مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

عن ماء الحمّام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال : عليه‌السلام : «إنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا» (١).

وفي تشبيهه بالجاري والنهر دون الكرّ إشعار بل دلالة على أنّ اعتصامه إنّما هو لأجل اتّصاله بماء طاهر قاهر ، فالمشبّه إنّما هو ماء الحياض حال استمداده من موادّها لا حين انقطاعه عنها.

وممّا يؤيّد إرادة ذلك من الروايتين رواية بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «ماء الحمام لا بأس به إذا كان له مادّة» (٢).

وعن الفقه الرضوي : إنّ ماء الحمام سبيله سبيل الجاري إذا كان له مادّة (٣). فبها وبغيرها ممّا دلّ على انفعال الماء القليل يقيّد إطلاق قوله عليه‌السلام في رواية قرب الإسناد : «ماء الحمّام لا ينجّسه شي‌ء» (٤).

وهل يعتبر في مادّة الحمّام بلوغها كرّا ، أم يكفي مطلقا أو يشترط الكرّية في رفع النجاسة لا دفعها ، فيكفي مطلقا في الدفع ، أو يشترط كونها مع ما في الحياض كرّا؟ وجوه بل أقوال ، أقواها وأشهرها : الأول ، بل في الحدائق : إنّه هو المشهور بين الأصحاب (٥) ، وفي المسالك : هو

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

(٢) الكافي ٣ : ١٤ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ٣٧٨ ـ ١١٦٨ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤.

(٣) أورده صاحب الحدائق فيها ١ : ٢٠٣ ، وراجع : الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٦.

(٤) قرب الإسناد : ٣٠٩ ـ ١٢٠٥ ، الوسائل ، الباب ٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٢٠٤.

٦١

قول الأكثر (١) ، وفي المدارك نسبته إلى أكثر المتأخّرين (٢).

ومرادهم ـ على ما يعطي التأمّل في كلامهم ـ نسبة القول باعتبار كرّية المادّة مطلقا إلى المشهور لا في خصوص الرافعية ، فما أبعد ما بين هذه النسبة وما عن بعض المتأخّرين (٣) من دعوى الإجماع على كفاية بلوغ المجموع كرّا.

ولا يبعد أن يكون مراد هذا البعض كفاية كرّية المجموع في الدافعية ، وإلّا فستعرف دعوى الإجماع عن غير واحد على اعتبار الكرّية في الرفع ، وكيف كان فهذه النسبة في غير محلّها.

نعم ربما يستظهر من إطلاقات كلامهم بأنّه كالجاري إذا كان له مادّة من دون تقييدها بالكرّية ، ومن إفرادهم إيّاه بالذكر ـ كماء الغيث ـ أنّ له مزية على سائر المياه ، وهي عدم اشتراطها بالكرّية أصلا.

وفيه : أنّ إطلاقهم منزّل على المتعارف ، وإفرادهم إيّاه بالذكر بعد تسليم تقوّي الماء السافل بالعالي في غير ماء الحمام ـ كما هو الأظهر ـ فإنّما هو لمتابعة النصّ.

ألا ترى أنّ غير واحد منهم صرّح بعدم الخلاف في اعتبار كرّية المادة في رفع النجاسة ، حتى أنّ من قوّى عدم اعتبار الكرّية مطلقا علّقه في صورة الرفع على عدم انعقاد الإجماع على خلافه ، فيظهر من ذلك أنّ

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ١٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٤.

(٣) الحاكي عن بعض المتأخّرين هو السبزواري في ذخيرة المعاد : ١٢٠.

٦٢

إطلاق كلامهم : أنّه بمنزلة الجاري ليس لبيان عدم اشتراط الكرّية في المادّة ، بل قد عرفت عن الحدائق أنّ اشتراط كرّية المادّة هو المشهور بين الأصحاب ، فكيف يمكن استكشاف عدم الاشتراط من إفرادهم له بالذكر ، أو إطلاق قولهم : إنّه بمنزلة الجاري! وكيف كان فالمتّبع إنّما هو ظواهر الأدلّة.

فنقول : قد يستدلّ بإطلاق قوله عليه‌السلام : «ماء الحمّام كماء النهر وأنّه بمنزلة الجاري» وأنّه : «لا بأس به إذا كان له مادّة» على اعتصامه مطلقا ، وعدم اشتراطه بالكرّية لا في الدفع ولا في الرفع ، إلّا أن يثبت الإجماع على اعتبارها في الرفع ، أو على بلوغ المجموع كرّا في الدفع أيضا.

