مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

ويدلّ عليه مع موافقته للأصل : رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام : في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمس أذرع أو أقلّ أو أكثر ، قال عليه‌السلام : «ليس يكره من قرب ومن بعد يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء» (١).

واعتبار التغيّر على القول بكفاية مجرّد الوصول في الانفعال ، لكونه السبب العادي للعلم بالوصول.

(فإذا حكم بنجاسة الماء ، لم يجز استعماله في الطهارة) أي :لا يجوز التطهير به (مطلقا) عن الحدث والخبث ولو مع الضرورة (و) لا استعماله (في الأكل) بعجله جزءا من المأكول (ولا) استعماله (في الشرب) بشربه أو جعله جزءا من المشروب (إلّا عند الضرورة) فإنّه ما من حرام إلّا وقد أحلّه الله لمن اضطرّ إليه.

والمراد بعدم جواز استعماله في الطهارة فسادها لا الحرمة ، فإنّ الأظهر أنّه ليس للتطهير بالنجس حرمة ذاتية.

وأمّا عدم جوازه في الأكل والشرب فالمراد به حرمتهما ، لا بمعنى أنّ اللفظ استعمل في معنيين ، كما قد يتوهّم ، فإنّ المراد بعدم جواز هذه الاستعمالات عدم مضيّها في الشريعة وعدم شرعيّتها أعمّ من أن يكون عدم إمضاء الشارع لها لمفسدة فيها أو لعدم ترتّب الآثار المقصودة منها عليها ، لكن عدم إمضاء الشارع للأكل والشرب مساوق لحرمتهما ، وإلّا فلا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٤١١ ـ ١٢٩٤ ، الإستبصار ١ : ٤٦ ـ ١٢٩ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

٢٤١

معنى له ، فإرادة الحرمة بالنسبة إليهما لخصوصيّة المورد ، لا لإرادتها من اللفظ بعنوان الخصوصيّة ، فليتأمّل.

وقد يقال : إنّ المراد من نفي الجواز في المقام خصوص الحرمة وإرادتها في غير الطهارة ممّا لا خفاء فيها ، وأمّا فيها : فلأنّ الاستعمال في الطهارة لا يتحقّق إلّا بقصد التطهير ، لأنّ الأفعال الاختيارية إنّما تعرضها العناوين المقصودة للفاعل ، وهو من هذه الجهة محرّم ، لكونه تشريعا ، ومن غير هذه الجهة غير محرّم ، ولكنّه لا يسمّى استعمالا في التطهير.

وكيف كان فظاهر المصنّف وغيره ممّن تأخّر عنه ـ كصريح بعض ـ : اختصاص الحرام بالمذكورات دون غيرها من الاستعمالات ، كسقي الدوابّ والأشجار وبلّ الطين والجصّ ونحوها.

وعن ظاهر جماعة من القدماء ـ كالمفيد والسيّدين والشيخ والحلّي (١) ـ عدم جواز الانتفاع بالمتنجّس مطلقا ، بل ربما يستظهر ذلك من المشهور بينهم ، ولا يظنّ بهم إرادة الإطلاق.

وقد تخيّل بعض (٢) من ملاحظة ظواهر كلمات القدماء وظواهر بعض الأخبار أنّ الأصل في المتنجّس حرمة الانتفاع به إلّا ما خرج بالدليل ، وسيتّضح لك إن شاء الله أنّ الأقوى خلافه ، كما صرّح به المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وغيره.

__________________

(١) حكاه عن ظاهرهم الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤١ ، وانظر : المقنعة : ٦٨ ، والغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٥٥٦ ، والمبسوط ١ : ١٣ ، والسرائر ١ : ٨٨ ، وأمّا قول السيّد المرتضى فلم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٤١.

٢٤٢

قال في محكيّ المعتبر : الماء النجس لا يجوز استعماله في رفع حدث ولا إزالة خبث مطلقا ولا في الأكل والشرب إلّا عند الضرورة ، وأطلق الشيخ ـ رحمه‌الله ـ المنع من استعماله إلّا عند الضرورة.

لنا : أنّ مقتضى الدليل : جواز الاستعمال ، فترك العمل به فيما ذكرنا بالاتّفاق والنقل ، وبقي الباقي على الأصل (١). انتهى.

(ولو اشتبه الإناء النجس) ذاتا أو بالعرض (بالطاهر ، وجب الامتناع منهما) وعدم استعمال شي‌ء منهما في شي‌ء ممّا يشترط بطهارة الماء (فإن لم يجد) ماء (غيرهما تيمّم) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن جماعة من الأعلام دعوى الإجماع عليه (٢) ، لموثّقة سماعة عن الصادق عليه‌السلام : في رجل معه إناءان وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما ، قال : «يهريقهما ويتيمّم» (٣).

وموثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثلها (٤).

وفي محكيّ المعتبر نسبتهما إلى عمل الأصحاب (٥).

وعن المنتهى : أنّ الأصحاب تلقّت هذين الحديثين بالقبول (٦).

__________________

(١) المعتبر ١ : ٥٠ ـ ٥١ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤١.

(٢) حكاها عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٢.

(٣) الكافي ٣ : ١٠ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ ـ ٧١٣ ، الإستبصار ١ : ٢١ ـ ٤٨ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

(٤) التهذيب ١ : ٢٤٨ ـ ٧١٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٤.

(٥) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١ : ٢٩٠ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٠٤.

(٦) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١ : ٢٩٠ ، وانظر : منتهى المطلب ١ : ٣٠.

٢٤٣

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى النصّ والإجماع ـ قضاء العقل بحرمة المعصية ووجوب الاجتناب عن النجس الواقعيّ المعلوم بالإجمال ، المردّد بين الإناءين ، فيجب التحرّز عن كلّ من المحتملين تحرّزا عن العقاب المحتمل.

توضيح هذا الدليل بحيث يتّضح الاستدلال به لوجوب الاجتناب في كلّ شبهة محصورة هو : أنّ إطلاق الأوامر الواردة في الشريعة بالاجتناب عن النجاسات أو المحرّمات مقتض لوجوب الاجتناب عن الأفراد الواقعيّة ، ولا يقبح عقاب من ارتكب المحرّم الواقعي المردّد بين الإناءين بعد علمه به حتى يكون جهله التفصيلي عذرا في حقّه ، كما في الشكوك البدويّة ، ولم يرد من الشرع ما يدلّ على جواز الارتكاب حتى يكون عذرا شرعيّا ، بل لا يجوز عقلا ترخيص الشارع ارتكابه ، وجعل الجهل عذرا في حقّه ، لاستلزامه الترخيص في المخالفة ارتكابه ، وجعل الجهل عذرا في حقّه ، لاستلزامه الترخيص في المخالفة العمديّة ، وهو ممتنع ، لأنّ مخالفة الشارع في حدّ ذاتها ـ كالظلم ـ قبيحة بالذات ، فإذا كان الفعل بهذا العنوان فعلا اختياريّا للمكلّف امتنع أن تعرضه جهة محسّنة له حتى تتبعها الرخصة الشرعية.

هذا ، مع أنّه متى علم المكلّف بوجود خمر مثلا بين الإناءين وأدرك العقل حرمتها على الإطلاق وعدم رضى الشارع بشربها استقلّ بوجوب التجنّب عنها ، فلا يعقل أن يصدر من الشارع ما يناقضه ، إذ ليس للشارع أن يتصرّف في موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة ، نعم له أن يتصرّف في موضوع حكمه الشرعيّ بأن يخصّ الحرمة بالخمر المعلومة

٢٤٤

بالتفصيل لا مطلق الخمر ، إلّا أنّه خلاف ظواهر الأدلّة المطلقة.

وأمّا الأخبار الدالّة على حلّية ما لم يعلم حرمته فلا تنهض دليلا على تقييد المطلقات ، لكونها مسوقة لبيان الحكم الظاهري المغيّى بالعلم ، فهي بنفسها لأجل جعل العلم غاية فيها ممّا يؤكّد إطلاق المطلقات ، كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ العلم بالموضوع المحرّم وإن كان شرطا في تنجّز التكاليف الواقعيّة عقلا ونقلا ، ولكن الذي أخذ شرطا في موضوع حكم العقل بالتنجّز أعمّ من الإجمالي والتفصيلي ، بل كلّ طريق معتبر ، فإذا علم المكلّف بنجاسة أحد الإناءين فقد تنجّز في حقّه الأمر بالاجتناب عن النجس الواقعي ، فيجب عليه بحكم العقل الاجتناب عن كلّ من الإناءين دفعا للعقاب المحتمل.

وقد يتوهّم جواز ارتكاب بعض الأطراف أو جميعها في التدريجيّات بدعوى : أنّ العقل لا يحكم إلّا بحرمة المخالفة القطعية ، وأمّا وجوب الموافقة القطعية فلا ، ومن المعلوم أنّ العبد لا يعتقد المخالفة بارتكاب البعض ، وكذا في التدريجيّات لا يعتقد المخالفة إلّا بعد الارتكاب ، ولا دليل على حرمة تحصيل العلم بالمخالفة ، أو بدعوى :عدم شمول الخطابات إلّا لما علم نجاسته أو حرمته ، أو بدعوى ثبوت الرخصة من الشارع بجواز ارتكاب كلّ مشكوك النجاسة أو الحرمة ، وهي بعمومها تشمل الشبهة المسبوقة بالعلم الإجماليّ ، ولكن العلم الإجمالي مانع عن ارتكاب الجميع دون البعض ، فيحكم بجواز الارتكاب فيما عدا

٢٤٥

مقدار الحرام.

