مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

على اختصاص الانفعال بغير ذي المادّة ، فلا تلاحظ النسبة بينها وبين المطلقات.

هذا ، مع أنّ التعليل بمنزلة النصّ من حيث الدلالة على سببيّة المادّة للاعتصام ولو في خصوص موردها ، والقضية الشرطية غاية مفادها ظهورها في السببية المنحصرة ، فيرفع اليد عنها بصريح التعليل.

وربما قيل في تأييد مذهب العلّامة ـ بعد المناقشة في دلالة صحيحة ابن بزيع على مذهب المشهور : بالاحتمال الذي عرفته في ما سبق (١) مع ما فيه ـ إنّ النسبة بين الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الماء الجاري لا ينجس وبين مفهوم القضية الشرطية العموم من وجه ، وظهور الشرطية في شمول مادّة الاجتماع أقوى من تلك المطلقات ، لأنّ تقييد مطلقات الجاري بما إذا كان كرّا إخراج للفرد النادر ، لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة بل بنفسه كرّا قليل ، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة ، فإنّه إخراج للفرد المتعارف.

ودعوى : أنّ الخارج عن أحد الإطلاقين هو الجاري القليل ، ولا يتفاوت الحال بين خروجه عن إطلاقات الجاري ، أو عن تلك الإطلاقات ، مدفوعة : بأنّ تخصيص المفهوم بما عدا القليل الجاري يستلزم تقييد الماء في منطوق القضية بالراكد ، إذ لا يعقل شمول المنطوق لكثير الجاري وعدم شمول المفهوم لقليلة ، لأنّ المفاهيم من قبيل اللبّيّات منشؤها الاستلزامات المحقّقة بين المناطيق ومفاهيمها ، فلا يعقل التصرّف

__________________

(١) سبق في صفحة ٣٨.

٤١

فيها ولو بالتخصيص إلّا بالتصرّف في المنطوق.

وبما ذكرنا ظهر لك ضعف ما يقال من أنّ عمومات الانفعال منصرفة عن القليل الجاري ، لأنّ دعوى الانصراف إنّما تتمشّى في الأدلّة اللفظيّة دون اللبّيّات ، كما هو ظاهر.

وفيه : أوّلا : أنّ دعوى ندرة ما لا يبلغ مع ما في المادّة كرّا ممنوعة على مدّعيها ، كما لا يخفى وجهه على من شاهد منابع المياه.

وثانيا : أنّ تعليق الحكم على وصف الجريان لو لم نقل بدلالته على العلّية للحكم فلا أقلّ من إشعاره بذلك ، فتقوى به تلك المطلقات بحيث لا يكافئ ظهورها ظهور الشرطية في المفهوم ، فضلا عمّا عرفت في ما سبق من إمكان دعوى الانصراف في منطوقها.

ولو سلّم المكافئة ، فالمرجع عموم النبوي المشهور الذي ادعى في محكي السرائر أنّه من المتّفق على روايته (١).

وعن ابن أبي عقيل أنّه متواتر عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» (٢).

وعن الذخيرة أنّه عمل الأمّة بمدلوله وقبلوه (٣).

فالمناقشة في سنده بعد ما عرفت ممّا لا يلتفت إليها.

ويبعّد هذا القول ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّ مقتضاه أن لا يكون

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٤ ، الوسائل الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩.

(٢) حكاه عنه العلّامة الحلّي في مختلف الشيعة ١ : ١٤ ، المسألة ١.

(٣) حكاه عنها صاحب الجواهر فيها ١ : ٧٦ ، وراجع : ذخيرة المعاد : ١١٦.

٤٢

تكاثر الماء من المادّة على الجاري المتغيّر موجبا لتطهيره ، لأنّ النابع تحتها لا يبلغ الكرّ غالبا ، إذ قلّما يوجد في باطن الأرض كرّ من الماء بالفعل متّصلا أجزاؤه بعضها ببعض اتّصالا عرفيّا ، بحيث يكون بالشرائط المعتبرة في عاصمية الكرّ لا أقلّ من الشكّ في ذلك.

وكذا لازمه الالتزام في مثل الفرض بنجاسة ماء عين انسدّ منبعها بشي‌ء نجس وانقطع عمود الماء ، ثم أزيل المانع وجرى الماء وإن بلغ الماء المتجدّد من الكثرة ما بلغ ، لأنّ ما يتجدّد ينجس ، فلا يكون مطهّرا إلّا على قول سيتّضح لك ضعفه ، ولا يظنّ أن يلتزم بشي‌ء من اللازمين أحد ، والله العالم.