وفيه : أنّ الإطلاقات منزّلة على ما هو المتعارف ، ومن المعلوم أنّ الماء الموجود في المادّة بمقتضى العادة في الحمّامات التي يتعارف استعمالها حال الاستعمال أزيد من عشرين كرّا فضلا عن كرّ واحد ، كيف مع أنّ وضع الحمّامات المتعارفة إنّما هو على وجه لو أضيف إلى الماء الموجود في موادّها لدى الحاجة كرّا وأزيد لا يؤثّر في تبريد مائه.

ومن قال بأنّ زيادتها على الكرّ إنّما تتعارف في أوائل الأخذ في الاستعمال ، وأمّا بعده فلا ، فكأنّه غفل عن وضع الحمّام وبناء الحمّامي ، وتخيّل أنّ مادّة الحمّام كالمنابع المصنوعة لتطهير الحياض ونحوه ، فيمتلئونها تارة ويفرغونها اخرى ، وغفل عن أن وضع الحمّام على أن يكون في خزانته بالفعل مقدار من الماء يفي بقضاء حاجة عامّة أهل البلد لو احتاجوا إليه ، والحمّامي لا زال يراقب أمرها بحيث لو نقص من مائه

٦٣

شي‌ء يعينه بماء جديد ، ولا يتقوّم أمر الحمّام إلّا بأن يكون الماء الحارّ الموجود في الخزانة بمقدار لو زيد عليه كرّ أو كرّان لا ستهلك ، فالعادة قاضية باستحالة وجود حمّام لا يكون الماء الموجود في خزانته في أزمنة تعارف استعماله مقدار الكرّ.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّه لو لا الإجماع على عدم اعتبار ما زاد عن الكرّ في عاصمية المادّة ، لأشكل استفادة كفايتها من هذه الأخبار.

نعم ، لو فرض اتّصال ما في الحياض الصغار بما في المادّة على وجه يعدّ في العرف مجموع الماءين ماء واحدا ـ كما لو كان الحوض والمادّة بمنزلة غديرين موصولين بساقية ـ لتعيّن القول بكفاية بلوغ المجموع كرّا في دفع النجاسة ، لا لهذه الأخبار بل لعموم قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء» (١) إلّا أنّ وضع الحمّامات المتعارفة ليس كذلك ، ضرورة أنّ حكمة إفراز الحوض الصغير إنّما هي صيانة ما في مادّته عن أثر الاستعمال ، وهذا ينافي اتّحادهما.

فما اعترضه صاحب الحدائق وغيره على من اشترط كرّية المادّة في الحمّام : بأنّ مقتضاه أنّ الحكم في الحمّام أغلظ ، حيث إنّهم لم يعتبروا ذلك في الغديرين المتواصلين (٢) ، مدفوع : بأنّ اشتراطهم الكرّية إنّما هو في الحمّامات المتعارفة التي لا يجري الماء في حياضها إلّا من جهة الفوق

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٩ ـ ١٠٩ ، الإستبصار ١ : ٦ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٢٠٨ ، ومدارك الأحكام ١ : ٣٥.

٦٤

بانبوبة ونحوها ، لا ما كان حياضها كالغديرين المتواصلين المتساويين في السطح ، فإنّ هذا بحسب الظاهر مجرّد فرض لا تحقّق له في الخارج.

نعم هذا ينافي القول بتقوّي الماء السافل بالعالي في غير الحمّام إذا كان مجموعهما كرّا ، إلّا أنّ القائل باشتراط كرّية المادّة بحسب الظاهر لا يلتزم بهذا القول وإن أوهمه إطلاق عبارته في الغديرين الموصولين بساقية.

والحاصل : أنّ غاية ما يمكن استفادته من هذه الأخبار ـ بضميمة الإجماع على عدم اشتراط كون المادّة أزيد من الكرّ ـ أنّ ماء الحمّام الموجود في حياضه الصغار حال جريان الماء فيها من موادّها التي لا تنقص عن الكرّ حكمه حكم الجاري.

ولا يبعد استفادة هذا الحكم لغير الحمّام أيضا من هذه الأخبار ، لبعد تنزيل هذه الأخبار على بيان حكم تعبّدي في خصوص الحمّام ، فإنّ الظاهر أنّ هذه الفقرات في هذه الروايات ـ أعني تنزيله منزلة الجاري وتشبيهه بماء النهر وتعليقه بالمادّة وغيرها من المبالغات الواردة في طهارة ماء الحمام ـ إنّما سيقت لرفع استبعاد السائلين حيث كثرت الريبة في قلوبهم لأجل ماء الحمام ، لكونه ماء قليلا يتوارد عليه النجاسات باغتسال اليهودي والنصراني والمجوسي والجنب ، فمن المستبعد جدّا أن يكون مقصود الإمام عليه‌السلام حين شبّهه (١) بماء النهر أو الجاري مجرّد بيان عدم انفعاله تعبّدا ، بل الظاهر أنّ مراده عليه‌السلام حين سألوه عن أنّ ماء الحمام

__________________

(١) في الطبعة الحجرية : تشبيهه.

