مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

زوالها فكذا هذه النجاسة المتيقّنة أيضا غير معلوم زوالها ، ولا تتوقّف معارضة الأصلين على كون العلم بالنجاسة مؤثّرا في تنجيز خطاب جديد ، بل يكفي فيها كون المعلوم بالإجمال موجبا لإحراز تكليف محقّق حال ملاقاة النجس ، إذ المدار في وجوب الامتثال على ثبوت التكليف لا على حدوثه.

ولا يقاس ما نحن فيه بما إذا علم بوقوع قطرة بول على أحد ثوبين يعلم بنجاسة أحدهما تفصيلا ، لأنّ تعدّد الموضوع موجب لسلامة الأصل في غير الثوب النجس عن المعارض ، وهي سبب لسقوط أثر العلم ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ المفروض فيه أنّا نعلم بطروّ حالتي الطهارة والنجاسة على الثوب الواحد الشخصي ، فكما أنّه يصح أن يقال : إنّ هذا الثوب علم بحصول طهارة له ولم يعلم زوالها كذلك يصحّ أن يقال : هذا الثوب علم بنجاسة ووجوب الاجتناب عنه حال ملاقاة للماء النجس ولم يعلم زوالها.

وإن شئت قلت في الفرق بين المقامين : إنّ لنا فيما نحن فيه وراء ما نعلمه بالتفصيل ـ أعني نجاسة الثوب قبل الغسلتين ـ علما إجماليّا بنجاسة مردّدة بين كونها بعد الغسلة الأولى أو الثانية ، وأثره وجوب الاجتناب عن هذا النجس المعلوم بالإجمال ، وكون الثوب قبل الغسلتين معلوما بالتفصيل نجاسته أجنبي عمّا يقتضيه هذا العلم من الأثر ، وهذا بخلاف المثال ، فإنّ العلم بوصول القطرة إلى أحد الثوبين لا يؤثّر في حصول العلم بنجاسة غير ما نعلمها بالتفصيل.

٢٦١

وكذا في المثال الذي أوردناه نقضا ، وهو ما لو علم إجمالا بوصول قطرة بول إلى الثوب النجس قبل غسله أو بعده حيث إنّه لا يتولّد من علمه الإجمالي علم بنجاسة مردّدة حتّى يجب عليه التحرّز عنها ، لأنّه يعلم تفصيلا نجاسته قبل الغسل وطهارته بعده ، ونجاسته بعد الطهارة المتيقّنة مشكوكة رأسا ، غاية الأمر أنّ شكّه مسبّب عن العلم بحدوث ما يقتضي النجاسة على تقدير صلاحيّة المحلّ للانفعال ، وهي مشكوكة في الفرض.

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ استصحاب طهارة الثوب في هذا المثال أيضا يعارضه استصحاب النجاسة المتيقّنة حال إصابة القطرة ، وإنّما نحكم بطهارته لأجل القاعدة ، ولذا لا نقول بطهارة من وجد في ثوبه منيّا وشكّ في خروجه قبل الغسل أو بعده ، مع أنّه نظير هذا المثال.

ووجهه : أنّه لا يعتبر في الاستصحاب إلّا كون المستصحب معلوم الثبوت ومشكوك الارتفاع ، ولا شبهة في أنّ هذا الثوب كان عند إصابة القطرة نجسا ، ولا نعلم بارتفاع هذه النجاسة.

وكونه في بعض أحواله معلوم النجاسة بالتفصيل غير ضائر في استصحاب هذه النجاسة المعلومة بالإجمال ، ولذا لو شكّ في تأثير الغسل المتيقّن في إزالة النجاسة ولم يمكن لنا التشبّث باستصحاب النجاسة المعلومة بالتفصيل لابتلائه بالمعارض ، نتشبّث بهذا الاستصحاب في إثبات نجاسته.

مثلا : لو علم إجمالا ببطلان غسل هذا الثوب أو غسل ثوب نجس

٢٦٢

آخر ، فاستصحاب النجاسة السابقة المعلومة قبل الغسل معارض بالمثل ، واستصحاب النجاسة المعلومة بالإجمال عند إصابة القطرة سليم عن المعارض.

والحاصل : أنّ عدم كون العلم الإجمالي مؤثّرا في تنجيز تكليف إنّما ينفع في جريان الأصل المنافي له في بعض أطراف الشبهة ممّا هو مورد ابتلاء المكلّف ، لا أنّه لو شكّ في بقاء ذلك المعلوم بالإجمال واحتيج إلى استصحابه لم يجر استصحابه ، فالمانع عن جريانه في المثال ـ كما في ما نحن فيه ـ ليس إلّا ابتلاؤه بمعارضة استصحاب الطهارة المتيقّنة بعد الغسل.