وربما يناقش في عموم المفهوم الذي هو عمدة مستند هذا القول : بأنّ مفهوم «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء» ليس إلّا أنّ ما عدا الكرّ ينفعل في الجملة بشي‌ء من النجاسات ، ولا ينافي هذه القضية اختصاص الانفعال ببعض أفراد القليل ، وهو ما عدا الجاري ، بل لا يضرّ الالتزام بعموم الحكم لجميع الأفراد أيضا بعد إهمال الشي‌ء ، لأنّ الجاري القليل أيضا ينفعل بشي‌ء من النجاسات وهو ما يوجب تغيّره.

وفيه : فإنّ النجاسة الموجبة للتغيّر غير مرادة من عموم ال «شي‌ء» في المنطوق ، لأنّ الكرّ أيضا ينفعل بها ، فإهمال الشي‌ء المنجّس ـ بعد تسليمه ، والإغماض عمّا سنذكره إن شاء الله ـ غير ضائر بالاستدلال في مقابل السلب الكلّي كما هو مذهب المشهور.

وأمّا دعوى إهمال المفهوم من حيث أفراد الماء ـ بعد تسليم دلالة

٤٣

الشرطية على المفهوم ـ فاسدة جدّا ، لأنّ استفادة المفهوم منها مبنيّة على دلالتها على السببيّة المنحصرة ، فيكون مفاد التعليق في قولك : إذا كان الماء كرّا لا ينفعل ، أنّ الشرط في عدم انفعال الماء إنّما هو كونه كرّا لا غير ، فكون المادّة أيضا سببا لعدم الانفعال ينافي ذلك ، فلو ثبت ذلك بدليل آخر فلا بدّ من التصرّف في ظاهر التعليق بنحو من أنحاء التصرّفات.

ولكن الإنصاف أنّ هذه المناقشة ، بل وكذا غيرها من المناقشات التي تقدّمت الإشارة إلى بعضها ، إنّما نشأت من عدم فهم العرف لهذه الشرطية مفهوما ، لأنّ المراد منها على ما يشهد به سياق جلّ الأخبار المشتملة على هذه القضية ليس إلّا بيان أنّ الماء البالغ حدّ الكر لا ينفعل بشي‌ء من عند النجاسات ، لا أنّ عدم انفعال الماء مشروط بالكريّة حتى تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، كما هو مقتضى ظاهر التعليق.

والحاصل : أنّ أدوات الشرط وإن كانت في حدّ ذاتها ظاهرة في إرادة التعليق ، إلّا أنّ العرف كثيرا مّا لا يساعد على هذا الظاهر ، بل لا يبعد دعوى أنّ المتبادر منها في أغلب موارد استعمالاتها إرادة ترتّب الحكم على موضوع مقدّر لا التعليق الحقيقي.

وهذا لا ينافي كونها بحسب الوضع حقيقة في المعنى الأوّل ، لأنّ ظهورها في هذا المعنى منشؤه خصوصيات الموارد.

وممّا يفصح عن أنّ المتبادر من الشرطية في المقام هو هذا المعنى لا التعليق : أنّه لو قال القائل في ذيل كلّ واحد من هذه الأخبار بعد قوله عليه‌السلام :«إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء» : وأمّا إذا لم يكن قدر كرّ ففيه

٤٤

تفصيل ، لا ترى تهافتا وتنافيا بين مفاديهما أصلا ، فلو كان ظاهرها التعليق وبيان أنّ عدم الانفعال مشروط بالكرّية لكان التنافي بينهما في بادئ النظر بيّنا.

وما تراه فيها من الدلالة على أنّ ما عدا الكر ينفعل في الجملة فليس منشؤها كون القضية شرطية ، بل إنّما هي لأجل أخذ الكرّية قيدا للموضوع في مقام إعطاء القاعدة ، فيستفاد منه أنّ غير الكرّ ليس له هذا الحكم بإطلاقه ، وأمّا أنّ مطلقه ينفعل فلا يستفاد منه.

نعم ، يستفاد ذلك من صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء ، فقال : «كرّ» (١) فإنّ تخصيص الكرّ بالذكر في مثل المقام يدلّ على اختصاص الحكم به ، إلّا أنّ هذه الدلالة ليست بحيث تقاوم شيئا من الأدلّة ، كما لا يخفى.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الماء الجاري بل كلّ ماء ذي مادّة لا ينجّسه شي‌ء من النجاسات (إلّا) أن يتغيّر (باستيلاء) أثر عين (النجاسة) ولو في ضمن متنجّس (على أحد أوصافه) الثلاثة المعهودة في النصّ والفتوى ، وهي : الطعم والريح واللون.

أمّا نجاسة الجاري بذلك بل جميع المياه فلا خلاف فيها ظاهرا ، بل في الجواهر : عليها الإجماع محصّلا ومنقولا كاد يكون متواترا (٢).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ٣٧ ـ ١٠١ ، الإستبصار ١ : ١٠ ـ ٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٢٥٠.