٦٥

يتوارد عليه هذه النجاسات بيان وجه الاعتصام تقريبا لأذهانهم ، فكأنّه عليه‌السلام قال في جوابهم : كما أنّ ماء النهر والجاري لا يفسده توارد مثل هذه الأمور ، لاتّصاله بماء طاهر قاهر فكذا ماء الحمام ، فهذه التقريبات إنّما تؤثّر في رفع ما اختلج في أذهانهم من الريبة في خصوص الحمّام ، لا أنّه يستفاد منها أنّ لماء الحمام من حيث كونه في الحمّام حكما خاصّا تعبّديا.

هذا ، مع أنّه قد يقال : إنّ إطلاق تنزيله منزلة الجاري والنهر ـ مع قطع النظر عن بعد إرادة الخصوصية في خصوص المورد ـ يقتضي عموم المنزلة ، أي : التشبيه التام ، ومقتضاه أن تكون علّة اعتصامه تقويه بالماء الطاهر القاهر الذي يخرج عن مادّته ، بل قوله عليه‌السلام : «يطهّر بعضه بعضا» كالتصريح بأنّ علّة الاعتصام اتّصال بعضه ببعض ، وهذا ينافي مدخلية الخصوصية.

هذا ، مضافا إلى أنّ المناسبة بين عاصمية المادّة وكثرة الماء بانضمام بعضه إلى بعض وبين عدم الانفعال تجعلهما من الوجوه الظاهرة التي ينصرف إليها التشبيه ولو لم نقل بعموم المنزلة.

وقد يتوهّم أنّ مقتضى التشبيه بالجاري اعتبار الكرّية في مادّته حتى تكون عاصمة لنفسها ، كما في الجاري ، فيتمّ التشبيه.

وفيه نظر ، لأنّ التشبيه إنّما وقع بين الماءين والأحكام اللاحقة لمادّتهما حيث هي خارجة عن طرفي التشبيه.

وبإزاء هذا التوهّم توهّم أنّ مقتضى التشبيه التامّ عدم اعتبار كرّية المادّة ، كما في الجاري ، أو كفاية بلوغ المجموع كرّا في الدافعية ، كما في النهر.

٦٦

وقد عرفت دفعه : بأنّ المشبّه إنّما هو المياه الموجودة في الحمّامات المتعارفة ، فكريّة المادّة مأخوذة في مهيّة المشبّه ، فلا يراد من التشبيه نفي اعتبارها ، بل قد يقال : إنّ غزارة الماء وكثرته ولو بالاستعداد الذاتي ـ كما في الجاري ـ معتبرة في مفهوم المادّة.

وأمّا التشبيه بالنهر فلا يقتضي إلّا كون بعض ماء الحمّام كبعض ماء النهر علّة لاعتصام بعضه ، وأمّا أنّ أيّ مقدار من البعض يكون كافيا في الاعتصام على تقدير انفصاله عن سائر الأجزاء فهو أمر فرضي لا مدخلية له بجهات المشبّه به ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وكذا يظهر من تعليق نفي البأس عن ماء الحمام ـ في رواية بكر بن حبيب (١) ـ على وجود المادّة : علّيتها للاعتصام ، لا لظهور القضية الشرطية في كون الشرط سببا منحصرا للجزاء ، ضرورة أنّ الشرطية لا تدلّ إلّا على سببيّة خصوص الشرط لجزائه لا سببيّة نوع الشرط لنوع الجزاء ، فقولك :إن جاءك زيد فأكرمه ، لا يدلّ إلّا على سببيّة مجي‌ء زيد لإكرامه لا مجي‌ء كلّ أحد لإكرامه ، بل لما أشرنا إليه من أنّ وجود المادّة للحمّامات التي يتعارف الاستعمال من حياضها الصغار من لوازم مهيّتها ، فلا يراد من الشرطية تعليق الحكم على وجود الشرط ، فهي إمّا مسوقة لبيان اشتراط الاتّصال بالمادّة ، كما وجّهنا به عبارة العلماء ، أو أنّها مسوقة لبيان علّة الحكم ، نظير ما لو كانت عالميّة زيد عندك وعند المخاطب مسلّمة ، فتقول : زيد يجب إكرامه إذا كان عالما ، فإنّ المتبادر من هذا الكلام في

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في صفحة ٦١ ، الهامش (٢).

