مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

وفي الدروس : لو اتّصل الواقف بالجاري ، اتّحدا مع مساواة سطحيهما أو كون الجاري أعلى ، لا العكس ، ويكفي في العلوّ فوران الماء من تحت الواقف (١). انتهى.

وجه كفاية فوران الماء : كونه حينئذ بمنزلة العالي في كونه مستوليا على الواقف ومتوجّها إليه ، ومعدودا من أجزائه عرفا.

وكيف كان ، فقد اعترض (٢) عليهما : بأنّ اتّحاد السافل مع العالي يلزمه العكس ، لأنّه إن صدق على المجموع أنّه ماء واحد ، يجب الالتزام بتقوّي كلّ منهما بالآخر ، وإلّا فلا ، فالتفصيل ممّا لا وجه له ، إلّا أن يلتزم بتعدّد الماءين ، ويتشبّث في تقوّي السافل بالعالي بالإجماع أو الأخبار المتقدّمة في ماء الحمّام ، وهذا ينافي تعبيرهما باتّحاد الماءين في الصورة المفروضة.

وقد يوجّه كلامهما (٣) بإرادة الاتّحاد من حيث الحكم لا الموضوع.

أقول : وأوجه منه في دفع الاعتراض : منع الملازمة ، إذ ليس الاتّحاد عقليّا حتى يمتنع الانفكاك ، وقد عرفت إمكان دعوى أنّ العرف حيثما يلاحظون الماء السافل يعدّون الماء العالي المستولي عليه من أجزائه ، ويشهدون بكونه كرّا ، وحيثما يلاحظون العالي يرونه مستقلّا ، ولا يعدّون الجزء النازل منه المعترض عنه من أجزائه ، ولذا لا يتوهّمون

__________________

(١) الدروس ١ : ١١٩.

(٢) راجع : جواهر الكلام ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٣) في الطبعة الحجرية : كلاهما.

١٢١

سراية النجاسة إليه ، فالقول بتقوّي السافل بالعالي مطلقا من غير عكس غير بعيد وإن كان الالتزام به في ما إذا لم يكن العالي بنفسه كرّا لا يخلو عن إشكال ، والله العالم بحقيقة الحال.

وهل يحكم في موارد يشك في اندراجها في موضع أخبار الكرّ أو أدلّة الانفعال بأنّه ينجس بملاقاة النجاسة ، أو أنّه لا ينجس ، لأصالة الطهارة وعموم «خلق الله الماء طهورا» (١) إلى آخره ، ولكنه لا يترتّب عليه الآثار المخصوصة بالكرّ كتطهير الثوب بإلقائه فيه؟ وجهان ، قد يقال بالأول ، نظرا إلى أنّ المستفاد من النصّ والفتوى كون الملاقاة مقتضية للتنجيس ، والكرّية مانعة عنه ، فما لم يحرز المانع يبنى على عدمه.

وفيه ـ بعد تسليم استفادة عموم الاقتضاء من الأدلّة ، والإغماض عن المناقشة المتقدّمة ـ ما أشرنا في ما سبق من أنّ إحراز المقتضي لا يكفي في الحكم بثبوت المقتضي ما لم يحرز عدم المانع ولو بالأصل.

وأصالة عدم المانع على إجمالها ممّا لا أصل لها ، كما تقرر في الأصول.

وأصالة عدم كون هذا الماء كرّا جامعا لشرائط الاعتصام غير جارية.

أمّا في ما لو كان مسبوقا بالكثرة العاصمة : فواضح ، إذ لو جرى الأصل ، لاقتضى مانعيته ، وكذا لو كان قليلا فكثر ولكن شك في اعتصامه ، لاحتمال مدخلية تساوي السطوح في العاصمية ، إذ بعد صيرورة

__________________

(١) أورده المحقّق في المعتبر ١ : ٤١ ، وراجع : الوسائل ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩.

١٢٢

القليل كثيرا لا مجال لتوهّم استصحاب القلّة وعدم الكرّية.

وأمّا لو بلغ الماء القليل إلى حدّ يشكّ في كرّيته ، لوقوع الخلاف في أنّ هذا المقدار كرّ أم لا ، كسبعة وعشرين شبرا ، فقد يتوهّم جريان استصحاب القلّة ، وعدم الكرّية ، بناء على المسامحة العرفية في إحراز موضوع المستصحب.

ويدفعه : أنّه لا معنى للمسامحة العرفية بعد العلم بمقدار الماء ، وصيرورته مصداقا لموضوع وقع الخلاف في حكمه ، نظير ما لو وقع الشك في أنّ الوقية ربع الرطل أو خمسه ، ومن المعلوم أنّ في مثل هذا المقام كلّ جزء يفرض ولو أقلّ قليل إذا أثّر في اندراجه تحت الموضوع الذي يشكّ في حكمه بنظر العرف أيضا كالعقل منشأ لتبدّل الموضوع ، فلا يرون المجموع عين الموضوع الذي حكموا في السابق بأنّه ليس بوقية ، والمسامحة العرفية إنّما هي في ما لو زيد على الماء مقدار لا يعتد به عرفا فشكّ في بلوغه إلى حدّ معيّن ، لا في أنّ هذا الحدّ المعيّن كرّ أم ليس بكرّ.

