مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

شربت من ماء قليل ، لم ينجس ، غابت الهرّة أم لم تغب.

وممّا يحقّق الشهرة ، بل يظهر منه الاتّفاق : أنّ الأصحاب بين مفت بكراهة سؤر الجلّال وآكل الجيف ، ومانع منه ، ولم يستند المانع في منعه إلّا إلى وجود أجزاء النجاسة في لعابه أو بإلحاق سؤره بعرقه ببعض الاعتبارات.

وكيف كان فاتّفق المانعون والمجوّزون على أنّ ملاقاة فمه للنجاسة مع العلم العادي غالبا بعدم ملاقاة المطهّر الشرعي بعد أكل العذرة والجيفة لا تؤثّر في الحكم بالتنجيس ، وكيف لا ولا يظنّ بأحد أن يلتزم بنجاسة ما يقع فيه الفأرة وتخرج حيّة مع أنّ العادة قاضية بأنّه لا يمرّ عليها ساعة إلّا ويلاقي بدنها شيئا من النجاسات ، فهل تستنجي بعد البول أو تسبح في الشطوط والأنهار حتى يتحقّق احتمال المطهّر الشرعي بالنسبة إليها؟ وقد نفي البأس في غير واحد من الأخبار عن سؤرها وعمّا تقع فيه وتخرج حيّة.

ففي رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّا هل يشرب من ذلك الماء ويتوضّأ به؟ قال : «يسكب منه ثلاث مرّات وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ثم يشرب منه ويتوضّأ غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه» (١).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٨ ـ ٦٩٠ ، الاستبصار ١ : ٢٤ ـ ٥٩ ، و ٤١ ـ ١١٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ٤.

٣٦١

وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام في حديث ، قال : وسألته عن فأرة وقعت في حبّ دهن فأخرجت قبل أن تموت أنبيعه من مسلم؟ قال : «نعم ويدهن منه» (١).

وحكي عن الشيخ في الخلاف دعوى الإجماع عليه مستكشفا ذلك من أنّ الأصحاب حكموا بطهارة سؤر الهرّة على الإطلاق (٢).

ودعوى ورودها في مقام بيان حكم سؤر الهرّة من حيث الطهارة والنجاسة مع غلبة ملاقاتها للنجاسة ، بل كونها محكومة بالنجاسة دائما ولو بحكم الاستصحاب ، غير مسموعة ، خصوصا مع عدم تنبيههم عليها في كتبهم.

وبهذا ظهر لك الوجه في استدلالهم لإثبات المطلوب بالأخبار النافية للبأس عن سؤر الهرّة وغيرها ممّا يباشر النجاسات غالبا.

واحتمال كونها مسوقة لبيان طهارته الذاتية ممّا لا ينبغي أن يلتفت إليه بعد ندرة انفكاك هذه الجهة عن الجهة العارضية المقتضية لنجاسته.

مضافا إلى إباء أكثر الأخبار عن مثل هذا الحمل حيث إنّها كالصريح في كونها مسوقة لبيان الحكم الفعلي كروايتي عمّار ، المتقدّمتين (٣) ، فإنّ الاستثناء دليل على أنّ المراد نفي البأس عن سؤر الطير والدجاجة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٩ ـ ١٣٢٦ ، الإستبصار ١ : ٢٤ ـ ٦١ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ١.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٦٠ ، وانظر الخلاف ١ : ٢٠٣ ، المسألة ١٦٧.

(٣) تقدّمتا في ص ٣٥٩.

٣٦٢

مطلقا لا من حيث ذاتهما ، كما لا يخفى.

وممّا يدلّ على طهارة بدن الحيوان بزوال عين النجاسة ـ مضافا إلى الأخبار الكثيرة التي يمكن استفادتها منها ـ ما استقرّ عليه سيرة المتشرّعة من عدم تحرّزهم عن الحيوانات التي يعلم بنجاستها عند تولّدها بدم الولادة ، ولا عن سؤر الهرّة وأشباهها مع علمهم غالبا بمباشرتها للنجس ولو في بعض الأزمنة ، واطمئنانهم بعدم ملاقاتها للمطهّر الشرعي ، بل لو غسل واحد منهم فم الهرّة التي أكلت الفأرة أو شربت ماء نجسا مع علمه عادة بأنّها تأكل من طعامه وشرابه ، يعدّ عندهم من المجانين.