٦٧

مثل هذا المقام ليس إلّا أنّه يجب إكرامه لأجل علمه ، فتدلّ الرواية على هذا التقدير أيضا على اشتراط الاتّصال بدلالة تبعية.

وهذا المعنى أنسب بسوق العبارة ، إذ لو كان مراد الإمام عليه‌السلام بيان مجرّد اعتبار الاتّصال ، لكان الأنسب أن يقول : إذا اتّصل بمادّته.

هذا ، مع أنّه على هذا التقدير أيضا لا يخلو عن الإشعار.

هذا كلّه ، مع أنّ لنا أن نقول : يستفاد تقوّي السافل بالعالي الكثير من مطلق أخبار ماء الحمّام حتى من قوله عليه‌السلام : «ماء الحمام لا ينجّسه شي‌ء» (١) لأنّ العرف لا يساعد على أخذ الأوصاف الإضافية التي لا مدخلية لها في قوام ذات الموضوع قيدا لموضوعيته ، بل هي بنظر أهل العرف معرّفات للموضوع لا مؤثّرات في موضوعيته ، فلا فرق في ما يتفاهم عرفا بين قوله عليه‌السلام : «ماء الحمام لا ينجّسه شي‌ء» وبين قولك : الماء المعهود لا ينجّسه شي‌ء ، والخصوصيات التي يحتمل مدخليتها في الحكم بنظر العرف ليست إلّا ما تتعلّق بأوصاف الماء كمّا وكيفا.

وأمّا الاعتبارات اللاحقة له بالإضافة إلى الأمور الخارجية ـ ككونه واقعا في البستان ، أو في البيت ، أو في الحمّام ، أو كونه قريبا من المسجد ، إلى غير ذلك من الأوصاف الإضافية ـ فلا ، من دون فرق بين أن يؤخذ شي‌ء من هذه العناوين موضوعا في الأدلّة للحكم الشرعي كما لو قال : الماء المتّصل بدار زيد لا ينجّسه شي‌ء ، وبين أن يعلّق الحكم على نفس الماء بأن يقول : هذا الماء لا ينجّسه شي‌ء.

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في صفحة ٦١ ، الهامش (٤).

٦٨

أترى أنّ أهل البلاد التي يتعارف عندهم استعمال ماء الحمام بحيث صار طهارته واعتصامه مغروسا في أذهانهم ، هل يخطر ببال عوامهم انقلاب الحكم لو انهدم سقف الحمّام بحيث ارتفع عنه اسم الحمّامية وبقي مع ذلك ماؤه على ما كان عليه كمّا وكيفا؟

هذا ، مع أنّه لم يبلغهم إلّا أنّ ماء الحمّام لا ينجّسه شي‌ء ، فكيف لو ضمّ إليه سائر الفقرات المذكورة في الأخبار المشعرة بعلّية تكاثر الماء من المادة ، أو الظاهر فيها ، كتعليق عدم الانفعال على وجود المادّة ، أو التصريح بأنّه حال جريه من المادّة بمنزلة الجاري ، وأنّه مثل ماء النهر يطهّر بعضه بعضا ، فلا يبقى حينئذ مجال احتمال مدخلية الوصف العنواني في موضوعية الموضوع.

وممّا يؤيّد ذلك بل يدلّ عليه : تعليل طهارة ماء البئر في صحيحة ابن بزيع (١) بالمادّة ، إذ الظاهر أنّ إطلاقها على مادّة الحمّام والجاري ليس على سبيل الاشتراك ، بل المناط في الصدق بحسب الظاهر كون المنبع مستعدّا للجري استعدادا ذاتيّا ، كما في الجاري ، أو عرضيا ، كما في مادّة الحمّام ، فتأمّل.

ويؤيّده أيضا : عدم معروفية الخلاف في تقوّي السافل بالعالي الكرّ ، بل عن غير واحد دعوى الاتّفاق عليه ، بل يظهر من بعض كونه من المسلّمات عندهم.

وكيف كان ، فلا ينبغي الإشكال في ذلك ، وإنّما الإشكال في كفاية

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادرها في صفحة ٣٦ ، الهامش (٢).

٦٩

بلوغ المجموع كرّا حيث إنّ هذه الأدلّة قاصرة عن إثباتها ، فلا بدّ له من دليل آخر ، وسيتّضح لك تحقيقه في مبحث الكرّ إن شاء الله.