وفي الجميع ما لا يخفى.

أمّا الأوّل : فلاستقلال العقل بوجوب الموافقة القطعية للأوامر الشرعيّة ، كحرمة المخالفة القطعية ، ويستكشف ذلك من حكم العقلاء بحسن مؤاخذة العبد الذي أمره سيّده بالتحرّز عن الخمر المردّدة بين الإناءين لو شرب أحدهما وصادف الواقع ، ومن المعلوم أنّه لو جاز مؤاخذته على تقدير المصادفة يجب الاجتناب عن جميع المحتملات عقلا ، دفعا للضرر المحتمل.

وأمّا الثاني : فلأنّه إن أريد دعوى أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة بالتفصيل ، فالنجس أو الحرام وكذا الدم أو الخمر اسم لما علم أنّه نجس أو حرام أو دم أو خمر مفصّلا ، ففيه ـ بعد الإغماض عن عدم معقوليّته ـ أنّه خلاف المتبادر منها.

وإن أريد دعوى انصراف الخطابات إلى المصاديق المعروفة بعناوينها الخاصّة مفصّلا ، ففيه منع ظاهر ، مع أنّ مقتضاه عدم نجاسة الخمر المردّدة بين إناءين ، وكذا عدم حرمتها في الواقع ، ولا يلتزم به أحد.

وأمّا الثالث : فلما أشرنا إليه من منع العموم أوّلا ، ووجوب ارتكاب التأويل بعد تسليم ظهورها فيه ثانيا ، لاستقلال العقل بقبح الترخيص في المعصية ، فتأمّل ، ولتمام التحقيق مقام آخر.

٢٤٦

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ الحكم بوجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو فيما إذا كان العلم الإجمالي مؤثّرا في ثبوت خطاب منجّز بالاجتناب عن النجس المشتبه على كلّ تقدير ، بمعنى أنّه يعتبر في وجوب الاجتناب أن يكون كلّ واحد من الأطراف بحيث لو علم تفصيلا كونه هو النجس المشتبه لتوجّه إلى المكلّف بالنسبة إليه خطاب منجّز بالاجتناب عنه ، فلو لم يكن بعض الأطراف كذلك بأن لم يكن طروّ النجاسة عليه موجبا لحدوث تكليف منجّز بالنسبة إليه ، كما إذا كان ممّا لا يتنجّس بملاقاة النجس ، أو كان ممّا اضطرّ المكلّف إلى ارتكابه بسبب سابق على العلم الإجمالي ، أو كان خارجا عن مورد ابتلاء المكلّف فعلا بحيث يستهجن عرفا توجيه خطاب منجّز بالنسبة إليه وإن صحّ توجيه خطاب معلّق بالابتلاء.

والوجه في ذلك كلّه : سلامة الأصل في مورد الابتلاء في جميع هذه الصور عن معارضة جريانه في الطرف الآخر.

لا يقال : هذا إنّما يتمّ لو كان المانع عن جريان (١) الأصول معارضتها في موارد الابتلاء بالمثل ، وأمّا لو قلنا باختصاص أدلّتها بغير ما لو علم التكليف إجمالا ، فلا فرق بين كون جميع أطراف المعلوم بالإجمال موردا للابتلاء أم لا.

__________________

(١) في «ض ١» : إجراء.

٢٤٧

لأنّا نقول : مرجع دعوى الاختصاص إلى أنّه لا يفهم من مثل قوله عليه‌السلام :«كلّ شي‌ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (١) حكم الشبهة المقرونة بالعلم حيث إنّ النجاسة فيها معلومة.

وهذه الدعوى مسلّمة فيما إذا كان العلم الإجمالي مانعا من استفادة حكم مورد الشبهة من عمومات الأدلّة ، وهذا لا يكون إلّا إذا كانت الأطراف بأسرها موردا للابتلاء.

ألا ترى أنّه لو كان أوان متعدّدة في مورد ابتلاء المكلّف ، فاشتبه طاهرها بنجسها لظلمة ونحوها لا يلتفت ذهنه إلى ملاحظة كلّ واحد واحد منها على سبيل الاستقلال حتى يحمل عليه حكم الشبهة ، بل يرى نفسه عالما بنجاسة مردّدة بين الأواني.

