مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

هذا ، مع أنّ قيام الاحتمال كاف في عدم جواز رفع اليد عن ظاهر المقيّد وتحكيمه على الإطلاق.

ومنها : الاستشهاد برواية الغياث ، المتقدّمة (١) ، مع ما فيها.

وخبر حكم بن حكيم الصيرفي ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شي‌ء من البول ، فأمسحه بالحائط أو بالتراب ، ثمّ تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي ، قال : «لا بأس» (٢).

وفيه : أنّ هذا الخبر لا يدلّ على مطلوبه (٣) ، إذ الظاهر منه كون نجاسة اليد مفروغا عنها عند السائل ، وإنّما مسحه بالحائط والتراب لحصول الجفاف المانع من السراية ، فسؤاله إنّما هو عن حكم الممسوح بعد ما تعرق يده ، ومعلوم أنّ الجواب حينئذ على وفق القاعدة ، إذ لا يقطع الإنسان غالبا بمباشرة الجزء حال كونه مشتملا على رطوبة مسرية.

وعلى تقدير تسليم ظهوره في طهارة اليد بإزالة البول بالمسح بالحائط والتراب ، ففيه : أنّ نجاسة البول لا تزول عن الجسد بالتراب باتّفاق منّا ومن الخصم ، بل لا قائل به بيننا ، فلا بدّ من حمله على التقيّة ، والله العالم.

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢٧٩.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥ ـ ٤ ، الفقيه ١ : ٤٠ ـ ٤١ ـ ١٢٨ ، التهذيب ١ : ٢٥٠ ـ ٧٢٠ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

(٣) في «ض ١ و ٢» والطبعة الحجرية : مطلوبهم. وما أثبتناه لأجل السياق.

٢٨١

(ويجوز استعماله) أي الماء المضاف (فيما عدا ذلك) أي إزالة الحدث والخبث من الأكل والشرب وسائر الانتفاعات المحلّلة ، للأصل. (ومتى لاقته النجاسة نجس قليله وكثيره إجماعا) منقولا نقلا يورث القطع بتحقّقه ، (ولم يجز) حينئذ (استعماله في أكل ولا شرب) اختيارا كغيره من المتنجّسات.

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الإجماعات المنقولة المستفيضة ، بل المتواترة المعتضدة بعدم نقل الخلاف في المسألة ـ ما يستفاد من تتبّع الأدلّة أنّ ملاقاة النجس برطوبة مسرية سبب للتنجيس مطلقا من دون فرق بين الجوامد والمائعات وإن اختلفتا في كيفيّة الانفعال حيث إنّ كلّ جسم من الأجسام المائعة مجموع أجزائه المجتمعة في الوجود موضوع واحد للانفعال ، بخلاف الجوامد ، كما عرفت تفصيله عند التعرّض لبيان وجه سراية النجاسة في مبحث الماء القليل.

ويدلّ عليه أيضا : ما رواه السكوني عن الصادق عليه‌السلام : «أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن قدر طبخت فإذا فأرة في القدر ، قال : يهراق مرقها ثم يغسل اللحم ويؤكل» (١).

ورواية زكريّا بن آدم عن أبي الحسن عليه‌السلام عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر في لحم كثير ومرق كثير ، قال : «يهراق المرق أو

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦١ ـ ٣ ، التهذيب ٩ : ٨٦ ـ ٣٦٥ ، الإستبصار ١ : ٢٥ ـ ٦٢ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٣.

٢٨٢

يطعم أهل الذمّة أو الكلب ، واللحم اغسله وكله» (١).

والمناقشة في دلالتهما : باحتمال كون الأمر بإراقة المرق ، لاشتماله على المحرّم ، مدفوعة : باستهلاك الأعيان المحرّمة في الصورة المفروضة ، فلو لا نجاسة المرق لما أمر بإهراقه وغسل اللحم.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت ، فإن كان جامدا فألقها وما يليها ، وكل ما بقي ، وإن كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك» (٢).

وظاهرها ـ على ما يساعد عليه ما هو المغروس في الأذهان ـ : كون الذوبان والميعان علّة لنجاسة الكلّ ، فيستفاد منه عموم الحكم للمضاف وكلّ مائع ، فالمناقشة في دلالتها بخروجها عن محلّ الكلام غفلة.

ويدلّ عليه أيضا ما دلّ على نجاسة سؤر اليهودي والنصراني (٣) ، فإنّه يشمل المضاف وكلّ مائع.

ثم لا يخفى عليك أنّ استفادة انفعال الكثير من هذه الأخبار في غاية الإشكال ، لأنّ المتبادر إلى الذهن من مواردها ليس إلّا القليل ، فالعمدة في المقام إنّما هو الإجماع.