وكيف كان فالحكم من الوضوح بمكان لا يحوم حوله الارتياب ، وإنّما الإشكال في أنّه هل يتنجّس بدن الحيوان عند تلوّثه بالنجاسة ، فيطهر بزوال العين ، أو أنّه لا ينفعل أصلا ، كالبواطن التي لا تتأثّر بما فيها من النجاسات؟ وسيتّضح لك تحقيقه إن شاء الله في محلّه ، ولا يترتّب على تنقيحه فائدة مهمّة إلّا في صورة الشكّ في بقاء العين ، فإنّه لا يجوز الحكم بنجاسة ملاقيه على الثاني ، فإنّها من آثار ملاقاة النجس ، وهي مشكوكة في الفرض.

واستصحاب بقاء النجس لا يجدي في الحكم بنجاسة الملاقي إلّا على القول باعتبار الأصول المثبتة ولا نقول به ، وأمّا على الأوّل فتستصحب نجاسة الحيوان ويحكم بتنجيس ملاقيه ، لكونه من آثارها.

وملخّص الفرق بينهما : أنّ الشك في الأوّل مسبّب عن الشك في بقاء

٣٦٣

الموضوع المستصحب ، وقد تقرّر في محلّه أنّ إحراز الموضوع من مقوّمات الاستصحاب ، وأمّا على الثاني فالموضوع إنّما هو نفس الحيوان الذي علم نجاسته سابقا وشكّ في ارتفاعها في الزمان اللاحق ، والشكّ إنّما نشأ من الشكّ في زوال العين الذي هو مطهّر شرعي على الفرض ، فيجب الحكم ببقاء نجاسته إلى أن يعلم بتحقّق المزيل.

ولكنه يمكن أن يقال : إنّه يظهر من رواية عمّار : إناطة الحكم بالعلم بوجود القذر في منقارها بالفعل حيث قال : «فإن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ منه» فعلى هذا تنتفي هذه الثمرة أيضا ، فليتأمّل (١).

(و) يكره سؤر (الحائض) مطلقا ، كما عن الشيخ في المبسوط

__________________

(١) قوله : فليتأمّل ، إشارة إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ استصحاب بقاء القذر حاكم على هذه الرواية ، لأنّه بمنزلة العلم بالبقاء ، والمفروض عدم جريانه إلّا على أحد التقديرين.

ويتوجّه عليه أنّه إذا كان موضوع الحكم هو العلم بوجود القذر ، كما هو ظاهر الرواية وقلنا : إنّ الاستصحاب بمنزلة العلم تعبّدا ، فيمكن إحرازه بالأصل مطلقا سواء قلنا بأنّ المحلّ ينفعل بملاقاته أو لا ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فتنتفي الثمرة على كلّ تقدير.

لا يقال : إنّ المناط في التنجيس على تقدير عدم انفعال المحلّ هو ملاقاة السؤر النجس ، وهي مشكوكة ، فلا يمكن إحرازها بالأصل ، إذ لا اعتداد بالأصول المثبتة ، وأمّا على تقدير الانفعال ، فلا حاجة إلى إحراز ملاقاته النجس ، بل يكفي فيه إحراز نجاسة المنقار المعلوم ملاقاته له ، فمتى أحرزها في المنقار بالأصل ترتّب عليه أثره ، وهو نجاسة ملاقية.

لأنّا نقول : ظاهر الرواية دوران نجاسة السؤر مدار ملاقاته لمنقار يكون فيه عين القذر ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين أن يكون مناط نجاسته ملاقاته للمنقار المشتمل على القذر أو لنفس القذر من حيث هي في كون الأصل مثبتا على كلّ تقدير ، فليتأمّل. (منه رحمه‌الله).

٣٦٤

وعلم الهدى في المصباح (١) ،أو (التي لا تؤمن) على المحافظة عن مباشرة النجاسات ، كما في المتن وغيره.

وربّما قيّدها بعضهم ، بل أكثرهم بالمتّهمة.