وأمّا إذا لم يكن بعض الأطراف موردا لابتلائه ، فلا يعتنى بعلمه أصلا ، بل ربما لا يلتفت إليه ، وإنّما يلاحظ ما هو محلّ حاجته فيراه شبهة ، ويتمسّك في تشخيص حكمه بعموم قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) فما ادّعيناه من سلامة الأصل في هذه الموارد عن المعارض هو التحقيق الذي لا محيص عنه ، كما يشهد به ما استقرّ عليه سيرة المتشرّعة على ما هو المغروس في أذهانهم المجبول عليه طباعهم.

هذا كلّه فيما إذا كان خروج بعض الأطراف عن مورد التكليف المنجّز قبل

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ـ ٨٣٢ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤ ، وفيهما : «.. نظيف ..» بدل «طاهر».

(٢) نفس المصدر.

٢٤٨

حصول العلم الإجمالي ، وأمّا لو خرج بعد العلم ، كأن أريق أحد الإناءين في موضع نجس ، أو اضطرّ إلى ارتكابه بعد العلم فلا ، لتنجّز الخطاب بالاجتناب بمجرّد حصول العلم ، فلا بدّ من ترك جميع المحتملات تحصيلا للقطع بالفراغ عن عهدة التكليف.

ومجرّد إراقة بعض الأطراف وخروجه عن مورد الابتلاء لا يوجب رفع اليد عن التكليف المنجّز ، لا لاستصحاب وجوب الاجتناب ، كما توهّم ، بل لحكومة العقل بوجوب الاجتناب بعد الإراقة كحكمه به قبلها ، ضرورة أنّ المناط في حكم العقل بوجوب الاجتناب عن كلّ من الأطراف بعد العلم بأصل الخطاب إنّما هو احتمال كون كلّ طرف هو النجس المعلوم ، وهذا المناط موجود بعد الإراقة أيضا بالنسبة إلى الطرف الباقي ، وإنّما المرتفع هو نفس العلم لا أثره ، وكيف لا وإلّا لجاز ارتكاب أطراف الشبهة بإراقة مقدار الحرام اختيارا ، مع أنّ من المعلوم بديهة عدم مدخليّة إراقة البعض في جواز ارتكاب الباقي ، وعدم الفرق بين الإراقة أو العزم على ترك الارتكاب ، وقد بيّنّا عدم جواز الارتكاب في الصورة الثانية فكذا الاولى.

نعم لو حصل له العلم التفصيلي أو دلّ دليل معتبر بعد أن علم إجمالا بطروّ نجاسة في أحد الأواني ، يكون بعض الأطراف حين حصول العلم خارجا عن مورد التكليف المنجّز ، كما لو علم تفصيلا أو شهدت البيّنة على أنّ هذا الإناء الذي علم إجمالا بوقوع قطرة بول فيه ، أو في غيره خمر ، يلغو أثر العلم الإجمالي وإن اعتقد حال حصوله تنجّز

٢٤٩

التكليف ، لأنّ العلم اللاحق كاشف عن خطئه في اعتقاد التنجّز.

وبما أشرنا إليه ظهر لك أنّ المناط في ارتفاع أثر العلم الإجمالي إنّما هو قيام الطريق على كون بعض الأطراف خارجا عن مورد التكليف المنجّز ، سواء ارتفع بذلك العلم الإجمالي أم بقي على إجماله ، كما في المثال ، لا على ارتفاع نفس العلم الإجمالي ، كما قد يتوهّم ، وإلّا لأشكل الأمر في كثير من الموارد التي ليس التعرّض لها مناسبا للمقام ، فليكن على ذكرك كي ينفعك في تلك الموارد.

وقد ظهر بما ذكرنا ما في كلام السيّد في المدارك بعد قول المصنّف ـ رحمه‌الله ـ : ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر ، وجب الامتناع منهما ، قال : هذا مذهب الأصحاب.

والمستند فيه : ما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال :سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيره ، قال عليه‌السلام : «يهريقهما ويتيمم» (١).

وهي ضعيفة السند بجماعة من الفطحية.

واحتجّ عليه في المختلف أيضا : بأنّ اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتمّ إلّا باجتنابهما معا ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب (٢).

وفيه نظر ، فإنّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلّا مع تحقّقه بعينه لا مع الشكّ فيه ، واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم تحصل

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٤٨ ـ ٧١٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٤.

(٢) ما حكاه عن المختلف لم نجده في المسألة المذكورة ، ولعلّه في موضع آخر منه.

٢٥٠

المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه غير ملتفت إليه ، وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك ، واعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا ، والفرق بينه وبين المحصور غير واضح عند التأمّل ، ويستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه لم ينجس بذلك الماء ، ولم يمنع من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرناه ، فتأمّل (١). انتهى.