اللهمّ إلّا أن يدّعى عدم مدخليّة وصف الكثرة في موضوع الحكم

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٧٩ ـ ٨٢٠ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٨.

(٢) الكافي ٦ : ٢٦١ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ٨٥ ـ ٣٦٠ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١.

(٣) انظر : الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الأسئار.

٢٨٣

كغيرها من الخصوصيّات التي نعلم بعدم مدخليتها في الموضوع.

وإثبات هذه الدعوى يتوقّف على رسم مقدّمة ، وهي : أنّه لو سئل الإمام عليه‌السلام عن إناء مملوء من الخلّ والعسل الواقع فيه شي‌ء من النجاسات ، فقال : أرقه ، أو نجس ، أو ينجس ، أو غير ذلك من الألفاظ ، فإن علمنا بالقرائن الداخليّة والخارجيّة عدم مدخليّة شي‌ء من الخصوصيّات في موضوع الحكم ، بل المناط إنّما هو ملاقاة المائع للنجس مطلقا ، فلا إشكال في جواز التمسّك بهذا الكلام في كلّ مقام بالنسبة إلى كلّ مائع ، كما عليه سيرة العلماء من الاستدلال بالقضايا الشخصيّة للأحكام الكلّية ، وليس ذلك إلّا للعلم بعدم مدخلية الخصوصيّات ، فتكون القضيّة في الحقيقة كلّية بحسب الموضوع ، فيعامل معها معاملة الكلّية ، وهذا ممّا لا خفاء فيه.

وإنّما الإشكال فيما لو احتمل مدخليّة بعض هذه الخصوصيّات في الحكم ، وحينئذ نقول : ما يحتمل أن يكون له مدخلية في الحكم من تلك الخصوصيّات على أقسام :

منها : ما كان مدخليّته بطريق الجزئيّة ، كما في المثال السابق لو شكّ فيه في أنّ الحكم مخصوص بالخلّ والعسل المجتمعين في الإناء أم يعمّ كلّا منهما في حال الانفراد أيضا.

ومنها : ما إذا كان المدخليّة فيه بطريق الشرطيّة ، وهذا على قسمين ، لأنّ الأمر المشكوك شرطيّته إمّا وصف وجودي ، ككونه مال زيد ، أو كونه في مكان خاصّ ، أو كونه بمقدار معيّن من رطل أو منّ أو

٢٨٤

غير ذلك من الأوصاف الوجوديّة ، وأمّا أمر عدمي ، ككونه غير منضمّ إلى غيره أو غير موجود في المكان الفلاني ، إلى غير ذلك ، ومرجع الأخير إلى الشك في المانعيّة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : لا شكّ ولا شبهة أنّه لا يصحّ التمسّك بهذه القضيّة الشخصية في شي‌ء من موارد الشك في القسمين الأوّلين.

ووجهه واضح ، لقصور اللفظ عن شمول غير المورد ، إذ لا إطلاق في البين حتى يتمسّك بالإطلاق ، بل هي قضيّة شخصيّة في واقعة جزئية لا يجوز التخطّي عنها إلّا بعد القطع بإلغاء الخصوصية ، والمفروض انتفاؤه في المقام.

وأمّا القسم الثالث : فالظاهر كفاية الشكّ فيه في الحكم بعموم الحكم.

والسرّ في ذلك ما أشرنا إليه من أنّ شرطيّة العدم مرجعها إلى مانعيّة الوجود لا غير.

ووجهه : أنّ العدم لا يعقل أن يكون له مدخليّة في التأثير ، شرطا كان أم جزءا ، لأنّ ثبوت الشرطيّة والجزئيّة فرع ثبوت المثبت له ، والعدم عدم ذاتا ، فلا يكون مؤثّرا.

وما شاع في الألسن من أنّ عدم المانع شرط ، وأنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول ، وغيرها من العبائر التي يلوح منها الالتزام بالآثار للإعدام المضافة ، فهو مبنيّ على نحو من المسامحة والتقريب ، وكيف لا وما

٢٨٥

ذكرناه قاعدة عقليّة لا تقبل التخصيص.

