مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

لم يكن ملحوظا لديهم إلّا جهة نجاسته ، ومن أراد مزيد اطّلاع على ما ادّعيناه فليطلب من مظانّها مثل أخبار الحمّام والكرّ وغيرها ، وستأتي الإشارة إلى بعضها فيما بعد إن شاء الله.

بل الإنصاف أنّي أجد هذه الرواية في حدّ ذاتها على خلاف مطلوبهم أدلّ ، لأنّ سوق الرواية يشهد بأنّه عليه‌السلام بعد أن نفى البأس عن الوضوء بالماء المستعمل مطلقا إبطالا لتشريع من زعم نجاسة ما يستعمل في الوضوء أراد أن يبيّن وجه الإطلاق ، وأنّ الماء المستعمل من حيث إنّه مستعمل لا بأس به إلّا أن ينضمّ إليه جهة أخرى موجبة لنجاسته كأن يغسل به الثوب النجس أو يغتسل به الرجل من الجنابة التي لا تنفك غالبا عن نجاسة البدن ، فإنّه لا يجوز أن يتوضّأ من مثل هذا الماء وأشباهه ممّا يستعمل في إزالة النجاسة عن الثوب والبدن ، وأمّا الماء الذي ليس فيه جهة أخرى موجبة لنجاسته مثل الذي يتوضّأ الرجل به فيغسل به وجهه ويده في شي‌ء نظيف ، فلا بأس أن يؤخذ من مائه ويتوضّأ به ، فقوله عليه‌السلام : «وأمّا الذي» إلى آخره ، بحسب الظاهر مبيّن لما في الإطلاق من الإجمال في ضمن مثال.

ولعلّ النكتة في تخصيص الوضوء بالذكر ، لزعم المبتدعين نجاسة مائه بالخصوص ، أو لكونه أوضح الأفراد.

وكيف كان فالماء الذي يغتسل به الرجل فيغسل رأسه وبدنه في شي‌ء نظيف بعد تطهير بدنه هو أيضا مثل ماء الوضوء لا بأس به بمقتضى

٣٤١

هذا التفسير.

وما ذكرناه في توجيه الرواية ألصق وأنسب بسياقها وأوفق بالقواعد اللفظية من حمل إطلاق الصدر على العموم ، وارتكاب التخصيص فيه بالنسبة إلى غسالة الثوب وأشباهها خصوصا إذا جعلنا المستعمل في غسل الجنابة وأشباهه قسيما لها ، فإنّه يستلزم إخراج أكثر الأفراد ، فيكون المراد من الإطلاق خصوص الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر ، وهو في غاية البعد.

وقد يناقش في دلالة الرواية : باحتمال إرادة إزالة الوسخ من غسل الثوب لا النجاسة ، فيتعيّن حمل النهي فيها بقرينة الإجماع على مطلق رجحان الترك المجامع للكراهة دون خصوص الحرمة.

واعترض عليها بقيام الإجماع على نفي الكراهة أيضا.

فإن تمّ هذا الإجماع فهو ، وإلّا فما أبداه المورد من الاحتمال لا يخلو عن وجه ، إذ ليس لغسل الثوب حقيقة شرعية حتى يحمل عليها.

ودعوى غلبة نجاسة الثوب المغسول به الموجبة لانصراف الإطلاق إليها لو سلّمت ففي الجنابة أولى ، لأغلبيّتها فيها منه ، إلّا أن يقال : إنّ وروده في كلمات الشارع وظهور نواهيه في الحرمة يصلح قرينة لتعيين المراد من الفقرة الأولى دون الثانية.

ثم لو سلّم ظهور الرواية في المنع ، فلا شبهة في أنّ تقييدها بما إذا اشتمل بدن الجنب على النجاسة أهون من التصرّف في الأدلّة الآتية

٣٤٢

المخالفة للعامّة.

ومن أدلّة المانعين : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن ماء الحمّام ، فقال : «ادخله بإزار ، ولا تغتسل من ماء آخر إلّا أن يكون فيه جنب أو يكثر أهله فلا تدري فيه جنب أم لا» (١).

وأجيب : بمنع الدلالة ، للاكتفاء في رفع النهي بالإباحة.