ومرجع الأول إلى تشخيص الموضوع الخارجي ، والثاني إلى تعيين الموضوع الشرعي ، وليس للعرف بالنسبة إلى الثاني مسامحة أصلا ، ولذا يتوقّفون في حكمه ، ولا يفهمونه من إطلاق الحكم الذي علموه للماء قبل بلوغه إلى هذا الحدّ ولو بعد علمهم بحجّية الاستصحاب في الشريعة.

فاتّضح لك أنّ الالتزام بكون الملاقاة مقتضية للتنجيس ممّا لا أثر له في المقام.

١٢٣

نعم لو التزمنا بأنّه لو استفيد عموم الاقتضاء من الأدلّة اللفظية لكان الشك في مانعية شي‌ء مرجعه إلى الشك في تخصيص العام بالتقريب الذي سنوضّحه في مبحث الماء المضاف ، لاتّجه القول بالانفعال في الشبهات الحكمية ، كما في ما نحن فيه ، ولكن الالتزام به في غاية الإشكال.

(ويطهر) الماء الكثير النجس بمطهّر القليل ، فيطهر باتّصاله بالجاري وما بحكمه ، أو (بإلقاء كرّ) فما زاد (عليه) بشرط بقاء المطهّر على صفة الاعتصام إلى أن يزول تغيّر الماء النجس بأن لا يتغيّر الكرّ أو بعضه ، أو ينقطع بعض أجزائه عن بعض قبل أن يزول التغيّر.

فإن تغيّر الكرّ الملقى عليه كلّه أو بعضه بحيث ينجس به (فكرّ) آخر وهكذا (حتى يزول التغيّر). والكلام في اعتبار الامتزاج والدفعة العرفية وعلوّ المطهّر هو الكلام الذي عرفته في ما سبق ، فراجع.

(ولا يطهر بزوال التغيّر من) قبل (نفسه ، ولا بتصفيق الرياح ولا بوقوع أجسام طاهرة فيه تزيل عنه التغيّر) استصحابا للنجاسة إلى أن يثبت المزيل لها.

وربما يناقش في الاستصحاب بتبدّل الموضوع ، فإنّ الحكم بنجاسة الماء بعد زوال تغيّره إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر متّحد مع الأول في الذات ، مخالف له في الصفات.

١٢٤

ويدفعها : أنّ معروض النجاسة ـ على ما يساعد عليه العرف ، ويستفاد من ظواهر الأدلّة ـ إنما هو نفس الماء ، ونغيّره علّة لانفعاله ، والشك إنّما نشأ من احتمال أنّ بقاء النجاسة أيضا كحدوثها مسبّب عن فعلية التغيّر بحيث تدور مداره ، أو أنّ التغيّر ليس إلّا علّة لحدوث النجاسة ، فبقاؤها مستند إلى اقتضائها الذاتي ، فلا يجوز في مثل المقام نقض اليقين بالشك ، ورفع اليد عن النجاسة المتيقّنة الثابتة لهذا الماء الموجود بمجرّد احتمال أن يكون زوال التغيّر مؤثّرا في إزالتها.

وقد يتوهّم أنّ الشك في بقاء النجاسة في المقام مسبّب عن الجهل بمقدار اقتضاء التغيّر للتأثير من أنّه يقتضي تنجيس الماء مطلقا أو تنجيسه ما دام التغيّر ، فالاستصحاب فيه ليس بحجّة ، كما تحقّق في محلّه.

ويدفعه : أنّ الطهارة والنجاسة كالملكية والزوجية والحرّية والرقّية من الأمور القارّة التي لا ترتفع بعد تحقّقها إلّا برافع ، ولذا لا نشكّ في بقاء نجاسة الكرّ المتغيّر لو صار قليلا قبل زوال تغيّره ، والشك في المقام إنّما نشأ من احتمال كون الكرّية بنفسها رافعة للنجاسة عن الماء ، ككونها دافعة عنه ، والأصل يقتضي بقاءها ما لم تثبت رافعية الكرّ.

إن قلت : إنّ القطع ببقاء النجاسة بعد زوال التغيّر عند صيرورته أقلّ من كرّ لا يكشف عن أنّ الشكّ مسبّب عن الشكّ في رافعية الكرّ ، لجواز أن يكون تغيّر الكرّ مقتضيا لانفعاله ما دام الوصف وتغيّر القليل ، كملاقاته للنجس مقتضيا لنجاسته مطلقا ، فبعد فرض صيرورته قليلا يندرج في الموضوع الذي يتأثّر مطلقا بالتغيّر.