٤٥

ويدلّ عليها ـ مضافا إلى النبوي وخبر الدعائم المتقدّمين (١) ـ الأخبار المتواترة في الأوّلين (٢) والمستفيضة في الثالث (٣).

ومن الطائفة الأولى : صحيحة ابن بزيع ، المتقدّمة (٤).

ومن الثانية : الصحيح المحكي عن بصائر الدرجات بسنده عن شهاب بن عبد ربه ، قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله ، فابتدأني فقال : «إن شئت فاسأل يا شهاب ، وإن شئت أخبرناك بما جئت» إلى أن قال عليه‌السلام :«جئت تسألني عن الماء الراكد الغدير يكون فيه الجيفة ، أتوضّأ منه أو لا؟» قلت : نعم ، قال عليه‌السلام : «توضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب على الماء الريح فينتن ، وجئت تسألني عن الماء الراكد من البئر» قال : «فما لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة» قلت : فما التغيّر؟ قال عليه‌السلام : «الصفرة ، فتوضّأ منه ، وكلّ ما غلب عليه كثرة الماء فهو طاهر» (٥) الخبر.

وذكر خصوص الصفرة لبيان اللون الحاصل من الجيفة.

وفي رواية العلاء بن فضيل عن الحياض يبال فيها ، قال : «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» (٦).

__________________

(١) تقدّمتا في صفحة ٣٥ و ٤٢.

(٢) أي : الطعم والريح.

(٣) أي : اللون.

(٤) تقدّمت في صفحة ٣٦.

(٥) بصائر الدرجات : ٢٥٨ ـ ١٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١١.

(٦) التهذيب ١ : ٤١٥ ـ ١٣١١ ، الإستبصار ١ : ٢٢ ـ ٥٣ ، الوسائل الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

٤٦

ويستفاد ذلك أيضا من رواية أبي بصير عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ ، فقال : «إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن لم يتغيّر بأبوالها فتوضّأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه» (١) فإنّ المنصرف إلى الذهن من تغيّر الماء بالدم إنّما هو تغيّر لونه ، فمناقشة بعض المتأخّرين في مستند الحكم بالنسبة إلى التغيّر باللون (٢) ممّا لا وجه لها.

ولا عبرة بغير الأوصاف الثلاثة ، كالحرارة والبرودة والثخانة وغيرها وإن كان مقتضى بعض الأخبار المطلقة كفاية مطلق التغيّر ، إلّا أنّه يتعيّن صرفها ـ لو لم نقل بانصرافها ـ إلى الأوصاف الثلاثة التي هي أظهر الأوصاف ، للحصر المستفاد من الأخبار المتضمّنة لذكر الثلاثة أو بعضها ، مضافا إلى عدم الخلاف فيه ظاهرا ، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

ويعتبر أن يكون التغيّر مستندا إلى وقوع النجاسة فيه ، فلا ينجس الماء إذا تغيّر بمجاورة النجاسة ولو وقعت بعد التغيّر فيه ، لأنّ المتبادر من الأخبار أن يكون التغيّر مسبّبا عن ملاقاة النجس ، كما أنّ المتبادر إلى الذهن ممّا دلّ على انفعال القليل انفعاله بملاقاة النجس لا بمجاورته.

ولو تغيّر الماء بنجس بعضه في الماء وبعضه خارج عنه واستند التأثير إلى المجموع ، فالظاهر انفعاله ، لصدق تغيّره بما وقع فيه.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠ ـ ١١١ ، الإستبصار ١ : ٩ ـ ٩ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٥٧.

٤٧

ولو علم استناده إلى خصوص الخارج ، فالظاهر طهارته ، لما عرفت ، بل وكذا لو احتمل استناده إلى خصوص الجزء الخارج ، لأصالة الطهارة.

ولو تغيّر ما لا ينفعل بالملاقاة ـ كالماء العالي المتغيّر بسبب النجاسة المغيّرة في السافل ـ ففي انفعاله وجهان : من إطلاق الأخبار ، ومن أنّ الماء العالي لقاهريته على السافل وتدافعه لا يعدّ جزءا منه بنظر العرف بل هو بحكم المنفصل عنه ، فلا يصدق في الفرض عرفا أنّه تغيّر بما وقع فيه ، ولذا لو كان قليلا لم ينسبق إلى الذهن انفعاله بملاقاة السافل للنجس ، فتغيّره بما وقع في السافل بمنزلة التغيّر بالمجاورة ، بل هو هو ، فالأخبار منصرفة عنه ، وهذا الوجه أقوى وإن كان الأول أحوط.