وفيه : أنّ النهي في المستثنى منه ليس للحرمة جزما ولا للكراهة ، للقطع بجواز الاغتسال من غير ماء الحمّام ، فالمراد منه إمّا الإرشاد إلى ما هو الأصلح بحال السائل ، لسهولته وغيرها من الجهات ، أو لدفع توهّم الوجوب ، أو لأجل كونه توطئة لذكر ما بعده ، فلا بدّ من أن يكون الاغتسال منه عند وجود الجنب أو احتمال وجوده مرجوحا إمّا على سبيل الحرمة أو الكراهة ، والمنسبق إلى الذهن هو الحرمة.

وفيه : أنّ حمل النهي على الحرمة في المقام متعذّر ، لأنّ المراد من ماء الحمّام إمّا ما في حياضه الكبار أو ما في حياضه الصغار ، أو الغسالة الجارية على سطح الأرض.

أمّا الأخير فلا يمكن تنزيل الرواية عليه ، لعدم كون الاغتسال منه متعارفا عند الناس حتى ينزّل إطلاق السؤال عليه ، مع أنّ اللازم على الإمام عليه‌السلام على هذا التقدير إرشاده إلى الاغتسال من ماء الحياض لا أمره بالغسل من غير ماء الحمّام.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧٩ ـ ١١٧٥ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

٣٤٣

وأمّا الأوّل فمن المعلوم أنّ الغالب فيه كونه أضعاف الكرّ ، فلا يمنع اغتسال الجنب فيه من جواز الاغتسال منه أو فيه باتّفاق النصّ والفتوى ، كما عرفته فيما تقدّم ، وقد عرفت أنّ غاية ما يستفاد من بعض الأخبار كراهته.

وأمّا الثاني فليس المتعارف بين الناس إلّا الاغتسال حول الحياض لا فيها ، والرشحات التي تنتضح فيها حال الغسل لو لم توجب نجاستها غير مضرّة قطعا ، للصحيحة الآتية وغيرها من الأدلّة.

هذا ، مع أنّ المتعارف إنّما هو وقوع الاغتسال حال الاتّصال بالمادّة ، ولا بأس به حينئذ قطعا ، فإنّه بمنزلة الجاري وماء النهر يطهّر بعضه بعضا.

وفي مرسلة الواسطي ، قال : سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمام لا أعرف اليهودي من النصراني ولا الجنب من غير الجنب ، قال : «يغتسل منه ولا يغتسل من ماء آخر فإنّه طهور» (١).

والذي يظهر لي أنّ مناط النهي في الصحيحة إنّما هو وجود الجنب بالفعل في الحمّام واشتغاله بالاغتسال ، وذلك لأجل اشتمال بدنه على النجاسة الموجبة لتنجيس من يجتمع معه حول الحوض الصغير الذي كان أخذ الماء منه متعارفا في تلك الأزمنة ، فيتعذّر حصول الغسل الصحيح أو يتعسّر ، ولذا أمره بالاغتسال من ماء آخر ليتيسّر تحصيل القطع بحصول الغسل الصحيح الخالي عن الشبهة منه فيه دون ماء الحمّام ، وكيف لا مع أنّه لو كان مناط النهي كونه مستعملا في غسل الجنابة لكان اللازم إناطة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧٨ ـ ١١٧١ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

٣٤٤

الحكم بالعلم بغسل الجنب أو احتماله ، كما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : «أو يكثر أهله فلا تدري فيه جنب» لا على وجوده فيه بالفعل ، ولازمه المنع من الاغتسال من المياه الموجودة في الحمّامات المتعارفة ، إذ لا يكاد يوجد حمّام لا يقطع بدخول الجنب فيه في يومه وليلته مرارا عديدة فضلا عن احتماله ، وإجراء الماء من المادّة كما يكفي في رفع المحذور عند العلم باغتسال الجنب كذلك يكفي في رفعه عند وجوده فيه بالفعل ، فلا مقتضي للأمر بالاغتسال من ماء آخر ، كما لا يخفى.

وقد يستدلّ لهم أيضا بالصحيح عن ابن مسكان ، قال : حدّثني صاحب لي ثقة أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال : «ينضح بكفّ بين يديه وكفّا من خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ثم يغتسل» (١) فإنّ الظاهر من تقرير الإمام عليه‌السلام وأمره بالنضح الذي هو مانع من رجوع الغسالة إلى الماء يدلّ على كونه محذورا يجب علاجه.

