كيف لا وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «الدنيا سجن المؤمن» وقد قيل فى بعض الحكايات : عن جعفر الصادق أنه قال : من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق ، فقيل له : وما ذاك فقال : الراحة فى الدنيا ، وأنشدوا :
تطلب الراحة فى دار العنا |
|
خاب من يطلب شيئا لا يكون |
وقال غيره :
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى |
|
غير أن لا بقاء للإنسان |
فإذا كان بهذا الوصف دخل عليه الزهد ، فإن من لم تتساو عنده الأخطار ولم يسقط عن قلبه للدنيا الوزن والمقدار ، لم يزل فى سجن حرصه وفى أسر نفسه ، وفى رق شهوته ، وفى ذل طمعه ، ومن استوت عنده الأخطار ، وصل إلى روح الحرية.
ولهذا قال مشايخ هذه الطريقة : من دخل الدنيا وهو عنها حر ، ارتحل إلى الآخرة وهو عنها حر ، ومن كانت بغيته من المطالبات ، فوق ما لا بد له من الضرورات فهو عن ربه محجوب.
وقد سئل الجنيد ، رحمهالله تعالى ، عمن خرج من الدنيا ولم يبق عليه إلا مص نواة فقال مستشهدا : «المكاتب (١) عبد ما بقى عليه درهم».
وحكى عن بنان الجمال أنه قال : كنت مطروحا على باب بنى شيبة سبعة أيام لم أذق شيئا فنوديت فى سرى أن من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى الله عين قلبه.
__________________
(١) وهو الّذي كاتبه سيده على مبلغ معين يدفعه على أقساط يشترى بها حريته.