قلت : نفرض زوال تغيّر بعض الكرّ قبل انفصاله ، فيستكشف من

١٢٥

بقاء نجاسته بعد الانفصال إلى أن يرفعه رافع من غير أن يتجدّد فيه سبب يقتضي البقاء كونه كذلك أيضا قبل انفصاله ، إذ لا يعقل أن يكون للانفصال دخل في صيرورته كذلك ، لأنّه أمر عدمي يمتنع أن يكون من أجزاء علّة الموجود ، كما تقرّر في محلّه ، وسنشير إليه في مبحث المضاف ، فيكشف ذلك عن أنّ كلّ جزء من أجزاء الكرّ بعروض وصف التغيّر يتأثّر أثرا لو خلّي الجزء ونفسه (وانفصل عن غيره من الأجزاء) (١) لبقي ذلك الأثر ، وإنّما نشأ الشك في بقائه حين انضمامه مع سائر الأجزاء عند زوال وصف التغيّر عن المجموع من احتمال أنّ للاجتماع وتقوّي بعض الأجزاء ببعض الذي هو صفة وجودية تأثيرا في رفع ذلك الأثر ، وهذه عبارة أخرى عمّا ذكرنا من أنّ الشك في بقاء النجاسة بعد زوال التغيّر مسبّب عن الشك في رافعية الكرّ ، فليتأمّل.

ومن الأصحاب من نفي حجيّة الاستصحاب مطلقا ، ولكنه تشبّث به في المقام بدعوى أنّ مرجعه إلى عموم الأدلّة الدالّة على نجاسته بالتغيّر ، فإنّها شاملة لتلك الحالة وما بعدها ، فيقف زوالها على ما عدّه الشارع مطهّرا.

وفيه : أنّه لا إطلاق لتلك الأدلّة بالنسبة إلى أحوال الفرد ، ففي موارد الشك يجب الرجوع إلى الأصول ، فمن لم يقل بحجية الاستصحاب يلزمه القول بالطهارة ، لقاعدتها.

وقد يستدلّ للطهارة : بقوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا» (٢)

__________________

(١) ما بين القوسين مشطوب عليه في «ض ١ ، ٢».

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٧٦ ـ ١٥٦.

١٢٦

بالتقريب الذي عرفته في مسألة إتمام الماء كرّا من دعوى ظهوره في أنّ كون الماء كرّا مانع عن كون الخبث محمولا عليه مطلقا ، وقد ثبت تقييده بما إذا لم يكن الماء متغيّرا بالنجاسة ، وأمّا في سائر الأحوال فلا ، فيجب الاقتصار في رفع اليد عن الإطلاق على القدر الثابت.

وفيه : أنّ الاستدلال بالرواية بعد قبول سندها مبني على تسليم دلالتها على المدّعى ، وقد عرفت منع دلالتها إلّا على ما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء كرّا لا ينجّسه شي‌ء» (١) أعني ظهورها في عدم حدوث النجاسة فيه لا في الأعمّ منه ومن الرفع ، فراجع.

ثم إنّه قد تكاثرت الأخبار وتظافرت في تقدير الكثرة المعتبرة في عدم انفعال الماء بكونه كرّا.

(والكرّ) في الأصل مكيال معروف ، وقد غلب استعماله في عرف الشارع والمتشرعة في الماء الذي وزنه (ألف ومائتا رطل) على المشهور ، بل في محكي الغنية الإجماع عليه (٢) ، وعن ظاهر المعتبر والمنتهى وصريح غيرهما عدم الخلاف فيه (٣).

ويدلّ عليه ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكرّ من الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء ألف ومائتا رطل» (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ ٢ ، الفقيه ١ : ٨ ـ ١٢ ، الاستبصار ١ : ٦ ـ ١ ، و ٢٠ ـ ٤٥ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٢ و ٦.

(٢) الحاكي عنها الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٣ ، وراجع : الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٨٩ ، والمعتبر ١ : ٤٧ ، ومنتهى المطلب ١ : ٧.

(٣) الحاكي عنها الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٣ ، وراجع : الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٨٩ ، والمعتبر ١ : ٤٧ ، ومنتهى المطلب ١ : ٧.

(٤) التهذيب ١ : ٤١ ـ ١١٣ ، الإستبصار ١ : ١٠ ـ ١٥ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

١٢٧

والمراد من الرطل هو الرطل الموصوف (بالعراقي على الأظهر) الأشهر ، بل في الحدائق (١) نسبته إلى المشهور ، لأنّه هو الذي يقتضيه الجمع بين المرسلة التي تلقّاها الأصحاب بالقبول ، وبين صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «والكرّ ستمائة رطل» (٢).

