لصاحبه ، واعلم أنّ عسكر طالوت لما برزوا إلى عسكر جالوت ، ورأوا قلّة جانبهم ، وكثرة عدوهم ، لا جرم اشتغلوا بالدّعاء ، والتّضرع ، فقالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً). وفي ندائهم بقولهم : «ربّنا» : اعتراف منهم بالعبوديّة ، وطلب لإصلاحهم ؛ لأنّ لفظ «الرّبّ» يشعر بذلك دون غيرها ، وأتوا بلفظ «على» في قولهم : (أَفْرِغْ عَلَيْنا) طلبا ؛ لأن يكون الصّبر مستعليا عليهم ، وشاملا لهم كالظرف. ونظيره ما حكى الله عن قوم آخرين أنّهم قالوا حين لاقوا عدّوهم : وما كانوا قولهم إلّا أن قالوا : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) إلى قوله (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٧] وكذلك كان عليه الصّلاة والسّلام يفعل في المواطن كما روي عنه في قصّة بدر أنه عليه الصّلاة والسّلام لم يزل يصلّي ، ويستنجز من الله وعده ، وكان إذا لقي عدوّا قال : «اللهمّ إنّي أعوذ بك من شرورهم واجعل كيدهم في نحورهم» وكان يقول : «اللهمّ بك أصول وأجول» (١).
والإفراغ : الصّبّ ، يقال : أفرغت الإناء : إذا صببت ما فيه ، أصله : من الفراغ يقال : فلان فارغ معناه : خال ممّا يشغله ، والإفراغ : إخلاء الإناء من كلّ ما فيه.
واعلم أنّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة :
الأول : الصّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا).
الثاني : أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت ، ولا يصير ملجأ إلى الفرار.
الثالث : زيادة القوّة على العدوّ ؛ حتى يقهره ، وهو المراد من قولهم (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).
فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال
احتجّ أهل السّنّة بقوله : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ..) الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأنه لا معنى للصّبر إلّا : القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلّا السّكون والاستقرار ، وهذه الآية دالّة على أنّ ذلك القصد المسمّى بالصّبر من الله تعالى.
أجاب القاضي (٢) : بأنّ المراد من الصبر ، وتثبيت الأقدام : تحصيل أسباب الصّبر ، وأسباب ثبات القدم : إمّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف ، فيعتقد بعضهم أنّ البعض الآخر على الباطل ، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء ، كالموت ، والوباء ، أو يبتليهم بالموت ، والمرض الذي يعمهم ، أو يموت رئيسهم ، ومن يدبّر أمرهم ، فيكون ذلك سببا لجرأة المسلمين عليهم.
__________________
(١) انظر تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» (٣ / ٢٥٦).
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٥٨.