واعترض عليهم بخلوّ الأخبار عن التقييد بالمتّهمة ، وهي أخصّ من غير المأمونة التي وقع التقييد بها في أخبار الباب ، لأنّ من لا يعرف حالها غير مأمونة وهي غير متّهمة.

والإنصاف أنّ المتبادر إلى الذهن من غير المأمونة في مثل المقام هي المتّهمة ، فلا يبعد أن يكون مقصود الجميع من التقييد التحرّز عن سؤر المرأة التي لا تبالي بدينها من حيث التحرّز عن النجاسات.

وأمّا مجهولة الحال فالظاهر عدم ملحوظيتها لديهم حين الإطلاق ، لندرة الابتلاء بمشاورة من لا يعرف حالها ولو إجمالا ، كمعرفته على سبيل الإجمال بأنّ أهل البوادي نوعا لا يهتمّون بالتحرّز عن النجاسات.

والظاهر كفاية هذا المقدار من الاتّهام في كراهة السؤر ، وكذا كفاية وثوقه إجمالا بأنّ أهل البلاد يتحرّزون نوعا عن مثل دم الحيض وغيره من النجاسات العينية في نفي الكراهة ما لم يظنّ في خصوص الشخص خلافه.

ولكن التقييد بغير المأمونة أنسب بظواهر النصوص وأسلم من

__________________

(١) حكاه عنهما العاملي في مدارك الأحكام ١ : ١٣٤ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٠ ، والمعتبر ١ : ٩٩ حيث فيه حكاية القول عنهما أيضا.

٣٦٥

المناقشة ، بل الأوفق بالظواهر أن يقال : ويكره سؤر الحائض إلّا إذا كانت مأمونة.

وكيف كان فمستند القول بكراهة سؤرها على الإطلاق بحسب الظاهر إطلاقات الأخبار المعتبرة المستفيضة الناهية عن الوضوء من سؤر الحائض :

مثل : صحيحة العيص ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن سؤر الحائض ، قال : «لا توضّأ منه وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ثم تغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغتسل هو وعائشة في إناء واحد ويغتسلان جميعا» (١).

ورواية عنبسة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «اشرب من سؤر الحائض ولا تتوضّأ منه» (٢).

ورواية أبي بصير : هل يتوضّأ من فضل وضوء الحائض؟ قال : «لا» (٣).

وفي رواية أبي هلال : «المرأة الطامث أشرب من فضل شربها ولا أحب أن أتوضّأ منه» (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الأسئار ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ١٠ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٢٢٢ ـ ٦٣٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأسئار ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢٢ ـ ٦٣٦ ، الإستبصار ١ : ١٧ ـ ٣٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأسئار ، الحديث ٧.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢٢ ـ ٦٣٧ ، الإستبصار ١ : ١٧ ـ ٣٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأسئار ، الحديث ٧.

٣٦٦

ورواية ابن أبي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : أيتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال : «إذا كانت تعرف الوضوء ، ولا يتوضّأ من سؤر الحائض» (١).

ومستند القول باختصاص كراهة السؤر بالمتّهمة أو غير المأمونة :الأخبار المستفيضة النافية للبأس عن الوضوء من سؤر الحائض إذا كانت مأمونة ، فيتقيّد بها الأخبار المطلقة.

منها : صحيحة العيص ، المتقدّمة على ما رواها في التهذيب والاستبصار (٢) بإسقاط لفظة «لا» من أوّلها ، فيكون قوله عليه‌السلام : «إذا كانت مأمونة» قيدا للجنب والحائض.

ومنها : صحيحة رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ سؤر الحائض لا بأس به أن تتوضّأ منه إذا كانت تغسل يديها» (٣).

وصحيحة علي بن يقطين عن الرجل يتوضّأ بفضل الحائض ، قال :«إذا كانت مأمونة فلا بأس» (٤).

وهذه الأخبار وإن أمكن الجمع بينها بحمل المقيّدات على الكراهة الشديدة ، وإبقاء المطلقات على إطلاقها ، إلّا أنّ دلالة الأخبار المقيّدة على إرادة نفي البأس على الإطلاق أظهر من الأدلّة المطلقة على ثبوت البأس

__________________

(١) الكافي ٣ : ١١ ـ ٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأسئار ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٢ ـ ٦٣٣ ، الاستبصار ١ : ١٧ ـ ٣١ ، وتقدمت في ص ٣٥٤.

