ويستفاد من هذه الآية عدّة امور :
أولاً : إنّ الموت والحياة كلاهما مخلوقان ، فإذا كان الموت بمعنى الفناء والعدم المطلق فإنّ كونه مخلوقاً سوف لا يكون ذا معنىً ، والسبب في ذلك هو أنّ الموت عبارة عن الانتقال من عالم إلى عالم آخر ، لذا فهو أمرٌ وجوديٌ وبالامكان خلقه.
ثانياً : إنّ ذِكْرَ الموت قبل الحياة إمّا أن يكون للدلالة على موت الدنيا وحياة عالم الآخرة ، وإمّا أن يكون للدلالة على المرحلة التي كان فيها الإنسان تراباً ، فتعتبر الحياة بمعنى الخلق من التراب ، وإمّا أن يدلّ على كليهما معاً.
ثالثاً : قد عُرِّفت الدنيا بأنّها ساحة اختبار .. ساحةٌ لانتخاب «أفضل الأفراد من حيث العمل» ، ومن البديهي أنَّ شهادة النجاح في هذا الامتحان تُمنَح في الدار الآخرة.
رابعاً : إنّ المقياس الذي يعيّن قيمة الإنسان لدى الله تعالى هو العمل الصالح ، ومن البديهي أيضاً أنّ الأعمال الصالحة تنبع من العقائد المخلصة والقلب المؤمن والنّية الخالصة ، وذلك لأنّ العمل يكون دائماً انعكاساً لهذه الامور.
ومن المحتمل أن يكون هذا هو دليل النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله عند تفسير جملة «أَحْسَنُ عَمَلاً) في أحد الأحاديث المروية عنه ، قال صلىاللهعليهوآله في تفسيرها :«أتَمُّكُمْ عَقْلاً وَأشَدُّكُمْ للهِ خَوْفاً وَأَحْسَنُكُمْ فيَما أمَرَ اللهُ بِهِ وَنَهى عَنْهُ نَظَراً ، وَإنْ كَانَ أقَلُّكُمْ تَطَوُّعاً» (١).
فمن هنا يتضح أَنّ التفسيرات المختلفة التي فُسِّرت بها «أحْسَنُ عَمَلاً» مثل : تفسيرها بالأعمال الخالصة أو الأكثر عقلاً أو الأكثر زهداً أو الأكثر ذِكراً للموت أو الأكثر تأهّباً لسفر الآخرة ، يتضح أنّها مترابطة مع بعضها البعض ، ولا تعتبر تفسيرات مختلفة ، وذلك لأنّ هذه التفسيرات كالسيقان والأوراق والجذور والجذع والفواكه للشجرة الواحدة.
خامساً : إنّ القيمة الواقعية تختصّ ب «جوهر الأعمال» لا ب «كمِّها وحجمها» ، فرُبَّ عملٍ صغيرٍ ذِي كيفية عالية من جهة الإخلاص والإيمان والمعرفة فاقَ أعمالاً كثيرة ، لذا جاء في احدى الروايات عن الإمام الصادق عليهالسلام في تفسير أنّه «أحْسَنُ عَمَلاً» قال : «لَيْس يَعْني أكثَرُ
__________________
(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٢٢.