فتحصّل لك أنّ الأقوى أنّه لا خصوصية لماء الحمّام تقتضي إفراده بالذكر إلّا متابعة النصّ ، والله العالم.

(و) اعلم أنّ الماء مطلقا جاريا كان أم غير جار (لو مازجه) جسم (طاهر فغيّره) مّا هو عليه من الأوصاف (أو تغيّر من قبل نفسه لم يخرج عن كونه مطهّرا ما دام إطلاق اسم الماء باقيا عليه) بلا إشكال ولا خلاف.

ويدلّ عليه مضافا إلى الأصل والإجماع : إطلاقات الأدلّة.

(وأمّا) الماء (المحقون) أي : المحبوس ، والمراد به ما يعمّ السائل لا عن نبع ، في مقابل الجاري ، وما بحكمه ، وماء البئر (فما كان منه دون) مقدار (الكرّ) الذي ستعرفه إن شاء الله (فإنّه ينجس بملاقاة النجاسة) والمتنجّس على المشهور ، بل عن الشيخ والشهيدين وجملة من أساطين علمائنا دعوى الإجماع عليه مستثنيا بعضهم ابن أبي عقيل (١).

ويدلّ عليه الأخبار المستفيضة بل المتواترة على ما قيل (٢).

وفي الرياض : إنّه قد جمع بعض الأصحاب منها مائتي حديث (٣).

وفي طهارة شيخنا المرتضى رحمه‌الله : قيل : إنّها تبلغ ثلاثمائة (٤)

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ١ : ١٠٥ وكتاب الطهارة للشيخ الأنصاري : ٩.

(٢) كما في كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري : ٩.

(٣) رياض المسائل ١ : ٥.

(٤) كتاب الطهارة : ٩.

٧٠

منها : صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء ، قال : «كرّ» قلت : وما الكرّ؟ (١) الخبر.

وفي مصحّحة اخرى له : عن الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء ، قال :«ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته» (٢).

فإنّه يستفاد منهما أنّ انقسام الماء إلى ما ينفعل وإلى ما لا ينفعل كان مركوزا في أذهان الرواة.

ومنها : الأخبار المستفيضة المشتملة على قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء» (٣).

والمناقشة في دلالتها على العموم بما مرّ غير ضائرة لما نحن بصدره في المقام.

ومنها : صحيحة البقباق ، الواردة في سؤر الكلب ، قال عليه‌السلام : «إنّه رجس نجس لا تتوضّأ بفضله ، واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ، ثم بالماء» (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ٤١ ـ ١١٥ ، الإستبصار ١ : ١٠ ـ ١٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

(٢) التهذيب ١ : ٤١ ـ ١١٤ ، الإستبصار ١ : ١٠ ـ ١٢ ، الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٣ : ٢ ـ ١ و ٢ ، الفقيه ١ : ٨ ـ ١٢ ، التهذيب ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ـ ١٠٧ ـ ١٠٩ ، الاستبصار ١ : ٦ ـ ٢ و ٣ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢ و ٦.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢٥ ـ ٦٤٦ ، الإستبصار ١ : ١٩ ـ ٤٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، الحديث ٤.

٧١

وصحيحة علي بن جعفر في خنزير يشرب من إناء ، قال : «يغسل سبع مرّات» (١).

وصحيحة محمد بن مسلم : عن الكلب يشرب من الإناء ، قال :«اغسل الإناء» (٢).

وصحيحة البزنطي : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة ، قال : «يكفئ (٣) الإناء» (٤).

وصحيحة ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل الجنب يجعل الركوة (٥) أو التور (٦) فيدخل إصبعه فيه ، فقال : «إن كانت يده قذرة فليهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا ممّا قال الله عزوجل (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٧)» (٨) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي سيجي‌ء التعرّض لذكر بعضها.

ولا يخفى على المتأمّل فيها أنّه يستفاد من مجموعها استفادة قطعية

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٦١ ـ ٧٦٠ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٥ ـ ٦٤٤ ، الإستبصار ١ : ١٨ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الأسئار ، الحديث ٣.

(٣) كفأه : كبّه وقلبه. القاموس المحيط ١ : ٢٦ والمراد إراقة ماء الإناء.

(٤) التهذيب ١ : ٣٩ ـ ١٠٥ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٧.

(٥) الركوة : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. النهاية لابن الأثير ٢ : ٢٦١.

(٦) التور : إناء من صفر أو حجارة كالاجانة ، وقد يتوضّأ منه. لسان العرب ٦ : ٩٦.

(٧) سورة الحج ٢٢ : ٧٨.

(٨) التهذيب ١ : ٣٨ ـ ١٠٣ ، الإستبصار ١ : ٢٠ ـ ٤٦ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١١.