توضيح ما فيه :

أمّا أوّلا : فما ذكره من أنّ الرواية ضعيفة السند ، ففيه : أنّه لو بني على طرح مثل هذه الرواية ـ التي هي من الموثّقات المعمول بها عند الأصحاب من غير استثناء ، كما اعترف به في صدر كلامه ، وصرّح به المحقّق والعلّامة في محكي المعتبر والمنتهى (٢) ـ فقلّما يبقى لنا في الفقه مدرك سليم ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فما أورده على العلّامة من عدم القطع بوجوب الاجتناب عن النجس ما لم يكن معلوما بعينه ، ففيه ما عرفت من استقلال العقل بوجوب الاجتناب بعد تسليم كون الحكم معلّقا على النجس الواقعي ، كما هو مقتضي ظواهر الأدلّة ، بل قد عرفت عدم إمكان ترخيص الشارع بالارتكاب إلّا بعد التصرّف في موضوع حكمه الشرعي.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) الحاكي عنهما هو صاحب الجواهر فيها ١ : ٢٩٠ ، وانظر : المعتبر ١ : ١٠٤ ، ومنتهى المطلب ١ : ٣٠.

٢٥١

نعم له الترخيص في ارتكاب بعض المحتملات ، والاقتصار على الموافقة الاحتمالية في مقام الامتثال ، ولكنّه لا بدّ في الاقتصار عليه في مقام الامتثال من ثبوت الرخصة من الشارع ، وهي ممنوعة في الشبهات المحصورة ، وقد بيّن ذلك مستقصى في الأصول.

وأمّا ثالثا : فما ذكره من النقض بواجدي المني ، ففيه ما عرفت من عدم تنجّز التكليف بالنسبة إلى كلّ منهما في مثل هذا الفرض ، لخروج الطرف الآخر في حقّ كلّ منهما عن مورد ابتلائه ، فالأصل في حقّ كلّ منهما سليم عن المعارض.

وأمّا تشبيهه بالشبهة الغير المحصورة مع عدم ظهور الفرق بينهما ، ففيه أنّ الفرق بينهما في غاية الوضوح من وجوه :

منها : أنّ كثرة المحتملات تورث الوهن في احتمال مصادفة كلّ فرد من أفرادها للحرام الواقعي المانع من استقلال العقل بوجوب الترك مراعاة لهذا الاحتمال ، كما نشاهد بالوجدان من عدم استقلال العقل بلزوم التحرّز عن أطعمة بلد يعلم بإصابة سمّ قاتل لفرد من أفرادها ، بخلاف ما لو تردّد السمّ بين إناءين أو ثلاثة أو أربعة ، فكثرة المحتملات توجب خروج العلم الإجمالي عن صلاحية كونه بيانا للحرام المحتمل.

ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن شرب مائع معيّن واشتبه في ألف إناء من الماء ، فشرب العبد أحدها ، وصادف الحرام لو عاتبه المولى بقوله : لم عصيتني؟ للعبد أن يعتذر بجهله ، فلو احتجّ المولى عليه بعلمه الإجمالي ، له أن يقول : أمن أجل إناء واحد حرم عليّ جميع ما في

٢٥٢

الأرض؟ وهذا الجواب منه مرضيّ عند العقلاء ، بخلاف ما لو اشتبه في إناءين ، فلا يقبل عذره بالجهل.

ويرشدك إلى ما ذكرناه : ما عن محاسن البرقي عن أبي الجارود ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن الجبن ، فقلت : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض؟ فما علمت أنّه فيه الميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وكل وبع» (١) الخبر ، فإنّه كالصريح في كون الجهل عند كثرة المحتملات عذرا ، وأنّ الالتزام بالتحرّز عن جميعها من المستنكرات عند العقلاء.

وخروج بعض أطراف الشبهة في مورد الرواية عن محلّ الحاجة لا ينافي ظهورها في المطلوب ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ومنها : خروج أكثر أفرادها في كثير من مصاديقها عن مورد ابتلاء المكلّف ، وقد عرفت عدم وجوب الاجتناب على هذا التقدير في المحصور فضلا عن غير المحصور ، فيمكن تنزيل كلام الأصحاب على هذه الأفراد الغالبة ، وعلى تقدير إرادتهم العموم فالإجماع هو الفارق بين المقامين وقد عرفت إمكان الترخيص في البعض الذي لا يستلزم ارتكابه مخالفة قطعية ، وهذا المعنى يستفاد من الإجماع في غير المحصور دون غيره.

وأمّا جواز ارتكاب الجميع فلا نسلّمه ، خصوصا مع العزم عليه من أوّل الأمر.

__________________

(١) المحاسن : ٤٩٥ ـ ٥٩٧ ، الوسائل ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

٢٥٣

نعم مقتضى الوجه الأوّل : جواز ارتكاب الجميع في الجملة ، لا عن قصد سابق ، وكيف كان فالفرق بين الشبهتين في غاية الوضوح.

