العرف بكونه معروضا للنجاسة ، أو قيام دليل تعبّدي ، وحيث انتفى الأمران ـ كما في ما نحن فيه ـ فالأصل طهارته ، وليس حكم العرف بنجاسة سائر أجزاء الماء دائرا مدار وحدة الماء عرفا ، إذ ربما يلتزمون بوجدة الماء بحيث يتقوّى بعضه ببعض ، كما في ماء النهر ، ولكنهم لا يتعقّلون سراية النجاسة إلى الجزء العالي بملاقاة السافل.

فتقرّر لك أنّه لا حاجة لنا في إثبات طهارة العالي إلى التشبّث بالإجماع ، حتى يشكل الأمر في بعض مراتب العلوّ ، التي لا يعلم بدخولها في مراد المجمعين ، فلا وجه لتردّد بعض الأعلام في حكم الجزء العالي ممّا عدا الماء من المائعات ، لزعمه انحصار المدرك في الإجماع ، وعدم ثبوته في ما عدا الماء من المائعات (٢).

هذا ، مع أنّ الظاهر أنّ تردّده في انعقاد الإجماع في غير محلّه.

ويلحق بالعالي في الحكم المساوي بل السافل أيضا إذا كان لهما دفع وقوّة ، كالقربة التي يخرج من ثقبها الماء بحدّة ، ويتّصل بالسطح النجس ، فإنّ ما فيها يبقى على طهارته بلا إشكال ، لعين ما ذكر ، والله

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١١ ، وراجع : روض الجنان : ١٣٦.

(٢) جواهر الكلام ١ : ١٣٥.

٩١

العالم.

ثم إنّهم قد ذكروا في توجيه سراية النجاسة إلى سائر الأجزاء وجوها لا تخلو عن نظر.

منها : كون الحكم تعبّديا محضا قد ثبت بالإجماع والأخبار الآمرة بإراقة مجموع الماء الذي وقع فيه النجس.

ويدفعه : أنّ العرف أعدل شاهد على عدم كون الحكم من هذه الجهة تعبّديا ، فإنّهم يحكمون بنجاسة مجموع أجزاء الماء الملاقي للعذرة بعد علمهم بنجاسة العذرة وقابلية الماء للانفعال من دون التفاتهم إلى قاعدة تعبّدية ، فالأولى التشبّث في ذلك بحكم العرف بكون مجموع أجزاء الأجسام المائعة موضوعا واحدا للحكم بالانفعال كما عرفته منّا.

ومنها : أنّ الوجه في نجاسة ما عدا الجزء الملاقي سراية هذا الجزء في سائر الأجزاء ، فينفعل الجميع لأجل السراية ، فكلّ جزء في حدّ ذاته يعرضه الانفعال لأجل ملاقاته للنجس أو المتنجّس.

وفيه بعد تسليم الدعوى والغضّ عن بعض ما يتوجّه عليه : أنّ لازمه حصول النجاسة تدريجا ، وهو مخالف للإجماع ، وهذا الوجه أيضا على تقدير تماميته كسابقه في وجوب الاقتصار في الحكم بالنجاسة على القدر المتيقّن ، والرجوع إلى قاعدة الطهارة في ما عداه.

ومنها : أنّ الوجه فيها هو السراية من حيث الحكم.

بيانه : أنّ الجزء الملاقي ينفعل بملاقاة النجس ، والجزء المتّصل بهذا

٩٢

الجزء ينفعل بملاقاته للمتنجّس ، وهكذا فنجاسة كلّ جزء مسبّبة عن نجاسة الجزء السابق عليه باتّصاله به ، ولكنه لمّا كان الاتّصال بين الأجزاء حاصلا قبل الملاقاة لا يتوقّف تنجّس الجزء الأخير على تخلّل زمان ، كما في الوجه السابق ، وإنّما التأخّر في حكم الأجزاء على هذا الوجه ذاتي لا زماني ، ولا محذور فيه.