بيان : ذلك : أنّه يستفاد من تتبّع الأخبار أنّ الرطل العراقي كان عيارا متعارفا لأهل المدينة وإن كان لهم عيار مخصوص متعارف في ما بينهم ، وهو الرطل المدني ، كما يفصح عن ذلك إطلاقه عليه في حديث الكلبي النسّابة لمّا سأله عن الشنّ (٣) الذي ينبذ فيه التمر للشرب والوضوء ، وكم كان يسع من الماء؟ قال : «ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى فوق ذلك» قلت بأيّ الأرطال؟ قال : «بأرطال مكيال العراقي» (٤) لظهور الحال في اعتماد الإمام عليه‌السلام على الإطلاق لو لم يسأل الراوي عنه ، مع أنّ مراده العراقي ، فيستفاد من ذلك أنّ إطلاقه عليه كان شائعا بحيث يستعمل فيه بلا قرينة ، كما أنّه يستفاد من استفهام السائل حيث قال : بأيّ الأرطال؟ أنّ الأرطال المتعارفة بينهم كانت متعدّدة ، إذ لو لم يكن لهم إلّا رطل خاص لكان الاستفهام مستهجنا.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٤.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٤ ـ ١٣٠٨ ، الإستبصار ١ : ١١ ـ ١٧ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٣.

(٣) الشنّ : القربة الخلق. مجمع البحرين ٦ : ٢٧٢.

(٤) الكافي ٦ : ٤١٦ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ٢٢٠ ـ ٦٢٩ ، الإستبصار ١ : ١٦ ـ ٢٩ ، الوسائل ، الباب ٢ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، الحديث ٢.

١٢٨

نعم لو كان السائل من أهل بلد آخر واحتمل أن يكون مراده عليه‌السلام رطل بلدهم ـ وإن كان خلاف الظاهر ـ لكان للاستفهام وجه.

ولكن التعبير في مثل هذه الصورة لا يقع بصيغة الجمع المعرّف ، بل ينبغي حينئذ أن يقول : أبرطل بلدنا أو بلدكم؟

والحاصل : أنّ هذا التعبير ظاهر في كون الأرطال المتعارفة في المدينة متعدّدة.

ومجرّد تسمية الرطل عراقيا لا تدلّ على اختصاصه بأهل العراق لو لم يكن فيها إشعار بالعدم ، لقضاء العادة بشيوع مثل هذا العيار الشائع في تمام نواحي العراق مع كثرة سوادها واختلاف بلادها في جميع البلاد التي ينقل غالب أمتعتهم فيها أو إليها تسهيلا للضبط والمحاسبة.

ألا ترى أنّ عيار التجّار والعطّارين وغيرهم من المعاملين الذين يشتغلون ببيع أمتعة البلاد النائية متّحدة غالبا مع عيار تلك البلاد وإن كان لكلّ بلد عيار خاص ، فكذا في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، والظاهر أنّ العيار المتعارف المشترك في عصرهم هو العيار العراقي وإن كان لأهل كلّ بلدة وناحية حتى نواحي العراق عيار خاص بهم.

والحاصل : أنّ من تتبّع الآثار والأمارات لا يكاد يرتاب في أنّ الرطل العراقي كان شائعا متعارفا في المدينة في تلك الأزمنة ، والغرض من الاستشهاد برواية الشنّ ليس إلّا إثبات ذلك ، فلا وقع للمعارضة باستعمال الرطل في غير واحد من الأخبار في الرطل المدني ، لأنّ استعماله في المدني معلوم لا يحتاج إلى الاستدلال بالروايات الواردة ،

١٢٩

وإنّما المقصود جواز إرادة العراقي كالمدني من مطلقات الأخبار ، فرواية الشنّ كافية في إثبات المطلوب ، إذ ليس المقام بعد ثبوت أصل المعنى في الجملة ممّا يتمشّى فيه أصالة عدم الاشتراك أو أنّ المجاز خير من الاشتراك وغير ذلك كما لا يخفى وجهه.

وحينئذ نقول : إذا ورد لفظ «الرطل» في رواية فهو في حدّ ذاته مردّد بين معنيين ، بل معاني لو احتملنا كون المكّي أيضا شائعا في المدينة كما يساعد عليه الاعتبار.

ويؤيّده صيغة الجمع في كلام السائل في الرواية السابقة.

أو احتملنا كون الإمام عليه‌السلام حال صدور الرواية منه في مكّة المشرّفة زاد الله شرفها ، فلا بدّ في تعيين بعض المحتملات من معيّن ، وليس في الأصول المعتبرة ما ينفع في تعيين شي‌ء من المحتملات.

أمّا بالنسبة إلى العراقي ، فلما عرفت.