وما يقال من أنّ لها شائبة من الوجود إنّما يعنون به إمكان إثبات بعض الآثار الانتزاعيّة لها بنحو من المسامحة والاعتبار ، لا أنّ لها حقيقة أثر الوجود ، فإذا ظهر أنّ معنى شرطيّة عدم شي‌ء لثبوت حكم ينحلّ إلى مانعيّة وجود ذلك الشي‌ء عن فعليّة هذا الحكم ، بان لك أنّ ثبوت حكم مشروطا بعدم شي‌ء مثلا ، كثبوت الانفعال للماء المطلق بشرط عدم بلوغه حدّ الكرّ ينحلّ في ظرف التحليل إلى إثبات حكمين لموضوعين :

أحدهما : ثبوت الانفعال لطبيعة الماء من حيث هي من دون تقييدها بشي‌ء له مدخليّة في الحكم ، والثاني : ثبوت نقيض هذا الحكم لهذا الموضوع على تقدير وجود المانع ، فوجود المانع مؤثّر في ثبوت النقيض لا عدمه في حصول الأصل ، ولمّا كان المانع آكد في الاقتضاء لزمه رفع الحكم الذي تقتضيه الطبيعة بالطبع عن الإفراد المقارنة مع المانع في الوجود ، لا لقصور في الموضوع ، بل لقصور الحكم عن شمول هذه الأفراد لأمر عارضي ، وهو وجود المزاحم عن فعليّة الحكم.

وقد تقرّر بما ذكرنا أنّ الموضوع في حكم الأصل بالنظر إلى هذا الشرط لا يكون إلّا الطبيعة من حيث هي ، ولازمه العموم عموما سريانيّا بالنسبة إلى جميع الأفراد ، فليس في القضيّة ولو كانت شخصيّة من هذه الجهة شائبة إهمال ، بل لو كان فيها احتمال الإهمال ، لوجب أن يكون منشؤه احتمال اعتبار أمر وجودي لا غير ، وأمّا بالنسبة إلى الأمر العدمي فلا يصلح للتقييد حتى يطرأ بسبب احتماله الإهمال في القضيّة.

٢٨٦

وما كان من القضايا بصورة التقييد والاشتراط ، كقولك : يجب إكرام العالم الذي ليس بفاسق ، وقولك : الماء الذي لم يكن كرّا ، أو إذا لم يكن كرّا ، أو بشرط أن لا يكون كرّا فحكمه الانفعال ، فإنّها تقييد صوريّ ، وإلّا فهي في الحقيقة تخصيص ، لما عرفت من عدم إمكان مدخليّة الأمر العدمي في موضوع الحكم.

ألا ترى أنّك تستفيد من هذه العبارات بنفسها حكما شأنيّا بالنسبة إلى الأفراد المقارنة مع وجود المانع ، فتقول : لو لا فسق زيد العالم لكان إكرامه واجبا ، ولو لا كرّية الماء الملاقي للنجس لكان نجسا ، فلو لم يكن الموضوع في القضيّة صرف الطبيعة بل هي ببعض اعتباراتها ، لامتنعت هذه الاستفادة ، لفقد الدليل ، مع أنّ الاستفادة حاصلة بحكم الوجدان.

فحصل من جميع ما ذكرنا أنّ الشكّ من هذه الجهة شكّ في التخصيص ، وهو مدفوع بالأصل.

ولا ينافيه عدم كون القضيّة واردة مورد البيان من هذه الجهة ، لأنّ هذا مضرّ في التمسّك بالإطلاق لا بالعموم ولو سريانيّا مستفادا من حكم العقل أو دليل آخر.

إذا عرفت ذلك ، علمت أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ الشكّ في المقام ليس إلّا في كون كثرة المضاف مانعة من الانفعال ، وهو مدفوع بالأصل ، وأمّا سائر الخصوصيّات فعدم مدخليتها في الحكم يقينيّ لا شبهة فيه.

نعم قد يتوهّم كون وصف القلّة شرطا في الانفعال.

٢٨٧

ويدفعه : أنّ مرجع شرطيّة هذا الوصف إلى مانعيّة الكثرة ، كما لا يخفى وجهه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه قاعدة الانفعال ، وقد اعتمدنا عليها سابقا فيما علّقناه على الرياض تبعا لشيخنا المرتضى رحمه‌الله.

وفيه أوّلا : أنّ هذا النحو من الاستفادة لا يندرج في مداليل الألفاظ التي هي حجّة معتمدة لدى العقلاء ، وإنّما مرجعه إلى استفادة عموم الاقتضاء من الأدلّة اللفظيّة ، فإن قلنا بكفاية إحراز المقتضي مع الشكّ في المانع في الحكم بثبوت المقتضي فهو ، وإلّا فلا ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين استفادة عموم الاقتضاء من دليل لفظيّ أو لبّي ، وقد أشرنا غير مرّة إلى عدم تماميّة هذه القاعدة.

وثانيا : أنّ الشكّ في المقام لا يجب أن يكون مرجعه إلى الشكّ في مانعيّة الكثرة ، بل ربما يكون مسبّبا عن الشكّ في عدم صلاحيّة النجس إلّا للتأثير في مقدار قليل من الماء أو غيره.