وأمّا ما استفاده من قواعد الأصحاب ، إلى آخره ، ففيه : أنّ مورد كلامهم ما إذا كان خارج الماء خارجا عن مورد الابتلاء ، وإلّا فلو كان ممّا يبتلى به المكلّف ـ كما إذا كان الخارج موضع سجوده ـ فلا ريب في أنّ المستفاد من قواعدهم وجوب الاجتناب لا عدمه.

وبما ذكرناه ظهر أيضا أنّ ما ذكره صاحب الحدائق ـ ردّا على ما استنهضه صاحب المدارك مؤيّدا لمختاره بقوله : أقول : وجه الفرق بين ما نحن فيه وما فرضه ـ قدس سرّه ـ ممكن ، فإنّ مقتضى القاعدة المستفادة من الأخبار بالنسبة إلى الاشتباه في المحصور : أن تكون أفراد الاشتباه أمورا معلومة معيّنة بشخصها ، وبالنسبة إلى غير المحصورة أن لا تكون كذلك ، وما ذكره من المشار إليها إنّما هو من الثاني لا الأوّل ، على أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت مهيّة واحدة ، والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ، فإذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنته تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف كان (١). انتهى ـ لا يخلو عن نظر.

توضيحه : أنّ ما ذكره فارقا بين المقامين أوّلا بتنزيل حكم الأصحاب على الشبهة الغير المحصورة ، ففيه أنّ مورد حكم الأصحاب أمّا أعمّ أو مخصوص بالشبهة المحصورة ، لأنّ أطراف الشبهة في مفروضهم

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥١٧.

٢٥٤

عادة لا تتعدّى عمّا يقرب من الإناء ، وفي مثله لا تندرج الشبهة في غير المحصورة.

وما ذكره ثانيا من اختصاص الحكم بوجوب الاجتناب فيما إذا كانت الأفراد مندرجة تحت مهيّة واحدة ، ففيه ـ مع أنّه لا انضباط لها في حدّ ذاتها ، إذ لم يعلم وحدتها نوعا أو صنفا أو جنسا قريبا أو بعيدا ـ ما عرفت من أنّ المناط صحّة توجيه الخطاب المنجّز لا غير.

ولعلّ الذي حمله على هذا الفرق هو خروج غير المتشابه غالبا عن مورد التكليف المنجّز ، فبعد أن راجع وجدانه ولم ير استقلال العقل بوجوب الاجتناب في مثله زعم أنّ المناط تغاير المهيّتين غفلة عن صورة الابتلاء وتنجّز الخطاب ، وإلّا فلا يظنّ به تجويزه الارتكاب فيما لو سئل عن حكم ما لو تردّد الأمر بين وقوع القطرة من البول في الماء الذي يتوضّأ منه ، أو ثوبه الذي يصلّي فيه ، وكيف كان فلا يخفى ما فيه بعد وضوح المناط.

الأمر الثاني أنّك قد عرفت فيما سبق تلويحا وتصريحا أنّ المعيار في الابتلاء وعدمه استهجان توجيه الخطاب المنجّز عرفا بالنسبة إلى المكلّف وعدمه ، وكذا الكلام في كون الشبهة محصورة أو غير محصورة كون المحتملات من الكثرة بمكان لا يلتفت العقل بالنسبة إلى كلّ واحد من الأطراف إلى العلم الإجمالي ، ولا يعتنى بالنظر إليه إلى احتمال كونه هو المحرّم الواقعي في الإلزام بالتحرّز عن المضرّة المحتملة ، ولكنّك خبير بأنّ موارد الاشتباه في كلا الموردين في غاية الكثرة ، إلّا أنّ الوجدان

٢٥٥

السليم والطبع المستقيم أعدل شاهد في تشخيص المصاديق ، ولعلّه كثيرا مّا يرتفع الاشتباه بمراجعة الوجدان.

ألا ترى أنّ المغروس في أذهان عوام المتشرّعة عدم وجوب الاجتناب عن الشبهات ما لم يعلم نجاستها فلا يلتفتون إلى الشكوك البدوية أصلا ، ومع ذلك لو وقعت قطرة بول بين المائعات الموجودة بين أيديهم في معرض ابتلائهم ، فإنّهم لا يبادرون إلى تناول شي‌ء منها حتّى يسألوا عن حكمها ، ففي مثل هذه الموارد يعلم أنّ للعلم أثرا بالنسبة إلى الأطراف ، وهذا بخلاف ما لو كان بعض الأطراف خارجا عن مورد تكليفهم المنجّز ، كما لو دار الأمر بين وقوعه في إنائه ، أو على أرض نجسة ، أو على ثوب شخص آخر ، فإنّهم لا يلتفتون إلى العلم الإجمالي أصلا ، ولا ينظرون إلّا إلى الطرف الذي هو مورد ابتلائهم ، ويقنعون في دفع التكليف عن أنفسهم بمجرّد إبداء الاحتمال بوصول القطرة الواقعة على غير مورد ابتلائهم.

