مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

وكيف كان فقد ظهر لك ممّا ذكرنا إمكان المناقشة في التقريب الثاني أيضا ، لجواز أن يكون نفي البأس عن الماء لأجل استهلاك الجزء المتغيّر في ما عداه.

ولكنه يدفعها : أنّ مفاد الرواية ليس إلّا اعتبار اضمحلال لون البول المستلزم لاستهلاكه عرفا ، وهو أعمّ من استهلاك الماء المتلوّن به.

فاتّضح لك أنّ تطهير الماء المتنجّس لا يتوقّف على الاستهلاك واضمحلاله في الماء الطاهر ، بل يكفي فيه امتزاجه بشي‌ء قليل من الماء المعتصم مزيل لتغيّره لو فرض متغيّرا بأول مرتبة التغيّر ، التي تكاد تلتحق بالعدم ، لانعقاد الإجماع على كفايته في التطهير في الجملة ، بل صحيحة ابن بزيع بمنزلة النصّ في كفاية هذا المقدار ، لصراحتها في طهارة ماء البئر بعد زوال تغيّره بالنزح ، ونجاسته ما دام متغيّرا ، فالمؤثّر في طهارته ليس إلّا اتّصاله بالمادّة بعد زوال تغيّره أو امتزاجه بالماء العاصم الذي لا يتغيّر به ، ويزيل تغيّره عند إشرافه على الزوال.

وكذا يستفاد من الصحيحة أنّه لا يعتبر في التطهير علوّ المطهّر ، بل يكفي وصوله إليه ولو من أسفله أو بعض نواحيه ، كما هو الغالب في مادّة البئر والجاري ، مضافا إلى إطلاق مطهّرية بعض ماء النهر بعضا ، وإطلاق المرسلة المتقدّمة (١) ، بل قد عرفت أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه على تقدير حصول الامتزاج ، بل عن بعض (٢) دعوى الإجماع عليه.

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة ٩٦.

(٢) راجع : كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٥ ، وكشف اللثام ١ : ٣٣.

١٠١

ويعضدها القاعدة المعروفة من أنّ الماء الواحد في سطح واحد لا يختلف حكمه من حيث الطهارة والنجاسة ، وحيث إنّ المفروض اعتصام الماء المطهّر لكونه كرّا أو ذا مادّة فيجب إمّا طهارة النجس وهو المطلوب ، أو بقاء كلّ منهما على حكمه ، وهو خلاف القاعدة المسلّمة.

وقد استدلّ كاشف اللثام بهذه القاعدة على كفاية مجرّد الاتّصال (١).

وفيه : أنّها غير مسلّمة على تقدير امتياز الماءين ، وإنّما المسلّم وحدة الحكم في صورة الامتزاج ، كيف وقد صرّح بعضهم (٢) بعدم كفاية الاتّصال وبقاء كلّ من الماءين على حكمه في الغديرين الموصولين بساقية ، معلّلا بامتياز النجس عن الطاهر.

نعم لاعتبار علوّ المطهّر أو مساواته على تقدير القول بكفاية الاتّصال وجه ، وهو : أنّ السافل لا يدفع النجاسة عن العالي ، فلا يرفع النجاسة عنه.

ولكنك خبير بأنّ هذا الوجه أخصّ من المدّعى ، لاختصاصه بما إذا كان العالي النجس جاريا إلى السافل ولم نقل بتقوّي العالي بالسافل ، وإلّا كان الماء واقفا أو قلنا بتقوّي العالي بالسافل مطلقا ، فلا يتمّ هذا الوجه.

وقد يوجّه اعتبار العلوّ بموافقته للأصل ، لأنّ طهارة الماء على تقدير إلقاء الكرّ عليه دفعة إجماعية ، كما وقع التعبير به في الفتاوي ومعاقد إجماعاتهم ، وأمّا طهارته بغير هذا الوجه فغير معلومة ،

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣٣.

(٢) راجع : المعتبر ١ : ٥٠ ، والذكرى : ٩ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

١٠٢

فتستصحب نجاسته.

وفيه : أنّه إن أريد اشتراط العلوّ مع الامتزاج ، فقد عرفت أنّ طهارة الماء النجس على تقدير امتزاجه بالماء العاصم ممّا لا خلاف فيه ظاهرا ، بل لا يبعد دعوى كونها في بعض صور الامتزاج ـ كطهارة الكثير والجاري المتغيّر بعضه إذا امتزج بما عداه ، أو القليل المتنجّس الملقى في الكرّ والجاري ـ من الضروريّات.

