مصباح الفقيه - ج ١

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: المؤسسة الجعفريّة لإحياء التراث
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٢

كبعض الأخبار المتقدّمة والآتية التي سنشير إليها ـ قرينة للتصرّف في الأخبار الآمرة بالنزح التي يستظهر منها النجاسة.

ومنها : موثّقة أبي بصير ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : بئر يستقى منها ويتوضّأ به وغسل به الثياب وعجن به ثم علم أنّه كان فيها ميّت ، قال : «لا بأس ولا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة» (١).

وما أجيب به عن هذه الطائفة من الأخبار من حمل نفي البأس عن الوضوء وسائر الاستعمالات على ما لو احتمل حصولها قبل وقوع النجاسة في البئر ، ففيه ما لا يخفى ، إذ الأسئلة الواقعة في هذه الروايات بأسرها كادت تكون صريحة في إرادة حكم الاستعمالات الواقعة عقيب وقوع النجاسة في البئر.

ومنها : ما رواه الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال ، قلت له : شعر الخنزير يجعل حبلا ويستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها ، فقال : «لا بأس به» (٢).

ظاهر الرواية سؤاله عن ماء البئر الملاقي للحبل النجس ، فلا وجه للمناقشة بعدم العلم بملاقاة الحبل للماء.

هذا ، مع أنّ انفكاك ماء البئر عن ملاقاة الحبل الذي يتعارف استعماله فيها ـ كما هو ظاهر السؤال ـ ممتنع عادة.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٤ ـ ٦٧٧ ، الإستبصار ١ : ٣٢ ـ ٨٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

(٢) الكافي ٦ : ٢٥٨ ـ ٣ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٣.

١٦١

نعم لو كان السؤال عن الماء الذي يستقى بهذا الحبل ، لتعيّن حمله على صورة الجهل بتقاطر الماء من الحبل النجس على الدلو بعد الالتزام بعدم نجاسة ماء البئر بملاقاته ، وهذا الحمل ليس بعيدا ، لأنّ عدم التقاطر بالنسبة إلى كلّ دلو دلو ليس خلاف المتعارف.

وعليه يحمل ما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر هل يتوضّأ من ذلك الماء؟ قال : «لا بأس» (١) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يمكن استفادة المطلوب منها ، ولا حاجة إلى استقصائها ، لأنّ في ما ذكرناه غنى وكفاية.

حجّة القائلين بالنجاسة أمور : الأوّل : الأخبار المستفيضة التي يدّعي ظهورها في النجاسة :

منها : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : قال كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام في البئر تكون في المنزل للوضوء فتقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة ونحوها ، ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها؟ فوقّع عليه‌السلام بخطّه في كتابي «ينزح منها دلاء» (٢).

وتقريب الاستدلال بها من وجهين :

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦ ـ ١٠ ، التهذيب ١ : ٤٠٩ ـ ١٢٨٩ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢ ، وفيها : «سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى ..».

(٢) الكافي ٣ : ٥ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٤ ـ ٧٠٥ ، الإستبصار ١ : ٤٤ ـ ١٢٤ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢١.

١٦٢

أحدهما : ظهور الأمر بالنزح ـ في مثل المقام ـ في الوجوب الشرطي الكاشف عن نجاسة ماء البئر.

وثانيهما : تقرير الإمام عليه‌السلام بضميمة أصالة عدم الخوف في الردع بالكتابة.

ويتوجّه على الأول : أنّ إطلاق الدلاء قرينة على إرادة الاستحباب من الجملة الخبرية ، إذ لو حملت على الوجوب لوجب إمّا الالتزام بكفاية مطلق الدلاء لكلّ واحد من الأشياء المذكورة في الرواية ، وهو مخالف للإجماع والأخبار الواردة في ما ينزح لكلّ منها بالخصوص ، وإمّا الالتزام بإهمال الرواية من هذه الجهة ، فتكون الرواية مسوقة لبيان أنّ مطهّر البئر إنّما هو من جنس النزح ، وهو خلاف ظاهر الرواية ، لأنّ ظاهرها كونها مسوقة لبيان ما يطهّر البئر بحيث يحلّ الوضوء منها ، لا لبيان نوع ما يطهّر البئر.

وأمّا لو حملت على الاستحباب ، فلم يتوجّه شي‌ء من هذه المحاذير ، لأنّ الاختلاف بين الأخبار على هذا التقدير منزّل على اختلاف مراتب الفضل ، وهذا ـ أي : الاختلاف بين الأخبار الواردة في تعيين مقدار ما ينزح للنجاسات ـ من أقوى الشواهد على عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة.

