مصباح الفقيه - المقدمة

السيّد نور الدين جعفريان

مصباح الفقيه - المقدمة

المؤلف:

السيّد نور الدين جعفريان


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

١
٢

٣
٤

مقدّمة التحقيق :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته المصطفى محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد : لا يخفى على كلّ أحد ما لعلم الفقه من الأهمية في كيان المجتمع وتطوّره ورقيّة ، إذ أنّ له علاقة وثيقة بين المرء وخالقه ، وكذا علاقة الناس فيما بينهم ، إذ أنّه الحاوي لكلّ الأوامر والنواهي التي جاء بها النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيّنها من بعده أوصياؤه الحجج صلوات الله عليهم أجمعين ، وأخذها عنهم من بعدهم العلماء والفقهاء جيلا بعد جيل ، منذ الصدر الأوّل لبزوغ الإسلام وحتى يومنا هذا ، إذ انتفض في كلّ عصر من هذه العصور

٥

من يقوم بحفظ هذا التراث العظيم بكلّ أمانة ودقّة وتسليمه إلى من هو أهله من بعده ، مقتفين في ذلك قول الباري جلّ وعلا (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١).

وأخذ في التطوّر يوما بعد آخر حتى وصل إلى مستوي «جواهر الكلام» و «الحدائق الناضرة» و ـ كتابنا هذا ـ «مصباح الفقيه» مزيّنين المكتبة الإسلامية بهذا التراث الضخم المتمثّل بفقه أهل البيت عليهم‌السلام ، الذي صار منهلا رويّا لآلاف العلماء والفقهاء يغترفون من معينة العذب الصافي.

وكما أنّنا نرى تعظيما واهتماما لهذا العلم اليوم كذاك بالأمس نراهم أولوا هذا الاهتمام والتعظيم ، فهذا :

علي بن أبي رافع ، تابعيّ من خيار الشيعة ، كانت له صحبة من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان كاتبا له ، وحفظ كثيرا ، وجمع كتابا في فنون من الفقه : الوضوء والصلاة وسائر الأبواب ..

قال عمر بن محمّد : وأخبرني موسى بن عبد الله بن الحسن عن أبيه أنّه كتب هذا الكتاب عن عبيد الله بن علي بن أبي رافع ، وكان يعظّمونه ويعلّمونه ..

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٦

وقال مخوّل بن إبراهيم النهدي : سمعت موسى بن عبد الله بن الحسن يقول : سأل أبي رجل عن التشهّد ، فقال : هات كتاب ابن أبي رافع ، فأخرجه فأملأه علينا (١).

وهذا عبد الله بن المغيرة ، الثقة الثقة ، لا يعدل به أحد من جلالته ودينه وورعه ، روى عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام. قيل : إنّه صنّف ثلاثين كتابا ، ثمّ عدّ منها كتاب الوضوء وكتاب الصلاة وكتاب الزكاة وكتاب الفرائض (٢).

ومنهم صفوان بن يحيى الذي صنّف ثلاثين كتابا ، وهي على ترتيب كتب الفقه ، كما قاله النجاشي (٣).

وغيرهم كثير ذكرهم الشيخ النجاشي والشيخ الطوسي في فهرست كتابيهما في مصنّفي الشيعة الإماميّة.

وكذا الطبقات الثلاثة الّذين ذكرهم الكشي في كتابه الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم ، وانقادوا لهم بالفقه وتصديقهم لما يقولون.

وإنّنا هنا لا نريد أن نستقصي كلّ الفقهاء وما كان لهم من مصنّفات ، وإنّما ذكرنا هؤلاء على سبيل المثال ليس إلّا ، فإنّ في استقصائهم يخرج البحث عن حدّه ، وما هي إلّا إشارة إلى هؤلاء

__________________

(١) رجال النجاشي : ٦ ـ ٢.

(٢) رجال النجاشي : ٢١٥ ـ ٥٦١.

(٣) رجال النجاشي : ١٩٧ ـ ٥٢٤.

٧

الأعاظم الذين حملوا على عاتقهم هذا التراث الضخم حتّى وصل إلى ما نحن عليه اليوم.

ومن بين هؤلاء العلماء وورثة الأنبياء وحماة الدين والشريعة :

المحقق الحلّي

هو أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلّي.