وقد يقال فيما نحن فيه : إنّ الثوب بعد الغسل بالماءين المشتبهين محكوم بالنجاسة بدعوى : أنّ نجاسة هذا الثوب عند غسله بالماء الثاني في أوّل زمان الملاقاة معلومة بالتفصيل ، وكونها بسبب سابق على الغسل بالماء الثاني غير معلوم ، فتأثير هذه الغسلة في زوال النجاسة الثابتة حال الملاقاة غير معلوم ، فالأصل بقاؤها.

وفيه : أنّ هذه الدعوى معارضة بأنّ حصول طهارة لهذا الثوب بعد تمام الغسلتين معلوم إجمالا ، وسبقها على أوّل زمان الملاقاة غير معلوم ، فالأصل بقاؤها ، ولا فرق في المستصحب بين كونه معلوما بالإجمال أو بالتفصيل حتى يصلح فرض النجاسة في أوّل زمان الغسلة الثانية معلومة بالتفصيل مانعا عن استصحاب الطهارة ، فلا محيص عن معارضة كلّ من الأصلين بالآخر ، وتساقطهما.

٢٦٣

نعم يمكن أن يمنع الاستصحاب رأسا في مثل المقام بدعوى : أنّا نعلم تفصيلا بأنّ الغسل بالماء الثاني أثّر في المحلّ أثرا شرعيّا ضدّ ما كان له سابقا ، ولكنّه نشكّ في أنّه هل أثّر فيه الطهارة أو النجاسة ، ولا يمكن تعيين ما حدث بالأصل ، والشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في طهارة الماء ونجاسته ، وحيث لا أصل يحرز به شي‌ء من الوصفين للماء ـ كما هو المفروض ـ فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل الجاري في نفس المسبّب ، وهي قاعدة الطهارة لا استصحابها ، إذ ليس للمحلّ حالة سابقه متيقّنة حتّى تستصحب ، وسيمرّ عليك في مسألة : من تيقّن الطهارة والحدث وشكّ في المتأخّر منهما بعض ما له ربط تامّ بالمقام ، فتبصّر.

الأمر الخامس : لو لاقى أحد المشتبهين جسم طاهر ، فمقتضى الأصل : طهارته.

هذا إذا لم يكن للآخر أيضا ملاق في عرض هذا الملاقي ، وإلّا يجب الاجتناب عن الملاقيين أيضا ، للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما بملاقاة النجس الواقعي ، فالأصل في كلّ منهما معارض بجريانه في الآخر.

وكذا يشترط في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي عدم قيامه مقام الملاقي ـ بالفتح ـ في كونه طرفا للعلم الإجمالي المنجّز للتكليف ، كما لو فقد الماء الملاقي ـ بالفتح ـ قبل حصول العلم الإجمالي وتنجّز الخطاب بالاجتناب ، فإنّه بعد أن علم أنّ الماء المفقود الذي لاقاه ثوبه الطاهر مثلا كان طرفا للشبهة يعلم إجمالا بأنّ الطرف الآخر إمّا نجس أو

٢٦٤

ثوبه متنجّس ، فيجب الاجتناب عن كليهما ، لعين ما مرّ.

فإن قلت : ما الفرق بين وجود الملاقي ـ بالفتح ـ وفقده حتّى التزمت بوجوب الاجتناب عن ملاقيه في الصورة الثانية دون الاولى؟

قلت : إذا علمنا إجمالا أنّ أحد الإناءين ماء والآخر خمر واشتبها ولاقى أحدهما جسم طاهر ، وكان المجموع بين أيدينا في محلّ الابتلاء ، فلا شبهة في تنجّز الخطاب ب «اجتنب عن الخمر» المقتضي لوجوب الاجتناب عن كلّ من الإناءين بحكم العقل دفعا للضرر المحتمل في كلّ منهما ، وليس مقتضى حكم العقل وكذا الأدلّة السمعيّة الواردة في هذا الباب إلّا وجوب ترتيب الأحكام الشرعية التكليفيّة الثابتة لذات الخمر على كلّ واحد من الإناءين من باب الاحتياط ، وأمّا الالتزام بالآثار الوضعيّة الثابتة للموضوعات الواقعيّة فلا ، فليس على من شرب أحد الإناءين حدّ الخمر ، ولا غسل فمه لأجل النجاسة ، لأنّ استحقاق الحدّ وكذا وجوب غسل الملاقي إنّما هو من آثار الخمر الواقعيّة لا من آثار ما يجب تركه ، لاحتمال كونه خمرا ، فتنجّز الخطاب ب «اجتنب عن ملاقي الخمر» فرع إحراز الملاقاة لها ، وهي مشكوكة ، وأمّا علمه الإجمالي بأنّ الثوب إمّا ملاق للخمر أو أنّ ذلك الإناء الآخر خمر فلا أثر له مع وجود الملاقي ـ بالفتح ـ لسلامة الأصل في بعض أطرافه ـ وهو الثوب ـ عن المعارض ، لأنّ الأصل في الإناء لأجل معارضته بالأصل الجاري في الملاقي يسقط عن حدّ المعارضة.