وحيث إنّا قد أشرنا في صدر المبحث إلى أنّ مجموع الجسم المائع المجتمع في الوجود بنظر العرف موضوع واحد ظهر لك أنّه ليس لقائل أن يقول : إنّ اقتضاءه للتأثير في مقدار قليل ممّا يلاقي النجس معلوم ، ولا شكّ إلّا في أنّ انضمام ما عدا هذا الجزء إليه يعصمه عن الانفعال أم لا؟

حيث إنّ الجزء الملاقي للنجس ليس موضوعا مستقلّا حتى يقال فيه ذلك ، فالشكّ ليس إلّا في أنّ هذا الموضوع الخارجي الذي هو عبارة عن مجموع الأجزاء هل ينفعل بملاقاة النجس أم لا؟

٢٨٨

فاتّضح لك أنّه لا دليل يعتد به في إثبات الحكم للكثير إلّا الإجماع والقاعدة المغروسة في أذهان المتشرّعة ، والله العالم.

تنبيه : لا تسري النجاسة من السافل إلى الجزء العالي إذا كان جاريا ، للأصل ، كما عرفت تحقيقه في مبحث الماء القليل ، والله العالم.

ويطهر المضاف النجس بامتزاجه بالماء العاصم بشرط زوال إضافته وصيرورته ماء مطلقا ما دام الماء باقيا على اعتصامه ، لعين ما مرّ في توجيه تطهير المياه النجسة.

ولا يعتبر زوال أوصافه ، كبياض اللبن وحموضة الخلّ ، لما عرفت في محلّه من أنّ الماء الكثير والجاري لا يتنجّس إلّا إذا تغيّر بأوصاف عين النجس دون المتنجّس.

وبقاء طهارة الماء يستلزم طهارة المضاف الممتزج به بالإجماع وغيره من الأدلّة المتقدّمة.

(ولو مزج طاهره بالمطلق ، اعتبر في) ترتّب أحكام الماء عليه من (رفع الحدث) وإزالة الخبث (به) استهلاكه في الماء وصيرورته جزءا منه عرفا.

ويعرف ذلك باستحقاق المجموع (إطلاق الاسم عليه) من غير إضافة ، وحينئذ يجوز استعماله في التطهير وغيره ، بل يجب عند وجوب التطهير وانحصار الماء فيه.

وهل يجب عليه المزج لو لم يجد من الماء ما يكفيه للطهارة إلّا

٢٨٩

بالمزج؟ وجهان ، بل قولان سيأتي تحقيقهما في مبحث التيمّم إن شاء الله.

(وتكره الطهارة) الحدثيّة (بماء أسخن بالشمس في الآنية) لما رواه إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا حميراء ما هذا؟ قالت : أغسل رأسي وجسدي ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تعودي فإنّه يورث البرص» (١).

وما رواه إسماعيل بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الماء الذي تسخنه الشمس لا تتوضّئوا به ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به فإنّه يورث البرص» (٢).

والمراد من النهي الكراهة ، للإجماع على عدم الحرمة ، كما صرّح به غير واحد.

مضافا إلى ظهور الروايتين ـ لأجل اشتمالهما على الحكمة المناسبة للكراهة ـ في أرادتها ، بل ظهور قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الرواية الاولى : «لا تعودي» في عدم المنع عن استعمال ما وضعته في الشمس ، ومنعها عن المعاودة ، فلا يكون استعماله إلّا مكروها.

هذا ، مع أنّ الكراهة هي التي يقتضيها الجمع بين هاتين الروايتين وبين ما رواه محمّد بن سنان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٦ ـ ١١١٣ ، الإستبصار ١ : ٣٠ ـ ٧٩ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ١٥ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ـ ١١٧٧ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢.

٢٩٠

قال : «لا بأس بأن يتوضّأ الإنسان بالماء الذي يوضع بالشمس» (١).

ثمّ إنّ ظاهر المتن : اختصاص الكراهة بالطهارة.

وعن الخلاف : كراهة التوضّؤ مع قصد الاستسخان (٢).

وعن السرائر : كراهة الطهارتين مع القصد (٣).

وعن الذكرى : إلحاق العجين بالطهارة (٤).

والذي يظهر من الروايتين : كراهة مطلق الاستعمال ولو مع عدم قصد الاستسخان ، كما عن النهاية والمهذّب والجامع (٥) ، بل ظاهر الرواية الثانية : كراهته ولو بعد بعد زوال السخونة ، خلافا للمحكيّ عن جماعة (٦).

وإطلاقها يقتضي عدم الفرق بين الآنية وغيرها ولا بين القليل والكثير.