وأمّا كون النضح مانعا عن الرجوع فقد ذكروا في تقريبه وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد أنّه ينضح بالأكفّ على الأرض ، فيوجب رشّها سرعة جذب الماء.

ثانيهما : أن يكون المقصود نضح بدنه بالماء من الجهات الأربع

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٧ ـ ١٣١٨ ، الإستبصار ١ : ٢٨ ـ ٧٢ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢.

٣٤٥

حتى يتعجّل وصول الماء إلى البدن فيتمّ غسله قبل رجوع الماء إلى الوهدة.

والجواب عنه أوّلا : أنّ نضح الأكفّ من الماء على الجوانب وإن أمكن كونه مانعا من عود الماء في بعض الفروض إلّا أنّ هذا لا يصحّح إطلاق الجواب لو كان رجوعه إلى الماء موجبا لفساد الغسل ، بل كان اللازم على الإمام عليه‌السلام على هذا التقدير أن يأمره بوضع حائل من تراب ونحوه إن أمكن ، أو يأمره باقتصاره في غسل بدنه على الادهان ، وعدم إكثار الماء على وجه تجري غسالته في الوهدة بمقدار يصير ماؤها مستعملا.

والظاهر أنّ نضح الأكفّ من المياه القليلة التي توجد في الطريق عند إرادة الوضوء أو الغسل في حدّ ذاته مستحبّ.

ولعلّ الحكمة فيه رفع كراهة الاستعمال من مثل هذه المياه التي ترد عليها السباع وغيرها وقد ورد الأمر به للوضوء في رواية الكاهلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «إذا أتيت ماء فيه قلّة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ» (١).

وقد ورد الأمر به أيضا في صحيحة علي بن جعفر ، الآتية.

وثانيا : أنّ غلبة اشتمال بدن الجنب على النجاسة مانعة عن ظهور الصحيحة في كون المحذور الذي تخيّله السائل هو محذور اختلاط الماء

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٤٠٨ ـ ١٢٨٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٣.

٣٤٦

بالماء المستعمل في الحدث الأكبر من حيث هو ، فلعلّ المحذور الذي تخيّله نجاسة الماء بوصول الغسالة.

وثالثا : أنّ المحذور الذي قرّره الإمام عليه‌السلام يحتمل أن يكون محذور كراهة الاستعمال ، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّ السائل كان يرى حرمته حتى يكون تقريره أو بيان العلاج له إغراء بالجهل.

ويؤيّد هذا الاحتمال وضوح كون العلاج مبنيّا على المسامحة.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّ هذه الرواية على خلاف مطلوبهم أدلّ ، ولذا استدلّ بها بعضهم لإثبات الجواز ، بل عن الشيخ الذي هو قائل بالمنع أنّه ارتكب التوجيه فيها بحملها على الضرورة أو غير غسل الجنابة (١).

واستدلّ لهم أيضا برواية حمزة بن أحمد ، وفيها : «ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم» (٢).

وصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام : وسئل عن الماء تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال : «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء» (٣) إلى غير ذلك من الأخبار التي لا يخفى ما فيها على المتأمّل.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٨ ذيل الحديث ٧٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٧٣ ـ ١١٤٣ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٢ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٣٩ ـ ١٠٧ و ٢٢٦ ـ ٦٥١ ، الاستبصار ١ : ٦ ـ ١ و ٢٠ ـ ٤٥ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

٣٤٧

واستدلّ لهم أيضا بالاحتياط تحصيلا للقطع بفراغ الذمّة عمّا هو مشروط بالطهارة.

وفيه ـ بعد الغضّ عن ورود الأوامر المقتضية للإجزاء ـ : أنّ استصحاب مطهّرية الماء حاكم على قاعدة الاشتغال.

هذا ، مع أنّ كون الاحتياط مرجعا للشاكّ في مثل المقام لا أصل البراءة ، فيه كلام سنشير إليه في مبحث الوضوء إذا اقتضاه المقام إن شاء الله.

حجّة المجوّزين ـ مضافا إلى الأصل والإطلاقات ـ صحيحة محمد ابن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره اغتسل من مائه؟ قال : «نعم لا بأس أن يغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فيه وجئت فغسلت رجلي ، وما غسلتهما إلّا ممّا لزق بهما من التراب» (١).