وإن شئت قلت : إنّه لا أثر لهذا العلم الإجمالي ، لخروج بعض

٢٦٥

أطرافه عن صلاحيّة خطاب منجّز بالاجتناب ، وهو الإناء الآخر.

ووجه خروجه عن الصلاحيّة : ثبوت الحكم بالاجتناب عنه بسبب سابق طبعا ورتبة ، وهو العلم الإجمالي الأوّل الذي هو سبب لهذا العلم الإجالي المفروض ، وليس الثوب الملاقي في عرض الإناء الذي لاقاه حتى تجعل الأصول الجارية في جميعها من المتعارضات ، بل الشكّ في نجاسة الثوب مسبّب عن الشكّ في نجاسة الملاقي ، وقد تقرّر في محلّه أنّ الشكّ السببي والمسبّبي ليسا في مرتبة ، فإنّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسبّبي ، فإن جرى السببي لم يجر المسبّبي ، وإن لم يجر السببي لبعض العوارض كابتلائه بالمعارض ـ كما فيما نحن فيه ـ يرجع إلى الأصل المسبّبي ، وهو استصحاب طهارة الثوب.

وبهذا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين ما لو اشتبه إناء ثالث بأحد الإناءين ، أو قسّم أحدهما قسمين ، لأنّ الأصول الجارية في جميعها على هذين التقديرين متعارضة ، بخلاف ما نحن فيه ، كما أنّه ظهر الوجه في التفصيل بين فقد الملاقي قبل تنجّز الخطاب أو بعده ، لخروج الشكّ السببي بفقده عن مجرى الأصول ، فيقوم المسبّب مقامه في المعارضة ، بخلاف الصورة الثانية ، فلاحظ وتدبّر ، فإنّ هذه التفاصيل وإن كانت ممّا يستبدها القاصر في بادئ رأيه إلّا أنّ الفهم القويم والطبع المستقيم يشهد عليها ، بل يرى الوجدان السليم سلوك العقلاء عليها بمقتضى جبلّتهم من حيث لا يشعرون.

وكيف كان فلا يهمّنا الإطالة في رفع الاستبعاد عن التفصيل بين فقد

٢٦٦

الملاقي قبل العلم أو بعده بعد مساعدة الدليل ، والله العالم.

الطرف (الثاني) في الماء (المضاف ، وهو كلّ ما) لا يستحقّ إطلاق اسم الماء عليه عرفا على الإطلاق ، وإنّما يستحقّ إطلاق اسم الماء عليه بعد إضافته إلى شي‌ء آخر إضافة الفرع إلى أصله ، أو إضافة الجزء إلى كلّه ، لا إضافة المظروف إلى ظرفه أو ما يشابهها من الإضافات التي لا ينافيها استحقاق الإطلاق ، كماء النهر والبحر ، بل كإضافة الماء ـ الذي (اعتصر من جسم) محتو عليه أصالة ـ إلى ذلك الجسم ، كماء العنب والحصرم والليمو ، لا بالعرض ، كالمعتصر من الصوف أو القطن الذي أصابه الماء ، أو كإضافته إلى ما يتصعّد منه ، كماء الورد (أو) إلى ما (مزج به مزجا يسلبه إطلاق الاسم) كماء الزعفران.

والحاكم بصحّة السلب وعدمها هو العرف ، كما هو المشهور ، فلا عبرة بكميّة أحدهما ، كما عن المبسوط من تحديده بعدم أكثرية المضاف (١).

وعن القاضي : المنع عن استعماله في التطهير مع التساوي ، تمسّكا بالاحتياط ، في مقابل تمسّك الشيخ بأصالة الجواز (٢).

وكذا لا عبرة بالتقدير ، كما عن العلّامة بعد موافقة المشهور على اعتبار الصدق العرفي حيث اعتبر في خلط المضاف المسلوب الصفات

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٤ ، وانظر : المبسوط ١ : ٨.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٤٤ ، ومدارك الأحكام ١ : ١١٥ ، وانظر : المهذّب ١ : ٢٤ ـ ٢٥.

٢٦٧

ـ كمنقطع الرائحة من ماء الورد ـ تقديرها (١).

وحكي عنه تقدير الوسط منها دون الصفة الشخصية الموجودة قبل السلب (٢).

وفيه ـ كسابقيه ـ ما أشرنا إليه من أنّ المرجع في تشخيص الموضوعات التي ليس لها حقيقة شرعيّة هو الصدق العرفي ، فلا مسرح للتشبّث بالأصول والقواعد في مقابله.