ويتوجّه عليه : أنّ كون مجموع الأجزاء موضوعات عديدة بحيث تكون نجاسة الجزء السابق علّة لانفعال لا حقه لا يتم إلّا على القول بكون الجسم مركّبا من أجزاء لا تتجزّأ ، وهو باطل كما تقرّر في محلّه.

وأمّا على القول بأنّ الجسم متّصل واحد وأنّه قابل لانقسامات لا تتناهى ـ كما عليه المحقّقون ـ فكلّ ما يفرض جزءا أوّلا فهو قابل للتجزية ، فيتصوّر بالنسبة إليه سابق ولا حق ، ولا يعقل أن يكون الحكم الفعلي محمولا على موضوع تقديري.

والحوالة على العرف في تشخيص الجزء الأول ـ وهو ما يقرب من النجس ـ هدم لهذا البيان ورجوع إلى حكم العرف في تشخيص موضوع النجاسة ، ومعه لا حاجة إلى هذا التكلّف ، ضرورة أنّ المجموع موضوع واحد للحكم بالنجاسة في نظر العرف ، فلا علّية ولا ترتّب بين الأجزاء عندهم.

هذا ، مع أنّ المتّصل بالنجس ليس إلّا السطح الملاقي له من الجزء المتّصل به ، وأمّا الطرف الآخر المتّصل بالجزء المنفصل فلا ، وإلّا لاتّحدت الأطراف ، وهو باطل بديهة ، فالجزء المنفصل ليس ملاقيا للنجس ولا

٩٣

للمتنجّس ، وهذا هو الوجه في عدم سراية النجاسة إلى ما عدا الجزء الملاقي في الأجسام الرطبة ، وكذا إلى العالي المتّصل بالسافل النجس.

ودعوى أنّ النجاسة أمر شرعي غير مبتنية على هذه التدقيقات ، ومعروضها نفس الأجزاء لا سطحها المتّصل بالنجس ـ كما يشهد عليه الفهم العرفي ـ مرجعها إلى تشخيص الموضوع بحكم العرف ، وقد عرفت منافاته لهذا التوجيه ، وأنّ مقتضاه الاقتصار في الحكم بالنجاسة على ما يشهد العرف بنجاسته ، وهو ما عدا الجزء العالي في المائعات وخصوص الجزء الملاقي في الجامدات الرطبة.

هذا كلّه ، مع أنّه لو تمّ هذا الوجه أوجب الحكم بالسراية في الأجسام الرطبة ، بل وكذا في العالي المتّصل بالسافل النجس ، إلّا أن يتشبّث في التفصّي عن ذلك بالإجماع.

وفيه : أنّ الإجماع يكشف عن بطلان الدعوى لا عن تخصيص المدّعى ، لأنّ لنا أن ندّعي الإجماع على نجاسة كلّ جزء من أجزاء الأجسام الرطبة كباطن البطيخ والخيار ونحوهما ، وكذا العالي الجاري إلى السافل على تقدير ملاقاته لعين النجس أو المتنجّس ، فالإجماع على عدم نجاسة الجزء المنفصل دليل على عدم ملاقاته للنجس ولا للمتنجّس ، وأنّ النجاسة مختصّة بطرف الجزء المتّصل بعين النجس لا المنفصل عنه ، فلا حظ وتدبّر.

واعلم أنّه لا خلاف نصّا وفتوى في أنّ الماء المتنجّس قابل للتطهير ، وأنّه

٩٤

ليس كأعيان النجاسات ممّا لا يقبل الطهارة إلّا بالاستحالة وتبدّل موضوعها ، بل يطهر مطلقا بإشاعته في ماء غير قابل للانفعال مزيل لتغيّره لو كان متغيّرا ، من دون فرق بين إلقائه على الماء العاصم أو عكسه أو تلاقيهما بلا خلاف فيه ظاهرا (و) إن كان ربما يوهمه تعبير المصنّف ـ رحمه‌الله ـ كالعلّامة (١) وغيره (٢) ـ بأنّه (يطهر بإلقاء كرّ عليه فما زاد دفعة) لإشعاره باعتبار علوّ المطهّر ، ولكنه ينبغي القطع بعدم إرادتهم الانحصار ، كما سيتّضح لك في ما بعد إن شاء الله ، فتعبيرهم بإلقاء الكرّ جار مجرى العادة في مقابل من يقول بكفاية إتمامه كرّا.