وأمّا بالنسبة إلى المكّي ، فلأنّه لو سلّم اعتبار أصالة عدم شيوعه في المدينة فأصالة عدم كون الإمام عليه‌السلام في مكّة غير أصيلة ، والظاهر أنّ عرف البلد مقدّم على غيره في مقام الدوران ، خصوصا إذا كان موافقا لعرف المتكلّم أو المخاطب ، ومن المعلوم أنّه ليس شي‌ء من الأصول المعتبرة وافيا بتعيين مكان الإمام عليه‌السلام حال صدور الرواية.

فتحصّل من مجموع ما ذكرنا : أنّ كلّ واحد من المرسلين والصحيح مجمل في حدّ ذاته ، قابل لإرادة كلّ من المعاني الثلاثة ، وضمّ كلّ منهما

١٣٠

إلى الآخر قرينة معيّنة للمراد منهما بشهادة العرف ، كما لو كان لفظ «المنّ» مشتركا بين مقدار ونصفه ، وبين مقادير اخرى ، وقال القائل : إن جاءك زيد فأعطه منّا من الحنطة ، ثم قال : إن جاءك زيد فأعطه منّين ، يرفع كلّ واحد منهما الإجماع عن الآخر ، ويتعيّن المراد من بين سائر المعاني وإن كانت كثيرة ، ووجهه واضح ، فيجب بمقتضى الجمع بين الروايتين حمل الصحيح على الرطل المكّي ، والمرسل على العراقي.

ويؤيّد هذا الحمل : كون محمد بن مسلم ـ على ما قيل (١) ـ من أهل الطائف وهو من توابع مكة ، كما أنّ كون المرسل عراقيا لا يخلو عن تأييد ، لقوّة احتمال سماعه من مشايخه الذين هم من أهل العراق ، أو احتمال كونه تفسيرا باصطلاحهم وكونه كذلك ممّا يقرّب إرادة هذا المعنى ، لا أنّه دليل حتى يتوجّه عليه المناقشة في صغراه : بأنّ المرسل غير المخاطب ، وفي كبراه : بأنّ عرف البلد مقدّم.

هذا ، مع أنّ حمل الرطل في الصحيح على المكّي متعيّن ، لأنّ حمله على المدني أو العراقي يستلزم طرحه ، لمخالفته للإجماع على ما صرّح به غير واحد (٢).

ولمعارضته برواية علي بن جعفر (٣) ، الواردة في انفعال ألف رطل من الماء وقع فيه أوقية من البول.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٦٤ ذيل الرقم ٢٧٧ ، وجامع الرواة ٢ : ١٩٣.

(٢) راجع : مدارك الأحكام ١ : ٤٧ ، الوسائل ، الباب ١١ من أبواب الماء المطلق ، ذيل الحديث ٣.

(٣) مسائل علي بن جعفر : ١٩٧ ـ ٤٢٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٦.

١٣١

بل وكذا حمله في المرسل على العراقي متعيّن ، إذ لو حمل على المكّي أو المدني يستلزم أن لا يكون الماء البالغ ثلاثا وأربعين شبرا كرّا ، فينافيه الأخبار الآتية ، فهي قرينة معيّنة لإرادة الرطل العراقي ، كما سيتّضح لك تقريبه عند التعرّض للجمع بين التقديرين إن شاء الله.

وأمّا الرطل العراقي : فالمشهور ـ كما في الحدائق (١) وغيره (٢) ـ أنّه مائة وثلاثون درهما ثلثا المدني ، والدرهم نصف مثقال شرعي وخمسه ، فكلّ عشرة دراهم حينئذ سبعة مثاقيل ، والمثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي ، فهو حينئذ مثقال وثلث شرعي.

وقد صرّح بجميع ذلك جملة من أعاظم الأصحاب (٣) ، ولم ينقل الخلاف في شي‌ء منها عدا ما عن المنتهى والتحرير من تفسير الرطل العراقي في زكاة الغلّات بأنّه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم (٤).

ولكن عن الأول في المقام والثاني في زكاة الفطرة موافقة المشهور (٥) ، والظاهر أنّ مستنده تصريح بعض اللغويين بذلك :

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٤.

(٢) التنقيح الرائع ١ : ٤١ ـ ٤٢ ، مدارك الأحكام ١ : ٤٧ ، جواهر الكلام ١ : ١٦٨.

(٣) راجع : الحدائق الناضرة ١ : ٢٧٨.

(٤) حكاه البحراني في الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٤ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٤٩٨ ، وتحرير الأحكام ١ : ٦٢.

(٥) حكاه صاحب الجواهر فيها ١ : ١٦٨ ، وراجع : منتهى المطلب ١ : ٧ ، وتحرير الأحكام ١ : ٧٢.

١٣٢

قال في المجمع حاكيا عن المصباح : الرطل معيار يوزن به ، وكسره أكثر من فتحه ، وهو بالبغدادي : اثنتا عشرة أوقية ، والرطل تسعون مثقالا ، وهي مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم (١).