ثم إنّ المعتبر إنّما هو تغيّر الماء بأثر النجاسة ولو في ضمن المتنجّس لا تغيير عين النجاسة للماء ، لأنّ هذا الفرض قلّما يتحقّق له مصداق في الخارج ، لأنّ الغالب أنّه ينفعل ما حول النجاسة منها أوّلا ثم ينتشر المتنجّس في ما عداه.

وكيف كان فيكفي في الحكم بانفعال الماء الذي تغيّر بسبب وقوع النجاسة فيه ولو في ضمن المتنجّس إطلاقات الأدلّة.

نعم ، لا عبرة بتغيّره بأوصاف المتنجّس ، كما لو تغيّر طعم الماء بالدبس النجس ونحوه كما عن المشهور (١) ، خلافا للمحكي عن ظاهر

__________________

(١) راجع : مفتاح الكرامة ١ : ٦٢.

٤٨

الخلاف والمبسوط والمعتبر والتحرير (١).

ولا يظنّ بمن نسب اليه الخلاف إرادته ذلك ، لأنّ عبائرهم المحكية غير متّضحة المفاد ، قابلة للتوجيه القريب ، كما لا يخفى على من تأمّل فيها.

وكيف كان ، فيكفي في ضعفه انصراف الأدلّة عنه ، بل ظهور صحيحة ابن بزيع في إرادة التغيّر بأوصاف النجس ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا النبوي المشهور فقد يتوهّم ظهوره في العموم.

وفيه : أنّ كون التغيّر بالأوصاف الأصلية التي للمتنجّس مؤثّرا في تنجّس الماء تعبّدا بعيد عن الذهن ، فيستبعد إرادته من المطلقات ، فيمنعها عن الظهور في إرادة ما عدا أعيان النجاسات.

والحاصل : أنّ عدم المناسبة بين التغيّر بأوصاف المتنجّس ـ الذي اكتسب نجاسته بملاقاة النجس ـ وبين تنجّس الماء ـ الذي تتوقّف نجاسته على منجّس قويّ ولا ينفعل بملاقاة النجس ـ مانع عن ظهور الرواية في شمول مثل الفرض ، بل هي منصرفة عنه ، كانصرافها عن التغيّر بالأشياء الطاهرة ، والله العالم.

__________________

(١) حكاه عنها النراقي في مستند الشيعة ١ : ٥ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤ ، وراجع الخلاف ١ : ٥٧ ، المسألة ٧ ، والمبسوط ١ : ٥ ، والمعتبر ١ : ٣٧ ، وتحرير الأحكام ١ : ٥.

٤٩

(وهل يعتبر في انفعال الماء استيلاء النجاسة عليه بظهور أوصافها فيه ، أم يكفي تغيّر الماء بوقوعها فيه ولو بحدوث صفة أخرى مغايرة لصفتي الماء والنجاسة؟) وجهان ، أظهرهما : الثاني ، لأنّ المستفاد من أكثر الأخبار إناطة الحكم بتغيّر الماء لا بظهور أوصاف النجاسة فيه.

وقيل في تقريب الوجه الأول : بأنّ المتبادر من التغيّر التغيّر بلون النجاسة.

وردّ بأنّ الانصراف بدوي منشؤه غلبة الوجود.

والأولى منع الانصراف مطلقا ، وإنّما ينصرف إلى الذهن انصرافا بدويا في خصوص النجاسات التي يكون تغيّر الماء بها مسبّبا عن تفرّق أجزائها ، وأمّا في مثل الميتة ونحوها ممّا يؤثّر في تغيّر لون الماء وطعمه بالخاصية ـ كما هو أغلب موارد الأخبار ـ فليس فيها انصراف أصلا ، بل لا يلتفت الذهن إلى اتّحاد وصفيهما.

نعم ، بالنسبة إلى التغيّر بالريح لا يبعد الانصراف البدوي مطلقا.

وما يمكن أن يستدلّ به لهذا الوجه : تعليق الحكم في بعض الأخبار بغلبة ريح الجيفة على الماء ، مثل خبر سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن الرجل يمرّ بالماء وفيه دابّة ميتة قد أنتنت ، قال : «إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب» (١).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٦ ـ ٦٢٤ ، الإستبصار ١ : ١٢ ـ ١٨ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

٥٠

وفيه : أنّه جار مجرى العادة ، وليس له ظهور ينافي المطلقات ، كيف ولو كان المدار على ظهور وصف النجاسة في الماء ، للزم الحكم بطهارة الماء الذي وقع فيه الجيفة أو غيرها من النجاسات المغيّرة للماء بالخاصية لا بتفتّت أجزائها ، إلّا بعد العلم بمماثلة صفة الماء والنجس ، وهو غير حاصل غالبا في مثل الفرض ممّا كان التغيير فيه بالخاصية ، لجواز تخلّفها في الكيفية ، فيرجع على تقدير الشك ـ كما هو الغالب بالنسبة إلى الطعم ـ إلى قاعدة الطهارة ، مع أنّه لا يكاد يرتاب أحد في مخالفته لما أريد من الأخبار فضلا عن ظاهرها ، فلو حدث في الماء صفرة لوقوع قليل الدم فيه ، نجس على الأقوى ، والله العالم.