(٣) السرائر ٣ : ٦٠٩ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأسئار ، الحديث ٩.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢١ ـ ٦٣٢ ، الإستبصار ١ : ١٦ ـ ٣٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الأسئار ، الحديث ٥.

٣٦٧

بالنسبة إلى المأمونة ، لكون البأس المنفي نكرة في سياق النفي التي يدّعي دلالتها على العموم بالوضع.

مضافا إلى المناسبة الظاهرة بين نفي البأس وكونها مأمونة ، واستبعاد كون الحكم تعبّديا محضا حتى يكون المراد من المطلقات إطلاقها ، بل لا يبعد دعوى انصرافها في حدّ ذاتها إلى غير المأمونة ، للمناسبة الظاهرة بين ثبوت البأس وكونها غير مأمونة ، فالجمع بين الأخبار بتقييد المطلقات بغير المأمونة ـ كما عليه المشهور ـ أولى من تقييد البأس المنفيّ في الأخبار المقيّدة بكونه بأسا شديدا.

نعم ربما يأبى عن التقييد صحيحة العيص على ما رواها في الكافي حيث نهى عن سؤر الحائض مطلقا ، ورخّص في سؤر الجنب إذا كانت مأمونة (١) ، فإنّ التفصيل بين الجنب والحائض مع تقييد الجنب بكونها مأمونة قاطع للشركة ، إلّا أنّك عرفت معارضتها بما في التهذيب والاستبصار من روايتها بإسقاط كلمة «لا» فتخرج عن صلاحيتها للاستدلال.

مضافا إلى ما أشرنا إليه من إمكان أن تكون حكمة إطلاق النهي في الحائض غلبة اتّهامها لطول مدّة ابتلائها بدم الحيض ، بخلاف الجنب ، فارتكاب التقييد فيها أيضا غير بعيد.

ولأجل ما أشرنا إليه ما وضوح المناسبة بين الكراهة وكونها غير مأمونة استفاد الشهيد وغيره (٢) من أخبار الباب ما هو مناط الحكم ،

__________________

(١) تقدّمت الصحيحة في ص ٣٦٦.

(٢) البيان : ٤٦ ، السرائر ٣ : ١٢٣.

٣٦٨

فألحقوا بالحائض النفساء والمستحاضة المتّهمة ، بل كلّ متّهم ، وألحقوا الجنب أيضا بالحائض ، لا لتنقيح المناط ، بل لأجل التنصيص عليه في الجملة في صحيحة العيص ، المتقدّمة (١).

ثم إنّ مقتضى إطلاق المصنّف ـ رحمه‌الله ـ كغيره : كراهة سؤر الحائض مطلقا ، وعدم اختصاصها بالوضوء ، بل عن الوحيد البهبهاني أنّ الاقتصار على الوضوء لم يقل به فقيه ، والظاهر أنّ التعميم محلّ وفاق (٢) ، انتهى.

ولكنك خبير بما في التعميم من الإشكال ، لما في أكثر الأخبار الناهية عن الوضوء من التصريح بنفي البأس عن الشرب ، فإن تمّ الإجماع ، فلا بدّ من حمل الأخبار المفصّلة بين الوضوء والشرب على تفاوت مراتب الكراهة ، ولكنّ الشأن في إثباته.

نعم يمكن الاستدلال لإثبات مرتبة من الكراهة بالنسبة إلى الشرب وسائر الاستعمالات على وجه لا ينافي الأخبار السابقة : بإطلاقات أوامر الاحتياط والتورّع في الدين لو لا كون التجنّب عن المشتبهات في باب النجاسات مثارا للوسوسة التي علم مبغوضيّتها لدى الشارع ، والله العالم.

(و) يكره الاستعمال (سؤر البغال والحمير) كما عن المشهور (٣).

وفي المدارك : المراد بالحمير : الأهليّة ، إذ الوحشيّة لا كراهة في

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٦٦.

(٢) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٨٤.

(٣) نسبه إليه صاحب الجواهر فيها ١ : ٣٨١.