نعم لو اختفى الصدق العرفي بحيث حصل الشكّ في اندراج هذا الفرد تحت المطلق أو المضاف يجب الرجوع حينئذ في تشخيصه إلى ما يقتضيه الأصل الموضوعي إن أمكن تعيين أحد الموضوعين بالأصل ، كما لو شكّ في إضافة الماء باختلاطه بالمضاف أو شي‌ء من الجوامد من تراب ونحوه شيئا فشيئا ، أو شكّ في إطلاق المضاف لامتزاجه بالمطلق شيئا فشيئا على وجه يعدّ المشكوك بنظر العرف بعد المسامحة العرفيّة عين الموضوع الذي كان في السابق ماء مطلقا أو مائعا مضافا ، فالمرجع حينئذ استصحاب حالته السابقة دون الأصول الجارية في نفس الأحكام ، لحكومته عليها.

نعم قد يناقش في الاستصحاب الموضوعي في مثل هذه الموارد

__________________

(١) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٤ وانظر : المختلف ١ : ٧٣ ذيل المسألة ٣٨.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٤٤ ، والحاكي عنه المحقّق الشيخ علي نقلا عن بعض كتب العلّامة كما في الحدائق الناضرة ١ : ٤١١.

٢٦٨

بتبدّل الموضوع.

ويدفعها : مسامحة العرف في بعض الصور ، وقد تحقّق في محلّه أنّ المدار في إحراز الموضوع في الاستصحاب على المسامحة العرفية ، ولذا لا يتأمّلون في استصحاب القلّة والكرّية إذا زيد أو نقص الماء بمقدار غير معتدّ به عرفا.

وكيف كان فإن أمكن إحراز شي‌ء من الموضوعين بالأصل فهو ، وإلّا يجب الرجوع إلى الأصول الجارية في نفس الأحكام المترتّبة عليهما ، فلو غسل به ثوبا نجسا أو توضّأ منه ، لم يطهر ثوبه ، ولا يرتفع حدثه ، لأنّ الأصل بقاؤهما.

وهل يحكم بنجاسته بملاقاة النجس لو كان كثيرا؟ وجهان أقواهما :الطهارة ، لقاعدتها.

واختار شيخ مشايخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ الأوّل ، نظرا إلى أنّ ملاقاة النجس مقتضية لتنجيس ملاقيه ، وإطلاق الماء ـ ككثرته ـ من قبيل الموانع ، فلا يلتفت إلى احتمال وجوده بعد إحراز المقتضي (١).

وفيه ما عرفت غير مرّة من عدم كفاية إحراز المقتضي في الحكم بثبوت المقتضي ما لم يحرز عدم المانع ، كما اعترف به شيخنا ـ قدس سرّه ـ في غير موضع من أصوله (٢).

نعم قد يتخيّل في مثل المقام ممّا استفيد فيه عموم الاقتضاء من

__________________

(١) كتاب الطهارة : ٤٦.

(٢) انظر : فرائد الأصول : ٤٠٤ و ٤٠٩.

٢٦٩

الأدلّة اللفظية أنّ الشكّ في وجود المانع مرجعه إلى الشكّ في تخصيص تلك العمومات ، فينفيه أصالة عدم التخصيص التي هي حجّة معتمدة عند العرف والعقلاء ، كما أشار إليه شيخنا ـ قدس سرّه ـ في مبحث الماء الجاري (١) ، وسنوضّح تقريبه إن شاء الله.

وفيه : أنّه لو تمّ فإنّما هو في الشبهات الحكميّة ـ أعني الشكّ في مانعيّة مفهوم كلّي ـ لا في الشكّ في كون الموضوع الخارجي مصداقا لمانع معلوم ، لما تقرّر في محلّه من عدم جواز التشبّث بالعمومات في الشبهات المصداقيّة ، فلو قال : أكرم العلماء ، ثم قال : لا تكرم فسّاقهم.

وشكّ في أنّ زيدا فاسق أم عادل ، لا يجوز الحكم بوجوب إكرام زيد ، لأصالة العموم ، لأنّ اندراجه تحت عنوان الفاسق لا يستلزم تخصيصا زائدا على ما علم حتى ينفيه أصالة العموم ، أو أصالة عدم التخصيص.

ثمّ إنّه لا فرق بين الماء المضاف وغيره من الأجسام المائعة الطاهرة في جميع الأحكام ، فلو أريد بالعنوان ما يعمّ الجميع ولو بنحو من المسامحة ، لكان أشمل.

(وهو) أي : الماء المضاف (طاهر) لو كان المضاف إليه طاهرا ، كما هو ظاهر (لكن لا يزيل حدثا) مطلقا ولو اضطرارا بلا خلاف ، كما عن المبسوط والسرائر (٢). بل (إجماعا) كما عن غير واحد نقله (٣).

__________________

(١) انظر : كتاب الطهارة : ٣ و ٤.

(٢) حكاه عنهما الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة ـ : ٤٤ ، وانظر : المبسوط ١ : ٥ ، والسرائر ١ : ٥٩.