٧٢

أنّ الماء في الجملة قابل للانفعال بشي‌ء من النجاسات ولو مثل الخمر والنبيذ وولوغ الكلب والخنزير ، فلا حاجة إلى إطناب الكلام في مقابل من يقول بالسلب الكلّي استنادا إلى استبعادات ضعيفة ـ كما سنشير إليها إن شاء الله ـ وعمومات قابلة للتخصيص :مثل قوله عليه‌السلام : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء» (١).

وإطلاقات منصرف أغلبها في حدّ ذاتها عن الماء القليل ، كالأخبار البالغة من الكثرة نهايتها الواردة في حكم الماء الغدير والنقيع الذي يمرّ به المسافر في أثناء الطريق ، أو يكون في ناحية القرية تردها الكلاب والسباع ، أو فيه جيفة ، أو يغتسل فيه الجنب ، ويستنجي فيه الإنسان.

ومن المعلوم أنّ ما كان هذا شأنه من الغدران يزيد ماؤه غالبا عن أضعاف الكرّ ، فلا مجال لتوهّم القلّة فيها حتى يكون ترك الاستفصال في مثله مفيدا للعموم.

مع أنّها على تقديره قابلة للتخصيص كغيرها من المطلقات النافية للبأس ، أظهرها دلالة : حسنة محمد بن مسير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغترف به ويداه قذرتان؟ قال : «يضع يده ويتوضّأ ثم يغتسل ، هذا ممّا قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢)» (٣).

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٤ ، المعتبر ١ : ٤١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩.

(٢) سورة الحج ٢٢ : ٧٨.

(٣) الكافي ٣ : ٤ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ١٤٩ ـ ٤٢٥ ، الإستبصار ١ : ١٢٨ ـ ٤٣٨ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

٧٣

وفيه ـ بعد منع الحقيقة الشرعية في القليل ـ : أنّها مطلقة قابلة للتقييد ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ أغلب المياه التي ينتهي إليه في الطريق إمّا ذو مادّة ، أو مياه الغدران التي قلّما تكون أقلّ من كرّ ، فتسميتها قليلا ربما تكون بالإضافة إلى المياه التي يمكن الارتماس فيها.

وإن أبيت إلّا عن ظهورها في الماء القليل الذي لم يبلغ الكرّ ، فلا بدّ من طرحها ، لقصورها عن مكافئة الأخبار المتقدّمة التي لا يضرّها خصوصية المورد في أكثرها بعد عدم القول بالفصل.

هذا ، مع أنّ الأمر بالتوضّؤ مع غسل الجنابة ممّا يقرّب حملها على التقية كما في الوسائل (١).

اللهم إلّا أن يراد به معناها اللغوي وهو التنظيف ، وأمره به لكونه مقدّمة للغسل.

هذا ، ولكن الإنصاف ظهور الحسنة في إرادة الماء القليل وحكومتها على أدلّة الانفعال ، فإنّه لو كان موردها الكرّ ، لم يكن هذا ممّا قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) بل كان ممّا ورد فيه :«إنّ الماء إذا كان كرّا لا ينجّسه شي‌ء» فالرواية بمدلولها اللفظي تدلّ على أنّ موردها ممّا كان من شأنه الانفعال ووجوب التحرّز عنه ، ولكنه رفع عنه هذا الحكم لمكان الضرورة والحرج ، فهي حاكمة على الأدلّة المطلقة الدالّة على الانفعال ، ومقتضاها التفصيل بين حالتي الاختيار والضرورة ،

__________________

(١) الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، ذيل الحديث ٥.

٧٤

فحالها حال رواية قرب الإسناد الآتية ، وستعرف الجواب عنها.

وممّا يستدلّ به لابن أبي عقيل القائل بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة : أخبار خاصة معارضة في خصوص موردها بما هو أقوى دلالة ، وأكثر عددا ، وأرجح سندا واعتضادا بعمل الأصحاب :

منها : ما عن قرب الإسناد وكتاب المسائل لعلي بن جعفر ، قال :سألت عن جنب أصاب يده جنابة فمسحه بخرقة ، ثم أدخل يده في غسله قبل أن يغسلها ، هل يجزئه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال : «إن وجد ماء غيره فلا يجزئه أن يغتسل ، وإن لم يجد غيره أجزأه» (١).

ويعارضه ـ كالخبر السابق ـ في خصوص موردهما : الأخبار المستفيضة الدالّة على عدم جواز الاغتسال إذا أدخل الجنب يده القذرة في الإناء :

مثل : رواية شهاب ابن عبد ربه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ، قال : «لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء» (٢).