ويمكن المناقشة في دلالتها بأنّ الاغتسال في الحمّام لا يستلزم صيرورة مائه مستعملا ، لأنّ الاغتسال في الحمّام عادة لا يتحقّق إلّا في الحياض الكبار أو في خارج الماء حول الحياض الصغار ، والمانع ملتزم بنفي البأس في الصورتين ، ولم يكن مقصود السائل أيضا من سؤاله ـ على ما يشهد به ذيل الجواب ـ معرفة حكمه من هذه الجهة ، وإنّما تخيّل نجاسته بمباشرة الجنب ، فنفى الإمام عليه‌السلام عنه البأس الذي توهّمه ، وبيّن وجه غسله (٢) رجليه حتى لا يبقى له شبهة أصلا.

ويمكن دفعها بما عرفت فيما سبق من أنّه يفهم من مثل هذه الرواية

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧٨ ـ ١١٧٢ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

(٢) في «ض ١» : غسل.

٣٤٨

أنّ البأس المعهود لديهم لم يكن إلّا نجاسته ، ولذا لم يستظهر الإمام عليه‌السلام من كلام السائل مع إطلاقه إلّا توهّمه ثبوت البأس من هذه الجهة ، كما يشهد به سوق الجواب ، فتأمّل.

واستدلّ لهم أيضا بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام ، قال :سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أيغتسل منه للجنابة أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدّا للوضوء وهو متفرّق فكيف يصنع به وهو يتحوّف أن تكون السباع قد شربت منه؟ فقال : «إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه وكفّا عن أمامه وكفّا عن يمينه وكفّا عن سماله ، فإن خشي أن لا يكفيه ، غسل رأسه ثلاث مرّات ، ثم مسح جلده بيده ، فإنّ ذلك يجزئه ، وإن كان الوضوء ، غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه ، وإن كان الماء متفرّقا فقدر أن يجمعه ، وإلّا اغتسل من هذا ومن هذا ، وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه ، فإنّ ذلك يجزئه» (١).

فإنّ قوله عليه‌السلام : «لا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه» يدلّ على جواز الاغتسال ممّا يرجع ، أمّا في حال الضرورة : فواضح ، وأمّا في غير حال الضرورة : فلأنّ الظاهر أنّ المراد من قوله : «لا يكفيه لغسله» عدم كفايته بحسب المتعارف ، وإلّا فحيثما فرض كفاية هذا الماء لغسل جميع

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٦ ـ ٤١٧ ـ ١٣١٥ ، الإستبصار ١ : ٢٨ ـ ٧٣ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١.

٣٤٩

بدنه ولو بإعانة ما يأخذه من غسالته فلا محالة يمكنه الاغتسال منه على وجه لا يحتاج ثانيا إلى استعمال المستعمل بأن يبلّل يده ويمسح بها سائر جسده على وجه يحصل به أقلّ مسمّى الغسل المعبّر عنه بالادهان ، وعليه ينزّل صدر الرواية ، لا المسح الحقيقي حتى يخالف النصوص والفتاوى ، ولا شبهة في أنّ الماء الذي يصرف في الغسل بهذه الكيفيّة أقلّ ممّا يصرف فيه بالكيفيّة المذكورة في الرواية ، فليس المراد من عدم الكفاية إلّا بحسب المتعارف ، لا الضرورة التي تبيح المحظور.

هذا ، مع أنّه لم ينقل التفصيل في المسألة إلّا عن ظاهر الصدوق والشيخ عند تعرّضه للجمع بين الأخبار ، بل عن بعض المستدلّين بالصحيحة دعوى عدم القول بالفصل.

وممّا يؤيّد القول بالجواز ما عن الغوالي عن ابن عبّاس ، قال : اغتسل بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جفنة ، فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتوضّأ منها ، فقالت : يا رسول الله إنّي كنت جنبا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الماء لا يجنب» (١).

وعن الأمالي عن ميمونة ، قالت : أجنبت فاغتسلت من جفنة وفضلت فيها فضلة ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاغتسل منها ، قلت : يا رسول الله إنّها فضلة منّي ، أو قالت : اغتسلت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس للماء جنابة» (٢).

وهذه الرواية وإن كان موردها الفضلة بحسب الظاهر ، لكن التعليل

__________________

(١) غوالي اللآلي ١ : ١٦٦ ـ ١٧٧.