ولا يكفي في انفعاله التغيّر التقديري كما عن المشهور (١) ، بل يعتبر أن يكون فعليا ، لإناطة الحكم به في ظواهر الأدلّة ، وهو عبارة عن تبدّل كيفية الماء بالفعل ، فلو وقع فيه مقدار من النجس بحيث لو لم يكن موافقا له في الصفة لانفعل ، لا ينجس من دون فرق بين أن يكون المانع عن التغيير اتّحادهما في الأوصاف ذاتا بمقتضى طبيعتهما النوعية كالماء الصافي مع البول ، أو في خصوص شخص باعتبار صفته الأصلية ، كماء النفط والكبريت الموافق لبعض النجاسات في صفتها ، أو لعارض في النجس ، كما لو أزيل صفته بهبوب الرياح ، أو في الماء ، كما لو صبغ بطاهر أحمر فاريق فيه الدم ، فالأظهر عدم انفعال الماء في جميع الصور ، خلافا للمحكي عن العلّامة وجماعة ممّن تأخّر عنه (٢).

__________________

(١) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ١٨١.

(٢) حكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ١ : ٧٧.

٥١

قال في محكي القواعد والمنتهى : لو وافقت النجاسة الماء في صفاته ، فالأقرب الحكم بنجاسة الماء إن كان يتغيّر بمثلها على تقدير المخالفة ، وإلّا فلا.

ويحتمل عدم التنجيس ، لعدم المقتضى ، وهو : التغيّر (١). انتهى.

وربما يوجّه هذا القول : بأنّ نجاسة الماء مسبّبة عن غلبة النجاسة الواقعة فيه ، بمعنى : أنّ الشارع جعل غلبة النجاسة سببا لانفعال الجاري ، والتغيّر كاشفا عنه ، والمانع إنّما يمنع عن ظهور وصف التغيّر لا عن تأثير ما هو علّة تامّة للتنجيس ، فإذا أحرز وجوده بأمارة أخرى ـ كما هو المفروض ـ نحكم بثبوت أثره ولو لم يحصل تغيير بالفعل (٢).

وفيه : أنّ الظاهر من الأخبار كون التغيّر بنفسه مؤثّرا في التنجّس لا أنّه كاشف عن وجود المؤثر.

ثم إنّ مراده من هذه العبارة بيان الحكم في غير الصورة الأخيرة ، حيث إنّ مفروضه ما لو وافقت النجاسة الماء في صفاته الأصلية ، فلا وجه لما أورده عليه جامع المقاصد ـ في ما حكي عنه ـ من أنّ حقّ العبارة أن يقول : لو وقعت نجاسة مسلوبة الصفات ، لأنّ موافقة النجاسة للماء في الصفات صادقة على نحو الماء المتغيّر بطاهر أحمر إذا وقع فيه دم ، فيقتضي ثبوت التردّد في تقدير المخالفة في هذه الصورة ، وينبغي القطع

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٦ ، وراجع : قواعد الأحكام ١ : ٤ ومنتهى المطلب ١ : ٨.

(٢) هذا التوجيه من فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ١٦.

٥٢

بوجوب التقدير حينئذ ، لأنّ التغيّر هنا تحقيقي ، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ (١). انتهى.

ثم إنّ مقتضى هذه العبارة ـ كعبائر غير واحد من المتأخّرين ـ أنّه ينبغي القطع بنجاسة الماء في الصورة الأخيرة.

وفي المدارك بعد أن رجّح القول باعتبار التغيّر الحسّي مستدلّا بأنّ التغيّر حقيقة في الحسّي ، لصدق السلب بدونه ، واللفظ إنّما يحمل على حقيقته ، قال : فرع : لو خالفت النجاسة الجاري في الصفات لكن منع من ظهورها مانع ـ كما لو وقع في الماء المتغيّر بطاهر أحمر دم مثلا ـ فينبغي ـ القطع بنجاسته ، لتحقّق التغيّر حقيقة ، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ ، وقد نبّه على ذلك الشهيد في البيان (٢). انتهى.