نعم عن العلّامة في التذكرة أنّه ذكر قول الشافعي بطهارة النجس بالنبع من تحته ، وردّه بأنّا نشترط في المطهّر وقوع الكرّ دفعة (٣).

والظاهر أنّ مقصوده بيان اشتراط ملاقاة الكر دفعة ، وعدم كفاية النبع من الأرض تدريجا ، لا بيان اشتراط علوّ المطهّر ، ولذا ذكر في محكي المنتهى في ردّ هذا القول : أنّ النابع ينجس بملاقاة النجاسة (٤).

ولكنك خبير بأنّ ما ذكره لا ينافي ما نحن بصدده ، لأنّ مآله إلى بيان ما هو شرط في اعتصام الماء لا في مطهّرية الماء المعتصم.

وكيف كان فممّا يدلّ على أنّ الماء يطهر في الجملة ، ولا يعتبر فيه الاستهلاك كما يعتبر ذلك في النجاسات العينية الواقعة في الماء : صحيحة

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١١ ، تحرير الأحكام ١ : ٤.

(٢) المعتبر ١ : ٥١ ، الدروس ١ : ١١٨.

(٣) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٠٠ ، وراجع تذكرة الفقهاء ١ : ٢١.

(٤) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ١ : ١٣٧ ، وراجع ، منتهى المطلب ١ : ١١.

٩٥

ابن بزيع ، المتقدمة (١) الدالّة على طهارة ماء البئر بعد زوال تغيّره ، معلّلة بأنّ له مادّة ، والأخبار النافية للبأس عن ماء الحمّام ، خصوصا قوله في بعض تلك الروايات : «ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا» (٢).

ويدلّ عليه أيضا : عموم ما أرسله في محكي المختلف عن بعض العلماء عن أبي جعفر عليه‌السلام مشيرا إلى غدير من الماء «إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا وطهّره» (٣).

وعموم مرسلة الكاهلي في ماء المطهر «كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر» (٤) فإنّ مقتضى عمومها طهارة الماء الذي يصيبه الكرّ أو ماء المطر ، وليس عدم طهارة المائعات المتنجّسة إلّا بعد صيرورتها ماء مطلقا منافيا لعموم المستفاد من الروايتين ، لأنّ أصابه ماء المطر والكر بوصف الإطلاق لكلّ جزء من أجزاء المائع المتنجّس لا تتحقّق إلّا بعد صيرورته ماء مطلقا ، وليس مقتضى عمومها إلّا طهارة الجزء الذي يصيبه ماء المطر والكرّ ما دام اتّصافهما بالوصف العنواني ، وهذا لا يتحقّق بالنسبة إلى سائر الأجزاء إلّا بعد ارتفاع صفة الإضافة.

وبهذا ظهر لك أنّه لا يصح الاستشهاد بهاتين الروايتين على كفاية مجرّد الاتّصال بالكرّ وإصابة المطر من دون اعتبار الامتزاج ، لأنّ إصابة جميع الأجزاء تتوقّف على الامتزاج ، وإصابة البعض لا تكفي إلّا في

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ٣٦.

(٢) الكافي ٣ : ١٤ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

(٣) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٦ ، وراجع مختلف الشيعة ١ : ١٥.

(٤) الكافي ٣ : ١٣ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

٩٦

طهارة هذا البعض دون غيره الذي لم يصبه.