(٢) أمالي الطوسي ٢ : ٦ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الأسئار ، الحديث ٦.

٣٥٠

لو لم نقل بالدلالة فلا أقلّ من إشعاره بأنّ الماء لا يتأثّر من مباشرة الجنب.

وقد استدلّ للجواز أيضا بالأخبار الكثيرة التي لا تخلو دلالتها عن نظر.

وكيف كان فقد اتّضح لك أنّ الجواز هو الأقوى (و) لكن (الأحوط المنع) من استعماله عند التمكّن من غيره ، وأمّا عند الانحصار فمقتضى الاحتياط الجمع بينه وبين التيمّم ، والله العالم.

تنبيه : لا ينبغي الإشكال على القول بالمنع في القطرات المنتضحة من بدن المغتسل أو الأرض في الإناء ، بل في كلّ يسير من الماء المستعمل الممتزج بما يضمحلّ فيه بحيث لا يصدق عليه الماء المستعمل عرفا ، وليس العبرة هنا بالاستهلاك المرادف للاستحالة حتى يدّعى استحالته في المتجانسين ، بل المدار على ذهاب الاسم الموجب لعدم شمول أدلّة المانعين له.

ويدلّ على نفي البأس عمّا يستهلك ـ مضافا إلى الأصل وإطلاقات الأدلّة ـ الصحاح المستفيضة :

منها : صحيحة الفضيل ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يغتسل فيتضح من الأرض في الإناء ، قال عليه‌السلام : «لا بأس هذا ممّا قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١)» (٢).

__________________

(١) سورة الحج ٢٢ : ٧٨.

(٢) التهذيب ١ : ٨٦ ـ ٢٢٥ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١.

٣٥١

وصحيحة شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال في الجنب يغتسل فيقطر عن جسده في الإناء وينتضح الماء من الأرض فيصير في الإناء : «أنّه لا بأس بهذا كلّه» (١).

وصحيحة عمر بن يزيد ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض ، فقال : «لا بأس به» (٢).

وما رواه سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في كيفيّة الغسل بعد أن أمره بغسل كفّيه وفرجه وغيرهما من التفاصيل ، قال عليه‌السلام : «فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت لك فلا بأس» (٣).

وقد استدلّ المجوّزون بهذه الأخبار أيضا لمذهبهم.

وفيه : أنّ المانعين بحسب الظاهر يلتزمون بمفادها ، فلا تكون حجّة عليهم.

ولكن الإنصاف أنّها من المؤيّدات القويّة لهذا القول ، خصوصا الأخيرة منها ، فإنّها تصلح قرينة لتعيين ما أريد من الأخبار التي استدلّ بها المانعون والله العالم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٣ ـ ٦ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٦.

(٢) الكافي ٣ : ١٤ ـ ٨ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٧.

(٣) التهذيب ١ : ١٣٢ ـ ٣٦٤ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٤.

٣٥٢

الطرف (الثالث في الأسئار) بالهمزة بعد السين جمع سؤر ، وهو لغة : الفضلة والبقيّة ، كما عن القاموس (١).

وعن الجوهري : البقيّة بعد الشرب (٢).

وفي المجمع عن المغرب وغيره هو بقيّة الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو الحوض ، ثم أستعير لبقيّة الطعام.

وفيه أيضا : وقد يقال في تعريفه : السؤر ما باشره جسم حيوان.

وبمعناه رواية ، ولعلّه اصطلاح ، وعليه حملت الأسئار ، كسؤر اليهودي والنصراني وغيرهما (٣). انتهى.

وقيل : إنّه في عرف الفقهاء ماء قليل لاقى جسم حيوان (٤).

ولعلّه أراد بيان مرادهم من لفظ السؤر الواقع في باب المياه.

قال شيخنا المرتضى رحمه‌الله : والأولى إبقاء السؤر حتى في هذا المقام على معناه العرفي وإشراك غيره معه في الحكم الثابت له شرعا ، وظاهرهم اعتبار القلّة في الماء.

والذي يستفاد من الأخبار إطلاقه على الكثير ، مثل قوله عليه‌السلام : «ولا يشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا استسقى منه» (٥).

__________________

(١) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٤١٧ ، وانظر : القاموس المحيط ٢ : ٤٣ «السؤر».