ويتوجّه على التقريب الثاني أوّلا : عدم ثبوت تقريره عليه‌السلام ، لم لا يجوز أن تكون المسامحة في الجواب بإطلاق الدلاء ردعا له عمّا اعتقده؟بل لم لا يجوز أن تكون صحيحته السابقة ـ التي هي نصّ في عدم

١٦٣

النجاسة ـ ردعا له ، خصوصا لو كانت تلك الصحيحة أيضا واقعة في جواب هذا الكتاب الذي كتبه ابن بزيع إلى رجل أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام كما هو المظنون بالنظر إلى ما في الكافي حيث إنّه بعد نقل هذه الصحيحة أردفها بالصحيحة المتقدّمة ، فقال : وبهذا الإسناد قال : «ماء البئر واسع» (١) إلى آخره ، فعلى هذا التقدير لا يبقى للسائل مجال لتوهّم النجاسة.

وثانيا : أنّ وقوع النجاسة في البئر وإن لم نلتزم بأنّه سبب لنجاسة مائها إلّا أنّه لا محيص عن الالتزام بكونه مؤثّرا في حدوث مرتبة من القذارة يكره لأجلها الاستعمال ، ويستحب التنزّه عنه إلّا بعد نزح المقدّر ، كما يفصح عن ذلك الأخبار الكثيرة الآتية.

ووجوب الردع في مثل المقام ممّا لا يترتّب على جهل السائل مفسدة عملية في الغالب غير مسلّم ، خصوصا مع احتمال أن يكون مراد السائل من الطهارة : النظافة المطلقة ، لا ما يقابل النجاسة ، ومن حلّ الوضوء : الحلّية بمعناها الأخصّ ، لا ما يقابل الحرمة.

وثالثا : أنّ أصالة عدم الخوف أو عدم أمر آخر مقتض لحسن إبقاء السائل على جهله لا تكافئ الأدلّة الدالّة على الطهارة ، خصوصا مع وجود ما يقتضي إظهار خلاف الواقع ، وهو التقية من العامة الذاهبين إلى النجاسة ، والحاصل : أنّ التقرير لا يزاحم التنصيص على الخلاف.

ومنها : صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، قال :

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥ ـ ٢.

١٦٤

سألته عن البئر يقع فيها الحمامة والدجاجة والفأرة والكلب والهرّة ، فقال عليه‌السلام :«يجزئك أن تنزح منها دلاء ، فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء الله» (١).

والجواب عنها : ما في سابقتها من أنّ إطلاق الدلاء دليل على كون الحكم تنزيهيّا ، وأنّ المراد من الطهارة : النظافة المطلقة لا ما يقابل النجاسة.

قال شيخ مشايخنا المرتضى طاب ثراه : إنّ الأمر بنزح الدلاء في هذه الصحيحة أظهر في الاستحباب من سابقتها من حيث كونه أظهر في مقام البيان فيبعد جدّا حملها على بيان نوع المطهّر ، وإحالة تفصيل كلّ واحد من النجاسات إلى مقام آخر ، فالأولى حمل لفظ التطهير هنا على إرادة إزالة القذارة والنفرة الحاصلة من وقوع تلك الأشياء (٢). انتهى.

أقول : أظهرية هذه الصحيحة من حيث كونها في مقام بيان تمام الحكم إنّما هي بالنظر إلى مجرّد الجواب ، وإلّا فالصحيحة الأولى أيضا بعد ضمّ جواب الإمام عليه‌السلام إلى سؤال السائل كهذه الصحيحة من حيث الإباء عن حملها على بيان نوع المطهّر ، لأنّ السائل إنّما سأله عمّا يطهّر البئر حتى يحلّ الوضوء منها ، ولا شبهة أنّه لو كتب مفت في جواب من استفتاه بهذا السؤال : أنّ مطهّر البئر من جنس النزح ، لكان من القبح بمكان ، فلا يجوز تنزيل كلام الإمام عليه‌السلام على هذا المعنى المجمل الذي لا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٧ ـ ٦٨٦ ، الإستبصار ١ : ٣٧ ـ ١٠١ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

(٢) كتاب الطهارة : ٢٦.

١٦٥

يفيد في مقام العمل أصلا خصوصا بعد ملاحظة أنّها كتابة ، وأنّ السائل لا يتمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، فلا بدّ من أن يكون الجواب في مثلها شافيا كافيا.

وكيف كان فلا يمكن تنزيل شي‌ء من الصحيحتين على إرادة هذا المعنى ، بل لا بدّ إمّا من القول بالاستحباب وتنزيلهما عليه ، أو طرحهما ، أو الالتزام بكفاية مطلق نزح الدلاء للمذكورات.