ودعوى : أنّه يصدق عرفا على ماء الحوض الذي أصاب سطحه ماء المطر أو الكرّ أنّه رأى المطر وأصاب الكرّ فيطهر ، مدفوعة : بأنّ الاستعمال مبني على المسامحة والتأويل ، ألا ترى أنّه يصح سلب الرؤية عرفا عن سائر الأجزاء ، فإسنادها إلى المجموع مبني على نحو من الاعتبار ، ولا يدور مداره الحكم بعد صحة سلب الرؤية عن سائر الأجزاء ، ولذا لا يفهم عرفا من هاتين الروايتين طهارة المائعات المضافة بمجرّد إصابة المطر والاتّصال بالكر ، وليس إسناد الرؤية إلى المجموع إلّا كإسناده رؤية المطر إلى الثوب والبدن وغيرهما إذا أصاب المطر سطحة الظاهر ، مع أنّ أحدا لا يتوهّم طهارة باطنة بمجرّد إسناد الرؤية إليه بوقوعه على سطحه الظاهر.

ودعوى : أنّ مجموع أجزاء الماء بنظر العرف موضوع واحد للطهارة والنجاسة ، فكما يفهم عرفا من قول الشارع : الماء ينجس بالبول ، نجاسة مجموع أجزائه ، كذلك يفهم من قوله : إنّه يطهر بماء المطر أو الكرّ ، طهارة مجموعه بوصوله إليه في الجملة ، مدفوعة : بمنع كون مجموعه بنظر العرف موضوعا واحدا للطهارة ، ولا أقلّ من الشك في ذلك.

وتنظيرها بالنجاسة ـ مع كونه قياسا ـ غير صحيح ، حيث إنّه لا مدخل للعرف في معرفة كيفية تطهير الماء ، وليس في أذهان أهل العرف أمر يقضي بكفاية مجرّد الاتّصال ، بل لعلّ أهل العرف يستنكرون

٩٧

ويستبعدون طهارة ماء نجس إذا كان في إناء ضيّق الفم ، وغمس في الكر من دون أن يحصل الامتزاج ، وهذا بخلاف ما لو كان ماء الإناء طاهرا وغمس في البول ، فإنّ أهل العرف يشهدون بنجاسة.

إن قلت : هب إنّ مجموعه ليس موضوعا واحدا للطهارة ، ولكنّ الروايتين دلّتا على طهارة الجزء الذي يصيبه الكرّ أو ماء المطر ، فهذا الجزء يصير جزءا من الماء العاصم فيطهّر ما يلاقيه ، وهكذا ، فيطهر الجميع من دون أن يتوقّف على الامتزاج ، بل لا يحتاج إلى تخلّل زمان أيضا ، لأنّ الاتّصال بين أجزاء الماء النجس كان حاصلا قبل إصابة الماء العاصم ، فيطهر الجميع في زمان واحد ، وإنّما التأخّر بين الأجزاء ذاتي لا زماني.

قلت : مرجعه إلى السراية الحكمية وقد عرفت في كيفية سراية النجاسة ضعفها بما لا مزيد عليه ، فراجع.

وقد ظهر لك أيضا ضعف الاستدلال لهذا القول : بقوله عليه‌السلام : «ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا» (١) لأنّ المتبادر منه كون بعضه مطهّرا للبعض الذي يصل إليه لا البعض الذي ينفصل عنه ، ووصوله إلى جميع الأجزاء موقوف على الامتزاج.

هذا ، مع أنّ طهارة بعض ماء النهر ببعض لا يكون عادة إلّا بالامتزاج ، لأنّ نجاسته لا تكون إلّا بالتغيّر ، فكفاية مجرّد الاتّصال لا

__________________

(١) تقدمت الإشارة إلى مصادره في صفحة ٩٦ ، الهامش (٢).

٩٨

تستفاد من الرواية لا في المشبّه ولا في المشبّه به ، كما لا يخفى.