وإن أريد اشتراطه على تقدير الاتّصال وعدم حصول الامتزاج ، فيكون الشرط في الطهارة أحد الأمرين : إمّا حصول الامتزاج أو علوّ المطهّر ، كما يظهر من بعضهم (١) ، فيتوجّه عليه : أنّه لا إجماع على الطهارة ما لم يمتزج ، عاليا كان المطهّر أم سافلا ، كيف وقد استظهر شيخنا المرتضى رحمه‌الله (٢) اعتبار الامتزاج من أكثر من تعرّض لهذه المسألة ، كالشيخ في الخلاف (٣) والمصنّف في المعتبر (٤) والعلّامة في التذكرة (٥) ، والشهيد في الذكرى (٦).

ودعوى : اختصاص اعتبار الامتزاج عند مشترطيه في غير صورة علوّ المطهّر نظرا إلى إطلاق قولهم : إنّ الماء المتنجّس يطهر بإلقاء كرّ عليه

__________________

(١) راجع : روض الجنان : ١٣٤.

(٢) كتاب الطهارة : ١٣.

(٣) الخلاف ١ : ١٩٤ ، المسألة ١٤٩.

(٤) المعتبر ١ : ٥١.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

(٦) ذكري الشيعة : ٩.

١٠٣

دفعة ، غير مسموعة ، لقوّة احتمال جرى الإطلاق مجرى الغالب من حصول الامتزاج إذا كان الماء المتنجّس قليلا ، وأمّا إذا كان كثيرا فاشتراط كون المطهّر مزيلا لتغيّره يغني عن التصريح باعتبار الامتزاج.

وفرض كونه كثيرا وقد أزيل تغيّره قبل إلقاء الكرّ عليه فرض نادر ليس إطلاق كلامهم مسوقا لبيان حكمه على الإطلاق.

فالإنصاف أنّه لا وجه لاعتبار علوّ المطهّر أصلا ، سواء اعتبرنا الامتزاج أم قلنا بكفاية الاتّصال ، والله العالم.

ثمّ إن المصنّف ـ كغيره ـ قيّد إلقاء الكرّ بكونه دفعة ، فإن عنوا بها التحرّز عمّا لو القي عليه مقدار الكرّ دفعات ، كما يؤيّده مقابلتها بقول من يقول بكفاية إتمامه كرّا ، فوجه اعتبارها ظاهر إلّا أنّ ذكر الدفعة بهذا المعنى بعد فرض كون ما القي عليه كرّا مستدرك.

وإن أرادوا بها ما يقابل التدريج ، ففي اعتبارها تأمّل.

قال كاشف اللثام في شرح القواعد بعد قول العلّامة رحمه‌الله : «أمّا القليل فإنّما يطهر بإلقاء كرّ دفعة عليه» : أو إلقائه في الكرّ وبالجملة باتّصاله واتّحاده به دفعة لا دفعتين أو دفعات بأن يلقى عليه مرّة نصف كرّ ثم نصف آخر ، أو يلقى في نصف كرّ ويلقى عليه نصف آخر ، أو يلقى عليه نصفا كرّ ولو دفعة ، فلا يطهر بشي‌ء من ذلك ، وأمّا الدفعة بالمعنى الذي اعتبره جمع من المتأخّرين فلا دليل عليها (١). انتهى.

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣٣.

١٠٤

وتحقيق المقام : أنّا إن قلنا بتقوّي السافل بالعالي مطلقا ، فلا وجه لاعتبار الدفعة في مقابل التدريج أصلا ، لأنّا إن التزمنا بكفاية الاتّصال بالماء العاصم فمقتضاه طهارة الماء النجس بمجرّد اتّصاله بأوّل جزء من الماء الذي يلقى عليه ، فلو انقطع بعد ذلك لا يضرّه فضلا عمّا لو القي عليه جميعه تدريجا ، وإن اعتبرنا الامتزاج فيجب أن لا ينقطع بعض أجزاء الكرّ عن بعض قبل تمام الامتزاج بحيلولة الماء النجس أو حائل خارجي ، وإلّا فينجس من دون فرق بين إلقاء الكرّ تدريجا أو دفعة.

وإن قلنا بعدم تقوّي السافل بالعالي ، فلا بدّ حينئذ من اعتبار الدفعة العرفية على تقدير اختلاف سطح الماءين كي يبقى الماء على وحدته واعتصامه دون ما إذا اتّحد سطحهما.

واختلاف سطوح الماء الناشئ من إلقائه على النجس دفعة عرفية غير ضائر ، لأنّ منع تقوّي السافل بالعالي على تقدير الالتزام به إنّما هو في مثل مادّة الحمام وما في الحياض الصغار ممّا يمكن فيه دعوى تعدّد الماءين عرفا ، لا في مثل الفرض ، فإنّه لا شبهة في كون المجموع ماء واحدا في العرف ، فيتقوّى بعضه ببعض ، بل وينبغي تخصيص اعتبار الدفعة العرفية بما إذا لم يكن الماء العالي متراكما بعضه على بعض ، مثل ماء النهر الجاري على أرض مسرحة ، خصوصا إذا كانت قريبة من الاستواء ، فإنّه لا ينبغي التأمّل في مثل هذه الموارد في تقوّي بعض الماء ببعض ، كما سيتّضح لك تفصيله في ما سيأتي.