ولكنك قد عرفت أنّ الأخير مخالف للإجماع والأخبار الواردة في تقدير هذه الأمور ، والثاني موقوف على عدم إمكان العمل بهما ، وهو ممكن بحمل الجملة الخبرية على الاستحباب ، والطهارة على معناها اللغوي ، كما يساعد عليه أفهام العرف بعد اطّلاعهم على عدم الوجوب ، فالصحيحتان اللتان هما عمدة أدلّتهم على خلاف مطلوبهم أدلّ.

ومنها : صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا تغترف به فيتمّم بالصعيد فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد ، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم» (١).

ويتوجّه على الاستدلال بها : أنّه يفهم من قوله عليه‌السلام : «ولا تقع في البئر» إلى آخره : أنّ علّة النهي عن الاغتسال إفساد الماء على القوم ، لا فساد الغسل في حدّ ذاته بحيث لو لا هذا المحذور لجاز الاغتسال منها ، وهذا ينافي نجاسة الماء بوقوعه فيه ، ضرورة أنّ نجاسته تستلزم لغوية

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٥ ـ ٩ ، التهذيب ١ : ١٤٩ ـ ٤٢٦ و ١٨٥ ـ ٥٣٥ ، الاستبصار ١ : ١٢٧ ـ ٤٣٥ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢٢.

١٦٦

غسله ، ونجاسة بدنه ، فكان التعليل بها أولى من التعليل بالإفساد الموهم لجواز الاغتسال منها عند انتفاء هذا المحذور ، كما إذا لم تكن البئر ممّا يحتاج إليها الغير ، أو لم يكن للغير حقّ في استعمالها ، بل ربما يستشعر من قوله عليه‌السلام : «فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد» كون الحكم رخصة بحيث لو اغتسل لكان غسله صحيحا ، كالاغتسال بالماء البارد الذي يشقّ تحمّله عادة من دون أن يتضرّر به ، فيكون حراما إن قلنا بصحة الغسل ، كما هو الأظهر ، فلا بدّ من أن يراد من الإفساد معنى آخر غير النجاسة ، كاستقذار القوم ذلك بمقتضى طبائعهم ، أو لإثارة الوحل من البئر ، أو لصيرورة مائها مستعملا في رفع الحدث.

ويؤيّده : ترك التفصيل بين نجاسة بدنه وعدمها.

نعم لو قيل بنجاسة البئر تعبّدا باغتسال الجنب فيها عند خلوّ بدنه عن النجاسة الخبثية ، ونزّل الرواية عليه ، ثم تمّم القول في ما لو وقع في البئر شي‌ء من النجاسات بعدم القول بالفصل ، لم يتوجّه عليه هذا المحذور ، ضرورة صحّة غسله إذا ارتمس فيها وإن تنجّس بدنه بالخروج ، ولكن بشرط أن يكون الغسل لغاية غير مشروطة بطهارة البدن كالصوم ، وإلّا فلا يصحّ غسله أيضا ، لعدم الأمر به ، لما سيأتي من أنّ مراعاة طهارة البدن أولى عند الدوران من الطهارة المائية ، فلا يتعلّق الأمر بطهارة تتعقّبها نجاسة البدن.

ولكنّك ستعرف ضعف هذا القول ، فلا يصح تنزيل الرواية عليه ، فضلا عن تقييدها بما لو أراد الاغتسال للصوم ونحوه.

١٦٧

وحاصل الكلام : أنّه لا شاهد على إرادة النجاسة من الإفساد في هذه الصحيحة ، بل الشواهد على خلافها ، ولا يقاس بها صحيحة ابن بزيع ، المتقدّمة (١) في أدلّة الطهارة ، لوضوح الفرق بين الصحيحتين ، فلاحظ.

ومنها : حسنة زرارة وأبي بصير ومحمد بن مسلم ، قالوا : قلنا له :بئر يتوضّأ منها يجري البول قريبا منها ، أينجّسها؟ قال : فقال : «إن كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شي‌ء ، وإن كان أقلّ من ذلك نجّسها» قال : «وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمرّ الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجّسها ، وما كان أقلّ من ذلك فلا تتوضّأ منه» قال زرارة : قلت له : فإن كان مجرى البول بلصقها وكان لا يلبث على الأرض؟ فقال : «ما لم يكن له قرار فليس به بأس وإن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ولا قعر له حتى يبلغ البئر ، وليس على البئر بأس ، فتوضّأ منه ، إنّما ذلك إذا استنقع (٢) كلّه» (٣).