٣٦٩

سؤرها ، وألحق بهما الدوابّ ، لكراهة لحم الجميع ، ونحن نطالبهم بإثبات الكبرى (١) ، انتهى.

أقول : ربما قيل في توجيه الكبرى : إنّ السؤر إنّما يكون غالبا بالفهم ، فلا ينفكّ عن لعابه ، وهو يتبع الحيوان في الكراهة.

وفيه ـ بعد الإغماض عن كونه أخصّ من المدّعى ، وتسليم تبعية اللعاب للّحم ـ أنّه لا حكم له بعد استهلاكه ، فلا تكون كراهة اللعاب مقتضية لكراهة السؤر الذي يستهلك فيه.

نعم ربما يستشعر التبعية من بعض الأخبار المتقدّمة التي علّق نفي البأس بحلّية الأكل والنهي عنه بعدمها.

ولكنّك خبير بأنّه لا يلتفت إلى مثل هذه الإشعارات في الأحكام التعبّدية لو لا البناء على المسامحة.

وربّما يستدلّ لكراهة سؤر البغال والحمير بل الخيل : بمفهوم مضمرة سماعة : هل يشرب سؤر شي‌ء من الدوابّ أن يتوضّأ منه؟ قال :«أمّا الإبل والبقر فلا بأس» (٢).

واستدلّ أيضا بالمرسلة المتقدّمة (٣) : كان عليه‌السلام يكره سؤر كلّ ما لا يؤكل لحمه ، بناء على إرادة الأعمّ ممّا لا يتعارف أكله.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.

(٢) الكافي ٣ : ٩ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ٢٢٧ ـ ٦٥٦ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأسئار ، الحديث ٣.

(٣) تقدّمت في ص ٣٥٧.

٣٧٠

وعمّم جماعة (١) الكراهة في سؤر الدواب مطلقا.

وفي غير واحد من الأخبار المتقدّمة نفي البأس عن سؤر الحمار والفرس والبغل ، لكنّ الظاهر منها إرادة نفي الحرمة في مقابل سؤر الكلب ، فلا تنافي الكراهة ، والله العالم.

(و) يكره أيضا سؤر (الفأرة) كما عن المشهور (٢) ، بل قيل : أنّه المعروف من المذهب (٣) ، ففي حديث المناهي : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أكل سؤر الفأرة (٤).

وربما يناقش في دلالتها على حكم الماء من حيث الشرب والتوضّؤ.

ولعلّها بالنسبة إلى الشرب في غير محلّها.

وأمّا حكم الوضوء فيمكن دعوى استفادته بالأولويّة المستفادة من تتبّع الأخبار السابقة وغيرها.

ويمكن الاستدلال لها برواية هارون بن حمزة ، المتقدّمة (٥) ، فإنّ أمره عليه‌السلام بأن يكسب من الماء ثلاث مرّات بحسب الظاهر بيان لما يرتفع به الكراهة.

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٦٢.

(٢) نسبه إليه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٦٢.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٦٢.

(٤) الفقيه ٤ : ٢ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ٧.

(٥) تقدّمت في ص ٣٦١.

٣٧١

وعن نهاية الشيخ : أنّ الفأرة كالكلب إذا أصابت ثوبا برطوبة ، وجب غسل موضع الإصابة (١).

ولعلّ قوله مبنيّ على نجاستها ، لكونها من المسوخات.

وكيف كان فلا شبهة في ضعفه.

وقد ورد التصريح بنفي البأس عن سؤرها في غير واحد من الأخبار :

منها : رواية هارون بن حمزة ورواية علي بن جعفر ، المتقدّمتان (٢).

وخبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن يشرب منه ويتوضّأ منه» (٣).

وعن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه أنّ عليّا عليه‌السلام قال :«لا بأس بسؤر الفأرة أن يشرب منه ويتوضّأ» (٤).

وربما نزّل كلام الشيخ على إرادة الاستحباب المؤكّدة ، والله العالم.

(و) يكره أيضا سؤر (الحيّة) لرواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٦٢ ـ ٦٣ ، وحكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ١٣٦ ، وانظر : النهاية : ٥٢.

(٢) تقدّمتا في ص ٣٦١ و ٣٦٢.