وموثّقة سماعة : «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة ، فإن أدخلت يدك في الماء وفيها شي‌ء من ذلك فأهرق ذلك الماء» (٣).

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٨٠ ـ ٦٦٦ ، مسائل علي بن جعفر : ٢٠٩ ـ ٤٥٢.

(٢) الكافي ٣ : ١١ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٣.

(٣) الكافي ٣ : ١١ ـ ١ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤ ، وفيهما عن سماعة عن أبي بصير.

٧٥

وموثّقة سماعة أيضا : «إذا أصاب الرجل جنابة ، فأدخل يده في الإناء ، فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء من المني» (١).

وموثّقته الأخرى ، «وإن كان أصابته جنابة فأدخل يده في الماء ، فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شي‌ء من المني ، وإن كان أصاب يده شي‌ء ، فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفّيه ، فليهرق الماء كلّه» (٢) إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

ورواية قرب الإسناد ـ كالحسنة السابقة ـ وإن كانت صالحة ـ على تقدير صحتها وسلامتها عن المعارض ـ لتقييد مثل هذه الأخبار ، خصوصا ما ليس فيه الأمر بالإهراق ، المشعر بخروجه عن المالية بصورة الاختيار ، إلّا أنّه بحسب الظاهر لا قائل بالفرق في جواز الاغتسال منه وعدمه بين الحالتين ، فهي في الحقيقة غير معمول بها بظاهرها.

مع أنّه يعارضها من هذه الجهة : الموثّق عن رجل معه إناءان وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيره ، قال :«يهريقهما جميعا ويتيمّم» (٣).

وعن عمّار الساباطي مثله ، إلّا أنّه قال : «قد حضرت الصلاة وليس

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧ ـ ٩٩ ، الإستبصار ١ : ٥٠ ـ ١٤٤ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٩.

(٢) التهذيب ١ : ٣٨ ـ ١٠٢ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٠.

(٣) التهذيب ١ : ٢٤٩ ـ ١٧٣ ، الإستبصار ١ : ٢١ ـ ٤٨ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

٧٦

يقدر» (١) الخبر.

وهذا صريح في عدم جواز الاستعمال حتى حال الاضطرار ولو في صورة الاشتباه ، فالمتّجه حمل رواية قرب الإسناد على التقيّة ، لكون مضمونها مذهب كثير من العامّة على ما قيل (٢) ، والله العالم.

ومنها : رواية أبي مريم الأنصاري ، قال : كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في حائط له فحضرت الصلاة ، فنزح دلوا للوضوء من ركيّ له ، فخرج قطعة من عذرة يابسة فأكفأ رأسه وتوضّأ بالباقي (٣).

قال شيخنا المرتضى رحمه‌الله ـ بعد نقل الرواية ـ : وظهورها في عدم الانفعال لا ينكر بناء على ظهور العذرة في عذرة الإنسان ، إلّا أنّ أحدا لا يرضى أن يتوضّأ الإمام عليه‌السلام من هذا الماء ، مع ما علم اهتمام الشارع في ماء الطهارة بما لا يهتم في غيره ، ومع ذلك فهي معارضة بما دلّ على عدم جواز التوضّؤ بمثل هذا الماء ، قال : كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في طريق مكّة ، فصرنا إلى بئر ، فاستقى غلام أبي عبد الله عليه‌السلام دلوا ، فخرج فيه فأرتان ، فقال له أبو عبد الله : «أرقه» فاستقى آخر فخرج فيه فأرة ، فقال أبو عبد الله : «أرقه» فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شي‌ء ، فقال له :

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٤٨ ـ ٧١٢ و ٤٠٧ ـ ١٢٨١ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٤.

(٢) راجع : الحدائق الناضرة ١ : ٣٠٠.

(٣) التهذيب ١ : ٤١٦ ـ ١٣١٣ ، الإستبصار ١ : ٤٢ ـ ١١٩ ، الوسائل الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٢.

٧٧

«صبّه في الإناء» فصبّه في الإناء (١) ، فإنّ الأمر بالإراقة لا يكون إلّا مع النجاسة (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول : وضوح الحال في مثل هذه الروايات وعدم مكافئتها للأخبار المتواترة القطعية الدلالة على انفعال الماء القليل في الجملة ، المقتضية للحكم بالانفعال في سائر أنواع النجاسات بعدم القول بالفصل ، أغنانا عن التكلّم في دلالة الرواية ، والتكلّم في خصوص ما ذكره من المعارض في صلاحيته للمعارضة.