وعن علي بن إبراهيم مثلها إلّا أنّه أسقط قوله : «وإن كان أقلّ من ذلك نجّسها» (٤).

وأجيب عنها أوّلا : بقصورها عن معارضة الأخبار المتقدّمة

__________________

(١) تقدّمت في ص ١٥٧.

(٢) استنقع : ثبت واجتمع وطال مكثه. مجمع البحرين ٤ : ٣٩٩.

(٣) الكافي ٣ : ٧ ـ ٨ ـ ٢ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٤) التهذيب ١ : ٤١٠ ـ ١٢٩٣ ، الإستبصار ١ : ٤٦ ـ ١٢٨ ، الوسائل ، الباب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ، ذيل الحديث ١.

١٦٨

المعتضدة بالأصل ومطابقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة جمهور العامّة ، فيتعيّن تأويلها بحمل النجاسة على مجرّد الاستقذار ، والنهي عن التوضّؤ على الكراهة ، أو حملها على ما إذا أثّر تكاثر ورود النجاسة على البئر في تغييرها ، كما يؤيّده ما في ذيلها : «إنّما ذلك إذا استنقع الماء كلّه».

ويؤيّده أيضا : رواية محمد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمس أذرع أو أقلّ أو أكثر يتوضّأ منها؟قال : «ليس يكره من قرب ولا من بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء» (١).

وثانيا : بمخالفة ظاهرها للإجماع ، لأنّ القائلين بالنجاسة أيضا لا يقولون بحصول التنجيس بمجرّد التقارب بين البئر والبالوعة ، فلا بدّ من تأويلها بحمل النجاسة على غير معناها الشرعي.

وناقش في الجواب الثاني شيخنا المرتضى رحمه‌الله بقوله : والإنصاف أنّ هذه الحسنة وإن لم تحمل على ظاهرها من حيث عدم انفعال البئر بمجرّد قرب المبال إلّا أنّها ظاهرة في الانفعال عند العلم بوصول البول إليها (٢). انتهى.

أقول : إنّما يفهم منها ـ بعد الإغماض عن حملها على صورة التغيّر ـ أنّ مناط نجاسة البئر بالمعنى الذي أريد من الرواية إنّما هو وصول البول

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٤١١ ـ ١٢٩٤ ، الإستبصار ١ : ٤٦ ـ ١٢٩ ، الوسائل ، الباب ١٤ و ٢٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤ و ٧.

(٢) كتاب الطهارة : ٢٦.

١٦٩

إليها ، فلو علم عدم الوصول فلا بأس ، وأمّا إذا لم يعلم عدم الوصول وكان بين البئر ومجرى البول أقلّ من الثلاثة أذرع أو التسعة أذرع فهي محكومة بالنجاسة تعبّدا ، فيستفاد من ذلك أنّ قرب المبال الذي هو أمارة ظنّية قد جعله الشارع طريقا تعبّديا لاستكشاف الوصول ونجاسة الماء ، ولمّا ثبت بالنص والإجماع أنّ النجاسة بمعناها المصطلح لا تثبت بهذا الطريق وجب أن يكون المراد منها معنى آخر ، كمطلق القذارة التي يكره لأجلها الاستعمال ، فالنجاسة بهذا المعنى هي التي يفهم من الرواية تحقّقها عند العلم بالوصول ، لا النجاسة المصطلحة.

ودعوى : لزوم إبقاء لفظ النجاسة على ظاهرها وارتكاب التقييد في الرواية بحملها على صورة العلم بالوصول بقرينة الإجماع ، يدفعها : أنّ التقييد بصورة العلم يستلزم كون التحديد بثلاثة أذرع وتسعة أذرع لغوا ، لكون الحكم على هذا التقدير دائرا مدار العلم.

ودعوى : أنّ التحديد بالثلاثة والتسعة جار مجرى الغالب ، إذ الغالب حصول العلم بالوصول إذا كان الفصل أقلّ منها ، مجازفة من القول.

والحاصل : أنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظاهر التحديد أو ظاهر لفظ النجاسة ، ولا أولوية للأول لو لم نقل بأنّ الثاني هو المتعيّن.

ومنها : رواية ابن مسكان عن أبي بصير «وكلّ شي‌ء يقع في البئر ليس له دم مثل العقرب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس» (١).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦ ـ ٦ ، الوسائل ، الباب ١٧ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١١.

١٧٠

وفيه : أنّ ثبوت البأس أعمّ من النجاسة.

الأمر الثاني من أدلّة القائلين بنجاسة البئر : استفاضة الأخبار بالنزح للنجاسات ، وعمل الطائفة بها قديما وحديثا.