وحيثما عرفت في مبحث ماء الحمّام عموم تقوّي السافل بالعالي

١٠٥

وعدم اختصاصه بالحمام علمت عدم اعتبار الدفعة العرفية ، وكفاية التدريج في غير الحمّام أيضا ، إلّا أنّك عرفت في ذلك المبحث أنّ القدر المتيقّن الذي يمكن استفادته من تلك الأدلّة إنّما هو تقوّي السافل بالعالي في ما إذا لم يكن العالي في حدّ ذاته أقلّ من الكرّ ، فعلى هذا يعتبر بقاؤه على صفة الكرّية إلى أن يحصل الاتّصال أو الامتزاج على القول باعتباره ، ولا يكفي بلوغه مع ما يجري من الساقية كرّا فضلا عن بلوغه مع ما يمتزج مع النجس ، لقصور الأدلّة المتقدّمة عن شمول مثل الفرض ، اللهم إلّا أن يدلّ على كفايته دليل آخر ، وسيتّضح لك تحقيقه في ما بعد إن شاء الله.

تنبيه : صرّح الشهيد في محكي الذكرى (١) بعدم اعتبار الدفعة ، وكفاية إلقاء كرّ عليه تدريجا.

واعترضه المحقّق الثاني بأنّ فيه تسامحا ، لأنّ وصول أوّل جزء منه إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكرّ فلا يطهر ، ولورود النصّ بالدفعة ، وتصريح الأصحاب بها (٢).

وفي المدارك بعد نقل اعتراضه قال : وهو غير جيّد ، فإنّه يكفي في الطهارة بلوغ المطهّر الكرّ (٣) حال الاتّصال إذا لم يتغيّر بعضه بالنجاسة وإن نقص بعد ذلك ، مع أنّ مجرّد الاتّصال لا يقتضي النقصان ، كما هو

__________________

(١) الحاكي هو المحقق الثاني في جامع المقاصد ١ : ١٣٣ ، وراجع ذكري الشيعة : ٨.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٣٣.

(٣) في «ض ١» : كرّا.

١٠٦

واضح.

وما ادّعاه من ورود النصّ بالدفعة منظور فيه ، فإنّا لم نقف عليه في كتب الحديث ، ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال (١).

أقول : مذهب المحقّق ـ على ما حكي (٢) عنه ويظهر من عبارته المتقدّمة ـ إنّما هو تقوّي السافل بالعالي إذا كان العالي بنفسه كرّا فما زاد ، كما اخترناه بالنظر إلى ما يستفاد من الأدلّة المتقدّمة ، فغرضه من مسامحة الشهيد اقتصاره على الكرّ وعدم اعتبار الزيادة في صورة إلقائه تدريجا ، مع أنّ كفاية إلقاء كرّ غير زائد مشروطة بأن يصدق عرفا على الماء الملقى عليه أنّ هذا الماء كرّ ، وهو إنّما يتحقّق في ما لو القي دفعة ، وأمّا لو القي تدريجا كما لو اجري الماء من الساقية التي لمادّة الحمّام فيشكل الصدق العرفي ، فيكون إلقاء الكرّ بهذه الكيفية بمنزلة إلقاء أجزاء الكرّ دفعات.

ومراد المحقّق من النصّ الوارد بحسب الظاهر : الأخبار الدالّة على اعتصام الكرّ ، الظاهرة في اعتبار كونه كرّا حال الإلقاء ، لا ما سيصير كرّا بعده ، ومجرّد اتّصال ما يجري من الساقية بالكرّ لا يجعله مصداقا للكرّ عرفا بحيث يشار إليه بأنّ هذا الماء كرّ ، وليس مراده من النصّ الوارد نصّا خاصّا مصرّحا باعتبار الدفعة ، لقضاء العادة بامتناع اطّلاعه على نصّ خاص معتبر لم يطّلع عليه غيره.

وأمّا فتوى الأصحاب بكفاية إلقاء الكرّ في التطهير فهي مقيّدة بكونه

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

(٢) الحاكي هو الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٢.

١٠٧

دفعة ، وأمّا الالتزام بمطهّرية الماء المتقوّى بالعالي الكرّ فإنّما هو لأجل ما استفدناه من الأدلّة السابقة من أنّه بمنزلة الجاري ، فهو خارج عن موضوع الكرّ الذي حكموا بكفاية إلقائه في التطهير.

فاتّضح لك أنّ الاعتراض على المحقّق بما في المدارك ممّا لا وقع له ، وسيتّضح أنّ ما حقّقه هو الذي يقتضيه التحقيق.

وقد ظهر لك ضعف ما قد يتوهّم من أنّ شهادة المحقّق بورود النصّ في قوّة إرساله ، فينجبر ضعفه بفتوى الأصحاب.