ولكنّه حكي عن التذكرة والنهاية دعوى الإجماع على عدم الكراهة في غير الآنية (٧) ، فإن تمّ فهو ، وإلّا فالقول بالكراهة مطلقا ـ كما في

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٦ ـ ١١١٤ ، الإستبصار ١ : ٣٠ ـ ٧٨ ، الوسائل ، الباب ٦ من أبواب المضاف والمستعمل ، الحديث ٣.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٤٨ ، وانظر : الخلاف ١ : ٥٤ ، المسألة ٤.

(٣) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٨ ، وانظر : السرائر ١ : ٩٥.

(٤) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٨ ، وانظر : الذكرى : ٨.

(٥) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٤٨ ، وانظر : النهاية : ٩ ، والمهذّب ١ :٢٧ ، والجامع للشرائع : ٢٠.

(٦) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٨.

(٧) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٤٨ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ١٣ ، ونهاية الأحكام ١ : ٢٢٦.

٢٩١

المسالك (١) ـ أوفق بظاهر الرواية.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ مقتضى شمول الروايتين لمطلق الاستعمال :حمل الكراهة المستفادة منهما على معناها المصطلح ، وهو ما كان تركه مطلوبا للشارع بطلب مولوي غير إلزامي ، فيشكل اتّحاده مع العبادة في الوجود الخارجي.

وأشكل من ذلك ما عن الشهيد الثاني في الروض من حكمه ببقاء الكراهة مع انحصار الماء.

قال ـ فيما حكي عنه ـ : لا منافاة بين الوجوب والكراهة كما في الصلاة وغيرها من العبادات على بعض الوجوه ، فلو لم يجد الماء لم تزل الكراهة وإن وجب استعماله عينا ، لبقاء العلّة مع احتمال الزوال (٢).

توضيح الإشكال : أنّ النهي لو كان مورده منحصرا في التطهير ، لأمكن التفصّي عن محذور اجتماع الأمر والنهي بإخراج النهي عن حقيقة الطلب ، وحمله على الإرشاد إلى كون الفرد المنهيّ عنه أقلّ ثوابا من سائر الأفراد ، فإطلاق الكراهة عليه إنّما هو بهذا المعنى إلّا أنّ هذا النحو من التفصّي ـ بعد الإغماض عمّا يتوجّه عليه من الخدشات المذكورة في محلّها ـ إنّما يتمشّى فيما لم يكن بين العنوان المأمور به والمنهيّ عنه عموم من وجه ، كما فيما نحن فيه ، وأمّا فيه فلا ، إذ لا شبهة في أنّه يستفاد من ظاهر النهي بالنسبة إلى مورد الافتراق الكراهة المصطلحة ،

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٢٢.

(٢) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٨ ، وانظر : روض الجنان : ١٦١.

٢٩٢

وحينئذ فإن أريد منه في مورد الاجتماع أيضا هذا المعنى ، يتوجّه الإشكال ، وإن أريد معنى آخر ، لزم استعمال اللفظ في معنيين ، وهو غير جائز.

نعم يمكن في هذا الفرض أيضا التخلّص عن الإشكال بإخراج النهي عن حقيقته ، وحمله على الإرشاد المحض ، فيكون بمنزلة الإخبار عن خاصيّة الفعل ، فلا ينافي كونه واجبا أو مستحبّا.

وبهذا الوجه يتوجّه العبارة المتقدّمة (١) عن الشهيد ، ولكنّه يتوجّه عليه : أنّ حمل النهي على هذا المعنى خصوصا بالنظر إلى مورد الافتراق ينافي حكم الأصحاب بالكراهة.

مضافا إلى أنّ تجريد النهي حتى الإرشاديّ منه عن مطلق طلب الترك حتى لا ينافي الأمر الإلزامي بفعله في غاية البعد عن ظواهر النواهي الشرعيّة.

وكيف كان فهذا الجواب ممّا لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، وإنّما يتشبّث بمثله بعد انحصار المناص فيه.

والذي يقتضيه التحقيق هو : أنّ النهي المتعلّق بالعبادة إمّا أن يكون متعلّقا بها من حيث هي باعتبار خصوصيّة مكتنفة بها ، كالصلاة في الحمّام لو فرض أنّه لا كراهة في الكون في الحمّام من حيث هو ولا من سائر الحيثيّات ، ككونه في معرض الرشاش ونحوه ، وإنّما المكروه إيقاع الصلاة

__________________

(١) تقدّمت في ص ٢٩٢.

