قلنا : وها هنا أيضا كذلك إنّما خصّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيها على كمال درجتهم في الكفر.
فصل في سبب النزول
سبب نزول هذه الآية : أنّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى «مكّة» ، ليخرج منها ناسا من المسلمين سرّا فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها : «عناق» ؛ وكانت خليلته في الجاهليّة فأتته وقالت : يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها : ويحك يا عناق إنّ الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك. قالت : هل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم ، ولكن أرجع إلى رسول صلىاللهعليهوسلم فأستأمره. فقالت : أبي تتبرم؟ ثم استغاثت ؛ فضربوه ضربا شديدا ، ثمّ خلّوا سبيله ، فلمّا قضى حاجته بمكّة ، وانصرف إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعلمه الذي كان من أمره ، وأمر عناق ، وقال : يا رسول الله ؛ أيحلّ لي أن أتزوّجها ؛ فأنزل الله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ)(١) [البقرة : ٢٢١].
فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق
واختلف المفسّرون (٢) في هذه الآية : هل هي ابتداء حكم وشرع ، أو هو متعلّق بما تقدّم ؛ فالأكثرون على أنّه ابتداء شرع في بيان ما يحلّ ، ويحرم.
وقال أبو مسلم : بل هو متعلّق بقصّة اليتامى ، فإنّ الله تعالى لما قال : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) وأراد مخالطة النّكاح عطف عليه بما يبعث على الرّغبة في اليتامى ، وأنّ ذلك أولى ممّا كانوا يتعاطونه من الرّغبة في المشركات ، وبيّن أنّ أمة مؤمنة خير من مشركة ، فإنها بلغت النّهاية فيما يفضي إلى الرّغبة فيها ليدلّ بذلك على ما يبعث على التّزوّج باليتامى ، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم. وعلى الوجهين ، فحكم الآية لا يختلف.
فصل في بيان جواز نكاح الكتابيّة
الأكثرون من الأمّة قالوا : يجوز للرّجل أن يتزوّج بالكتابيّة. وقال ابن عمر ، ومحمّد بن الحنفيّة ، والهادي ـ وهو أحد أئمّة الزّيديّة ـ إنّ ذلك حرام ، واستدلّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المائدة : ٥] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلا.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر ، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟
__________________
(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٤٥٨) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر عن مقاتل بن حيان.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٤٧.