قال عنه تلميذه تقي الدين ابن داود : شيخنا .. المحقّق المدقّق الإمام العلّامة ، واحد عصره ، وكان ألسن أهل زمانه وأقومهم بالحجّة وأسرعهم استحضارا.

قرأت عليه وربّاني صغيرا ، وكان له عليّ إحسان عظيم والتفات ، وأجازني جميع ما صنّفه وقرأه ورواه وكلّ ما تصحّ روايته عنه.

توفّي في شهر ربيع الآخر سنة ستّ وسبعين وستمائة.

له تصانيف حسنة محقّقة محرّرة عذبة.

فمنها : كتاب «شرائع الإسلام» مجلّدان ، كتاب «النافع» في مختصره مجلّد ، كتاب «المسائل العزّيّة» مجلّد ، كتاب «المسائل المصريّة» مجلّد ، كتاب «المسلك في أصول الدين» مجلّد ، كتاب «المعراج في أصول الفقه مجلّد ، كتاب «الكهنة» في المنطق مجلّد ،

٨

وله كتب غير ذلك ليس هذا موضع استيفائها ، فأمرها ظاهر.

وله تلاميذ فقهاء فضلاء ، رحمه‌الله تعالى (١).

وقال عنه العلّامة الحرّ في تذكرة المتبحّرين في العلماء المتأخّرين : حاله في الفضل والعلم والثقة والجلالة والتحقيق والتدقيق والفصاحة والشعر والأدب والإنشاء وجمع العلوم والمحاسن أشهر من أن يذكر ، وكان عظيم الشأن جليل القدر رفيع المنزلة ، لا نظير له في زمانه ، ثم عدّ كتبه وقال :

ونقل أنّ المحقّق الطوسي نصير الدين حضر مجلس درسه ، وأمرهم بإكمال الدرس ، فجرى البحث في مسألة استحباب التياسر ، فقال المحقّق الطوسي : لا وجه للاستحباب ، لأنّ التياسر إن كان من القبلة إلى غيرها ، فهو حرام ، وإن كان من غيرها إليها ، فواجب. فقال المحقّق في الحال : بل منها إليها ، فسكت المحقّق الطوسي.

ثمّ ألّف المحقّق في ذلك رسالة لطيفة ـ أوردها الشيخ أحمد ابن فهد في المهذّب بتمامها ـ وأرسلها إلى المحقّق الطوسي فاستحسنها.

وكان مرجع أهل عصره في الفقه وغيره ، يروي عن أبيه عن

__________________

(١) رجال ابن داود : ٦٢ ـ ٣٠٤.

٩

جدّه يحيى الأكبر.

وقال العلّامة في بعض إجازاته عند ذكر المحقّق : كان أفضل أهل زمانه في الفقه.

قال الشيخ حسن في إجازته : لو ترك التقييد بأهل زمانه ، كان أصوب ، إذ لا أرى في فقهائنا مثله .. إلى آخر كلامه (١).

وقال عنه خاتمة المحدّثين الميرزا النوري ـ بعد أن عدّه في ضمن مشايخ العلّامة ـ : خاله الأكرم ، وأستاذه الأعظم ، الرفيع الشأن ، اللامع البرهان ، كشّاف حقائق الشريعة بطرائف من البيان لم يطمثهنّ إنس قبله ولا جانّ ، رئيس العلماء ، فقيه الحكماء ، شمس الفضلاء ، بدر العرفاء ، المنوّه باسمه وعلمه في قصّة جزيرة الخضراء ، الوارث لعلوم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وحججهم على العالمين ، الشيخ أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي الحلّي ، الملقّب بالمحقّق على الإطلاق ، الرافع أعلام تحقيقاته في الآفاق ، أفاض الله على روضته شآبيب لطفه الخفيّ والجليّ ، وأحلّه في الجنان المقام السني والمكان العليّ ، وهو أعلى وأجلّ من أن يصفه ويعدّد مناقبه وفضائله مثلي ، فالأولى في المقام الإعراض عنه والتعرّض لبعض مستطرفات حاله .. ثم ذكر له ترجمة مفصّلة (٢).

وله تراجم مفصّلة في معظم كتب التراجم ، كرياض العلماء

__________________

(١) أمل الآمل : ٢ ـ ٤٨.