٢٩٣

في ذلك المكان الذي هو معرض للرشاش ، وإمّا أن يكون متعلّقا بها لا من حيث هي ، بل من حيث اتّحادها في الوجود مع عنوان مرجوح ، كما لو فرض كراهة لبس السواد مطلقا واستحباب إظهار المأتم للحسين عليه‌السلام كذلك ، ولبس السواد إظهارا للحزن ، فيتصادق على الفعل الخارجي عنوانان تعلّق بأحدهما النهي على الإطلاق وبالآخر الأمر كذلك ، وإمّا أن يكون متعلّقا بها لا من حيث هي ولا من حيث كون فعلها مصداقا لعنوان مرجوح ، بل من حيث كون تركها محصّلا لعنوان راجح ، كصوم من دعاه أخوه المؤمن إلى طعامه حيث يحصل بتركه إجابة المؤمن التي هي أرجح من الصوم ، أو لكون فعلها مانعا من أمر أهمّ ، كصوم يوم عرفة ، الموجب للضعف المانع من الدعاء مع التوجّه والإقبال.

أمّا القسم الأوّل : فلا يعقل أن يتعلّق به نهي حقيقي إلّا على سبيل المقدّمية بأن يراد من النهي عن الصلاة في الحمّام إيقاعها في خارجه ، وحينئذ يمكن أن يراد بالنهي حقيقته ، أي : طلب الترك طلبا مولويّا ، بل إلزاميّا ، ولكنّه لا يقدح في صحّة متعلّقه ووقوعه عبادة ، فإنّ مآله إلى الأمر بضدّه الأهمّ ، وستعرف في بعض المقامات المناسبة له ـ كمبحث التيمّم عند التكلّم في صحّة الوضوء عند مزاحمته لواجب أهمّ ـ أنّ هذا لا ينافي صحّة غير الأهمّ ، ومطلوبيّته على سبيل الترتّب.

وهكذا الكلام في القسم الثالث ، فإنّه يمتنع أن يتعلّق به نهي حقيقي ، أي : طلب مولويّ إلّا على سبيل المقدّمية والإرشاد إلى الضدّ الأهمّ أو العنوان الوجودي الملازم للترك ، فتكون العبادة التي تعلّق بها

٢٩٤

النهي مرجوحة بالإضافة إلى ذلك الشي‌ء لا محالة ، وأمّا بالإضافة إلى نفسها فهي باقية على ما هي عليه من الرجحان ، بل المطلوبية أيضا ، ولكن على سبيل الترتّب ، كما تقرر في محلّه.

وأمّا القسم الثاني : فملخّص الكلام فيه : أنّه إن كان العنوانان المتصادقان على الفرد المقتضيان لرجحانه من جهة ومرجوحيته من جهة كلّ منهما مقتضيا لأن يلحقه حكم إلزاميّ تعييني من تلك الجهة بمقتضى عموم دليله ، كما لو وجب إكرام كلّ عالم وحرم إكرام كلّ فاسق ، فتصادق العنوانان على فرد ، فلا محالة تتحقّق المعارضة بين دليليهما ، فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى ما تقرّر في باب تعارض الأدلّة من تقديم الأهمّ والتخيير لو لا الأهمّية أو تغليب جانب الحرمة على الخلاف المقرّر في محلّه ، والتعرّض لبيانه أجنبي عن المقام.

وإن كان أحدهما إلزاميّا تعيينيّا ، كرحمة التصرّف في مال الغير دون الآخر بأن لم يكن إلزاميّا ، أو كان ولم يكن تعيينيّا ، كالأمر بالصلاة المقتضي للإجزاء في ضمن أيّ فرد كانت ، فلا محالة يقدّم الطلب التعييني على غيره ، ويتقيّد به الأمر الآخر ، ويختصّ مورده بغير هذا الفرد بحكم العقل والعقلاء ، خلافا لمن جوّز الاجتماع ، وحكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة مع تحقّق العصيان بالغصب.

والسرّ في ذلك : أنّه لو كان لشي‌ء واحد جهات متعدّدة مقتضية لأحكام مختلفة ، فإن كان بعض تلك الجهات موجبا للإلزام إمّا بفعل هذا الشي‌ء أو بتركه على سبيل التعيين ، امتنع أن يؤثّر سائر الجهات في ثبوت

٢٩٥

حكم فعلي لهذا الشي‌ء مخالف لما اقتضته الجهة الملزمة ، فلم يبق لسائر الجهات بعد الإلزام بالفعل أو بالترك حكم إلّا شأنا ، لأنّ ضرورة العقل قاضية بقبح طلب الفعل حتما مطلقا ، والترخيص في تركه ، وتعدّد الجهات لا ينفع في رفع القبح ، كما هو ظاهر.