هذا ، مع أنّ في كون دعوى ورود النص في قوّة إيراد نصّ مرسلا وفي كون فتاوى الأصحاب مطابقة لمضمون الخبر من دون اتّكالهم عليه ، جابرة لضعف السند فضلا عن نقل الإجماع أو الشهرة منعا ظاهرا.

ثمّ إنّا قد أومأنا في مطاوي كلماتنا المتقدّمة إلى عمدة ما يمكن أن يستدلّ به للقول بكفاية مجرّد الاتّصال ، وأوضحنا ما فيها من الضعف.

وربما يستدلّ له : بصحيحة ابن بزيع ، المتقدّمة (١) بدعوى ظهورها في كون الاتّصال بالمادة من حيث هو سببا لطهارة ماء البئر بعد زوال تغيّره.

وفيه ما عرفت في مبحث الماء الجاري من منع دلالتها على المدّعى ، وعلى تقدير التسليم يختص حكمه بما إذا اتّصل الماء النجس بما له مادّة دون غيره ، ولذا فصّل بعض مشايخنا (٢) بين الاتّصال بالجاري

__________________

(١) تقدّمت في صفحة ٣٦.

(٢) جواهر الكلام ١ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

١٠٨

وما بحكمه وبين الاتّصال بالكرّ ، فاعتبر الامتزاج في الثاني دون الأول.

واستدلّ له أيضا : بالأصل.

وفيه : أنّه يقتضي النجاسة.

وبأنّ الاتّصال يوجب اختلاط بعض أجزاء الكرّ ببعض أجزاء المتنجّس ، فإمّا أن ترتفع النجاسة من النجس ، أو يتنجّس جزء الكرّ ، أو يبقى كلّ منهما على حكمه ، والثالث مخالف للقاعدة المسلّمة من عدم اختلاف ماء واحد في الطهارة والنجاسة ، والثاني مخالف لأدلّة عدم انفعال الكرّ ، فتعيّن الأوّل ، فإذا طهر الجزء ، طهر الجميع ، للقاعدة المتقدّمة.

وفيه ما عرفت ـ في ما سبق ـ من منع مسلّمية القاعدة المذكورة في غير صورة الامتزاج ، فنلتزم في الفرض بطهارة الجزء الممتزج دون غيره ، فيكون حكم غير الممتزج حكم الجزء المتغيّر من الماء الكثير.

وقيل (١) في تضعيف اعتبار الامتزاج : وجوه ، ملخّصها : أنّ المراد إمّا امتزاج الكلّ بالماء الطاهر العاصم ، أو امتزاج بعضه ، والأول إمّا غير ممكن الحصول أو غير ممكن الاطّلاع عليه ولو بمقتضى الغالب ، والثاني تحكّم صرف.

وبأنّ الماء العاصم ينفصل بعض أجزائه عن بعض بانتشاره في النجس ، فينقص عن الكرّ ، فينجس على تقدير بقاء النجس على نجاسته ، وهو خلاف الإجماع ، إلى غير ذلك من الموهنات.

__________________

(١) راجع : جواهر الكلام ١ : ١٤٦ ، وكتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٦.

١٠٩

ويتوجّه على الجميع بعد تسليم جميع المقدّمات : أنّ القدر المتيقّن الذي يمكن إثباته بالنصّ والإجماع إنّما هو طهارة الماء النجس المختلط بالماء العاصم اختلاطا يوجب زوال تغيّره لو فرض كونه متغيّرا بلون ضعيف في غاية الضعف بحيث لا يقوى على تغيير الماء العاصم حتى ينجّسه ، وهذا النحو من الامتزاج يحصل بتمويج الماء في الجملة ، ولا يتوقف على تداخل أحد الجسمين في الآخر حتى يدّعى استحالته أو امتناع الاطّلاع عليه.

والحاصل : أنّا لا نحتاج إلى إثبات اعتبار امتزاج الكلّ ، أعني جميع أجزائه الحكمية حتى يدّعى استحالته ، ولا يجب علينا الالتزام بكفاية البعض حتى يقال : إنّه تحكّم ، بل نقول : لا شبهة في أنّه لو أريق ماء متلوّن في ماء صاف وتموّج الماء الصافي واختلط أحد الماءين بالآخر يظهر لون المتلوّن في مجموع أجزاء الماء ، وهذا المقدار من الامتزاج سهل الحصول وممكن الاطّلاع عليه ، ولا يستحيل عقلا أن يكون له مدخلية في تطهير النجس وإلّا لكنّا قاطعين بالعدم ، وليس في الأدلّة الشرعية ما ينفي هذا الاحتمال ، فلتستصحب النجاسة إلى أن يتحقّق المزيل. والله العالم.