(٢) مستدرك الوسائل : ٣ ـ ٤٧٣ الطبعة الحجرية.

١٠

وروضات الجنّات وأعيان الشيعة ولؤلؤة البحرين وغيرها.

شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام

وهو من أفضل وأحسن المتون الفقهيّة ترتيبا وأسلوبا ، وأدقّها وأوجزها عبارة ، وأجمعها للفروع.

قال عنه الشيخ الطهراني : وكتابه هذا من أحسن المتون الفقهية ترتيبا وأجمعها للفروع ، وقد ولع به الأصحاب من لدن عصر مؤلّفه إلى الآن ، ولا يزال من الكتب الدراسيّة في عواصم العلم الشيعيّة ، وقد اعتمد عليه الفقهاء خلال هذه القرون العديدة ، فجعلوا أبحاثهم وتدريساتهم فيه ، وشروحهم وحواشيهم عليه ..

ثمّ قال : بل أنّ معظم الموسوعات الفقهيّة الضخمة التي ألّفت من بعد عصر المحقّق شروح له ، كما توضّحه أسماؤها ، فمنها :

«أساس الأحكام» و «تقرير المرام» و «جامع الجوامع» و «جواهر الكلام» و «حاوي مدارك الأحكام» و «دلائل الأحكام» و «شوارع الأعلام» و «غاية المرام» و «كشف الإبهام» و «كشف الأسرار» و «كنز الأحكام» و «مباني الجعفرية» و «مدارك الأحكام» و «مسالك الأفهام» و «مصباح الفقيه» و «مطالع الأنوار» و «معارج الأحكام» و «موارد الأنام» و «مواهب الأفهام» و «منهاج الأحكام» و «نكت الشرائع» و «هداية الأنام» وغيرها .. وغيرها.

هذا ما يحضرني من الشروح التي لها عناوين خاصة تذكر في

١١

محلّها ، وسيأتي قرب مائة شرح بعنوان شرح الشرائع ليس لها عنوان خاص ..

أوّله : «اللهم إنّي أحمدك حمدا يقلّ في انتشاره حمد كلّ حامد ، ويضمحلّ باشتهاره جحد كلّ جاحد ، ويفلّ بغراره حسد كلّ حاسد ، ويحلّ باعتباره عقد كلّ كائد ، وأشهد أن لا إله إلّا الله شهادة أعتدّ بها لدفع الشدائد ، وأستردّ بها شارد النعم الأوابد ، وأصلّي على سيّدنا محمد الهادي إلى أمتن العقائد وأحسن القواعد .. إلى آخره (١).

منهجيّة الكتاب :

قال المحقّق الشيخ عبد الحسين محمّد علي البقال : إنّ هذا الكتاب يمتاز بالمنهجيّة الفذّة فيما يمتاز به ، ونظرا لأهمّية الميزة نخصّها بشي‌ء من الحديث.

وهذه الميزة تبرز أكثر ما تبرز في جانبين من الكتاب :

الجانب الأوّل : في تبويب الكتاب :

فهو في كتابه هذا من جهة يقسّم الفقه إلى أقسام أربعة :

عبادات ، وعقود ، وإيقاعات ، وأحكام.

وقد جاء في هامش الشرائع المتداولة : «ووجه الحصر : أنّ

__________________

(١) الذريعة : ١٣ ـ ٤٧.

١٢

المبحوث عنه في الفقه إمّا أن يتعلّق بالأمور الأخرويّة أو الدنيوية ، فإن كان الأوّل فهو عبادات ، وإن كان الثاني فلا يخلو إمّا أن يفتقر إلى عبارة أو لا ، فإن لم يفتقر فهو الأحكام كالديات والقصاص والميراث ، وإن افتقر فإمّا من الطرفين أو من طرف واحد ، فإن كان الثاني فهو الإيقاعات ، كالطلاق والعتق ، فإن كان الأوّل فهو العقود ، ويدخل فيه المعاملات والنكاح».

ومن جهة ثانية : فإنّه يقسّم كلّ واحد منها إلى مجموعة من الكتب بحيث تشترك المجموعة الواحدة بقاسم مشترك أعظم يقسم أجزاء ذلك القسم.

ومن جهة ثالثة : فإنّ الكتاب الواحد ـ هو الآخر أيضا ـ غالبا ما يوزّع على شكل أركان ، أو فصول ، أو مقدّمات ، أو أطراف ، أو نظرات.

