قال : الفصل الرابع في المعاد.
أصل (١) ـ إنّ الله تعالى خلق الإنسان ، وأعطاه العلم والقدرة والإرادة والإدراك والقوى المختلفة ، وجعل زمام الاختيار بيده ، وكلّفه بتكاليف شاقّة ، وخصّه بالألطاف الخفيّة والجليّة ، لغرض عائد إليهم. وليس ذلك إلّا نوع كمال لا يحصل إلّا بالكسب ، إذ لو أمكن بلا واسطة ، لخلقهم عليه ابتداء. ولمّا كانت الدنيا هي دار التكليف فهي دار الكسب ، يعمّر الإنسان فيها مدّة يمكن تحصيل كماله فيها ، ثمّ يحوّل إلى دار الجزاء ، وتسمّى دار الآخرة.
أقول : المعاد مفعل مشتقّ من العود ، وصيغة مفعل ، تجيء للزمان والمكان ، أي زمان العود أو مكانه. والمراد به هاهنا : الوجود الثاني للأبدان وعود النفس إليها بعد مفارقتها.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، كما حكاه في كتابه الكريم (٢) ، فعدّل مزاجه بحسب ما يقتضيه نوعه للأفعال المطلوبة منه ، فزاده ـ بعد تعديل أركان بدنه ـ إفاضة النفس الناطقة وتعلّقها ببدنه ، وجعل لها تصرّفا في ذلك البدن وبه. فوهبه قوى مختلفة تنقسم إلى مدركة وإلى محرّكة.
أمّا المدركة فهي إمّا للكلّيّات وهي القوّة العقليّة المحصّلة للعلوم ، وإمّا للجزئيّات. فإمّا ظاهرة ، وهي السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس ، وإمّا باطنة ، وهي خمس أيضا :
__________________
١ ـ من الفصول النصيريّة.
٢ ـ التين / ٤.