(٢) كما في الحدائق الناضرة ١ : ٤١٧ ، وانظر : الصحاح ٢ : ٦٧٥ «سأر».

(٣) مجمع البحرين ٣ : ٣٢٢ «سأر».

(٤) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٥٩.

(٥) التهذيب ١ : ٢٢٦ ـ ٦٥٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، الحديث ٧.

٣٥٣

وهو أيضا ظاهر التذكرة والمحكي عن الهداية (١). انتهى.

أقول : دعوى انصراف ما يدلّ على كراهة استعمال بعض الأسئار عن الكثير والجاري غير بعيدة.

وممّا يدلّ على أنّ السؤر في الأخبار يطلق على الأعمّ من بقيّة الشراب : ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في سؤر الهرّة «أنّ الهرّ سبع ولا بأس بسؤره ، وإنّي لأستحي من ربّي أن أدع طعاما لأنّ الهر أكل منه» (٢).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث المناهي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن أكل سؤر الفأرة (٣).

والظاهر من بعض الأخبار : عدم اختصاصه بمباشرة الفم ، كموثّقة العيص عن الصادق عليه‌السلام عن سؤر الحائض ، قال : «توضّأ منه وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغتسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء» (٤).

(وهي) أي : أسآر الحيوانات (كلّها طاهرة عدا سؤر) ما كان

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٥٩ ـ ٦٠ ، وانظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٣٩ ، المسألة ١١ ، والهداية (ضمن الجوامع الفقهية : ٤٨.)

(٢) الكافي ٣ : ٩ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٢٢٧ ـ ٦٥٥ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الأسئار ، الحديث ٢.

(٣) الفقيه ٤ : ٢ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الأسئار ، الحديث ٧.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢٢ ـ ٦٣٣ ، الإستبصار ١ : ١٧ ـ ٣١ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الأسئار ، الحديث ١ ، وفيه كما في الكافي ٣ : ١٠ ـ ٢ : «لا توضّأ منه وتوضّأ من سؤر الجنب ..».

٣٥٤

نجس العين ، أي : (الكلب والخنزير والكافر.)

أمّا طهارة سؤر ما عدا المذكورات فهي التي تقتضيها القواعد الشرعية من دون فرق بين كونه ممّا يؤكل لحمه أو لا يؤكل.

ويدلّ عليها ـ مضافا إلى الأصول المعتبرة ـ جملة من الأخبار الآتية التي يفهم منها طهارة سؤر كلّ ما كان طاهر الجسد.

وأمّا نجاسة سؤر الكلب وأخويه : فلأنّها من آثار نجاستها شرعا ، كما ورد التعليل بها في سؤر الكلب في بعض الأخبار الآتية.

(وفي) نجاسة (سؤر المسوخ تردّد) منشؤه التردّد في نجاستها (و) لكنّك ستعرف إن شاء الله في مبحث النجاسات أنّ (الطهارة أظهر.)

(ومن عدا الخوارج والغلاة من أصناف المسلمين) إذا لم ينكر شيئا من ضروريّات الدين (طاهر الجسد والسؤر) وسيأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله.

وعن المبسوط والسرائر والمهذّب إنكار الملازمة بين طهارة الحيوان وجواز استعمال سؤره حيث منعوا استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الآدمي والطيور إلّا ما لا يمكن التحرّز عنه ، كالهرّة والفأرة والحيّة (١) ، بل عن الحلّي التصريح بنجاسته (٢).

ومستندهم في المنع : مفهوم رواية عمّار بن موسى عن أبي عبد الله

__________________

(١) حكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٨٢ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٠ ، والسرائر ١ : ٨٥ ، ولم نعثر عليه في المهذّب.

(٢) حكاه عنها العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٨٢ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٠ ، والسرائر ١ : ٨٥ ، ولم نعثر عليه في المهذّب.

٣٥٥

عليه‌السلام ، قال : سئل عمّا تشرب منه الحمامة ، فقال عليه‌السلام : «كلّ ما أكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب» (١).

ويؤيّده مفهوم صحيحة ابن سنان «لا بأس أن تتوضّأ ممّا شرب منه ما يؤكل لحمه» (٢) فإنّ البأس وإن كان أعمّ من الحرمة إلّا أنّها أظهر الأفراد ، فتسبق إلى الذهن.