وهذا بخلاف ما لو لم يكن شي‌ء منها موجبا للإلزام على سبيل التعيين بأن كان النهي تنزيهيّا والأمر استحبابيّا ، أو إلزاميّا متعلّقا بطبيعة أمكن إيجادها في غير مورد الاجتماع ، فلا مانع من أن يستتبع كلّ من الجهات ما يقتضيه تلك الجهة بعنوانها الإجمالي الكلّي ، لأنّه متى جاز للمكلّف ارتكاب فعل ولو على سبيل المرجوحيّة ، كاستعمال الماء المسخّن جاز له اختياره قاصدا به امتثال الأمر المتعلّق بطبيعة الوضوء الحاصلة بفعله.

ولا ينافي ذلك كراهة فعله من حيث إنّه استعمال للماء المسخّن ، لأنّ مرجعه إلى كراهة اختيار هذا الفرد في مقام امتثال الأمر بالطبيعة ، لا كراهة الطبيعة الحاصلة بهذا الفعل ، ولكن يشترط في صحّة هذا الفعل ووقوعه عبادة كون مصلحته الحاصلة بفعل الوضوء قاهرة على مفسدته الحاصلة باستعمال هذا الماء بحيث لو انحصر الماء فيه لتعيّن استعماله إمّا على سبيل الوجوب إن كان الأمر إلزاميّا ، أو الندب إن كان استحبابيّا ، وكونه كذلك لا يمنع من أن يتعلّق به نهي مولويّ في صورة عدم الانحصار ، كي يخصّص به دليل الكراهة ، إذ لا استحالة في أن ينهى المولى عبده عن أن يختار فردا ذا مفسدة في مقام امتثال الأمر المتعلّق

٢٩٦

بطبيعة حاصلة بفعله ، وحيث إنّ المفروض جواز مخالفة هذا النهي وكونه تنزيهيّا فهو لا يقتضي قصر طلبه المتعلّق بالطبيعة على ما عداه من الأفراد بعد فرض كونه هذا الفرد أيضا كغيره من الأفراد محصّلا لغرضه ، وكونه في حدّ ذاته جائز الارتكاب ، بل قد يتأمّل في اشتراط قاهريّة المصلحة في الفرد المحصّل للعنوانين ، نظرا إلى أنّ قضيّة تعليق الأمر على الطبيعة كون اختيار تعيين الأفراد موكولا إلى إرادة المكلّف ، فكلّ فرد جاز له فعله صحّ الإتيان به بقصد امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة.

نعم قضيّة قاهريّة المفسدة الناشئة من الخصوصيّة المرجوحة : صيرورة مطلوبيّة الفرد المشتمل عليها على سبيل الترتّب ، فيكون الحكم الفعلي المنجّز في حقّه مثلا كراهة استعمال هذا الماء مطلقا ، ومطلوبيّة الوضوء به مقيّدة باختياره لارتكاب هذا المكروه ، ولا يتمشّى مثل هذا التقريب فيما لو كانت الخصوصيّة محرّمة كما تقدّمت الإشارة إليه ، ويأتي توضيحه في مبحث التيمّم إن شاء الله.

وقد ظهر بما قرّرناه أنّ ما ذكره الشهيد ـ رحمه‌الله ـ من بقاء الكراهة في صورة الانحصار لا يخلو من تأمّل ، بل منع ، والله العالم.

(و) تكره الطهارة (بماء أسخن بالنار في) خصوص (غسل الأموات) إجماعا ، كما عن غير واحد نقله ، لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «لا يسخّن الماء للميّت» (١).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٨٦ ـ ٣٩٧ ، التهذيب ١ : ٣٢٢ ـ ٩٣٨ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١ ، والباب ١٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

٢٩٧

ومرسلة عبد الله بن المغيرة عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام :«لا يقرب الميّت ماء حميما» (١).

وخبر يعقوب بن يزيد عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا يسخّن للميّت الماء ، لا يعجّل له النار ، ولا يحنّط بمسك» (٢).

وظاهر الروايات خصوصا الأخيرتين منها : كراهة استعماله مطلقا ولو في مقدّمات الغسل ، كإزالة النجاسة عن بدنه.

ويحتمل أن يكون مراد المصنّف ـ رحمه‌الله ـ ومن عبّر كعبارته من الغسل أعمّ منه ومن مقدّماته ، أو يكون الغسل في العبارة ـ بفتح الغين ـ فيعمّ.

وكيف كان فالحكم مخصوص بغير مورد الضرورة ، كما إذا كان على بدنه نجاسة لا يزيلها إلّا الماء الحارّ ، ووجهه واضح.

وقد استثني أيضا ما إذا كان شتاء باردا شديد البرد وإن تمكّن الغاسل من أن يوقي نفسه بحيث لا يتأذّى من البرد ، كما يدلّ عليه مرسلة الصدوق ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «لا يسخّن الماء للميّت» (٣).