(ولا يطهر) الماء النجس (بإتمامه كرّا) سواء كان المتمّم ماء طاهرا أو نجسا فضلا عن غيره من الأجسام الطاهرة بالذات أو النجسة التي تستهلك في الماء (على الأظهر) كما عن الشيخ وابن الجنيد وأكثر المتأخّرين (١) ،

__________________

(١) حكاه عنهم العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٤١ ، وراجع : الخلاف ١ : ١٩٤ ، المسألة ١٥٠ ، ومختلف الشيعة ١ : ١٦ ، المسألة ٢.

١١٠

بل في طهارة شيخنا المرتضى رحمه‌الله عن المشهور (١).

وعن السيد وابن إدريس ويحيى بن سعيد : القول بالطهارة (٢) ، بل عن المحقّق الثاني نسبته إلى أكثر المحقّقين (٣).

ولعمري أنّ المقام ممّا لا مدخلية للتحقيق في تنقيحه ، لأنّ عمدة مستنده هي الرواية الآتية ، والمعتمد فيها هو الظهور العرفي ، فقول غير المحقّقين أولى بالقبول.

ونقل عن ابن إدريس التصريح بعدم الفرق بين إتمامه بالطاهر والنجس (٤).

وعن الشهيد حاكيا عن بعض الأصحاب اشتراط الإتمام بالطاهر (٥).

وهذا أولى بالاعتبار في بادئ الرأي ، لبعد الالتزام بطهارة ماء نجس استهلك فيه بول متمّم لكرّيته ، ولكن الأول أوفق بما تقتضيه أدلّتهم.

احتجّ السيد ـ على ما في المدارك (٦) ـ بأنّ البلوغ يستهلك النجاسة ،

__________________

(١) كتاب الطهارة : ١١٧.

(٢) كما في مدارك الأحكام ١ : ٤١ ، ومفتاح الكرامة ١ : ١٠٠ ، وراجع : رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٦١ ، والسرائر ١ : ٦٣ ، والجامع للشرائع : ١٨.

(٣) الحاكي عنه هو العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٠٠ ، وصاحب الجواهر فيها ١ : ١٥٠ ، وراجع : جامع المقاصد ١ : ١٣٣.

(٤) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ١٠٠ ، وكما في مدارك الأحكام ١ : ٤١ ، وراجع : السرائر ١ : ٦٣.

(٥) حكاه عنه العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٤١ ـ ٤٢ ، وراجع : الذكرى : ٩.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٢.

١١١

فيستوي ملاقاتها قبل الكثرة وبعدها ، وبأنّه لو لا الحكم بالطهارة مع البلوغ لما حكم بطهارة الماء الكثير إذا وجد فيه نجاسة ، لإمكان سبقها على كثرته.

واحتجّ ابن إدريس أيضا : بعموم قوله عليه‌السلام : (إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا) (١) فإنّ الماء متناول للطاهر والنجس ، والخبث نكرة في سياق النفي فتعمّ ، ومعنى (لم يحمل خبثا) : لم يظهر فيه ، كما صرّح به جماعة من أهل اللغة (٢) ، وقال : إنّ هذه الرواية مجمع عليها عند المخالف والمؤالف (٣).

قال في المدارك بعد نقل استدلالهما : والجواب عن الأوّل : أنّ تسويته بين الأمرين قياس مع الفارق بقوّة الماء بعد البلوغ ، وضعفه قبله.

وعن الثاني : بأنّ إمكان السبق لا يعارض أصالة الطهارة.

وأجاب المصنّف رحمه‌الله في المعتبر عن حجّة ابن إدريس بدفع الخبر ، قال : فإنّا لم نروه مسندا ، والذي رواه مرسلا : المرتضى والشيخ أبو جعفر وآحاد ممّن جاء بعده ، والخبر المرسل لا يعمل به ، وكتب الحديث عن الأئمّة عليهم‌السلام خالية عنه أصلا ، وأمّا المخالفون فلم أعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حي ، وهو زيدي منقطع المذهب ، وما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف والمؤالف في ما لا يوجد إلّا نادرا ، فإذن الرواية

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٧٦ ـ ١٥٦.

(٢) النهاية لابن الأثير ١ : ٤٤٤ ، القاموس المحيط ٣ : ٣٦٢.

(٣) السرائر ١ : ٦٣.

١١٢

ساقطة. انتهى.

وأجاب المحقّق الشيخ علي رحمه‌الله عن جميع ذلك : بأنّ ابن إدريس رحمه‌الله نقل إجماع المخالف والمؤالف على صحتها ، والإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة وهو ضعيف (١). انتهى كلام صاحب المدارك.

أقول : ويتوجّه على الاستدلال بالرواية ـ مضافا إلى ضعف السند ـ قصور الدلالة ، لأنّ المتبادر إلى الذهن من الرواية أنّه إذا بلغ الماء قدر كرّ لا يتجدّد فيه حمل الخبث ، لا أنّه لا يكون حاملا للخبث ، نظير قولك :إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل لون الدم ، فإنّ المتبادر منه أنّ كثرته تعصمه عن الاستقذار ، لا أنّه لو كان قذرا يرفعه عن نفسه.