وفيه أوّلا : منع دلالتهما على المفهوم ، أعني الانتفاء عند الانتفاء ، ولذا لم يفهم السائل من كلامه عليه‌السلام حكم كلّ ما لا يؤكل لحمه ، فسأله بعد ذلك عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب ، فأجابه بقوله : «كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ من سؤره» (٣) فلو كان لجوابه الأوّل مفهوم عام ، لكان بين الجوابين معارضة ، مع أنّ الناظر إليهما لا يلتفت إلى المعارضة أصلا ، فهذا دليل على أنّه ليس شي‌ء من الجوابين مسوقا لبيان الانتفاء عند الانتفاء.

نعم يفهم من تقييد الموضوع في مقام إعطاء القاعدة أنّ جواز التوضّؤ وانتفاء البأس في أفراد غير المأكول غير مطّرد ، لأنّ هذا هو النكتة الظاهرة التي تنسبق إلى الذهن في مثل المقام ، وأمّا ظهورهما في كون علّة نفي البأس هي كونه مأكول اللحم لا غير ـ كما عليه تبتني استفادة المفهوم ـ فلا.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٩ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٢٢٨ ـ ٦٦٠ ، الإستبصار ١ : ٢٥ ـ ٦٤ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الأسئار ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٩ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأسئار ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٩ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٢٢٨ ـ ٦٦٠ ، الإستبصار ١ : ٢٥ ـ ٦٤ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الأسئار ، الحديث ٢.

٣٥٦

وثانيا : أنّه لا يمكن الأخذ بعموم المفهوم ، للزوم تخصيصه بالنسبة إلى الطيور والوحوش والسباع وحشرات الأرض ، كالفأرة والعقرب والحيّة ونحوها ، لوقوع التصريح بنفي البأس عن هذه الأمور في الجملة في الأخبار الخاصّة ، ولذا التزم المانعون باستثنائها ، ومن المعلوم أنّه بعد إخراج هذه الأمور لا يبقى تحت العام إلّا أقلّ قليل ، ولا يمكن ارتكاب هذا النحو من التصرّف في المفاهيم التي هي من الأدلّة اللّبّية ، فيتعيّن حمل الروايتين على إرادة الكراهة ، كما يؤيّدها مرسلة الوشاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كان يكره سؤر كلّ شي‌ء لا يؤكل لحمه (١).

وثالثا : أنّه يعارضهما صحيحة الفضل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام :عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئا إلّا سألت عنه ، فقال : «لا بأس به» حتى انتهيت إلى الكلب ، فقال : «رجس نجس لا تتوضّأ بفضله ، فاصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء» (٢).

فإنّ هذه الرواية كالصريح في أنّ علّة ثبوت البأس في الكلب نجاسته ، لا كونه غير مأكول ، وأنّ ما عدام ممّا ليس بنجس فلا بأس بسؤره.

ونظيرها : ما رواه معاوية بن شريح ، قال : سأل عذافر أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا عنده ـ عن سؤر السنّور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠ ـ ٧ ، الوسائل ، الباب ٥ من أبواب الأسئار ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٥ ـ ٦٤٦ ، الإستبصار ١ : ١٩ ـ ٤٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، الحديث ٤.

٣٥٧

والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضّأ منه ، فقال : «نعم اشرب منه وتوضّأ منه» قال : قلت له : الكلب ، قال : «لا» قلت : أليس هو سبع؟ قال : «لا والله إنّه نجس ، لا والله إنّه نجس» (١).

فإنّه يفهم من هذه الرواية أيضا أنّ علّة نجاسة سؤر الكلب نجاسته لا كونه سبعا أو غير مأكول اللحم.

وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّه لا يجب التجنّب عن سؤر ما ليس بنجس مطلقا.

نعم يكره سؤر كلّ ما لا يؤكل لحمه مطلقا طيرا كان أو غيره ، للمرسلة المتقدّمة المعتضدة بمفهوم الروايتين المتقدّمتين ، لكن لا يبعد دعوى انصرافها إلى ما لا يحلّ أكله ذاتا لا بالعرض ، إلّا أنّ التعميم أوفق بظاهر اللفظ ، وأنسب بالمسامحة في أدلّة السنن. (و) لعلّه لذا أفتى المصنّف وغيره (٢) بأنّه (يكره سؤر الجلّال) من كلّ حيوان ، وهو المتغذّي بعذرة الإنسان إلى حدّ يحرم أكله على الوجه المذكور في باب الأطعمة والأشربة.