(٣) كما في الجواهر ١ : ٣١١ ، وانظر : الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٩٠ ، وتحرير الأحكام ١ : ٥ وتذكرة الفقهاء ١ : ٣١ ، المسألة ٧ ، ونهاية الإحكام ١ : ٢٣٦.

٢٧٠

ويدلّ عليه ـ مضافا إلى الأصل والإجماع ـ رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل معه اللبن أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : «لا ، إنّما هو الماء الصعيد» (١).

ورواية عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين ، قال : «إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضّأ ، إنّما هو الماء وهو التيمّم» (٢) وظهورهما في الانحصار لا ينكر.

ويدلّ عليه أيضا الأمر بالتيمّم مطلقا في الكتاب والسنّة عند فقدان الماء.

ويؤيّده إطلاقات الأخبار الواردة في باب الطهارات ، وما دلّ منها ومن الكتاب العزيز على أنّ الله تعالى خلق الماء طهورا (٣) ، الواردة في مقام الامتنان ، المشعرة بانحصار المطهّر فيه.

فلا يعارضها خبر محمّد بن عيسى عن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام :عن الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضّأ به للصلاة ، قال : «لا بأس به» (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٨٨ ـ ٥٤٠ ، الاستبصار ١ : ١٤ ـ ٢٦ و ١٥٥ ـ ٥٣٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢١٩ ـ ٦٢٨ ، الاستبصار ١ : ١٥ ـ ٢٨ و، الوسائل ، الباب ١ و ٢ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢ و ١.

(٣) سورة الفرقان ٢٥ : ٤٨ ، وانظر : الوسائل ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٩.

(٤) الكافي ٣ : ٧٣ ـ ١٢ ، التهذيب ١ : ٢١٨ ـ ٦٢٧ ، الإستبصار ١ : ١٤ ـ ٢٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ١.

٢٧١

بعد إعراض الأصحاب عنه ، وموافقته للعامّة وإن كان أخصّ مطلقا وقد أفتى الصدوق (١) بمضمونه ، ولكنّه لا يخرجه عن الشذوذ حتّى يصلح مستندا للحكم ، خصوصا مع ضعف سنده.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في التهذيب : إنّه خبر شاذّ شديد الشذوذ وإن تكرّر في الكتب والأصول فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام ، ولم يروه غيره ، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره (٢). انتهى.

وعن الذكرى : أنّ قول الصدوق يدفعه سبق الإجماع وتأخّره ، ومعارضة الأقوى (٣). انتهى.

وأمّا ما روي من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضّأ بالنبيذ (٤) ، فهي لو لم تكن تقيّة محمولة على ما بيّنه الصادق عليه‌السلام في رواية الكلبي النسّابة حين سأله عن النبيذ ، فقال عليه‌السلام : «حلال» فقال : إنّا ننبذ فنطرح فيه العكر (٥) وما سوى ذلك ، فقال عليه‌السلام : «شه شه (٦) تلك الخمرة المنتنة» قلت : جعلت فداك فأيّ نبيذ تعني؟ فقال : إنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّر

__________________

(١) الفقيه ١ : ٦ ، الهداية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٨ ، أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢١٩.

(٣) حكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١ : ٣١٢ ، وانظر : الذكرى ٧.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ١٣٥ ـ ٣٨٤ ، سنن الترمذي ١ : ١٤٧ ـ ٨٨ ، سنن الدار قطني ١ :٧٨ ـ ١٦ ، سنن البيهقي ١ : ٩ ـ ١٠ ، التهذيب ١ : ٢١٩ ذيل الحديث ٦٢٨ ، الاستبصار ١ : ١٥ ذيل الحديث ٢٨.

(٥) العكر : ما يرسب في أسفل الزيت ونحوه. انظر : الصحاح ٢ : ٧٥٦ ومجمع البحرين ٣ : ٤١١ «عكر».

(٦) شه شه : كلمة استقذار واستقباح. مجمع البحرين ٦ : ٣٥١ «شوه».

٢٧٢

الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا ، وكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له ، فيعمد إلى كفّ من تمر فيقذف به في الشن (١) ، فمنه شربه ومنه طهوره» فقلت : وكم كان عدد التمر الذي في الكفّ؟ قال : «ما حمل الكفّ» قلت : واحدة أو اثنتين ، فقال : «ربما كانت واحدة ، ربما كانت اثنتين» فقلت : وكم كان يسع الشن ماء؟ فقال : «ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك» فقلت : بأيّ الأرطال؟ فقال : «أرطال مكيال العراق» (٢).

وفي رواية أخرى : «لا بأس بالنبيذ ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد توضّأ به.

وكان ذلك ماء قد نبذت فيه تميرات وكان صافيا فوقها فتوضّأ به (٣).

ومعلوم أنّ هذا المقدار من التمر لا يخرجه عن كونه ماء مطلقا ، فلا إشكال فيه.