وفي الحدائق بعد أن رجّح ظاهر انفعال الماء لو وقعت فيه نجاسة مسلوبة الصفات ، قال : لو اشتمل الماء على صفة تمنع من ظهور التغيّر فيه ـ كما لو تغيّر بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة ، كتغيّره بطاهر أحمر ثم وقع فيه دم ـ فالذي قطع به متأخّرو الأصحاب من غير خلاف ظاهر معروف في الباب هو : وجوب تقدير خلوّ الماء عن ذلك الوصف.

ثم قال : وكأنّهم لحظوا في الفرق بين هذا الموضع وبين ما لو كانت النجاسة مسلوبة الأوصاف ـ حيث أوجبوا التقدير هنا دون هناك ـ أنّ المراد بالتغيّر هو التغيّر الحسّي كما تقدّم ، والتغيّر هنا ظاهر حسّا لو خلّينا

__________________

(١) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١ : ٧٩ ، وراجع : جامع المقاصد ١ : ١١٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٠ ، وراجع : البيان : ٤٤.

٥٣

وذات الماء وذات النجاسة ، بخلاف ما هناك ، لكون النجاسة عارية عن الأوصاف.

وفيه : أنّ خلوّ النجاسة عن الأوصاف لا يخرجها عن تنجيس ما يلاقيه والمنجّس ليس [هو] أوصافها ، وإنّما المنجّس عينها (١). انتهى.

وفيه ما عرفت من أنّ مقتضى ظواهر الأخبار أنّ للتغيّر الفعلي مدخلية في ثبوت الحكم الشرعي التعبّدي وليس في العقل ما يحيله ، فلا مقتضي لرفع اليد عن ظواهر الأخبار وارتكاب التأويل فيها.

وأمّا ما ذكروه من أنّ التغيّر في الفرض الأخير موجود حقيقة ، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ ، ففيه : أنّه بعد فرض تساويهما في اللون يستحيل انفعال أحدهما بالآخر ، كما لو وقعت قطرة دم في إناء مملوء من الدم ، فإنّه لا يعقل أن يكتسب أحد المتلاقيين من الآخر لونه ، لأنّ التأثّر من الآخر فرع قابلية المحل وعدم اشتغاله بمثل أثر الآخر ، وإلّا فيلزم اجتماع المثلين في موضوع واحد.

نعم لو كان أحدهما أشدّ لونا من الآخر ، يحصل للمجموع بعد الامتزاج لون وسط ، فيتحقّق التغيّر في هذا الفرض بشهادة العقل ، فإن كان التفاوت بين لون الماء قبل الامتزاج وبعده بيّنا بحيث يدركه العرف ، فلا شبهة في انفعاله ، وإلّا فلا ، إذ ليس المدار على التغيّر الحقيقي المستور عن الحسّ ، وإلّا يجب أن يحكم بنجاسة حوض كبير وقع فيه قطرة دم مستهلكة ، لكونها مؤثّرة في تغيّر لون الماء وطعمه بحكم العقل ، غاية

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

٥٤

الأمر أنّ أثرها ليس بحيث يدركه الحسّ ، فالأقوى طهارة الماء مطلقا في جميع الصور إلّا أن يحصل له تغيّر حسّي بحيث يشهد بوجوده العرف.

وربما يستدلّ للنجاسة في الصورة الأخيرة : بوجوه ضعيفة ، أقواها :أنّ الجسم الطاهر الواقع في الماء لو لم يوجب ضعفه لا يوجب قوّته قطعا ، وهو لا يقتضي منع النجاسة عن التأثير بداهة ، فالمقتضي للتنجيس موجود ، والمانع لا يصلح مانعا إلّا عن التغيّر لا عن الانفعال ، فيجب الحكم بنجاسته عقلا.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ لو كان السبب في نجاسة الماء اختلاطه بمقدار من النجاسة يقتضي تغيّره ، فيكون التغيّر حينئذ كاشفا عن تحقّق السبب ، كما تقدّم في توجيه كلام العلّامة.

وأمّا لو كان السبب هو النجاسة المؤثّرة في تغيّر الماء فعلا ، بحيث يكون لوصف التغيّر أيضا مدخلية في تمامية السبب ـ كما هو مقتضى ظواهر الأخبار ـ فلا ، وقد أشرنا إلى أنّه لا مانع عنه عقلا ، بل ربما يستأنس له بتشبيهه بالقذارات الصورية ، فإنّ تغيّر الماء بشي‌ء منها يؤثّر في تنفّر الطبع عنه نفرة ليست حاصلة عند فقد التغيّر واستتار أوصاف القذر.

وكيف كان فالمتّبع في الأحكام التعبّدية إنّما هو ظواهر الأدلّة لا المحسّنات الذوقية.

ولو قيل : إنّ الحكم وإن أنيط في ظواهر الأدلّة بالتغيّر ، ولكن العرف يساعد على تقديره في مثل الفرض.