(٣) الفقيه ١ : ١٤ ـ ٢٨ ، التهذيب ١ : ٤١٩ ـ ١٣٢٣ ، الإستبصار ١ : ٢٦ ـ ٦٥ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ٢.

(٤) قرب الإسناد : ١٥٠ ـ ٥٤٢ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ٨.

٣٧٢

في حيّة دخلت حبّا فيه ماء وخرجت منه ، قال : «إذا وجد ماء غيره فليهرقه» (١).

وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام نفي البأس عنه :

قال : سألته عن العظاية والحيّد والزوغة يقع في الماء فلا يموت أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : «لا بأس به» (٢).

(و) كذا يكره (ما مات فيه الوزغ والعقرب).

ويدلّ على كراهة ما يموت فيه الوزغ بل مطلقا ولو خرج حيّا : ما في ذيل رواية هارون بن حمزة ، المتقدّمة (٣) من قوله عليه‌السلام : «غير الوزغ فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه».

ويدلّ على حكم ما يموت فيه العقرب : رواية سماعة : عن جرّة وجد فيها خنفساء وقد مات ، قال : «ألقه وتوضّأ منه ، وإن كان عقربا فأرق الماء وتوضّأ من ماء غيره» (٤).

وعن نهاية الشيخ : الإفتاء بنجاسة الماء الذي يموت فيه الوزغة والعقرب (٥) ، استنادا إلى ظاهر الروايتين ، بل ربما استظهر منه القول

__________________

(١) الكافي ٣ : ٧٣ ـ ١٥ ، التهذيب ١ : ٤١٣ ـ ١٣٠٢ ، الإستبصار ١ : ٢٥ ـ ٦٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٩ ـ ١٣٢٦ ، الإستبصار ١ : ٢٣ ـ ٥٨ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ١.

(٣) تقدّمت في ص ٣٦١.

(٤) الكافي ٣ : ١٠ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٢٢٩ ـ ٦٦٢ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ٦.

(٥) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ١ : ٣٨٦ ، وانظر : النهاية : ٦.

٣٧٣

بنجاسة سؤرهما مطلقا وإن خرجتا حيّتين.

ولعلّه مبنيّ على القول بنجاسة المسوخات ، وسيأتي ضعفه في محلّه إن شاء الله.

وأمّا الاستدلال بالروايتين ، ففيه : أنّه لا بدّ من حملهما على الكراهة ، واستحباب التنزّه ، جمعا بينهما وبين غيرهما من الأدلّة ، ففي صحيحة علي بن جعفر ، المتقدّمة (١) : نفي البأس عن الماء الذي يقع فيه الوزغة فلا تموت ، وهذا الفرض هو المراد برواية هارون بن حمزة بقرينة السؤال ، فلا بدّ من حملها على الكراهة بقرينة الصحيحة التي هي نصّ في الجواز.

وكذا رواية سماعة معارضة بما هو نصّ في عدم الحرمة ، وهو رواية قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن العقرب والخنفساء تموت في الجرّة أو الدن (٢) يتوضّأ منه للصلاة؟قال : «لا بأس» (٣).

(و) سيتضح لك في مبحث النجاسات إن شاء الله أنّه إنّما (ينجس الماء بموت الحيوان ذي النفس السائلة دون ما لا نفس له) كالعقرب والوزغ والخنفساء ونحوها ، فكلّ ما يدلّ بظاهره على نجاسة الماء بشي‌ء منها لا بدّ من تأويله ، والله العالم.

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٧٣.

(٢) الدن : الحبّ ، الصحاح ٥ : ٢١١٤ «دنن».

(٣) قرب الإسناد : ١٧٨ ـ ٦٥٧ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الأسئار ، الحديث ٥.

٣٧٤

تنبيه : قد عرفت أنّ الكلام في طهارة السؤر وعدمها إنّما هو على تقدير خلوّ بدن الحيوان من عين النجاسة ، وإلّا فلا كلام عند القائلين بانفعال الماء القليل في انفعاله لو كان في بدنه من النجاسة ما يدركه الطرف.