ومن جهة رابعة : فإنّ كل واحد من هذه الأركان والفصول ونظائرهما بدورهما تنقسم إلى فقرات ، كثيرا مّا تتوزّع إلى بحوث ، كلّ بحث خاصّ بكلّ جزء جزء منها.

وعلى هذا ، فلا غرابة إذا وجدنا عناوين الكتب البعض منها أوّليّة ، وهي الخاصّة بأسماء الأقسام الرئيسيّة والكتب ، وقد طبعت في صفحات مستقلّة ، والبعض منها ثانويّة ، وهذه تارة تكون معنونة بعناوين جانبيّة ، واخرى وسطيّة ، وثالثة بعنوان مسائل أو تتمّة أو خاتمة أو فروع ، ورابعة تكون مرّة بارزة بحرف أسود خشن ،

١٣

وأخرى عاديّة البروز بحرف عادي متوسّط.

الجانب الثاني : في ترتيب الأحكام :

ثم إنّه بعد هذا كلّه التزم بقاعدة معيّنة في ترتيب الأحكام ، حيث ابتدأ بالواجب في كلّ قسم ، فأتبعه بالندب ، وبعده بالمكروه ، وأخيرا بالمحرّم إن وجد.

وقد صرّح بهذه القاعدة في كتابه «المعتبر في شرح المختصر» وهو في صدد بيان سبب تأخيره لحكم الجنب والحائض اللذين يحضرا الميت ـ وهو مكروه ـ حيث قال : «وإنّما أخّرنا هذا الحكم وهو متقدّم في الترتيب ، لما وضعنا عليه قاعدة الكتاب من البدأة في كلّ قسم بالواجب واتباعه بالندب وتأخّر المكروه ، فاقتضى ذلك تأخير هذا الحكم» (١).

وختاما : لهذا البحث الذي هو مقدّمة لشرح الكتاب الذي نحن بصدده وهو «مصباح الفقيه» وكذا شرح بعض أحوال مصنّفه العظيم ، فنبدأ أوّلا بذكر مصنّفه ، ثمّ نتبعه بشرح الكتاب والله الموفّق للسداد ، إنّه نعم المولى ونعم النصير.

المصنّف في سطور

هو العالم الجليل والشيخ الفقيه ، قدوة الأعلام آية الله في

__________________

(١) شرائع الإسلام ـ المقدّمة ـ : ن ، طبعة دار الإضواء بيروت.

١٤

العالمين ، الورع الزاهد التقي : الحاج آقا محمّد رضا ابن الشيخ المولى الفقيه محمّد هادي الهمداني النجفي.

كان من أجلّة الفقهاء الورعين ، وأعظم الفضلاء الزاهدين ، ومن الأصوليّين المحقّقين ، ومن مشاهير مراجع عصره الزاهدين.

كان مولده الشريف في مدينة همدان ، في حدود سنة ألف ومائتين وخمسين من الهجرة النبوية الشريفة ، أو بعدها بنيف من السنين.

درس العلوم الدينية والمبادئ والسطوح في مدينة همدان ، ثمّ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف ـ على مشرّفها آلاف التحيّة والسلام ـ كعبة العلماء ، وملجأ أرباب العلم والتحصيل ، ومحطّ ركاب المتعلّمين والسائرين على نهج ركاب الأئمة الميامين ، وكان من ذوي الفضل والتحصيل ، فحضر على شيخ العلماء المتأخّرين العلّامة الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه ، وعلى غيره ممّن عاصره من فطاحل العلماء ، ثمّ من بعده حضر على أستاذه العلّامة الجليل السيد محمد حسن المجدّد الشيرازي واختصّ به ، وبعد انتقال الميرزا الشيرازي إلى سامراء هاجر إليها لمواصلة درسه هناك ، وكان من أفضل وأبرز تلاميذه ، إلى أن اشتهر أمره بين العلماء والأفاضل ، وبرز بين زملائه الكاملين بروزا ظاهرا ، وعدّ من أعاظم تلاميذ السيّد المجدّد ، وأبرعهم في الفقه وأطلعهم في الأصول ، وبقي على ذلك مدّة من الزمان إلى أن عاد إلى النجف الأشرف أوائل

١٥

القرن الرابع عشر في حياة أستاذه ، واستقلّ بالتدريس والتصنيف والإمامة وغيرها من الوظائف والواجبات الملقاة على عاتقه ، والتفّ حوله جمع من فضلاء العصر ينتهلون من نمير علمه ، ومن فيوضاته الواسعة ، التي شهد له كلّ من عرفه وترجمه وكان بالإضافة إلى غزارة علمه معروفا بالزهد والتواضع والإعراض عن الدنيا ، وكان على جانب عظيم من طهارة القلب وصفاء النيّة وسلامة الذات والبعد عن زخارف الدنيا.