وعن ظاهر ابن أبي عقيل : جواز الطهارة بالمضاف مطلقا عند فقدان الماء (٤). ولعلّ مستنده قاعدة الميسور.

وفيه : ما عرفت من النصّ والإجماع على انحصار الطهور بالماء والصعيد ، فعند فقدان الماء يجب التيمّم ، والله العالم. (ولا) يزيل (خبثا على الأظهر) عند أكثر أصحابنا كما عن

__________________

(١) الشن : الخلق من كلّ آنية صنعت من جلد. لسان العرب ١٣ : ٢٤١ «شنن».

(٢) الكافي ٦ : ٤١٦ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ٢٢٠ ـ ٦٢٩ ، الإستبصار ١ : ١٦ ـ ٢٩ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢.

(٣) الفقيه ١ : ١١ ـ ٢٠ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٣.

(٤) كما في جواهر الكلام ١ : ٣١١ ـ ٣١٢ ، وانظر : مختلف الشيعة ١ : ٥٧ ، المسألة ٣٠

٢٧٣

الخلاف ، بل هو المشهور شهرة كادت تبلغ الإجماع كما في الجواهر (١) ، بل الظاهر انقراض الخلاف في هذا العصر ، بل وكذا في أغلب الأعصار السابقة ، إذ لم ينقل الخلاف في هذه المسألة إلّا عن السيّد والمفيد (٢).

نعم ربما يعدّ المحدّث الكاشاني في هذه المسألة من المخالفين.

ولكنّه في غير محلّه حيث إنّ خلافه يؤول إلى منع كون النجس منجّسا بحيث يجب غسل ملاقيه بعد زوال عينه إلّا فيما ثبت فيه وجوب الغسل بالخصوص كالثوب والبدن ، فلا يجزئ فيه حينئذ إلّا الماء.

قال في محكي المفاتيح : يشترط في الإزالة إطلاق الماء على المشهور ، خلافا للسيّد والمفيد ، فجوزا بالمضاف ، بل جوّز السيّد تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث تزول العين لزوال العلّة ، ولا يخلو من قوّة ، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات ، أمّا وجوب غسلها بالماء من كلّ جسم فلا ، فكلّ ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلّا ما اخرج بدليل حيث اقتضى فيه اشتراط الماء كالثوب والبدن.

ومن هنا يظهر طهارة البواطن كلّها بزوال العين ، مضافا إلى نفي الحرج ، ويدلّ عليه الموثّق ، وكذا أعضاء الحيوان المتنجّسة غير الآدميّ ، كما يستفاد من الصحاح (٣). انتهى.

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٣١٥.

(٢) حكاه عنهما المحقّق في المعتبر ١ : ٨٢ ، والعاملي في مدارك الأحكام ١ : ١١٢.

(٣) حكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، وانظر : مفاتيح الشرائع ١ :٧٧.

٢٧٤

وهذه العبارة ـ كما تراها ـ مقتضاها عدم انفعال شي‌ء بملاقاة النجس ما عدا الأجسام التي ورد الأمر بغسلها بالخصوص.

وكفى في فسادها مخالفتها للقاعدة المسلّمة المغروسة في أذهان المتشرّعة خلفا عن سلف من أنّ ملاقاة النجس برطوبة مسرية سبب لتنجيس ملاقيه كما يرشدك إليها التتبّع في الأخبار ، فإنّك لا تكاد ترتاب بعد التتبّع في أنّ نجاسة ملاقي البول والخمر والمني وغيرها من النجاسات كانت من الأمور المفروغ عنها عند السائلين ، والأئمّة عليهم‌السلام ، وأنّ الرواة لا زالوا كانوا يسألون الأئمّة عليهم‌السلام عن حكم الملاقي وكيفية تطهيره ، والأئمّة عليهم‌السلام كانوا يأمرونهم بالتجنّب عنه ، وغسله بالماء مرّة أو مرّتين أو ثلاثا مع التعفير وبدونه.

كيف ولو بني على الاقتصار في حكم كلّ واحدة واحدة من النجاسات على متابعة النصّ الوارد فيها بالخصوص وعدم التخطّي عن مورده بالنسبة إلى سائر النجاسات وسائر الأجسام الملاقية لها ، لاستلزم تأسيس فقه جديد ، وللزم التفكيك بين آثارها حتى في الثوب والبدن والأواني وغيرها من المأكول والمشروب ، ضرورة أنّه لم يرد في كلّ واحدة منها بالنسبة إلى كلّ واحد من هذه الأشياء نصّ بالخصوص.

وكيف كان فلا شبهة في فساد ذلك ، ومخالفته للإجماع والأخبار الصريحة أو الظاهرة في أنّ للبول وغيره من النجاسات تأثيرا في ملاقيه لا يزول بزوال عينه كيف اتّفق بل لا بدّ فيه من الغسل.

