إمّا لأنّ إيذاءه يتضمّن إيذاء الأب ، وإمّا لرغبتها في زوج آخر فيفضي إلى إهمال أمر الطّفل.
الثاني : قال السّدّيّ : ومما يدلّ على أنّ المراد منه المطلقات ، قوله بعد ذلك : «وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ». ولو كانت زوجة ، لوجب على الزّوج ذلك من غير إرضاع.
ويمكن الجواب عن الأوّل : أنّ هذه الآية مشتملة على حكم مستقلّ بنفسه ، فلم يجب تعلّقها بما قبلها ، وعن قول السديّ : أنّه لا يبعد أن تستحقّ المرأة قدرا من المال ، لمكان الزوجيّة ، وقدرا آخر للإرضاع ، ولا منافاة بين الأمرين.
القول الثالث : قال الواحديّ في «البسيط» الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح ؛ لأن المطلّقة لا تستحقّ إلّا الأجرة.
فإن قيل : إذا كانت الزوجية باقية ، فهي مستحقة للنفقة ، والكسوة ؛ بسبب النكاح سواء أرضعت الولد ، أو لم ترضعه ، فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع؟
قلنا : النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين ، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغ لخدمة الزوج ، ربّما توهّم متوهّم أنّ نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج ؛ فقطع الله ذلك الوهم بإيجاب الرّزق إذا اشتغلت المرأة بالرضاع (١).
فصل
هذا الكلام ، وإن كان خبرا فمعناه الأمر ؛ وتقديره : يرضعن أولادهنّ في حكم الله الذي أوجبه ؛ إلّا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام ، وهو أمر استحباب ، لا إيجاب ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة ، وقد قال : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [الطلاق : ٦] وقال : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) [الطلاق : ٦] وإذا ثبت الاستحباب ، فهو من حيث إنّ تربية الطفل بلبن الأمّ أصلح له من سائر الألبان ، ومن حيث إنّ شفقة الأم أتمّ من شفقة غيرها.
فصل
قال القرطبي (٢) : اختلف الناس في الرضاع : هل هو حقّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظ محتمل ؛ لأنه لو أراد التّصريح بوجوبه لقال : وعلى الوالدات رضاع أولادهنّ ؛ كما قال : «وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ» ولكن هو حقّ عليها في حقّ الزّوجيّة ؛ لأنه يلزم في العرف إذ قد صار كالشّرط ، إلّا أن تكون شريفة ذات ترفّه ، فعرفها ألّا ترضع وذلك كالشرط ؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها ، وهو عليها إذا كان الأب معدما ؛
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٠٠.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٣ / ١٠٦.