ولكنك خبير بأنّه لا يجوز ردّ شهادة جلّ الفقهاء لأجل تصريح بعض اللغويين ، خصوصا في ما لا اختصاص لهم بمعرفته.

هذا ، مع أنّه لا مانع عن صيرورته في زمان صاحب المصباح كذلك ، فضلا عن أنّه يستفاد ما عليه المشهور من مكاتبة جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام على يدي : إنّي جعلت فداك إنّ أصحابنا اختلفوا في الصّاع ، بعضهم يقول : الفطرة بصاع المدني ، وبعضهم يقول : بصاع العراقي ، قال : فكتب إليّ «الصّاع ستة أرطال بالمدني وتسعة أرطال بالعراقي» قال : وأخبرني «أنّه يكون بالوزن ألفا ومائة وسبعين وزنة» (٢).

الوزنة ـ بالكسر ـ مفسّرة بالدرهم ، فيكون الرطل العراقي ـ الذي هو تسع المجموع ـ مائة وثلاثين درهما.

وقيل في تقريب الاستدلال : وجه آخر ، وهو : أنّ الرواية صريحة في كون الرطل العراقي ثلثي رطل المدني ، ولا خلاف ظاهرا في أنّ المدني مائة وخمسة وتسعون درهما ، وثلثاه مائة وثلاثون درهما ، والله

__________________

(١) مجمع البحرين ٥ : ٣٨٤ ، وراجع : المصباح المنير : ٢٧٩.

(٢) الكافي ٤ : ١٧٢ ـ ٩ ، التهذيب ٤ : ٨٣ ـ ٢٤٣ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث ١.

١٣٣

العالم.

وأمّا الرطل المكّي فقد صرّح غير واحد بأنّه ضعف العراقي ، كما يشهد بذلك جمعهم بين الروايتين : بحمل الصحيح على المكّي ، والمرسلة على العراقي ، فالرطل العراقي واحد وتسعون مثقالا شرعيا وثمانية وستون وربع المثقال الصيرفي ، فالكرّ على المشهور يبلغ مائة ألف وتسعة آلاف ومائتين مثقالا شرعيا ، وبالمثاقيل الصيرفية يبلغ واحدا وثمانين ألف وتسعمائة مثقالا ، وبالمنّ التبريزي المتعارف في بلاد إيران ، الذي هو عبارة عن ستمائة وأربعين مثقالا صيرفيا يبلغ مائة وثمانية وعشرين منّا إلّا عشرين مثقالا صيرفيّا.

(أو) الماء الذي يملأ من المكان (ما كان كلّ واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصفا) بأن يكون مجموع مساحة الماء اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر ، على الأظهر الأشهر ، بل المشهور ، بل عن الغنية دعوى الإجماع عليه (١).

ويدلّ عليه ما رواه في الاستبصار عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا كان الماء في الركي كرّا لم ينجّسه شي‌ء» قلت :وكم الكرّ؟ قال : «ثلاثة أشبار ونصف طولها في ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها» (٢).

__________________

(١) حكاه عنه العاملي في مفتاح الكرامة ١ : ٧١ ، وراجع : الغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٨٩.

(٢) الإستبصار ١ : ٣٣ ـ ٨٨ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

١٣٤

ونوقش فيها : بضعف السند ، واضطرب المتن ، وقصور الدلالة ، واشتمالها على ما لا يقول به أحد ، أو شذّ القائل به ، وهو اعتبار الكرّية في عدم انفعال البئر.

ويدفعها ، أمّا ضعف السند ـ فبعد تسليمه والإغماض عن تصريح بعض الثقات بأنّها موثّقة ـ فغير ضائر في مثل هذه الرواية المقبولة التي اشتهر الأخذ بها ، وشذّ من يطرحها ، خصوصا إذا كان مستند الطرح ترجيح المعارض ، كما هو الشأن في المقام.

وأمّا اضطراب المتن من حيث كون الرواية مروية في الكافي (١) بحذف «ثلاثة أشبار ونصف طولها» ففيه : أنّ احتمال السقط من الكافي أقوى من احتمال الزيادة في الاستبصار ، فلا يتكافئان حتى يرفع اليد لأجله عن ظهور هذه الفقرة.

مضافا إلى دلالة رواية الكافي أيضا على المطلوب ، لوجوب تقدير البعد الثالث بقرينة المذكور.

قال في الوسائل بعد نقل الرواية كما في الكافي : ذكر العرض يغني عن ذكر الطول ، لأنّه لا بدّ أن يساويه أو يزيد عليه (٢).

وقد صرّح جملة من الأعاظم بكون البعد الثالث ـ أعني مقدار الطول في هذه الرواية ، بل في سائر الروايات الواردة في هذه الباب ـ مقدّرا بقرينة المذكور ، مستشهدين لذلك بموارد كثيرة من نظائر المقام.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ ٤ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٢) الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الماء المطلق ذيل الحديث ٥.