وأمّا نسبة هذا القول إلى السيّد فمنشؤها بحسب الظاهر الأخذ

٢٧٥

بمقتضى بعض ما ذكره السيّد وجها لما اختاره من جواز الإزالة بالمائعات حيث قال عند تعداد الأدلّة :

ومنها : أنّ الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة وهو حاصل بالمائعات (١).

فتخيّل أنّ السيّد يلتزم بما يقتضيه هذا الدليل ، لأنّ مآله حقيقة إلى الالتزام بعدم انفعال شي‌ء بشي‌ء من النجاسات ، وإنّما الأحكام الشرعيّة محمولة على أعيان النجاسات مطلقا حتى في الثوب والبدن ، فالثوب المتلطّخ بالدم لا تصحّ الصلاة فيه ، لوجود الدم فيه ، لا لانفعاله بالدم ، فيكون حكم النجاسات حينئذ بالنسبة إلى الصلاة حكم فضلات غير المأكول في دوران الحكم مدار وجود عينها ، وهذا المعنى لو لم يكن بإطلاقه مخالفا لضرورة المذهب فلا أقلّ من مخالفته للإجماع والسنّة.

ولذا أجاب المصنّف ـ رحمه‌الله ـ في محكيّ المعتبر عن هذا الدليل : بأنّ نجاسة البول لا تزول عن الجسد بالتراب بالاتّفاق منّا ومن الخصم (٢).

فظهر لك أنّ الخلاف في هذا المقام مع السيّد إنّما هو في أنّ الثوب المتنجّس مثلا الذي ثبت بالنصّ والإجماع أنّه لا يطهر بزوال العين منه كيف اتّفق هل يكفي في تطهيره الغسل بالمضاف أم يشترط أن يكون

__________________

(١) انظر : المعتبر ١ : ٨٣ ، والحدائق الناضرة ١ : ٤٠٥ ، وجواهر الكلام ١ : ٣١٧ ، والمسائل الناصرية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٢١٩ ، المسألة ٢٢.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٤٠٦ ، وانظر : المعتبر ١ : ٨٤.

٢٧٦

بالماء المطلق؟

ويدلّ على المشهور ـ مضافا إلى إطلاقات الأخبار التي لا تتناهى كثرة ، الآمرة بغسل الثوب والبدن والإناء وغيرها من المتنجّسات بالماء ، ففي بعضها : «لا يجزئ من البول إلّا الماء» (١) وفي فضل الكلب : «اغسله بالتراب أوّل مرّة ثم بالماء» (٢) إلى غير ذلك من الأخبار الخاصّة المتمّمة فيما عدا مواردها بعدم القول بالفصل ـ استصحاب الأثر الحاصل في الملاقي بملاقاة النجس المتّفق عليه بين الكلّ حتى الأخباريّين ، بل عن المحدّث الأسترابادي عدّ مثله من ضروريّات الدين (٣).

ويدلّ عليه أيضا قوله عليه‌السلام في حديث : «كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض ، وجعل لكم الماء طهورا» (٤).

وهذه الرواية صريحة في أنّ البول يؤثّر في ملاقيه تأثيرا معنويّا لا يرتفع إلّا برافع شرعي ، إذ لو كان أثره تابعا لوجود عينه لما احتاج بنو إسرائيل إلى المقاريض ، ولما كان لجعل الماء طهورا بالنسبة إلى البول معنى ، فضلا عن أن يكون فيه الامتنان على العباد ، فتدلّ الرواية بأتمّ أفاده على أنّ البول

__________________

(١) التهذيب ١ : ٥٠ ـ ١٤٧ ، الإستبصار ١ : ٥٧ ـ ١٦٦ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٥ ـ ٦٤٦ ، الإستبصار ١ : ١٩ ـ ٤٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، الحديث ٤ والباب ١٢ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

(٣) حكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٤٥ ، وانظر : الفوائد المدنية : ١٤٣.

(٤) الفقيه ١ : ٩ ـ ٢٣ ، التهذيب ١ : ٣٥٦ ـ ١٠٦٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤.

٢٧٧

يؤثّر في ملاقيه تأثيرا تتوقّف إزالته على ما جعله الشارع مطهّرا ، وهو الماء.

ثمّ إنّ قلنا بأنّ قصر الحكم على الماء في مقام الامتنان يدلّ على انحصار المطهّر فيه ، فهو المطلوب ، وإلّا فنقول : عدم ثبوت وصف المطهّرية لغير الماء كاف في الحكم بالعدم ولو لم نقل باستصحاب النجاسة بل لقاعدة الاشتغال بالنسبة إلى الأمور المشروطة بالطهارة.

احتجّ السيّد على ما نقل (١) عنه بوجوه :

منها : ما عرفته ، مع ما فيه.

ومنها : إجماع الفرقة المحقّة.