وعن السيّد والشيخ وابن الجنيد : النجاسة (٣) ، واستدلّ لهم : بعدم خلوّ لعابه عن النجاسة ، وبأنّ لعابه ينشأ منها.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٥ ـ ٦٤٧ ، الإستبصار ١ : ١٩ ـ ٤١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، الحديث ٦.

(٢) كسلّار في المراسم : ٣٧ ، والمحقّق في المعتبر ١ : ٩٧ ، والعلّامة في المختلف ١ :٦٦ ، المسألة ٣٤ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٤٢.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٦٠ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٠.

٣٥٨

وأورد بالنقض ببصاق شارب الخمر.

وحلّه : أنّه لا حكم للنجاسة بعد استهلاكها أو استحالتها.

(و) كذا (سؤر ما أكل الجيف) إن لم يكن مأكول اللحم ، كما هو الغالب ، وإلّا فيشكل الحكم بكراهة سؤره ، إذ الظاهر أنّ أكل الجيفة لا يوجب حرمة اللحم حتى يستفاد كراهة سورة من المرسلة.

ولعلّ وجه قولهم بكراهته على الإطلاق هو الخروج من شبهة الخلاف ، لحكاية المنع عن بعض.

وكيف كان فإنّما يكره السؤر (إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة) وإلّا فينجس السؤر ، ويجب التجنّب عنه بلا إشكال ، إذ لا دليل على اختصاص حكم النجاسات بما عدا هذا الفرد.

ويدلّ عليه بالخصوص : رواية عمّار ، المتقدّمة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، حين سأله عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب ، فقال عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دما.

فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه ولا تشرب».

وعنه أيضا أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام : عن ماء شربت منه الدجاجة ، قال :«ان كان في منقارها قذر لم يتوضّأ ولم يشرب ، وإن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ منه واشرب» (٢).

__________________

(١) تقدّمت في ص ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٨٣٢ ، الإستبصار ١ : ٢٥ ـ ٦٤ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الأسئار ، الحديث ٣.

٣٥٩

وظاهر هاتين الروايتين بل صريحهما على ما تقتضيه القرائن الداخلية والخارجية : دوران المنع مدار وجود عين القذر في منقارها ، فلو لم يكن في منقارها قذر فلا بأس بسؤرها مطلقا ، سواء علم ملاقاته للقذر في السابق أم لم يعلم ، وسواء علم زواله بمطهّر شرعي أم لم يعلم ، بل وإن علم عدمه ، كما هو ظاهر المشهور ، بل الظاهر عدم الخلاف فيه.

نعم عن النهاية اعتبار احتمال حصول الطهارة بوروده على كثير مطلق أو ورود المطر أو القليل عليه (١).

ولكنّه في غاية الضعف ، إذ لو لا طهارة بدن الحيوان بزوال عين النجس عنه لما أفاد احتمال التطهير الحكم بطهارته ، لمخالفته للقاعدة المغروسة في أذهان أهل العرف التي أمضاها الشارع في ضمن أخبار كادت تكون متواترة من أنّ اليقين لا ينقضه الاحتمال.

ورفع اليد عن هذه القاعدة ، للإجماع والسيرة وغيرهما من الأدلّة الخاصّة ليس بأولى من الالتزام باختصاص قاعدة كلّ نجس منجّس بغير هذا الفرد ، أو الالتزام بأنّ زوال العين مطهّر شرعي تعبّدا ، بل الالتزام بأحد هذين الأمرين أولى ، بل هو المتعيّن بالنظر إلى ما تقتضيه أخبار الباب.

مضافا إلى اعتضاده بالشهرة ، بل الإجماع ، فإنّهم صرّحوا ـ كما عن المبسوط والسرائر والتذكرة وغيره (٢) ـ بأنّه لو أكلت الهرّة فأرة ثم

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٦٠ ، وانظر : نهاية الإحكام ١ : ٢٣٩.

(٢) حكاه عنها الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٦٠ ، وانظر : المبسوط ١ : ١٠ والسرائر ١ : ٨٥ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٤٢ ، والمعتبر ١ : ٩٩.

٣٦٠