وأجيب عنها : بأنّ الأمر بالنزح لا يدلّ على النجاسة ، لجواز كون النزح مستحبّا أو واجبا تعبّديّا.

وفيه : أنّ احتمال الاستحباب لا ينافي الظهور في الوجوب ، واحتمال كونه واجبا تعبّديا بعيد في الغاية ، كما سيتّضح لك في ما بعد إن شاء الله ، فالصواب في الجواب عنها ـ بعد الإغماض عن شهادة القرائن الداخلية الموجودة في نفس هذه الأخبار الدالّة على كون النزح مستحبّا ، مثل الحكم بصحة الوضوء والصلاة الواقعتين قبل النزح ، كما في موثّقة أبي أسامة ، المتقدّمة ، وكشدّة الاختلاف الواقع بينها على وجه يتعذّر الجمع بينها إلّا بالحمل على مراتب الاستحباب ، إذ لو بني فيها على إعمال قاعدة التراجيح ، للزم طرح أكثر الأخبار التي يجد المنصف من نفسه القطع بصدور أغلبها ـ أنّ غاية الأمر ظهور هذه الأخبار في نجاسة البئر ، فلا بدّ من رفع اليد عن هذا الظاهر بالأخبار المتقدّمة الدالّة على الطهارة ، لأنّ الظاهر لا يعارض الأظهر ، فضلا عمّا هو نصّ في الخلاف.

وبهذا ظهر لك الجواب عن جميع الأخبار التي تمسّك بها القائلون بالنجاسة ، إذ بعد تسليم الدلالة في الجميع ، غايتها الظهور في نجاسة البئر ، فيجب رفع اليد عن هذا الظاهر بالنصّ.

وأمّا التشبّث بعمل العلماء : فإن أريد منه إجماعهم على النجاسة ،

١٧١

فسيأتي الكلام فيه.

وإن أريد منه ترجيح هذه الطائفة من الأخبار على معارضتها ، ففيه : أنّ عمل العلماء بها لا يجعلها نصّا في النجاسة حتى تكافئ أخبار الطهارة ، وقد تقرّر في محلّه أنّ تأويل الظاهر بالنصّ من الجمع المقبول ، ولا يجوز الرجوع مع إمكانه إلى المرجّحات الخارجية ، وعمل العلماء لا يصلح إلّا لترجيح السند ، أو جبره ، أو جبر دلالة الخبر لو كان فيها قصور على إشكال في الأخير ، ولا يجعله نصّا بحيث يعارض النصّ الدالّ على خلافه.

نعم لو كان عملهم بهذه الأخبار منشؤه عدم الاعتناء بالأخبار المخالفة وإعراضهم عنها لعثورهم على خلل فيها من جهة من الجهات ، لكان ذلك من الموهنات الموجبة لخروج تلك الأخبار عن مرتبة الحجّية بحيث لو لم يكن لها معارض أصلا لما جاز العمل بها ، ولكن كون المقام من هذا القبيل غير مسلّم ، كما سنوضّحه في ما بعد إن شاء الله.

الأمر الثالث من أدلّة القائلين بالنجاسة : الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة المحقّقة بين القدماء.

فعن الأمالي : أنّه من دين الإمامية (١).

وعن الانتصار والغنية وظاهر التهذيبين ومصريّات المصنّف :الإجماع عليه (٢).

__________________

(١) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٥ ، وراجع : أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٢) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٥ ، وراجع : الانتصار : ١١ ، والغنية (ضمن الجوامع الفقهية) : ٤٨٩ ، والتهذيب ١ : ٢٤٠ ، والاستبصار ١ : ٣٦ ذيل الحديث ٩٦ ، والرسائل التسع : ٢٢١

١٧٢

وعن السرائر : نفي الخلاف فيه (١).

وعن شرح الجمل : الإجماع عليه (٢).

وعن كاشف الرموز : أنّ عليه فتوى الفقهاء من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يومنا هذا (٣).

وفي الروضة : كاد أن يكون إجماعا (٤).

مضافا إلى المؤيّدات القوية ، مثل : إعراض القدماء عن أخبار الطهارة مع وجودها في ما بأيديهم ووصولها إلينا بواسطتهم ، فلو لم يكن فيها خلل لعملوا بها ، فإنّهم أبصر بمعاني الأخبار وبالقرائن المقترنة بها ، فطرحهم هذه الأخبار مع وضوح دلالتها وكونها بمرئي منهم ومسمع كاشف عن قصور فيها خفي على المتأخّرين ، مع أنّ المتأخّرين الذين خالفوهم لم يأتوا بسلطان مبين غير ما عندهم وأعرضوا عنه.