وإن أبيت إلّا عن ذلك فاعرض الرواية على العرف ، ثم سلهم عن حكم الماء المتمّم بالبول أو المياه النجسة المجتمعة.

هذا ، مع معارضتها بما دلّ على نجاسة ما يجتمع في الحمّام من المياه النجسة ، كموثّقة ابن أبي يعفور عن الصادق عليه‌السلام قال : «وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ففيها يجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم ، فإنّ الله تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وإنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» (٢).

نعم لو صحّ سندها وتمّت دلالتها لا يعارضها في ما لو تمّم بماء

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٤٢ ـ ٤٣ ، وراجع : المعتبر ١ : ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) علل الشرائع : ٢٩٢ ، الباب ٢٢٠ ، الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٥.

١١٣

طاهر بالنسبة إلى المتمّم ـ بالكسر ـ عموم ما دلّ على انفعال القليل (١) ، كما توهّم (٢) ، لأنّ الماء المتمّم حال الملاقاة غير قليل ، وحال قلّته غير ملاق للنجس ، إذ بالملاقاة يتبدّل موضوعه ، ويندرج في موضوع الكرّ ، فليتأمّل.

وأمّا حكمهم بطهارة الماء الكثير الذي وجد فيه نجاسة : فوجهه استصحاب طهارة الماء وعدم ملاقاته للنجاسة إلى زمان صيرورته كرّا.

ولا يعارضه أصالة عدم بلوغه كرّا إلى زمان الملاقاة ، إذ لا يحرز بها كون الملاقاة قبل الكرّية إلا على القول بحجّية الأصول المثبتة ، ولا نلتزم بها ، كما سيتّضح لك وجهه في مسألة من توضّأ وشكّ في وجود الحاجب إن شاء الله.

وعلى تقدير تسليم معارضة أصل العدم في كلّ من الحادثين ، فالمرجع إنّما هو استصحاب طهارة الماء مع العلم بحالته السابقة ، وإلّا فإلى قاعدة الطهارة.

وربما يقال : أنّ المتعيّن حينئذ هو الحكم بالنجاسة ، لكون الملاقاة مقتضية للتنجيس ، والكرّية مانعة عنه ، فما لم يثبت المانع يحكم بالنجاسة.

وفيه : أنّ مجرّد إحراز المقتضي لا يكفي في الحكم بثبوت النجاسة

__________________

(١) راجع : الوسائل : الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

(٢) راجع : كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ١٨.

١١٤

ما لم يحرز عدم المانع ولو بالأصل ، وأصالة عدم المانع على إطلاقها ممّا لا أصل لها وأصالة تأخّر كرّيته عن الملاقاة قد عرفت ما فيها.

هذا ، مع أنّ كون الملاقاة مقتضية للتنجيس الماء مطلقا غير مسلّم ، بل المسلّم كونها مقتضية لتنجيس الماء القليل ، لا لدعوى أنّ لوصف القلّة مدخلية في التأثير حتى يقال : إنّ وصف القلّة مرجعه إلى عدم الكرّية ، ولا معنى لكون الأمر العدمي دخيلا في التأثير ، فمرجعه إلى مانعية الكرّية ، بل لدعوى أنّ الملاقاة لا تصلح إلّا لتنجيس هذا المقدار من الماء نظير القذارات الصورية ، فإنّ قطرة من الدم مثلا تغيّر مثقالا من الماء ، ولا تغيّر رطلا ، لا لكون الكثرة في الثاني مانعة عن التغيّر ، وإلّا لما تغيّر بالدم الكثير أيضا ، بل لأنّ هذا المقدار من الدم لا يصلح لتغيير هذا المقدار من الماء ، وكذا مجرّد ملاقاة النجس لضعفها في التأثير لا تصلح إلّا لتنجيس الماء القليل المنقطع عن أصله.

وإناطة عدم انفعال الماء بكونه كرّا في الأخبار المستفيضة ، وكذا استثناء الحوض الكبير عمّا ينفعل بملاقاة النجس لا تدلّ إلّا على انفعال ما عدا الكرّ ، وأمّا أنّ الملاقاة مقتضية للتنجيس والكرّية مانعة عن فعلية أثره ـ كمانعية الصبغ الأحمر الطاهر عن ظهور وصف الدم في الماء ـ فلا ، والله العالم.

وقد يتخيّل جواز الاستدلال لهم : بقاعدة الطهارة في ما لو كان المتمّم ماء طاهرا بدعوى أنّا نعلم إجمالا بأنّ مجموع الماء البالغ حدّ الكرّ إمّا طاهر أو نجس ، لانعقاد الإجماع على عدم اختلاف ماء واحد ممتزج

١١٥

بعضه ببعض في الطهارة والنجاسة ، فاستصحاب نجاسة الماء ـ يعارضه استصحاب طهارة المتمّم ، فيتساقطان ، ويرجع إلى قاعدة الطهارة.