وكان مع ذلك كلّه حسن السمت كثير الصمت ، لا يتكلّم إلّا بما لا يعينه ، مبتعدا عن فضول الكلام ، وعن الحكايات والقصص والتواريخ.

أقول العلماء في حقّه

ذكره جمع من العلماء والفطاحل وأطروه غاية الإطراء ، وهذه عينات من كلماتهم.

١ ـ السيّد محسن الأمين العاملي : شيخنا وأستاذنا الذي جلّ استفادتنا في الفقه كانت منه ، بل وفي الأصول فضلا عمّا استفدناه من أخلاقه وأطواره وسيرته العملية ، فإنّ أنفع المواعظ الموعظة بالأفعال لا بالأقوال (١).

__________________

(١) أعيان الشيعة : ٧ ـ ١٩.

١٦

٢ ـ الشيخ محمّد حرز الدين : هاجر إلى بلد العلم والهجرة النجف الأشرف شابّا فاضلا ، وأقام فيه مجدّا في تحصيله ، حتى نال مرتبة عالية من العلم ، وأصبح من المدرّسين في عصر أستاذه الميرزا السيد الشيرازي ، وكان من خيرة تلاميذه في النجف وسامرّاء ، وكان جماعة من أفاضل المحصّلين من طلبة العرب والعجم يبالغون في فضله وسموّ منزلته العلمية ، وحضرت بحثه أيّاما لاختبار فضيلته ، فوجدته فوق ما قيل في حقّه وأكثر ما يقال في فضله ، ألا وهو المحقّق ذو النظر الدقيق والفكر الصائب ، الفقيه الأصولي الكلامي الثبت.

أقول : وفنّه في الكتابة والتصنيف أحسن من تدريسه وأمتن ، يعرف ذلك من حضر بحثه وحكم بالعدل (١).

٣ ـ الشيخ آغا بزرگ الطهراني : كان هو من أجلّة الفقهاء وأفضل الأعلام ، هاجر إلى سامراء فلازم درس السيد المجدّد الشيرازي سنين طوالا ، وكان يكتب تقريراته ، دوام على ذلك مدّة مديدة إلى أن اشتهر أمره بين العلماء والأفاضل ، وبرز بين زملائه الكاملين بروزا ظاهرا ، وعدّ من أعاظم تلاميذ السيّد المجدّد وأبرعهم في الفقه وأطلعهم في الأصول.

عاد إلى النجف في حياة أستاذه ، فالتفّ حوله جمع من أهل الفضل ، واشتغل بالتدريس والتأليف والإمامة وغيرها من الوظائف ،

__________________

(١) معارف الرجال : ١ ـ ٣٢٣.

١٧

وكان ذا اطّلاع واسع في الفقه وأصوله وخبرة وتضلّع فيهما ، شهد له بذلك جمع من معاصريه وكثير من المتأخّرين عنه ، وهو من أزهد أهل عصره وأورعهم وأتقاهم ، كان يقضي أكثر أوقاته بين مطالعة وتدريس وكتابة وبحث ، وكان في غاية الإعراض عن الدنيا والزهد فيها ، كما كان على جانب عظيم من طهارة القلب وسلامة الذات والبعد عن زخارف الدنيا.

رجع إليه الناس في التقليد بعد وفاة أستاذه الشيرازي في سنة ١٣١٢ ه‍ ، وعلّق على «نجاة العباد» لعمل المقلّدين ، لكن ثقل عليه ذلك كراهة للرئاسة والزعامة ، وفرارا من المسؤوليّات التي تلقى على عاتق المرجع ، وكان صادقا في ذلك ، حيث رأيناه بعد أن رأس وقلّد كما كان سابقا لم يغيّر سيرته ولا مأكله ولا ملبسه ، واتّفق أن لم يطل ذلك فقد ابتلي بالنسيان بعد فاصلة غير طويلة ، وامتنع عن الفتيا ، وبقي مواظبا على التدريس (١).