هذا ، مع أنّ في الرواية ما فيها ، وقد أشار إليه شيخنا المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في كلامه المتقدّم حيث أومأ الى أنّ هذا الفعل منشأ لتنفّر الطباع ، فلا ينبغي صدوره عن أئمّة الجماعة والجمعة ، فكيف يعقل صدوره عن إمام الأمّة!؟

مضافا الى أنّ مرجوحيته مقطوع بها ، إذ لو لم نقل بالنجاسة فلا أقلّ من الكراهة الشديدة ، فصدوره بعيد عن ساحتهم بمراتب.

واحتمال صدوره عنهم لإرشاد العباد الى جوازه ، مدفوع : بأنّ هذا في ما إذا لم يكن البيان القولي وافيا بتمام المراد ، فيعرض للفعل جهة حسن تكافئ مرجوحيته الذاتية ، وأمّا إذا كان القول أوفى ـ كما في ما نحن فيه ـ فلا ، خصوصا مثل هذا الفعل الموجب لتنفّر الطباع ، فالمتعيّن

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٣٩ ـ ٦٩٣ ، الإستبصار ١ : ٤٠ ـ ١١٢ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٢) كتاب الطهارة : ١٠.

٧٨

في مثل المقام تخطئة الراوي في زعمه أنّها عذرة ، أو تكذيبه ، والله العالم.

ومنها : خبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قلت له : رواية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ (١) أو صعوة (٢) ميتة ، قال : «إن تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبّها ، وإن كانت غير منفسخة فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ، وكذلك الجرّة وحبّ الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء» (٣).

ويعارضه في خصوص مورده : الأخبار المستفيضة ، مثل : موثّقة سعيد الأعرج ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجرّة تسع مائة رطل من الماء تقع فيها أوقية من الدم ، أتوضّأ منه وأشرب؟ قال : «لا» (٤).

ولكن يمكن حمل هذه الموثّقة على التغيّر.

وخبر أبي بصير : «ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء» (٥).

وخبر عمر بن حنظلة في المسكر ، وفيه : «لا قطرة قطرت منه في

__________________

(١) الجرذ : ضرب من الفأر. الصحاح ٢ : ٥٦١ «جرذ».

(٢) الصعوة : طائر من صغائر العصافير أحمر الرأس. مجمع البحرين ١ : ٢٦٢ «صعا».

(٣) التهذيب ١ : ٤١٢ ـ ١٢٩٨ ، الإستبصار ١ : ٧ ـ ٧ ، الوسائل ، الباب ٣ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٤) التهذيب ١ : ٤١٨ ـ ١٣٢٠ ، الإستبصار ١ : ٢٣ ـ ٥٦ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٥) الكافي ٦ : ٤١٣ ذيل الحديث ١ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب النجاسات ، الحديث ٦ والباب ٢٠ من أبواب الأشربة المحرمة ، الحديث ٢.

٧٩

حبّ إلّا أهريق ذلك الحبّ» (١).

ورواية قرب الإسناد عن حبّ ماء تقع فيه أوقية بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء [منه] (٢)؟ قال : «لا يصلح» (٣).

وموثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام في ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب أو دجاجة ، فقال : «كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ بما يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دما ، وإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه ولا تشرب» (٤) الى غير ذلك.

وقيل في الانتصار لهذا القول : اعتبارات ضعيفة ووجوه هيّنة :

منها : لو كان ينجس الماء بملاقاة النجاسة لما جاز إزالة النجاسة بشي‌ء منه بوجه ، لأنّ النجس منجّس ، فلا يكون مطهّرا.

ومنها : أنّ اشتراط الكرّية مثار الوسواس ، ولأجله شقّ الأمر على الناس ، وكيف يصنع أهل مكّة والمدينة؟ إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكد الكثير ، ومن أوّل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى آخر عصر الصحابة لم تنقل واقعة في الطهارات ، ولا سؤال عن كيفية حفظ المياه من النجاسات ، وكانت أواني شربهم مثلا يتعاطاها الصبيان والنساء والإماء ، الذين لا

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤١٠ ـ ١٥ ، التهذيب ٩ : ١١٢ ـ ٤٨٥ ، الوسائل ، الباب ١٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث ١ ، وفيها : «تقطر» بدل «قطرت».

(٢) زيادة من المصدر.

(٣) مسائل علي بن جعفر : ١٩٧ ـ ٤٢٠ ، الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٦ ، ولم نجدها في قرب الإسناد.

(٤) الكافي ٣ : ٩ ـ ٥ ، الوسائل ، الباب ٤ من أبواب الأسئار ، الحديث ٢.

٨٠