ويتوجّه على الجميع : أنّ الإجماع المحصّل في مثل المقام ممّا علم مستند المجمعين ، وضعفه ممّا لا يرجع إلى محصّل ، فكيف الظن بمنقوله أو الشهرة المحقّقة ، إذ المدار في حجية الإجماع والشهرة لدينا على

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٥ ، وراجع : السرائر ١ : ٦٩.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : ٢٥ ، وراجع شرح جمل العلم والعمل :٥٥ ـ ٥٦.

(٣) كما في كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري ـ : ٢٥ ، وراجع : كشف الرموز ١ : ٤٨ ـ ٤٩.

(٤) الروضة البهية ١ : ٢٥٨.

١٧٣

استكشاف قول المعصوم عليه‌السلام ، أو دليل معتبر واصل إليهم مختف عنّا ، وأمّا إذا لم يكشف عن شي‌ء منهما فليس بحجّة.

واحتمال اعتمادهم على دليل آخر غير واصل إلينا مع بعده في حدّ ذاته غير نافع ما لم ينته إلى حدّ الوثوق ، كيف والمظنون ـ لو لم يكن مقطوعا به ـ عدمه ، إذ من الممتنع عادة وجود دليل معتبر أو قرينة معتبرة بحيث يكون حجّة عند جميع العلماء في ما بأيديهم واصل إلى جميعهم واختفي عن جميع المتأخّرين ، مع أنّ العادة قاضية بأنّه لو كان لهم دليل آخر غير ما وصل إلينا لظهر.

هذا ، مع معارضة إجماعاتهم المنقولة والشهرة المحقّقة بما هو أقوى منها في إفادة الوثوق ، وهي الشهرة بين المتأخّرين ونقل إجماعهم عليه ، لأنّ إعراضهم عن طريقة القدماء وهدمهم ما أسّسوه مع شدّة اهتمامهم في تصحيح مطالب السابقين كاشف عن أنّ بنيانهم ليس على أصل أصيل.

وأمّا طرحهم الأخبار المعارضة فلم يكن إلّا عن اجتهادهم ، فلا يكون حجّة على من تأخّر عنهم ، ويكشف عن ذلك كونها معمولا بها لدى جملة من القدماء وجميع المتأخّرين ، كيف مع أنّا نرى أنّ جملة ممّن طرحها تصدّى لتوجيهها ، فهذا يكشف عن صحتها لديهم واشتهارها في ما بينهم ، ولكنهم التجأوا إلى تأويلها ، لأرجحية الأخبار المعارضة لديهم ، أو لاعتقادهم كون المسألة إجماعية ، فلم يستطعيوا مخالفة الإجماع لأجل هذه الأخبار ، ولعمري لو لا اشتهار القول بالطهارة في هذه

١٧٤

الأعصار ، لكان الالتزام بها مع قوّتها من حيث المدرك في غاية الجرية ، فشكر الله سعي السابقين حيث إنّهم هوّنوا الخطب علينا ، فجزاهم الله عنّا خيرا.

ولعلّ هذا هو السرّ في بقاء القول بالنجاسة ـ على شهرتها في الأعصار السابقة ـ في الأزمنة المتطاولة ، لا لأجل تقليد آحاد العلماء أسلافهم حتى يكون ذلك قدحا فيهم ، حاشاهم عن ذلك ، بل لأجل عدم إعجاب كلّ منهم برأيه ، فيرى تطابق آراء الفحول واتّحاد كلمتهم على ترجيح القول بالنجاسة دليلا قطعيا على صحته ، فيظنّ ما يسنح بخاطره من ترجيح أخبار الطهارة شبهة في مقابلة الضرورة ، خصوصا لو كان بناؤه على حجّية اتّفاق العلماء في عصر واحد بقاعدة اللطف ، كما هو ظاهر كثير من علمائنا ، فإنّ اتّفاق كلمة أهل عصره على هذا التقدير عنده دليل قطعي على وجوب طرح أخبار الطهارة أو تأويلها.

ويؤيّد ذلك : أنّه بعد أن شاع القول بالطهارة لم ينكروا على قائله ، بل أيّدوه إلى أن اتّفقت الكلمة واجتمعت الفرقة على خلاف ما كانوا عليه من قبل ، والله العالم بحقائق الأمور ومكنونات السرائر.

حجّة القول باعتبار الكرّية في البئر المنقول عن البصروي : عموم ما دلّ على انفعال القليل (١) ، ولا يعارضه عموم أدلّة طهارة البئر (٢) ، لانصراف الإطلاق فيها إلى ما يبلغ الكرّ ، لأنّه الغالب في الآبار.