ويمكن أن يفرّق بين الشبهة المحصورة وغيرها ببيان آخر ربّما يلوح من كلام صاحب الحدائق في عبارته المتقدّمة ، وهو : أنّه إذا كان الحرام المحتمل مردّدا بين أمور معيّنة متعارضة ، كهذا وذاك وذلك وهكذا ، فهي محصورة محدودة ، وإن لم يكن كذلك بأن يكون احتمال حرمة كلّ من الأطراف معارضا لدى العقل في بادئ رأيه باحتمال حرمة ما عداه على سبيل الإجمال من دون التفاته إلى سائر الأفراد مفصّلا على وجه يكون الحرام المحتمل مردّدا بين هذا وهذا وذاك ، فهي غير

٢٥٦

محصورة.

وكيف كان فإن ارتفع الشك ، بمراجعة الوجدان فهو ، وإلّا فهل يجب الاجتناب ، لثوب المقتضي للعقاب ، وعدم استقلال العقل بالمعذوريّة ، فيجب التحرّز دفعا للعقاب المحتمل ، أم لا ، لأنّ الشكّ فيه يرجع إلى الشكّ في التكليف المنجّز ، والأصل عدمه عقلا ونقلا؟ وجهان أقواهما : الأوّل ، لما ذكرنا من وجوه المقتضي ، وهي إطلاقات الأدلّة الواقعية ، وعدم المانع.

إن قلت : إنّها مقيّدة بالابتلاء ، فالتمسّك بها في مورد الشكّ من قبيل التمسّك بعموم العام في الشبهات المصداقية ، وهو غير جائز.

قلت : التقييد بالابتلاء في مقام التنجّز من القيود العقلية ، فلا بدّ من الاقتصار في التقييد على ما يستقلّ به العقل ، وليس لنا عنوان لفظي حتى يؤخذ بعموم الفظ ، ويحكم في مصاديقه بنفي الحكم.

وبعبارة أخرى : العقل لا يخرج عن تحت العمومات إلّا ذوات المصاديق ، وأمّا العناوين العامّة فلا حكم لها في حكمه حتى يؤخذ بعمومها ويفحص عن مصاديقها ، ففي موارد الشكّ لا بدّ من الرجوع إلى حكم العام ، فلو قال الشارع : حجّ إن استطعت ، وشكّ في الاستطاعة ، يرجع إلى أصل البراءة ، للشكّ في حصول شرط الوجوب ، وهذا بخلاف القدرة التي هي شرط عقلا ، فإنّه لو شكّ في حصولها لا يرفع اليد عن عموم الأدلّة ، بل لا بدّ من السعي في مقدّماته حتى يظهر العجز.

وسرّه : ما أشرنا إليه من أنّ الخارج عن تحت أدلّة التكاليف الواقعية

٢٥٧

إنّما هو العاجز الواقعي بأشخاصه لا بعنوانه ، ولا يحكم العقل بالمعذورية إلّا بعد إحرازه العجز ، وما لم يحرزه فالمرجع أصالة العموم.

ومجرّد احتمال كونه من المصاديق التي يكون فيها معذورا بحكم العقل لا يوجب رفع اليد عن المقتضيات الثابتة بالأدلّة العامّة.

هذا مع أنّ التقييد فيما نحن فيه ليس بالنسبة إلى الأدلّة الواقعيّة حتى يتوهّم كونه من قبيل الشبهات المصداقية ، بل مرجعه إلى كون الجهل عذرا في مقام الامتثال ، فلا بدّ من إحراز المعذوريّة ، وإلّا فيجب الاجتناب عقلا تحرّزا عن العقاب المحتمل ، فلاحظ وتدبّر فيما ذكرناه ، فإنّه دقيق نافع جدّا.