(و) إن كان (ما لا) يكاد (يدركه الطرف من الدم) أو غيره من النجاسات فهل تؤثّر في تنجيس السؤر أم لا؟ وجهان مبنيّان على الخلاف الذي عرفته في مبحث انفعال الماء القليل حيث حكي عن الشيخ أنّ ما لا يدركه الطرف من الدم أو من مطلق النجاسات (لا ينجّس الماء ، و) قد عرفت في محلّه أنّ الأقوى ما (قيل) بل هو المشهور ـ : أنّه (ينجّسه ، و) لا أقلّ من أنّه (هو الأحوط) غالبا.

فرع : لو طارت الذبابة عن العذرة أو غيرها من النجاسات إلى الثوب أو الماء ، فإن لم تحمل رجلها من النجاسة إلّا مجرّد نداوة جفّفها الهواء قبل وصولها إلى الماء أو غيره ، فلا إشكال ، وإن كان قبل جفافها ولكن لم يكن ما تحملها بحيث يكون بحياله ملحوظا لدى العرف على وجه يصدق عليه اسم النجس ، أو يعدّ لديهم في حدّ ذاته من أجزائه المائية بأن يكون كصبغ الدم ، أو كالأجزاء المائية أو الترابية المتصاعدة عن النجس في ضمن البخار والدخان ، فلا إشكال فيه أيضا ، وإن حملت منها ما يصدق عليه اسم النجس فأصابت الماء ، فلا تأمّل في نجاسته ، سواء كانت قبل جفافه أو بعده.

وإن أصابت الثوب بعد الجفاف أو أصابته قبل الجفاف برطوبة

٣٧٥

مسرية ، فحكمه واضح.

ولو أصابته في حال شكّ في كون النجس المعلوم وجوده مشتملا على رطوبة مسرية ، فالظاهر طهارته.

واستصحاب بقاء الرطوبة المسرية لا يجدي في الحكم بنجاسة الثوب إلّا على القول بالأصول المثبتة.

وإن شكّ في أنّ الذبابة حملت من عين النجاسة ما ينجّس الماء أو الثوب ، فالكلام فيه ما عرفته في ما سبق من عدم جريان استصحاب بقاء العين ، ولا استصحاب النجاسة السابقة إلّا على القول بنجاسة بدن الحيوان حال تلطّخه بعين النجاسة ، وكون زوالها من المطهّرات على إشكال ، والله العالم.

٣٧٦

فهرس الموضوعات

مقدمة التحقيق................................................................ ٥

مقدمة المؤلف................................................................. ٣

كتاب الطهارة

تعريف الطهارة................................................................ ٧

أقسام الطهارة................................................................. ٧

فيما يجب له الغسل.......................................................... ١٤

فيما يجب له التيمم.......................................................... ٢٦

الركن الأول في المياه

الماء المطلق

تعريف الماء المطلق............................................................ ٢٨

٣٧٧

طهارة الماء المطلق وإزالة للحدث والخبث......................................... ٢٨

بيان المراد من الحدث والخبث.................................................. ٢٨

أقسام الماء المطلق

١ ـ الماء الجاري

تعريف الماء الجاري........................................................... ٢٨

عدم تنجس الماء الجاري بملاقاة النجاسة......................................... ٣٠

تنجس الماء الجاري وغيره بتغيره في أحد أوصافه الثلاثة باستيلاء النجاسة على أحدها. ٤٥

هل يعتبر في انفعال الماء استيلاء النجاسة عليه أم يكفي تغير الماء بوقوعها فيه؟....... ٥٠

عدم كفاية التغير التقديري في انفعال الماء........................................ ٥١

فيما لو تغير بعض الجاري..................................................... ٥٧

هل يطهر الجاري المتغير بزوال تغيره مطلقا؟...................................... ٥٨

لحوق ماء الغيث وماء الحمام بالجاري في الأحكام المذكورة له....................... ٦٠

هل يعتبر في مادة الحمام بلوغها كرا؟............................................ ٦١

عدم خروج الماء عن كونه مطهرا لو مازجه جسم طاهر فغيره....................... ٧٠

نجاسة الماء القليل بملاقاة النجاسة.............................................. ٧٠

هل ينفعل الماء القليل مطلقا بمجرد ملاقاة النجس أم يشترط ورود النجاسة على الماء؟. ٨٣