١٣٥

أقول : لا حاجة إلى التقدير المخالف للأصل ، بل الظاهر المتبادر إلى الذهن من العرض في مثل المقام : مجموع سعته وسطحه الظاهر ، لا خصوص بعد معيّن بحيث يكون قسيما للطول ، كما أنّ المتبادر من قولك : شبر من الماء وزنه كذا : ما كان جمع أبعاده شبرا.

وأمّا المناقشة في دلالتها : فتقريبها أنّ موردها الركيّ ، وهي مستديرة غالبا ، فالمراد من عرضها البعد المفروض في وسطها الذي هو بمنزلة القطر من الدائرة ، وطولها ما يقابل العرض ، وهو البعد الآخر المارّ على قطب الدائرة القائم على البعد الأول ، ومجموع مساحة الماء على هذا يقرب من ثلاث وثلاثين شبرا ونصف شبر وخمسه ، فلا تدلّ الرواية على مذهب المشهور ، ويؤيّد إرادة ذلك عدم ذكر مقدار الطول في رواية الكافي ، فالمراد من العرض ـ على ما في الكافي ـ مجموع سعته ، فلا يتوقّف على الحذف والتقدير ، ولا ارتكاب مخالفة الظاهر فيها أصلا.

وما يقال من أنّ معرفة مساحة الشكل المستدير ممّا يختص بمهرة فنّ الحساب ، فلا يناسب تحديد الكرّ الذي يبتلي به عامّة المكلّفين بما يتوقّف عليها ، منقوض : بأنّ معرفة مضروب ثلاثة ونصف في ثلاثة ونصف في مثلها أيضا ممّا لا يعرفه أغلب الناس ، وكون الأول أدقّ من الثاني عند أهله لا يصلح فارقا ، كما هو ظاهر.

وحلّه : أنّ المقصود تعيين موضوع الكرّ ببيان شكله ومقداره بحيث يدخل في أذهان العوام على وجه يميّزون مصاديقه بالحدس والتخمين ، فليس تحديد الكرّ بماء بئر يكون عمقها ثلاثة أشبار ونصف ، وسعتها

١٣٦

كذلك إلّا كتحديده بالحبّ والقلّتين.

غاية الأمر أنّ الأول مختص بمزيد فائدة ، وهي : أنّ الخواص يعرفون منه مهية الموضوع حقيقة دون الثاني ، فهو أولى بالصدور من الإمام عليه‌السلام.

وتندفع المناقشة من أصلها بحيث يتّضح وجه عدم التصريح بذكر مقدار الطول في سائر أخبار الباب : بما يتوقّف توضيحه على رسم مقدّمة ، وهي : أنّ العرض ـ الذي هو قسيم للطول عرفا ولغة ـ عبارة عن أقصر البعدين اللذين يحدّ بهما السطح ، والطول أطولهما.

وإطلاقه على البعد المتصوّر في السطح المستدير أو المربّع الغير المستطيل ليس باعتبار كونه قسيما للطول ، بل إنّما يراد منه بيان مقدار سعة السطح مطلقا من دون أن يتعلّق الغرض بإرادة بعد دون بعد ، فليس للشكل المستدير والمربّع طول بنظر العرف.

وما يقال : من أنّ البعد الذي يتصوّر أوّلا هو العرض والبعد المتصوّر ثانيا هو الطول ممّا لا يساعد عليه العرف واللغة ، بل العرض في السطح المستطيل أقصر البعدين ، والطول أطولهما من دون أن يكون للتصوّر في ذلك مدخلية.

وأمّا السطح المستدير والمربّع فحيث لا طول لهما إنّما يراد من عرضهما حين الإطلاق نفس مسافتهما من حيث هي من دون تقييدها بطرف مخصوص ، كما في المستطيل ، فلو أمر المولى عبده بحفر حفيرة عرضها ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار عمقها ، أو قال : أحفر حفيرة سعتها

١٣٧

ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار عمقها ، يفهم منه عرفا أنّ المأمور به غير مستطيل ، وإلّا لكان عليه بيان مقدار طوله ، ويفهم من إطلاق «ثلاثة أشبار» : أنّه غير مستدير ، لأنّ الظاهر من الإطلاق أن تكون سعته على الإطلاق ثلاثة أشبار من أيّ ناحية تفرض ، والمدوّر ليس كذلك ، إذ ليس ما عدا البعد المفروض في وسطه كذلك ، فالمدوّر تتّصف سعته بكونها ثلاثة أشبار في الجملة لا مطلقا.

وإن أبيت عمّا ادّعيناه من ظهور العبارة في إرادة المربّع فأمر عبدك بحفر حفيرة عمقها شبر في شبر عرضها فما فهمه من كلامك هو المعيار في استكشاف مراد الشارع من أخبار الباب.

