والمراد من «رحمة الله» هنا هو المطر الواهب للحياة الذي يعتبر نموذجاً حياً وبيِّناً للرحمة الإلهيّة التي تتجلّى آثارها في كل مكان ، فهو يحيي الأرض الميتة ويفيض بالحياة على القلوب الميّتة ويهب النشاط والحياة للهواء الملوّث الميِّت وأخيراً يجود بنور الحياة على جسم الإنسان.
واستعمال كلمة «ذلك» في الآية للإشارة إلى الله تعالى في حين أنّه يستعمل للإشارة إلى البعيد للدلالة على عظمة مقامه وعلى أنّه لا تدركه العقول والأبصار.
والإِتيانُ بـ «أنّ» التي تفيد التوكيد و «اللام» في «لَمُحيي» الذي يفيد التوكيد أيضاً بالإضافة إلى «الجملة الإسمية» التي تفيد التوكيد كذلك ، كل هذا من أجل إثبات حقيقة إنّ الذي يحيي الأرض الميتة عن طريق إنزال مطرِ رحمتِهِ باستمرار بإمكانه أن يُحييَ أمواتَ البشر وبعيدَ لهم الحياة من جديد.
واستعمال كلمة «انظر» تجلب الانتباه من جهة أنّها تشير إلى أنّ مسألة المعاد أمرٌ حسيّ مشاهد ، ظاهرٌ للعيان دائماً ، فكيف تُنكرون ذلك أو تتخذونه سخريّاً؟!
* * *
وفي الآية الرابعة بعد أنْ ذكر المراحل التكاملية للنطفة في الرحم وبعد ذِكْرِ تطوراتِ الجنين بانّها دليل واضح على مسألة إمكان المعاد ، ينتقل إلى الحديث عن بذورِ النباتات التي تنمو في أعماق الأرض ، قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) (١).
(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الَماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوجٍ بَهِيجٍ).
إنّ القرآن المجيد كتاب عجيب حقاً ، فإنّه عندما يريد أن يؤكّد على احدى الحقائق ويرسخها في الأذهان ويكرر ذكرها يصورها بألوان مختلفة ، فيشعر الإنسان عند سماع تلك
__________________
(١) «هامدة» من مادة «همود» قال الراغب في المفردات : الهمود في الأصل بمعنى انطفاء النار (وذهاب حرارتها ونورها) ، لكنّ عدداً من أصحاب اللغة والمفسرين ذكروا لها معاني اخرى أيضاً ، ومن جملة معانيها : الجفاف ، والسكوت ، والموت ، وصيرورة الشي بالياً عتيقاً ، وهذه المعاني جميعها يمكن أن تنطبق على هذه الآية ، فالأرض تموت وتخمد وتطفأ في فصل الشتاء ، بينما تدبّ الروح فيها وتأخذ بالحركة في فصل الربيع وكأنّها تصرخ!