تطهير الماء المتنجس.......................................................... ٩٤

هل يطهر الماء القليل النجس بإتمامه كرا؟...................................... ١١٠

عدم تنجس الماء الكر بشئ من النجاسات إلا أن تغير النجاسة أحد أوصافه الثلاثة. ١١٧

٣٧٨

حكم الماء غير المتغير المتصل بالمتغير........................................... ١١٧

تطهير الماء الكثير النجس بإلقاء كر فما زاد عليه................................ ١٢٤

عدم تطهير الماء الكثير النجس بزوال التغير من قبل نفسه ولا بتصفيق الرياح ولا بوقوع أجسام طاهرة فيه    ١٢٤

تحديد الكر وزنا............................................................ ١٢٧

بيان المراد من الرطل........................................................ ١٢٨

تحديد الرطل العراقي........................................................ ١٣٢

تحديد الرطل المكي......................................................... ١٣٤

تحديد الكر مساحة......................................................... ١٣٤

نقل الأقوال في تحديد الكر بالمساحة.......................................... ١٤٧

استواء مياه الغدران والحياض والأواني إذا كانت كرا في عدم نجاستها................ ١٥١

٢ ـ ماء البئر

تنجس ماء البئر بالتغير...................................................... ١٥٣

هل ينجس ماء البئر بملاقاة النجاسة؟......................................... ١٥٣

حجة القائلين بالطهارة...................................................... ١٥٤

حجة القائلين بالنجاسة..................................................... ١٦٢

حجة القائل باعتبار الكرية.................................................. ١٧٥

حكم نزح ماء البئر......................................................... ١٧٨

هل يطهر ماء البئر بمطهر سائر المياه النجاسة من دون النزح؟.................... ١٧٩

نزح جميع ماء البئر بوقوع المسكر فيها......................................... ١٨٠

نزح جميع ماء البئر بوقوع المني أو أحد الدماء الثلاثة............................. ١٨٣

نزح جميع ماء البئر بموت البعير فيها........................................... ١٨٤

فيما إذا تعذر استيعاب ماء البئر............................................. ١٨٥

٣٧٩

نزح كر لموت الدابة......................................................... ١٩٠

نزح كر لموت الحمار أو البقرة................................................ ١٩١

نزح سبعين دلوا لموت إنسان في البئر.......................................... ١٩٤

مقدار ما ينزح للعذرة المذابة في البئر........................................... ١٩٨

مقدار ما ينزح لكثير الدم.................................................... ١٩٨

نزح أربعين دلوا لموت الثعلب أو الأرنب أو الخنزير أو السنور أو الكلب وشبهه..... ٢٠٠

نزح أربعين دلوا لبول الرجل وللعذرة الجامدة ولقليل الدم......................... ٢٠٣

نزح سبع دلاء لموت الطير................................................... ٢٠٤

نزح سبع دلاء لموت الفأرة المتفسخة أو المنتفخة................................ ٢٠٥

نزح سبع دلاء لبول الصبي غير البالغ......................................... ٢٠٧

نزح سبع دلاء لاغتسال الجنب في البئر....................................... ٢٠٨

نزح سبع دلاء لوقوع الكلب وخروجه حيا...................................... ٢١١

نزح خمس دلاء لذرق الدجاج الجلال.......................................... ٢١١

نزح ثلاث دلاء لموت الحية.................................................. ٢١١

نزح ثلاث دلاء لموت الفأرة غير المتفسخة أو المنتفخة........................... ٢١٣

نزح دلو واحد لموت العصفور وشبهه وبول الصبي الذي لم يغتذ بالطعام............ ٢١٣

نزح ثلاثين دولا لماء المطر وفيه البول والعذرة وخرء الكلاب....................... ٢١٥

ليس للدلو التي ينزح بها حد مضبوط.......................................... ٢١٥

حكم صغير الحيوان في النزح حكم كبيره....................................... ٢١٧

هل يوجب اختلاف أجناس النجاسة تضاعف النزح؟........................... ٢١٧

فيما إذا وقع في البئر أفراد متعددة من نوع واحد من النجاسات................... ٢٢١

فيما إذا لم يقدر للنجاسة منزوح.............................................. ٢٢٧

٣٨٠