وتوهّم عدم جريان استصحاب الطهارة بالنسبة إلى الماء المتمّم ، لوجود الدليل الاجتهادي ، وهو : عمومات الانفعال ، قد عرفت دفعه : بإمكان المناقشة في شمول أدلّة الانفعال لمثل هذا الفرد المستلزم ملاقاته للنجس خروجه عن موضوع تلك الأدلّة.

ويدفعه : حكومة استصحاب النجاسة على استصحاب طهارة المتمّم ، لأنّ من آثار بقاء النجاسة تنجيس ملاقيه ، وأمّا تطهير الماء النجس فليس من آثار بقاء طهارة الماء القليل ، إذ ليس من أحكام الماء القليل الطاهر تطهير الماء النجس ، وإنّما نشأ الشك في طهارته من احتمال كون الكرّية الحادثة سببا شرعيا لارتفاع النجاسة ، فلا يلتفت إليه في رفع اليد عن النجاسة المتيقّنة ، لأنّ اليقين لا ينقضه الشك.

وأمّا رفع اليد عن طهارة الماء المتمّم فليس نقضا لليقين بالشك ، إذ لا شك في انفعاله على تقدير بقاء النجاسة وعدم كون الكرّية سببا لرفعها ، لأنّ الشك في بقاء الطهارة أيضا مسبّب عن احتمال سببية الكرّية للرفع ، فحيث لا يعتنى بهذا الاحتمال وجب الحكم ببقاء النجاسة وتنجيس الماء الملاقي له.

وإن شئت قلت : إنّ الشك في بقاء نجاسة الماء النجس وطهارة الماء الطاهر كليهما مسبّبان عن الشك في سببية الكرّية للرفع ، والأصل عدمها ، ومرجع هذا الأصل عند التحقيق إلى استصحاب النجاسة والالتزام

١١٦

بترتّب أحكامها الشرعية عليها ، ولتتميم الكلام مقام آخر ، والله العالم.

(وما كان منه) أي من الماء المحقون (كرّا فصاعدا لا ينجس) بشي‌ء من النجاسات (إلّا أن تغيّر النجاسة) أو المتنجّس المتغيّر بها بصفته المكتسبة من النجس (أحد أوصافه) الثلاثة أي : الطعم والريح واللون ، فينجس المتغيّر بلا خلاف فيهما نصّا وإجماعا عدا ما نسب (١) إلى المفيد وسلّار من اختصاص الحكم الأول بما عدا ماء الأواني والحياض ، وسيتّضح لك ضعفه إن شاء الله.

وأمّا الماء الغير المتغيّر المتّصل بالمتغيّر فإن كان عاليا جاريا ، لا ينجس مطلقا ، لما عرفت ـ في ما تقدم ـ من أنّ النجاسة لا تسري إلى العالي.

وإن كان مساويا أو أسفل ، فإن لم يكن بنفسه كرّا ولا متقوّيا بماء آخر ، ينجس ، لكونه ماء قليلا ملاقيا للنجس.

وإن كان بنفسه كرّا أو متقوّيا بماء آخر ، اختصّت النجاسة بالمتغيّر ، للأخبار الكثيرة الدالّة على جواز الاستعمال من الناحية التي لم تتغيّر ، مضافا إلى عدم الخلاف فيه.

وإنّما الإشكال في تعيين موضوع الحكم كمّا وكيفا ، أعني تشخيص الماء الذي يتقوّى بعضه ببعض ، ولا ينفعل بملاقاة النجاسة أو بالاتّصال بالجزء المتغيّر ، أمّا من حيث الكمّ فسيأتي الكلام فيه ، وأمّا من حيث

__________________

(١) الناسب هو صاحب الجواهر فيها ١ : ١٥٤ و ١٨٥ ـ ١٨٦ ، وراجع : المقنعة : ٦٤ والمراسم : ٣٦.

١١٧

الكيف فهل يعتبر فيه تساوي السطوح ، أم يكفي مجرّد اتّصال بعضه ببعض مطلقا ، أو في الجملة؟ فقد اضطرب فيه كلمات الأعلام غاية الاضطراب.

ومنشؤه بحسب الظاهر : إناطة الاعتصام بكون الماء البالغ حدّ الكر بنظر العرف ماء واحدا ، وصدق الوحدة في أفراد الماء المتّصل على سبيل التشكيك حتى أنّه ربما لا يساعد العرف على إطلاق الماء الواحد على سبيل الحقيقة في بعض صور الاتّصال ، كما لو انصبّ الماء من إبريق ونحوه واتّصل بماء سافل اتّصالا ضعيفا ، ولعلّ من هذا القبيل اتّصال الحياض الصغار في الحمّام بموادها.