هذا كلّه بعد الإغماض عمّا ربما يقال من أنّ المراد من الرواية تشبيه ماء الحمّام حال جريانه بماء النهر في عدم الانفعال ، فمعنى قوله عليه‌السلام : «يطهّر بعضه بعضا» أنّ بعضه يحفظ طهارة بعض ، لا أنّه يطهّره بعد أن كان نجسا ، نعم يستفاد حكم الرفع من عموم التشبيه ، وعلى هذا فالاستدلال ساقط من أصله.

وكذا لا يجوز الاستدلال لهذا القول بسائر أخبار ماء الحمّام ، لأنّ غاية مفادها أنّ ماء الحمّام حين اتّصاله بالمادّة كالجاري في عدم الانفعال ، وفي أنّ الجريان من المادّة موجب لطهارة ما في الحياض الصغار في الجملة ، وحيث إنّ جريان الماء من مادّة الحمّام يستلزم عادة تمويج ماء الحياض الصغار ، واختلاط بعض أجزائه ببعض ، وإشاعة الماء الطاهر أو المتطهّر في سائر الأجزاء ، خصوصا حال الاستعمال لا يمكن استفادة كفاية مجرّد الاتّصال من مطلقات تلك الأخبار ، كما لا يخفى.

وقد يستدلّ لطهارة الماء المتنجّس الممتزج بالماء العاصم : بما يدلّ على طهارة أعيان النجاسات بعد استهلاكها في الماء الكثير ، كقوله عليه‌السلام في رواية العلاء بن فضيل بعد السؤال عن الحياض التي يبال فيها : «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» (١).

وتقريب الاستدلال : إمّا بدعوى الأولوية القطعية ، أو بدعوى أنّ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٥ ـ ١٣١١ ، الإستبصار ١ : ٢٢ ـ ٥٣ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

٩٩

وقوع البول في الماء يستلزم تغيير ما حوله أوّلا ، ثم يمتزج الماء المتغيّر في ما عداه فيذهب صفته.

ويتوجّه على التقريب الأوّل : ما أشرنا إليه في صدر العنوان من أنّ طهارة أعيان النجاسات في الفرض مسبّبة عن استحالتها وانتفاء موضوعها عرفا بالاستهلاك ، فلا يقاس عليها الماء المتنجّس المحكوم بطهارته لأجل الامتزاج ، فضلا عن أن يكون أولى ، لأنّ حصول الاستهلاك بالنسبة إليه إمّا غير مسلّم بعد اتّحاد الممتزجين نوعا ، أو مستلزم لخروجه عن موضوع مسألتنا ، لأنّ الكلام في قابلية الماء المتنجّس للتطهير ، وهذا فرع بقاء موضوعه عرفا ، وإلّا فيؤول الكلام إلى أنّ الكرّ إذا استهلك فيه ماء متنجّس هل ينفعل أم لا ، وهذا خارج عمّا نحن فيه ، ويعلم حكمه بديهة ممّا دلّ على أنّ الماء الكثير لا ينفعل إلّا إذا تغيّر بالنجس.

وأمّا تشبّث الشيخ قدس سرّه بالأولوية مستدلّا على طهارة الكثير المتنجّس بالتغيّر إذا ورد عليه من الكثير ما يزيل تغيّره حيث قال في محكي خلافه : إنّ الماء الوارد لو وقع فيه عين النجاسة لم ينجس ، والماء المتنجّس ليس بأكثر من عين النجاسة (١) ، فإنّما غرضه بيان عدم انفعال الماء الوارد.

وأمّا حكم الماء المورود الذي هو المقصود بالأصالة فيستفاد من ذلك بضميمة مقدّمة مسلّمة عندهم ، وهي : عدم اختلاف ماء واحد في سطح واحد في الحكم من حيث الطهارة والنجاسة.

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ١٤ ، وراجع : الخلاف ١ : ١٩٣ ١٩٤ ، المسألة ١٤٨.

١٠٠