٤ ـ السيد شهاب الدين المرعشي النجفي : ولد في همدان حدود ١٢٥٠ ه‍ ، فتعلّم المبادئ والسطوح بها ، ثمّ هاجر إلى النجف الأشرف وحضر عند أعلامها ، واختصّ بالمجدّد الشيرازي ، وهاجر إلى سامراء وحضر مدّة بحثه ، ورجع إلى النجف الأشرف أوائل القرن الرابع عشر ، وانشغل بالتدريس ، فالتفّ حوله جمع من الفضلاء والمحقّقين ، وكان يقيم الجماعة في

__________________

(١) نقباء البشر : ٢ ـ ٧٧٦.

١٨

المسجد الذي كان قريبا من داره ، ويحضر صلاته جماعة من المؤمنين والأخيار.

كان ـ رحمه‌الله ـ على جانب من الزهد والتقوى بعيدا عن الدنيا وزخارفها (١).

٥ ـ عمر رضا كحالة : رضا بن محمد هادي الهمذاني النجفي ، فقيه أصولي ، توفي بسامرّاء في ٢٨ صفر ، من تصانيفه : «مصباح الفقيه» «حاشية الرسائل» «حاشية المكاسب» «حاشية الرياض» و «كتاب البيع» (٢).

٦ ـ خير الدين الزركلي : رضا بن محمد هادي الهمداني فقيه إمامي ، من مواليد همذان توفي بسامرّاء ، من كتبه «مصباح الفقيه» و «العوائد الرضوية على الفوائد المرتضويّة» (٣).

وصف حياته اليوميّة والعلميّة :

كانت حياته العلمية حياة خاصّة تختلف عمّا كان عليها البعض من علماء عصره وأقرانه.

__________________

(١) الإجازة الكبيرة : ٤١٤.

(٢) معجم المؤلفين : ٤ ـ ١٦٤.

(٣) الاعلام : ٣ ـ ٢٦ ، نقلا عن أحسن الوديعة : ١٧٩ ، ومعجم المؤلفين ١ : ٤٨٣ ، ورجال الفكر : ٤٦٥.

١٩

فقال عنه تلميذه السيد محسن الأمين :

كان عالما فقيها أصوليا محقّقا مدقّقا ، من أفضل تلاميذ السيّد محمد حسن الشيرازي ، مشغولا ليله ونهاره بالمطالعة والتأليف والتدريس في الفقه والأصول ، يأتي صباحا من داره التي بقرب مسجده الذي كان يؤمّ فيه فنسمع درسه في الفقه الذي كان يلقيه من كتاب «مصباح الفقيه» وقد كتبه في اليوم الماضي والليلة الماضية ، فيستمر ذلك نحوا من ساعة ، بعد ما يستمرّ الانتظار لاجتماع الطلاب نحوا من نصف ساعة ، ثمّ يذهب إلى داره ويشتغل بكتابة درس اليوم الآتي إلى الظهر ، فيذهب إلى المسجد فيصلّي بمن اجتمع فيه ، ثمّ يعود إلى البيت فيتغدى هو وابن أخته وصهره الشيخ علي الذي كان يشبهه في علمه وأطواره وأخلاقه ، وابن أخيه الذي كان ساكنا معه وحضر من همدان للنجف لطلب العلم ، وولده الشيخ محمد وكان غداؤهم غالبا ما يحضره هو أو أحد من ذكر من خبز العجم الذي يباع في السوق ولا يكون ناضجا مع شي‌ء من الجبن وبعض البقول ، ثمّ ينام قليلا ، فإذا انتبه اشتغل بالمطالعة وكتابة الدرس.

وكان لهذا الدار حجرة صغيرة يصعد إليها بدرج من باب الدار رأسا ـ تشبه حجرتي التي بدار الوقف في دمشق ـ هي مقرّه ومحلّ مطالعته وتصنيفه ، وكنت احتاج في بعض الأوقات أن أسأله عن مسألة ، أو معنى عبارة في مؤلّفاته ، فأدخل عليه والقلم والقرطاس في

٢٠