وما ذكرناه هو السرّ في فهم جلّ العلماء من جميع هذه الأخبار مقدار البعد الثالث ، مع أنّه لم يرد التنصيص عليه في شي‌ء منها ، عدا رواية الحسن بن صالح على ما في الاستبصار ، ومرسلة الصدوق ، التي هي بحسب الظاهر تفسير بالمعنى.

وفي الحدائق بعد أن ذكر الإيراد على الاستدلال بالروايات لمذهب المشهور ، قال : وبالجملة فهذه الأخبار كلّها مشتركة في عدم عدّ الأبعاد الثلاثة ، ولم أجد لها رادّا من هذه الجهة ، بل ظاهر الأصحاب قديما وحديثا الاتّفاق على قبولها ، وتقدير البعد الثالث فيها ، لدلالة سوق الكلام عليه (١). انتهى.

وقد أشرنا إلى أنّ استفادة البعد الثالث من هذه الأخبار ليس من قبل

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٦٣.

١٣٨

الحذف والإضمار ، بل من قبل استفادة مجموع الأبعاد من قولك : شبر من الماء وزنه كذا ، فالمتبادر من قول القائل : ماء عرضه ثلاثة أشبار وعمقه كذلك ، ليس إلّا ما كان سطحه من كلّ ناحية كذلك.

ولكن الإنصاف أنّ غلبة استدارة الركّي لو سلّمت فهي مانعة عن هذا الظهور ، فلو قال : احفر بئرا عمقها كذا وعرضها ثلاثة أشبار ، لا ينسبق إلى الذهن إلّا الكيفية المتعارفة.

ودعوى : أنّ المقصود من الرواية فرض كون ماء الركّي بالغا هذا الحدّ ، لا توصيف الماء الموجود بكونه كذلك ، وحيث إنّ الموضوع فرضي لا مانع عن فرض كون الماء مربّعا وإن كان الماء الموجود بالفعل على صفة الاستدارة ، مدفوعة : بأنّ استدارة الماء الموجود مانعة عن ظهور المطلق في الإطلاق حتى نحتاج إلى فرض كون الماء مربّعا ، فالمناقشة قويّة جدّا ، ولكن بالنظر إلى الرواية على النحو المروي في الكافي.

وأمّا على ما في الاستبصار من التنصيص على الطول فلا ، لما عرفت من أنّه ليس للمستدير وكذا المربع الغير المستطيل طوله ، ولكنه ربما يذكر الطول تنصيصا على إرادة تساوي الأبعاد ، كما يقال في المثال السابق : احفر حفيرة يكون عرضها شبرا وطولها شبرا وعمقها كذلك ، من دون أن يراد من العرض أو الطول بعد معيّن ، ولا يقال مثل ذلك لو أراد كونها مستديرة ، بل لو قال : احفر بئرا عرضها كذا وطولها كذا ، يفهم منه إرادة المربّع وإن كان خلاف المتعارف.

والحاصل : أنّ ظهور الرواية المروية في الاستبصار ، المشتملة على

١٣٩

الأبعاد الثلاثة في ما عليه المشهور غير قابل للإنكار.

وأمّا ظهورها على ما في الكافي ففي غاية الإشكال ، إلّا بضميمة الإجماع على عدم كون ثلاثة أشبار ونصف في الشكل المستدير حدّا للكر ، فيكون الإجماع كاشفا عن أنّ المراد من الرواية كون الماء مقدارا يكون سطحه من كلّ ناحية ثلاثة أشبار ونصفا ، والله العالم.

وأمّا المناقشة في الرواية باشتمالها على اعتبار الكرّية في البئر ، فيدفعها : أنّ غاية ما يلزمنا في المقام رفع اليد عن ظهور الشرطية في السببية المنحصرة لأجل الأدلّة الدالّة على كون المادّة عاصمة عن الانفعال ، ولا محذور فيه ، وسيأتي التنبيه على ما يصلح أن يكون نكتة للتقييد في أحكام البئر ، مضافا إلى أنّ عدم إمكان الأخذ بظاهر الرواية من بعض الوجوه لا يقتضي طرحها بالمرّة.

ويدلّ على المشهور أيضا : رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام :«إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه من الأرض فذلك الكرّ من الماء» (١).

والمناقشة في دلالتها بما تقدّم ، مدفوعة بما تقدّم ، وليس كون الكرّ في الأصل مكيالا مستديرا على تقدير تسليمه صالحا لصرف ظهور الصدر في إرادة المربّع لكون الصدر مفسّرا للمراد من الكرّ من الماء ، فظهوره هو المحكّم في مثل المقام ، خصوصا مع سبق ذكر المفسّر ، فقوله : «ذلك

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣ ـ ٥ ، التهذيب ١ : ٤٢ ـ ١١٦ ، الإستبصار ١ : ١٠ ـ ١٤ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٦.

١٤٠