٥٥

قلنا ـ بعد تسليم الدعوى ـ : إنّ مساعدة العرف نافعة في تشخيص الأمور المقصودة من الخطابات لا في الأحكام المستنبطة باجتهادهم ، والله العالم.

والعجب ممّن اعترض على المشهور القائلين بعدم كفاية التقدير في ما لو أريق في الماء نجاسة مسلوبة الصفات : بأنّه يلزمهم الحكم بطهارة ماء أريق فيه أضعاف أضعافه من البول ، وهو بديهي الفساد.

وحقيق أن يقال له :

.... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء (١)

فإنّ شرط عدم الانفعال بقاء الماء على صفة الإطلاق عرفا ، وبعد اختلاطه بنصفه من البول فضلا عن مثله أو ضعفه لا يصدق عليه الاسم على إطلاقه.

ولو فرض استهلاك البول في ضمنه ، وصدق الماء المطلق عليه عرفا ، لا نتحاشي عن الالتزام بالحكم ، فالمدار حينئذ على بقاء اسم الماء وعدم خروجه عن إطلاقه ، وإلّا فينجس لو صدق على المجموع كونه ماء ممتزجا بالبول وإن لم يتحقّق استهلاك من الطرفين ، ولم يصدق على المجموع اسم البول على إطلاقه ، إذ ليس شرط تأثير البول كونه بولا مطلقا ، فيكفي في تنجيس الملاقي وجوده في ضمن المجموع ولو بحكم

__________________

(١) عجز بيت ، وصدره :

قل لمن يدّعي في العلم فلسفة ..

والبيت لأبي نواس ، راجع ديوانه ص ٨.

٥٦

الاستصحاب.

نعم لو حصل للمجموع بالامتزاج طبيعة ثالثة بحيث تغيّر كلّ من الطبيعتين حين ملاقاة الأخرى من دون أن يخرج الماء عن إطلاقه ما دام اسم البول باقيا ، فمقتضى القاعدة طهارته ، لأنّها هي الأصل في كلّ شي‌ء ، ولا يجوز استصحاب نجاسة ما كان بولا حتى يترتّب عليه تنجيس ملاقيه ، لا لمعارضته باستصحاب طهارة ما كان ماء ، إذ ليس من آثارها بقاء الطهارة تطهير ملاقيه حتى يعارض استصحاب النجاسة ، بل لأنّ تبدّل الموضوع وتحقّق الاستحالة مانع عن جريان الاستصحاب.

ولو شكّ في خروج الماء عن صفة الإطلاق قبل استحالة البول فالأظهر أيضا طهارة المجموع ، لا لاستصحاب بقاء الماء على صفة الإطلاق إلى زمن استحالة البول ، المقتضية لطهارته وعدم تنجيس ملاقيه ، لمعارضته باستصحاب بقاء البول إلى زمان ارتفاع صفة الإطلاق ، بل لقاعدة الطهارة ، وسيأتي مزيد توضيح وتحقيق لأمثال هذه الموارد في مسألة من تيقّن الطهارة والحدث وشكّ في المتأخّر.

ولو تغيّر بعض الجاري بحيث انقطع عمود الماء بواسطة المتغيّر ، فهل حكم ما يلي المتغيّر كحكم ما يلي المادّة في عدم انفعال قليله؟وجهان : من أنّ تغيّر البعض لا يخرجه عن صدق اسم الجاري عليه ، ومن أنّ المستفاد من الأدلّة المتقدّمة إنّما هو اعتصامه في غير الفرض ، لأنّ صحيحة ابن بزيع (١) لا تدلّ إلّا على اعتصام ما اتّصل بالمادّة كما هو ظاهر.

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في صفحة ٣٦ ، الهامش (٢).

٥٧

وأمّا إطلاقات ما دلّ على أنّ الجاري لا ينجس فهي منصرفة عن مثل الفرض ، لأنّ المنسبق إلى الذهن منها ليس إلّا الماء الجاري عن نبع ، وما يلي المتغيّر وإن لم يكن منفصلا عن المادّة حقيقة إلّا أنّه بنظر العرف بحكم المنقطع حيث لا يرون فرقا بين انقطاعه بحائل أو بالتغيّر ، فما يلي المتغيّر بنظرهم ليس إلّا كالمنقطع ، فهو بحكم الراكد ، وهذا الوجه هو الأقوى.

(و) هل (يطهر) الجاري المتغيّر بزوال تغيّره مطلقا ، أم يعتبر امتزاجه بماء معتصم كالكرّ وماء الغيث وما يخرج من مادّته؟

وجهان : ظاهر المصنّف ـ رحمه‌الله ـ وكلّ من عبّر كعبارته حيث أناط الحكم (بكثرة الماء الطاهر) الجاري من مادّته (عليه متدافعا حتى يزول التغيّر) هو الثاني ، بل في طهارة شيخنا المرتضى ـ قدس سرّه ـ نسبته إلى المشهور بين من تقدّم على الشهيد (١) ، بل لم يعرف منهم قائل بكفاية مجرّد زوال التغيّر.