__________________

(١) راجع : الوسائل ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

(٢) راجع : الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق.

١٧٥

ويدلّ عليه أيضا : رواية الحسن بن صالح الثوري عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شي‌ء» (١).

وفي الفقه الرضوي «وكلّ بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها فسبيلها سبيل الجاري» (٢).

وقد يستدلّ له أيضا : بموثّقة عمّار ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن البئر يقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة ، قال : «لا بأس به إذا كان فيها ماء كثير» (٣) بحملها على الكثير الشرعي.

ويؤيّده : كونه وجها للجمع بين الأخبار.

ويتوجّه عليه ـ بعد تسليم انصراف المطلقات وعدم كون النسبة بينها وبين ما دلّ على انفعال القليل عموما من وجه حتى يتحقّق التعارض بينهما ـ أنّه إنّما يمكن دعوى الانصراف في ما عدا صحيحة ابن بزيع ، الدالّة على عدم انفعال البئر ، معلّلا بأنّ لها مادّة.

وأمّا الصحيحة : فقد عرفت في مبحث الجاري حكومتها على جميع أدلّة الانفعال ، فراجع.

وأمّا الروايتان فمع ضعف سندهما ودلالتهما وإعراض الأصحاب

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ٤٠٨ ـ ١٢٨٢ ، الإستبصار ١ : ٣٣ ـ ٨٨ ، الوسائل ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٨.

(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩١.

(٣) التهذيب ١ : ٤١٦ ـ ١٣١٢ ، الإستبصار ١ : ٤٢ ـ ١١٧ ، الوسائل ، الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١٥ ، وفيها : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام.

١٧٦

عنهما ، يعارضهما صحيحة ابن بزيع (١) ، التي هي مع صحة سندها أقوى منهما دلالة ، لأنّ التعليل أظهر في إفادة المفهوم من الجملة الشرطية أو الوصفية.

ولا يبعد أن تكون النكتة في تقييد الموضوع بالكرّية ـ التي هي وصف غالبي في البئر ـ دفع استيحاش العامّة القائلين بنجاسة البئر ، فإنّ كون الكرّية سببا للاعتصام في الجملة غير منكر لديهم على الظاهر ، فحيثما علّق الإمام عليه‌السلام عدم انفعال البئر بها لا يستنكرونه ، بل ربما يلتزمون به.

هذا ، مع ما فيه من التنبيه على إطلاق الحكم حتى في صورة الانقطاع عن المادّة.

وأمّا الموثّقة فظاهرها اشتراط الكثرة العرفية ولا قائل به ، فاعتبارها بحسب الظاهر لأجل صيانة ماء البئر عن التغيّر بزنبيل من العذرة.

وأمّا توهّم كون هذا القول جامعا بين الأخبار : ففيه ـ مضافا إلى ما عرفت من عدم انطباق الصحيحة عليه ـ عدم إمكان حمل أخبار النجاسة ـ بعد تسليم الدلالة كما هو المفروض ـ على إرادة ما لو كان ماء البئر أقلّ من كرّ ، لكونه الفرد النادر ، كيف وقد ورد في بعضها الأمر بنزح كرّ من الماء (٢) ، أو خمسين دلوا (٣) ، أو تراوح أربعة رجال (٤).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٤ ـ ٦٧٦ ، الإستبصار ١ : ٣٣ ـ ٨٧ ، الوسائل ، الباب ٣ و ١٤ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١٢ و ٦ و ٧.

(٢) راجع : الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

(٣) راجع : الوسائل ، الباب ٢٠ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢.

(٤) راجع : الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الماء المطلق ، الأحاديث ١ و ٤ و ٦ والباب ٢٣ من تلك الأبواب ذيل الحديث ١.

١٧٧

وقد يتوهّم إمكان الاستدلال لهذا القول : بسقوط الأخبار من الطرفين لأجل التعارض ، فيرجع إلى القاعدة الشرعية الثابتة في الماء من انفعال قليله بملاقاة النجاسة دون كثيره.

وفيه ـ بعد الإغماض عمّا عرفته مفصّلا من عدم المكافئة بين الأخبار ـ أنّ النسبة بين ما دلّ على اعتصام الكرّ وأخبار النجاسة ، وبين ما دلّ على انفعال القليل وأخبار الطهارة إنّما هي بالعموم من وجه ، فلا يصلحان للمرجعية ، وإنّما يرجع في مثل المقام ـ على تقدير التساقط لو قلنا به ـ إلى عموم «خلق الله الماء طهورا» (١) ولو أغمض عنه ، فالمرجع أصالة الطهارة ، والله العالم.