وفيه : ما لا يخفي ، ولذا اعتذر المصنّف ـ رحمه‌الله ـ عنه حيث قال ـ فيما حكي عنه ـ : وأمّا قول السائل : كيف أضاف السيّد والمفيد ذلك إلى مذهبنا ولا نصّ فيه!؟ فالجواب : أمّا علم الهدى فإنّه ذكر في الخلاف أنّه إنّما أضاف ذلك إلى مذهبنا ، لأنّ من أصلنا العمل بالأصل ما لم يثبت الناقل ، وليس في الشرع ما يمنع الإزالة بغير الماء من المائعات.

ثم قال : وأمّا المفيد ـ رحمه‌الله ـ فإنّه ادّعى في مسائل الخلاف أنّ ذلك مرويّ عن الأئمّة عليهم‌السلام (٢). انتهى.

ولا يخفى أنّه إذا كانت دعوى مدّعي الإجماع مسبّبة عن الأصل والرواية ، فلا بدّ من أن ينظر إليهما لا إلى دعواه.

__________________

(١) انظر : المعتبر ١ : ٨٣ ـ ٨٤ وكما في جواهر الكلام ١ : ٣١٧.

(٢) حكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٤٠٢ ، وانظر : المسائل المصرية (ضمن الرسائل التسع) : ٢١٥ ـ ٢١٦.

٢٧٨

فنقول : أمّا الأصل فلا يعارض شيئا من الأدلّة المتقدّمة ، مضافا إلى ما عرفت من أنّ استصحاب النجاسة حاكم عليه.

وأمّا الرواية فلم يصل إلينا إلّا خبر غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام عن علي عليه‌السلام ، قال : «لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق» (١).

وقد أعرض الأصحاب عنه ، فيجب طرحه أو تأويله بما لا ينافي الأدلّة المتقدّمة.

ومنها : إطلاق الأمر بالغسل من النجاسة في كثير من الأخبار من غير تقييده بالماء.

وفيه : أنّها منصرفة إلى ما هو المتعارف ، وهو الغسل بالماء.

وقد تفطّن السيّد ـ رحمه‌الله ـ إلى هذا الجواب ، ودفعه ـ فيما حكي عنه ـ : بأنّه لو كان كذلك ، لوجب المنع عن غسل الثوب بماء الكبريت والنفط ، ولمّا جاز ذلك إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة ، وأنّ المراد ما يتناوله اسمه (٢). انتهى.

وفيه أوّلا : أنّ ثبوت الحكم لبعض الأفراد النادرة لدليل آخر لا يدلّ على إرادته من المطلق حتى يعمّ تمام الأفراد.

وثانيا : سلّمنا دلالته على ذلك ، ولكنّه لا يستلزم إرادة صرف

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢٥ ـ ١٣٥٠ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢.

(٢) الحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ١ : ١١٣ ، وانظر : المسائل الناصرية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٢١٩ ، المسألة ٢٢.

٢٧٩

الطبيعة من المطلق حتى يتسرّى الحكم إلى سائر الأفراد النادرة ، خصوصا في مثل المقام المعلوم اشتراك الفرد النادر الداخل مع تمام الأفراد الشائعة في جنس قريب أخصّ من صرف الطبيعة ، وهو كونه ماء مطلقا ، فالعلم بإرادة الغسل بماء الكبريت لا يدلّ إلّا على إرادة الغسل بجنس الماء مطلقا لا مطلق الغسل مطلقا.

وثالثا : فبالفرق بين الانصرافين ، فإنّ الانصراف عن ماء النفط والكبريت ليس إلّا لندرة هذا القسم من الماء بحسب الوجود ، وإلّا فالغسل به متعارف ، فانصراف الذهن عنه منشؤه الغفلة وعدم التفاته إليه تفصيلا ، وذلك نظير انصراف ذهن السامع عن الغسل بماء غير المياه الموجودة في بلده ، ومن المعلوم أنّ مثل هذه الانصراف انصرافات بدويّة لا تضرّ في التمسّك بالإطلاقات ، وأمّا الغسل بغير الماء كاللبن والخلّ وماء الورد وغيرها ، فليس لندرة وجودها ، بل لعدم تعارف الغسل بها بحيث لو فرض وجودها عند السامع لا يلتفت إلى الغسل بها أصلا حتّى لو لم يكن عنده الماء ، وهذا النحو من الانصراف هو المضرّ في مقام الاستدلال.

هذا ، مع أنّ الأخبار المقيّدة كافية في إبطال الاستدلال بالمطلقات.

ودعوى أنّ القيد فيها وارد مورد الغالب المتعارف ، مع أنّها بعيدة عن مساق بعضها ليست بأولى من دعوى تنزيل المطلقات على ذلك ، بل الثانية أولى جزما ، وكيف لا وقد ادّعى غير واحد أنّ الغسل لا يطلق حقيقة على الغسل بغير الماء.

٢٨٠