بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع ، والحسّ من الدواعي والصّوارف ؛ بل يعوّل على ما ندبه الشرع إليه ؛ فهذا وجه النظم.
فصل
اعلم أن محق الربا ، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة.
أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه :
أحدها : أنّ الغالب في المربي ـ وإن كثر ماله ـ أنه تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله ؛ قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «الرّبا وإن كثر فإنّ عاقبته تصير إلى قلّ» (١).
وثانيها : أنه وإن لم ينتقص ماله ، فإن عاقبته الذّمّ والنقص ، وسقوط العدالة ، وزوال الأمانة ، وحصول اسم الفسق ، والقسوة ، والغلظة.
ثالثها : أنّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا ، يلعنونه ، ويبغضونه ، ويدعون عليه ؛ وذلك يكون سببا لزوال الخير ، والبركة عنه في نفسه وماله.
الرابع : أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرّبا ، توجهت إليه الأطماع ، وقصده كلّ ظالم ، ومارق وطمّاع ، ويقولون : إنّ ذلك المال ليس له في الحقيقة ، فلا يترك في يده.
وأمّا أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوه :
أحدها : قال ابن عباس : معنى هذا المحق : أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ، ولا جهادا ولا حجّا ، ولا صلة رحم (٢).
ثانيها : أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ، ويبقى عليه التبعة ، والعقوبة ، وذلك هو الخسار الأكبر.
وثالثها : ثبت في الحديث : أنّ الأغنياء يدخلون الجنّة بعد الفقراء بخمسمائة عام (٣) ، فإذا كان الغنى من الحلال كذلك ، فما ظنّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!
وأمّا «إرباء الصدقات» فيحتمل ـ أيضا ـ أن يكون في الدنيا ، وأن يكون في الآخرة.
__________________
(١) أخرجه أحمد (١ / ٣٩٥ ، ٤٢٤) والحاكم (٢ / ٣٧) وابن عدي (٤ / ١٣٣٣).
وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٨٣.
(٣) أخرجه الترمذي (٢٣٥٤) وابن ماجه (٤١٢٢) وابن حبان (٢٥٦٧ ـ موارد) وأبو يعلى (١٠ / ٤١١) رقم (٦٠١٨) وابن أبي شيبة (١٣ / ٢٤٦) رقم (١٦٢٣٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٧ / ٩١ ، ٢٥٠) من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : «يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمس مئة سنة». وقال الترمذي : حسن صحيح وصححه ابن حبان.