وظاهر الشهيد في اللمعة وأكثر من تأخّر عنه ـ على ما حكي عنهم ـ هو الأول (٢) ، وسيتّضح لك تحقيق الحال في مبحث كيفية تطهير الماء القليل إن شاء الله.

نعم قد يقال : إنّه وإن قلنا باعتبار الامتزاج في تلك المسألة ولكنه لا نلتزم به هنا ، لأنّ مقتضى التعليل في صحيحة ابن بزيع : كفاية المادّة في

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٨.

(٢) راجع : كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري : ٧ ، واللمعة الدمشقية : ١٥.

٥٨

طهارة ماء البئر بعد زوال تغيّره ، والأمر بالنزح في الصحيحة ـ على ما يشهد به سياقها ـ ليس إلّا لزوال الريح وطيب الطعم ، فالأمر به ليس إلّا لكونه سببا عاديا لزوال التغيّر ، فيكون مفاد الصحيحة ـ كما عرفت في ما سبق ـ أنّ ماء البئر في حدّ ذاته واسع لكونه ذا مادّة ، وأنّه لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ، فإذا أزيل تغيّره يعود إلى ما كان بمقتضى طبيعته.

وفيه : أن غاية ما يستفاد منها : أنّ ماء البئر في غير حال التغيّر طاهر ، وما دام متغيّرا نجس ، وأمّا أنّ ارتفاع النجاسة العارضة له بواسطة التغيّر عند زوال تغيّر مسبّب عن نفس زوال التغيّر من حيث هو من غير أن يكون للامتزاج بالماء الجديد الذي يخرج من المادّة مدخلية في ذلك فلا يكاد يفهم منها ، حيث إنّ كون زوال التغيّر بالنزح مستلزما لذلك في العادة لا يحتاج بيانه إلى قيد زائد ، فلا يمكن نفي شرطية الامتزاج بأصالة الإطلاق.

ودعوى : شهادة سياق الرواية بأنّ الأمر بالنزح ليس إلّا مقدّمة لزوال التغيّر من حيث هو ، مع أنّه عارية عن الشاهد غير مجدية بعد تسليم كون النزح سببا عاديا في إزالة التغيّر عن البئر ، إذ غاية الأمر أنّه تدلّ على أنّ الأمر بالنزح ليس إلّا لأجل زوال التغيّر ، وأمّا أنّ الطهارة تتفرّع على زوال التغيّر من حيث هو هو من دون مدخلية شي‌ء آخر ملزوم له عادة فلا.

نعم لو عاد التعليل إلى القضية المتصيّدة من الكلام ، المتفرّعة على الفقرة الثانية ـ أعني حدوث الطهارة بعد زوال التغيّر ـ لكان للاستدلال به للمدّعى وجه ، نظرا إلى ظهوره في كون المادّة بنفسها علّة له ، لكنّك عرفت أنّ الأظهر رجوعه إلى الفقرة الاولى.

٥٩

وكيف كان فالقول بكفاية مجرّد زوال التغيّر استنادا إلى هذه الصحيحة في غاية الإشكال.

(ويلحق به) أي بالجاري في الأحكام المذكورة : ماء الغيث حال نزوله ، و (ماء الحمام إذا كان له مادّة).

أمّا ماء الغيث : فيجي‌ء البحث فيه عند تعرّض المصنّف ـ رحمه‌الله ـ له في المطهّرات إن شاء الله.

وأمّا ماء الحمام : فالمراد به في المقام : الماء القليل الذي في الحياض الصغار المعدّة للاستعمال في رفع الحدث والخبث ، المعمولة في أغلب الحمّامات المتعارفة في بلاد العامة ، مستمدّة من موادّها.

وإنّما هو بحكم الجاري إذا اتّصل بمادّته ، والتقييد بوجود المادّة ـ كما في المتن وغيره ـ لبيان اشتراط اعتصامه باتّصاله بها ، وإلّا فأصل وجودها في الحمّامات التي يتعارف الاستعمال فيها من مثل هذه الحياض ممّا لا بدّ منه في تحقّق مهية الحمّام.

ويدلّ على أنّه بحكم الجاري : صحيحة داود بن سرحان ، قال :قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في ماء الحمّام؟ قال عليه‌السلام : «هو بمنزلة الماء الجاري» (١).

ورواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت : أخبرني

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧٨ ـ ١١٧٠ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ ، وفيهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

٦٠