وربما يختفى الصدق في بعض الموارد ، فينصرف عنه إطلاقات الأدلّة ، وربما يشك في الانصراف وعدمه.

وكيف كان فكون مجموع الماء بنظر العرف ماء واحدا بالغا حدّ الكرّ ممّا لا بدّ منه.

والعجب ممّن أنكر ذلك زاعما أنّه لا دليل على اعتبار الوحدة العرفية ، فلا وجه للتقييد إطلاقات أخبار الكرّ بما إذا كان الماء متّحدا عرفا ، إذ غاية الأمر أنّه ثبت اعتبار اتّصال بعض الأجزاء ببعض ، وأمّا صدق الوحدة العرفية فلا.

وفيه : أنّ اعتبار الاتّصال أو الاتّحاد العرفي ليس تقييدا لتلك المطلقات ، إذ ليس المراد من قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه

١١٨

شي‌ء» (١) أنّه إذا كان جميع المياه الموجودة في العالم كرّا لا ينجّسه شي‌ء ، بل المراد منه ليس إلّا أنّ الماء الذي يصيبه النجس إن كان هو في حدّ ذاته كرّا لا ينفعل بالنجاسة ، فلا بدّ من إطلاق الكرّية على الماء الملاقي للنجس ، وهو فرع اتّصال أجزائه بعضها ببعض ، وكونه مع ما يتمّم كرّيته ماء واحدا ، بل لنا أن نقول : إنّ مجرّد إطلاق الوحدة على مجموع الماء المتّصل لا يكفي في اندراجه في موضوع تلك الأدلّة ، بل لا بدّ من إطلاق الكرّية عليه بلحاظ جزئه الملاقي للنجس بحيث يصح عرفا أن يشار إلى ما لاقى النجس بقولنا : هذا الماء كرّ ، ولا ملازمة بينه وبين إطلاق الوحدة والكرّية على المجموع ببعض الاعتبارات.

توضيحه : أنّه إذا كان ماء إناء أو راوية كرّا ، فصبّ تدريجا في حوض خال ، فإنّا إذا راجعنا وجداننا لا نستبعد إطلاق الكرّية على الماء الجاري في الهواء الواصل بين الطرفين لشدّة اتّصاله وارتباطه بهما ، وكذا لا نتحاشى عن عدّ الماء العالي من أجزاء السافل وإطلاق الكرّيّة على السافل بلحاظ كونه متمّما بالعالي ، بل نرى ارتباط العالي بالجزء السافل الملاقي للنجس لقاهريته على السافل ، وميلة إليه أشدّ من ارتباط بعض الماء الواقف ببعض ، وهذا بخلاف الماء العالي ، فإنّ ما ينزل منه يضعف ارتباطه به ، فكأنّه ينفصل عنه ، فلا يساعد أذهاننا على إطلاق الكرّية عليه ، فلا يبعد دعوى أنّه يفهم عرفا من مثل قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء كرّا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٣٩ ـ ١٠٧ ، الإستبصار ١ : ١١ ـ ١٧ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

١١٩

لا ينجّسه شي‌ء» أنّ السافل يتقوّى بالعالي.

وأمّا العالي فلا يفهم من مثل هذه الأدلّة تقوّيه بالسافل جزما ، لما أشرنا إليه من أنّ العرف لا يساعد على كون السافل جزءا منه بحيث يصدق عليه أنّه كرّ ، فضلا عن أن ينصرف إلى الذهن بحيث يفهم حكمه من الإطلاق ، بل يصح سلب الكرّية عنه عرفا من دون مسامحة.

ألا ترى أنّه إذا وقع نجاسة في إبريق اتّصل ماؤه بكثير سافل لو قيل : إنّ ماءه ينجس ، لكونه ماء قليلا ملاقيا للنجس ، لا يعدّ مستنكرا ، ولو قيل في حقّ السافل أيضا كذلك ، لالتزمنا بعدم التقوّي فيه أيضا ، ولكنّا ادّعينا الفرق بينهما ولو في الجملة ، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

وكيف كان فهذا في ما إذا لم يكن العالي مع السافل ، كماء النهر الجاري على أرض منحدرة بحيث يكون بعضه متراكما على بعض ، وإلّا فلا ينبغي التأمّل في تقوّي بعضه ببعض ، إذ لا يتأمّل العرف في وحدة الماء في مثل الفرض.

وإلى بعض ما قرّرناه أشار العلّامة والشهيد.

قال في محكي التذكرة (١) : لو وصل بين الغديرين بساقية ، اتّحدا إن اعتدل الماء ، وإلّا ففي حقّ السافل ، فلو نقص الأعلى من كرّ انفعل بالملاقاة ، ولو كان أحدهما نجسا ، فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتّصال ، وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة.

__________________

(١) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ١ : ١٥٦ ، وراجع : تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

١٢٠