قال : وروي في حديث آخر : «إلّا أن يكون شتاء باردا فتوقي الميّت ممّا توقي منه نفسك» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٢٢ ـ ٩٣٩ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٢.

(٢) الكفي ٣ : ١٤٧ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٣٢٢ ـ ٩٣٧ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٣.

(٣) الفقيه ١ : ٨٦ ـ ٣٩٧ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٤.

(٤) الفقيه ١ : ٨٦ ـ ٣٩٨ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ٥.

٢٩٨

وعن الرضوي : ولا يسخّن له ماء إلّا أن يكون باردا جدّا فتوقي الميّت مما توقي منه نفسك ، ولا يكون الماء حارّا شديدا وليكن فاترا (١).

والتعبير في الروايتين بتوقية الميّت يشعر بأنّ حكمة الحكم احترام الميّت ، وأنّ التسخين حينئذ ليس تعجيلا له بالنار ، بل ينبغي أن يقصد به احترامه ، فيستشمّ من هاتين الروايتين ، وكذا من قوله عليه‌السلام في خبر يعقوب : «ولا بعجّل له بالنار» (٢) كون التغسيل بالماء الحارّ منافيا لاحترام الميّت ، لكونه منشأ للتطيّر والتشاؤم ، وهذه الحكمة إنّما تناسب الكراهة لا الحرمة.

ولعلّ هذا هو الوجه في فهم الأصحاب من الروايات الكراهة ، بل لعلّها هي التي تنسبق إلى الذهن من مجموع الروايات بقرينة كونها بحسب الظاهر تعريضا على العامّة الذين جعلوا التسخين شعارا لهم ، كما يشعر بذلك التعبير بلفظ «الحميم» و «التعجيل له بالنار».

وكيف كان فلا بدّ من حمل النهي على الكراهة ، لما عرفت من دعوى غير واحد الإجماع عليها المعتضدة بعدم نقل الخلاف في المسألة ، والله العالم.

وهل تختص الكراهة بالمسخّن بالنار؟ كما هو ظاهر المتن وغيره ، أم تعمّ مطلق المسخّن ولو بالشمس؟ وجهان : من إطلاق الصحيحة

__________________

(١) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ١٦٧ ، مستدرك الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب غسل الميّت ، الحديث ١.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٢٩٨.

٢٩٩

وغيرها ، ومن ظهور قوله عليه‌السلام في خبر يعقوب : «ولا يعجّل له النار» (١). في إرادة الأخصّ.

هذا ، مع إمكان دعوى انصراف النواهي المطلقة إلى النهي عن التسخين بالنار ، لكونه هو الفرد المتعارف عند إرادة غسل الميّت المطلوب فيه التعجيل شرعا وعرفا خصوصا مع أنّ المتعارف عند العامّة هو التسخين بالنار ، فتنصرف النواهي إليه ، فالقول بالاختصاص قويّ وإن كان التعميم أحوط وأنسب بالمسامحة في المستحبّات ، والله العالم.

ويكره الاستشفاء بالعيون الحارّة التي في الجبال التي توجد منها رائحة الكبريت ، ذكره جماعة (٢) ، وحكي عليه روايات (٣) ، وعلّل النهي فيها «بأنّها من فوح جهنّم» والله العالم.

(والماء) القليل (المستعمل في غسل الأخباث) حكمية (٤) كانت أو عينيّة (نجس سواء تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر) على الأظهر الأشهر ، بل المشهور بين القائلين بانفعال الماء القليل مطلقا واردا كان أم مورودا ، بل

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٢٩٨.

(٢) منهم : القاضي ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢٧ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٩٥ ، والمحقّق في المعتبر ١ : ٤٠ ، والعلّامة في التحرير ١ : ٥ ، ومنتهى المطلب ١ : ٥.

(٣) الفقيه ١ : ١٣ ذيل الحديث ٢٤ و ١٤ ـ ٢٥ ، الكافي ٦ : ٣٨٩ ـ ١ ، التهذيب ٩ : ١٠١ ـ ٤٤١ ، المحاسن :٥٧٩ ـ ٤٧ ، الوسائل ، الباب ١٢ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الأحاديث ١ ـ ٤.

(٤) قولنا : حكمية كانت أو عينية.

أقول : قد حصل لنا عند التعرّض لأحكام النجاسات التأمّل في إطلاق هذا الحكم بالنسبة إلى ما يستعمل في إزالة النجاسة الحكمية نشأ ذلك من الاستشكال في سراية النجاسة من المتنجّسات الجامدة الخالية من أعيان النجاسات ، وسيأتي التكلّم فيه في محلّه ، فلا تغفل. (منه).

٣٠٠