ـ في نفس الوقت الذي يذعن فيه بأنّ الفاعل الحقيقي والمستقل هو الله سبحانه وتعالى ـ أن يتوسّل بالأسباب والعلل الطبيعية لتحصيل مآربه ونيل مراده ، وهذا الأصل يجري حتى في الأُمور المعنوية كذلك ، فالفيض الإلهي والهداية الربانية لا تفاض على الإنسان في الأعمّ الأغلب بصورة مباشرة بل تفاض عليه من خلال الوسائط والأسباب الأُخرى كالفطرة ، والعقل ، والأنبياء والرسل والعلماء و ... ففي الوقت الذي نرى فيه القرآن الكريم ـ وفي موارد متعدّدة ـ يعد الهداية من فعله سبحانه وتعالى حيث يقول : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) نراه مع ذلك في آية أُخرى يعتبر النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم من الهادين إلى الصراط المستقيم ، قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (٢)
ولا منافاة بين الآيتين أبداً ، فنسبة الهداية إليه سبحانه ، لأنّه هو الأصل والمصدر المستقل الذي تصدر منه تلك الهداية بالاستقلال ومن دون الاتّكاء على شيء آخر ، وكذلك تنسب الهداية إلى النبي باعتباره الواسطة والوسيلة لهذا الفيض الإلهي.
ثمّ إنّ الموقف الذي يتّخذه البعض من ذوي الرؤية القاصرة تجاه المسلمين الذين يعتمدون الأسباب والسبل التي أباحها سبحانه وأجاز التوسّل بها للوصول إلى نيل مرضاته والفوز بنعيم الدنيا والآخرة ، معتبرين انّ ذلك التوسّل واعتماد الأسباب أمراً منافياً لمفهوم التوكّل أو الرازقية!! لا ريب أنّه موقف نابع من الجهل بالمفاهيم الإسلامية والمعارف القرآنية الدقيقة وقصر باعهم في حقل التفسير وبيان المعارف التي جاء بها الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
(١) فاطر : ٨.
(٢) الشورى : ٥٢.