الأمر الثالث : مقتضى إطلاق النصّ ومعاقد الإجماعات : وجوب التيمّم مع انحصار الماء في المشتبهين ، سواء أمكن الجمع بينهما ـ بحيث يقطع بوقوع صلاته مع الطهارة الواقعية ـ حدثا وخبثا ، أم لا ، فهل هذا الحكم بإطلاقه على وفق القاعدة ليتعدّى إلى ما لا يشمله النصّ أم لا؟

والتحقيق : أنّه إن قلنا بحرمة الطهارة بالنجس حرمة ذاتية ، فلا تأمّل في وجوب التيمّم مطلقا ، لا لمجرّد تغليب جانب الحرمة ، كما حكي عن غير واحد (١) حتّى يتكلّف في توجيهه في خصوص المقام على المختار من لزوم تغليب ما هو الأهمّ شرعا لا خصوص جانب الحرمة ، بل لأنّ ارتكاب المحرّم محظور شرعا ، والمانع الشرعي كالعقلي ، فينتقل الفرض إلى التيمم ، والوضوء إنّما وجب في حال الاختيار ، فلا يزاحم تكليفا

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٣.

٢٥٨

آخر ، محرّما كان أم واجبا ، إلّا أن يكون ذلك الواجب أيضا كالوضوء ممّا له بدل اضطراري ، فيتزاحمان.

وإن قلنا بأنّ حرمتها تشريعيّة لا ذاتيّة ـ كما هو الظاهر ـ فمقتضى القاعدة : وجوب الطهارة بهما كالمشتبه بالمضاف ، فيجب عليه الاحتياط بأن يتوضّأ بأحدهما ويصلّي عقيبه ثمّ يتوضّأ بالماء الآخر بعد غسله ما أصابه الماء الأول بالثاني ، فيصلّي صلاة أخرى احتياطا ، فيقطع بذلك بصدور صلاة مقترنة بالطهارة الواقعية عن الحدث والخبث.

ويمكن الاقتصار على صلاة واحدة عقيب الطهارتين ، لأنّ البدن محكوم بالطهارة شرعا ، لما سيأتي تحقيقه من أنّ الجسم الملاقي لأحد المشتبهين طاهر ، ومن المعلوم أنّه لا أثر للملاقاة الحاصلة في ضمن الطهارة الأولى بعد غسل موضع الملاقاة بالماء الثاني ، وتأثير الماء الثاني في نجاسته مشكوك ، والأصل عدمها.

هذا إذا لم نقل باستصحاب النجاسة المتيقّنة الحاصلة بملاقاة النجس إمّا لسقوطه رأسا في مثل المقام أو لمعارضته باستصحاب الطهارة المتيقّنة الثابتة حال الوضوء بالماء الطاهر ، وإلّا فلو بنينا على استصحاب النجاسة في مثل المقام عكس المسألة الآتية ، فلا بدّ من الاحتياط بفعل الصلاة عقيب كلّ وضوء.

ولا ينافي الحكم بنجاسة بدنه شرعا بعد الوضوء الثاني جواز إتيانه بالصلاة عقيبه من باب الاحتياط ، لأنّه لا يحتمل اشتغال ذمّته بالصلاة إلّا على تقدير طهارة بدنه ، وحيث يحتمل طهارة بدنه واشتغال ذمّته

٢٥٩

بالصلاة له أن يأتي بها بقصد الاحتياط ، إذ يكفي في حسن الاحتياط مجرّد الاحتمال ، وبعد أنّ أتى بها احتياطا يقطع بصحة إحدى الصلاتين ، وكونها واجدة لشرائطها المعتبرة فيها.

إذا عرفت ذلك علمت أنّه يمكن تنزيل النصّ ومعاقد الإجماعات لأجل تطبيقها على القاعدة على ما إذا تعذّر أو تعسّر عليه الاحتياط ـ كما هو الغالب في موارد الانحصار ـ فلا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع بين الطهارة بالماءين بالكيفيّة المذكورة والتيمّم ، والله العالم.

الأمر الرابع : لو غسل ثوب نجس بأحدهما ، فالأقوى بقاء نجاسته ، للأصل.

وأمّا لو غسل بهما متعاقبا ، فالأظهر طهارته ، للقطع بزوال نجاسته السابقة ، وتنجّسه بالماء النجس غير معلوم ، لاحتمال غسله به أوّلا ، فلا يؤثّر فيه ، فالماء المتنجّس مردّد بين وقوعه على محلّ نجس ، فلا حكم له ، وبين وقوعه على محلّ طاهر ، فيؤثّر فيه النجاسة.

وقد عرفت أنّه لا أثر للعلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن مورد التكليف المنجّز ، فحاله كحال ما لو غسل بماء معلوم الطهارة وعلم إجمالا بوصول قطرة بول إليه إمّا قبل الغسل أو بعده ، ومن المعلوم أنّه لا يلتفت إلى هذا العلم أصلا ، فكذا فيما نحن فيه.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّ استصحاب الطهارة في مثل المقام مشكل ، لإمكان أن يقال : إنّ الطهارة وإن كانت معلومة إجمالا ولكن النجاسة الثابتة له عند ملاقاة الماء النجس أيضا معلومة ، فكما أنّ الطهارة غير معلوم

٢٦٠