واعلم أنّ المشهور بين القائلين بالطهارة : استحباب النزح ، وقد عرفت في ما سبق أنّ هذا هو الذي يلتئم به شتات الأخبار ، ويشهد به القرائن الموجودة فيها ، بل قد عرفت أنّه يستفاد منها كراهة الاستعمال قبل النزح ، فليس استحباب النزح تعبّديا محضا ، بل إنّما هو لدفع القذارة الحاصلة وإن لم تبلغ مرتبة النجاسة الموجبة لحرمة الاستعمال.

وقد نسب إلى الشيخ في التهذيب ، والعلّامة في المنتهى القول بالطهارة ووجوب النزح تعبّدا (٢).

__________________

(١) أورده المحقّق في المعتبر ١ : ٤٠.

(٢) الناسب هو العاملي في مدارك الأحكام ١ : ٥٤ ، وراجع التهذيب ١ : ٢٣٢ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٢.

١٧٨

فإن عنوا به الوجوب النفسي ، ففيه ما لا يخفى من البعد عن ظاهر الروايات ، خصوصا ما كان منها مشتملا على أنّ النزح يطهّرها ، كيف ولو كان واجبا نفسيّا لكان على الإمام عليه‌السلام بيان متعلّق الوجوب من أنّه يجب على المالك أو على عامّة المكلّفين كفاية.

وكيف كان فلا شبهة في فساد هذا الاحتمال وعدم استفادة الوجوب النفسي من الأوامر في مثل هذه الموارد ، ولذا لا يتوهّم أحد بعد استماع تلك الأوامر عدم جواز طمّ الآبار النجسة ، ووجوب حفظها مقدّمة لامتثال الواجب المطلق ، أعني النزح.

وإن أرادوا الوجوب الشرطي لاستعماله في ما يشترط فيه الطهارة من المأكول والمشروب والطهارة الحدثية والخبثية ، فمرجعه إلى القول بالنجاسة إلّا أن يفرّق بينهما في ما يلاقيه بعد الجفاف.

ولكنك خبير بعدم إمكان تنزيل أخبار الطهارة النافية للبأس عن مائها على إرادة نفي البأس عن ملاقيه بعد الجفاف.

وإن أريد اشتراطه لاستعماله في التطهير عن الحدث والخبث ، فيردّه التصريح في جميع الأخبار المتقدّمة الدالّة على الطهارة ـ ما عدا صحيحة ابن بزيع ـ بنفي البأس عن الوضوء منها أو عدم وجوب إعادته ، فراجع.

وهل يطهر ماء البئر ـ على القول بنجاسته ـ بمطهّر سائر المياه النجسة ، أن ينحصر مطهّره في النزح؟ قولان ، ولا يهمّنا التعرّض لتحقيقه بعد البناء على كون البئر كالجاري في عدم الانفعال ، كما أنّه لا يهمّنا

١٧٩

التدقيق في تحقيق مقدار ما يجب نزحه لكلّ من النجاسات على القول بالوجوب ، وكذا تنقيح ما يتبع الماء في الطهارة من الآلات وحواشي البئر وما يغتفر من القطرات النازلة من الدلو والرشحات الواقعة في البئر إلى غير ذلك من الفروع الخفية التي لا بدّ من تحقيقها على القول بالنجاسة.

وحيث إنّك عرفت في صدر الكتاب أنّ أدلّة السنن تتحمّل من المسامحة ما لا تتحمّلها أدلّة العزائم ، فالأولى على ما اخترناه من استحباب النزح هو الاقتصار في المقام على نقل الروايات الواردة وغيرها ممّا يصلح أن يكون مدركا لإثبات الاستحباب ، وقد أشرنا ـ في ما سبق ـ أنّ أحسن وجوه الجمع بين الأخبار المختلفة حملها على اختلاف مراتب الاستحباب ، والله العالم.

ولمّا رجّح المصنّف رحمه‌الله القول بالنجاسة قال : (وطريق تطهيره بنزح جميعه إن وقع فيها مسكر).

والمراد بالمسكر هنا : ما كان مائعا بالأصالة ، وإطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين قليله وكثيره ، وبه صرّح المتأخّرون على ما في المدارك (١).

ويدلّ عليه صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في البئر يبول فيها الصبيّ أو يصبّ فيها بول أو خمر ، فقال : «ينزح الماء كلّه» (٢).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٦٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤١ ـ ٦٩٦ ، الإستبصار ١ : ٣٥ ـ ٩٤ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤.

١٨٠